روايات

رواية مملكة سفيد الفصل التاسع عشر 19 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الفصل التاسع عشر 19 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الجزء التاسع عشر

رواية مملكة سفيد البارت التاسع عشر

رواية مملكة سفيد
رواية مملكة سفيد

رواية مملكة سفيد الحلقة التاسعة عشر

#التاسع_عشر
#فتنة_وصفعة
صلوا على نبي الرحمة .
مساء الخير..
«وإنَّ المَرْءَ في دُنْيَاهُ ذِكْرَى
فَدَعْ للناس خَيْرَ الذِّكْرَيَاتِ!».
___________________
وعدتُكِ..أنْ لا أعودَ .. وعُدْتْ.
وأنْ لا أموتَ اشتياقاً..ومُتّ.
وعدتُ بأشياءَ أكبرَ منّي فماذا بنفسي فعلتْ؟
لقد كنتُ أكذبُ من شدّة الصدقِ، والحمدُ للهِ أنّي كذبتْ….
— نزار قباني
أن تظل تركض حياتك كالاعمى تتخبط في الجميع بحثًا عن روحٍ فقدتها في زحام الآلام، روحٌ سُلبت منك دون إرادتك، روح أبت الحياة أن تتركك تحتفظ بها، تركض ركض الوحوش في البرية لأجل أن تعثر على نصفك المفقود، وفجأة تشعر بصاعقة تضربك حين تراه …
من عشت حياتك بأكملها تركض بحثًا عنه كان هناك يراقبك من بعيد، ما يزال في نقطة البداية يلاحقك بعيونه، كان جوارك دون أن تلاحظه، أو يحاول حتى هو تنبيهك بوجوده وكأنه استمتع برؤيتك تتخبط، استمتع برؤية معاناتك…
ارتجفت يد برلنت بين أصابعه وهو يحدق بعيونها التي تظهر من اللثام، وإن تغيرت جميع ملامحها كيف تفعل عيونها ؟!
وتلك الشامة على معصمها ..
كيف، كيف استطاع تجاهل هذه الأعين حتى لو لم يرها يومًا عن قرب، كيف لم يشعر بها ؟!
بيرلي كانت أمامه؟؟ أمامه ومنذ سنوات طويلة، سنوات لا يدرك حتى عددها؛ لأنها ببساطة لم تشفق عليه و تظهر أو ينتبه لها إلا منذ اسابيع فقط .
كان يشدد دون وعي على ذراعها، ينظر لعيونها وهو يرتعش من هول ما يعيش به، زوجته التي عانى أربعة عشر عامًا يتجرع مرارة فراقها كانت على بُعد خطوات منه تعيش حياتها دون أن تفكر يومًا في الاقتراب منه وأخباره عنها ؟؟
ارتجفت شفاهه لا يصدق أنه ينطق اسمها أمامها بعد كل تلك السنوات :
” بيرلي ؟!”
أغمضت برلنت عيونها بقوة تبكي وهي تنفي برأسها، تنفي ما أكدته جميع حركاتها وردات فعلها، تنفي ما أثبتته نظراتها تحاول الحديث من بين شهقاتها تجذب يديها منه بصعوبة، تحاول الهروب منه وكأن أربعة عشر عامًا لم تكن مدة كافية للهرب :
” لا، لا لستُ… لستُ …”
ولم تتمكن من إكمال جملتها تلك، بسبب شهقاتها التي قطعت حديثها وهي تنهار ارضًا بقوة ليترك هو ذراعها وقد أصابته صدمة جمدته ارضًا يراها تنحني ارضًا باكية بصخب :
” أرجوك… أنا آسفة تميم .. أنا آسفة، اغفر لي..تميم أنا آسفة ”
تراجع تميم للخلف بصدمة كبيرة وهو يشعر بالوجع، وجع كبير ينخر قلبه، نظر حوله متمنيًا أن يكون حلمًا، الفتاة التي عاش حياته يحلم فقط بأن يلقاها ولو صدفة.
أضحى الآن يتمنى أن يكون لقاؤها مجرد حلم، أن يكون ما فهمه في هذه اللحظة سوء فهم، أي شيء غير حقيقة بقائها كل هذا الوقت بعيدًا عنه بإرادتها .
بيرلي لن تفعل به هذا، لن تقبل أن تراه كل هذه السنوات وتتركه .
خرج صوته ميتًا دون شعور منه :
” أنتِ ..أنتِ لم تفعلي هذا بي، لم تعذبيني بهذه الطريقة برلنت صحيح ؟؟ أنتِ لم تتعمدي الابتعاد عني بهذا الشكل، أنتِ ..أنتِ لا تعرفين من أنا صحيح ؟؟”
عند هذه الفكرة أبتسم بأمل ينحني ارضًا يجلس على ركبتيه ينظر لها بأمل واعين لامعة موجوعة يتحدث بتعب :
” أنتِ لم تتعرفي عليّ وهذا سبب ابتعادك عني صحيح ؟؟ أنتِ لم تعلمي هويتي الحقيقية، أنا… أنا تميم، تميم رفيقك وصديقك و…وزوجك بيرلي ”
صمت ثم قال بأمل يسألها أن تؤكده :
” لا يعقل أنكِ عرفتني وتجاهلتني كل ذلك الوقت، صحيح صغيرتي ؟!”
جرحتها نبرته واشعرتها في لحظات بالموت يسري بين عروقها، بكت تقول بصوت موجوع :
” لقد هددتني بـ… ”
صرخ في وجهها بجنون وقد انتفض جسده وفاض صبره من كل ذلك، لا يعقل أن كلمات نطقها في لحظة انفعال تسبب له جحيم أربعة عشر عامًا :
” كنت كاذبًا، كنت غبيًا، كيف لكِ أن تصدقي لحظة أنني بهذا التجبر الذي يدفعني صوب قتلك يا غبية ؟!”
اقترب منها وهو يضرب جانب رأسها باصبعين في خفة وخوف أن يؤذها حتى في أقصى حالاته انفعالًا يهدر فيها بقهر شديد :
” منذ متى وأنا بهذه القسوة التي تدفعني لقتل أحدهم دون ذنب؟؟ ماذا إن كان أحدهم هذا يعني لي حياتي بيرلي ؟؟ كيف …كيف اضعتي مني كل تلك السنوات بعيدًا عنكِ ؟! لقد كدت أُصاب بالجنون وأنا أبحث عنكِ في كل مكان يا امرأة ”
ختم حديثه يشعر بالوجع هامسًا من بين أنفاسه الثائرة ووجهه يحكي لها معاناة خالصة له :
” حرامٌ عليكٍ برلنت، حرامٌ عليكِ ”
بكت برلنت بقوة وهي تدفن وجهها بين كفيها تحاول الحديث، لكن وكيف تفعل وحتى التنفس كان صعبًا عليها لشدة بكائها، حالة تنتابها حين يشتد بها البكاء ويتحكم بها الحزن .
” عشت أربعة عشر عامًا من العذاب، أقتل نفسي يوميًا، أرفض الشعور بفرحة صغيرة مخافة أن اكسر عقابي لنفسي، يالله حرمت على قلبي الفرحة دونك برلنت، ما الذي فعلتيه بيرلي ؟؟”
ازدادت أصوات بكاء برلنت، وحاولت أن تشهق من بين بكائها، وصَعُب عليها التنفس لتنهار ارضًا تشير له في محاولة بائسة للدفاع عن نفسها .
تحرك لها تميم بسرعة ورعب وهو يضم وجهها بين كفيه يقول بلهفة كبيرة وكأن الصغيرة بيرلي عادت مجددًا له تبكيه قسوة والدها أو صراخ والدتها، أسرع يبعد لثامها عن وجهها ونسى في ثواني قليلة كامل غضبه :
” تنفسي، تنفسي، اهدأي اهدأي بيرلي، تنفسي بهدوء هيا تنفسي، أنا آسف، اقسم أنني آسف”
وكلماته تلك ما زادت جرحها إلا قيحًا، وما زادت وجعها إلا تلالًا من الآهات، لهفته وخوفه عليها في هذه اللحظة جعلوها تشفق عليه، جعلها تبتأس أكثر وهي تزداد بكاءً، فما كان من تميم إلا أن جذبها لاحضانه بقوة وهو يدفن وجهها برقبته يهمس بلهفة وخوف شديدين :
” بيرلي صغيرتي تنفسي، لن أفعل لكِ شيئًا أرجوكِ اهدأي، أنا حقير كاذب، لطالما كنت كذلك، حتى ذلك اليوم كذبت، أقسم أنني كذبت، ما كنت لامسك بسوء صغيرتي، يا ويلتي تنفسي بيرلي ”
وبرلنت لم تحسن التنفس أو التحدث سوى بكلمات قليلة وهي تنطق من بين شهقاتها :
” لقد خفتك ؟؟ خفت أن تعلم من أنا فـ …فتنفذ …فتنفذ تهديدك لي، أنا…أنا آسفة تميم، اقسم أنهم هددوني بك، لقد هددوني بأذيتك، هددني أبي بك إن… إن لم أتحدث، لقد أخبرني أنه سيتسبب في اعدامك أنت، لقد ترجيته وتوسلته، حتى أنني قبلت قدمه كي لا يدفعني لقول ما قلته لكنهم اجبروني اقسم لك ”
انفجرت في بكاء قاسي في اللحظة التي عاد لتميم كل ما حدث ليرتجف جسده بقوة يتذكر كم كان متجبرًا على طفلة ذلك اليوم، ابتعد عنها قليلًا وزيّن له عقله الهروب منها ومن كامل أوجاعه التي تكالبت عليه في هذه اللحظة .
صمتت هي، ثم أكملت بصوت خافت أبح موجوع :
” جئت للعمل هنا فقط كي أكون بالقرب منك، ارتضيت العمل خادمة فقط لأصبح بالقرب منك تميم، استغليت جميع الفرص لاراك، وأقسم أنني على استعداد للعمل بهذا الشكل باقية حياتي، فقط أسمح لي أن أكون جوارك، أرجوك تميم دعني اعتني بك وأراك حتى وإن كان تحت مسمى عاملة هنا، اتركني اعتذر عن ذنبي القديم في حقك”
كانت تتحدث باكية وهي تضم ثيابه من الخلف بقبضتها بقوة تصرخ بما كبتته سنوات ترتعب القادم، لا تخشى موتها، لكن تخشى أن يفعل ما يندم عليه، تخشى أن يتعذب بسببها، يكفيه ما ناله من خلف رأسها.
وتميم كانت عيونه تلتمع بدموع يأبى أن تهبط في هذه اللحظة وهو يضمها له يستمع لكلماتها، كانت جواره وأبت الاقتراب فقط كي لا يقتلها، خشته لدرجة أن تبتعد عنه، هربت منه بسبب تهديد غبي ألقاه في وجهها سابقًا، هو المذنب في عذاب كليهما طوال هذه السنوات ؟!
بالطبع هو كذلك، كانت مجرد طفلة صغيرة، يا الله طفلة صغيرة بالطبع ستصدق تهديده ذلك الوقت .
فجأة ومن بين شهقاتها شعرت برلنت بجسد تميم يهتز ويختض بشكل جعل أعينها تتسع بقوة وهي تهمس بذهول :
” تميم ؟؟ هل …هل تبكي ؟؟”
بكى تميم أكثر حتى شعر أن صوت بكائه وصل لجميع قاطني القصر، لقد أخطأ في حياته مرة واحدة كانت كافية لتدمرها بالكامل، زوجته وصغيرته رحلت هاربة منه، ورغم ذلك لم تستطع الابتعاد وجاءت للعمل جواره دون أن تمتلك القدرة أو الشجاعة لمواجهته خوفًا من بطشه، عملت كخادمة، زوجته كانت تعمل خادمة فقط لتصبح جواره .
شعر في هذه اللحظة بشعور سييء يملئ صدره .
ضمته لها برلنت تقول بوجع وخوف باكية :
” لا لا تميم لا تبكي أرجوك، أنا..أنا آسفة اقسم لك أنني آسفة لكل شيء، لقد كُتب عليك الوجع منذ تعرفت عليّ، كنت اسبب لك مشاكل طوال الوقت وها أنا أفعل الآن ”
ابتعد عنها تميم يضم وجهها بين قبضيته يستند على جبينها بخصاته يهتف بكل الوجع الذي سكنه في هذه اللحظة وكأنه يبرر لها الأمر :
” ما كنت يومًا لأمسك بسوء بيرلي، أنا أضعف من أن انتزع روحي بيدي، أضعف من أذية نفسي بهذا الشكل، ما كنت يومًا لافعلها، ما كان عليكِ تصديقي ذلك اليوم ”
أغمضت برلنت عيونها تشعر في هذه اللحظة بعظم ما حدث معهما .
هي أضاعت أربعة عشر عامًا لأجل خوف من شيء ما كان ليحدث، وهو أضاع أربعة عشر عامًا يبحث في كل مكان عدا المكان الوحيد الذي كانت به…جواره .
استمتعت برلنت بالصمت السائد في المكان، تتنفس بصوت منتظم بعد موجة بكاء عنيف صدرت منها، استمتعت واخيرًا بإيقاع نبضاته شعرت في هذه اللحظة أنها تحيا اسعد ثواني مرت عليها منذ سنوات، الآن والآن فقط استطاعت التنفس براحة، وكأن هناك صخرة كبيرة كانت تجثم على صدرها والان فقط تحركت .
رفع تميم إصبعه يمسد خدها بحنان شديد وحب وكأنه لا يصدق أنه يمسها.
غاضب ؟؟ نعم وبشدة، يود معاقبتها للابتعاد عنه ؟؟ نعم سيفعل، لكن ليس الآن وليس في هذه اللحظة التي كانت أشبه بخروجه فجأة من أسفل قاع المحيط يستنشق الهواء بعدما كان يتخبط في الاسفل يصارع الأمواج كالغريق، الآن سيستمتع بأنفاسه التي استطاع أخيرًا التقاطها، ومن ثم يفكر في كيفية الخروج من المحيط للشاطئ .
وهي فقط كانت تشعر برغبة عارمة في النوم، النوم لأول مرة براحة بين أحضانه، النوم للمرة الثانية في حياتها بين أحضانه، إذ كانت أول مرة لها بعد عقد قرانهما بـ ..
و عند هذه الفكرة انتفض جسد برلنت للخلف بسرعة بعيدًا عنه بوجه شاحب وهي تنظر لتميم بصدمة هامسة، تضع كفها على فمها :
” يا ويلي ما الذي فعلته ؟؟ ما الذي فعلته تميم ؟؟ حرام ..حرام أنا لا أستطيع أن…يا الله لقد أذنبت، لقد عانقتك و… أنت طلقتني و….”
قاطع تميم كل ذلك يتفهم ما تريد قوله وهو يجذبها صوبه يقول بجدية ينظر لعيونها بجدية كبيرة وحب :
” لقد رددتك بيرلي، رددتك بعدها بيوم واحد فقط، أنتِ ما تزالين زوجتي منذ أربعة عشر عامًا …..”
_______________________
” أنا حقًا لا افهم أي عقل هذا الذي يجعلني أستمع لحديثك الغبي كهرمان وآتي معكِ لهذا المكان ؟! ماذا إن امسك أحدهم بنا ؟؟”
نظرت لها كهرمان برجاء تحاول أن تستعطف كل ذرة إنسانية بها :
” بالله عليكِ زمرد لا تتخلي عني، اقسم لكِ أنني لن أنسى يومًا مساعدتك هذه، فقط ساعديني لأصل له، عليّ التحدث معه، أرجوكِ ”
زفرت زمرد تمد عيونها صوب الممر الذي كان محظورًا على الجميع أن يخطوه يومًا، الممر الذي يحوي جحيم سفيد، السجن الأخطر في المملكة حيث يقبع ذلك الحقير قائد جيوش أخيها والخائن الذي تسبب في مقتله، عليها أن تتحدث معه تحت أي ظرف .
تنفست زمرد بصوت مرتفع وهي ترى رجال يقفون على باب السجن، تقول بصوت منخفض :
” وكيف تتوقعين منا الدخول لهذا المكان بكل هذه الحراسة؟؟”
ابتسمت لها كهرمان تقول بجدية كبيرة :
” لا، لا تخافي أنا لن اغامر بكِ وآخذكِ داخل السجن معي ”
نظرت لها زمرد بحب تقول :
” أوه كهرمان أنتِ حقًا …”
” بل سأستخدمكِ طُعمًا لجذب الحراس بعيدًا عنه حتى أدخل أنا”
” حقيرة، أنتِ حقّا حقيرة كهرمان ”
ابتسمت لها كهرمان بلطف تغريها لمساعدتها :
” حين اعود لمشكى سأجعلك وصيفتي ومستشارتي الاولى، اعدك ”
رفعت زمرد اللثام الخاص بها وهي ترتدي ثياب مكونة من بنطال واسع، بعض الشيء يشبه ثياب الرجال في المملكة وسترة تعلوها معطف جلدي طويل وقلنسوة مع اللثام تغطي كامل ملامحها عدا الأعين :
” هذا إن عشت لذلك الوقت، أراكِ في جنة الخلد عزيزتي”
ومن بعد هذه الكلمات ركضت زمرد بسرعة كبيرة صوب الممر الخاص بالسجن تقف في بدايته ترمق البوابة الخاصة بهم وهي تطلق صفيرًا عاليًا جذب انتباه الرجال، ثم لوحت لهم ترسم في عيونها نظرة مخيفة، ودون تفكير كانت تخرج خنجرين من ثيابها _سرقتهما سابقًا_ تلقي بهما بالقرب من الرجال متعمدة عدم إصابتهما .
شهق الرجال بسرعة كبيرة وقد تحفزت أجسادهم لما يحدث، وقبل أن تستوعب زمرد ما يحدث كانت ترى الأجساد تندفع لها بشكل مخيف جعل أعينها تتسع بصدمة :
” أوه رجال أقوياء سريعي البديهة ؟؟ يبدو أنني نسيت كوني في سفيد ولست لدى الغبي بافل ورجاله الاغبياء ”
وحين أبصرت الجميع يندفع لها بشكل مخيف يصرخون بهدير في وجهها، تراجعت بسرعة كبيرة للخلف وهي تركض برعب كبير تستغل رشاقتها وسرعة أقدامها وهي تقفز على الدرج والجميع خلفها .
وقبل أن تختفي همست بينها وبين نفسها بلهفة وهي تنظر خلفها :
” تدينين لي بالكثير والكثير كهرمان، حتى إن منحتني عرش مشكى لن يكفي لسداد دينك لي ”
بينما عند كهرمان رفعت لثامها تتحرك بهيئة الجندي صوب السجن بسرعة كبيرة تستغل عدم وجود أحدهم، ثم هبطت الدرج تمسك سيفها في تحفز، تنتظر أن يظهر لها أحدهم، لكن لم تفعل .
نظرت حولها بجهل إذ من المفترض أن يكون هناك رجل يحرس بوابات السجون أجمعين، تنهدت وهي تفتح البوابة تدخل لممر طويل ملئ بالسجون المظلمة التي تفوح منها رائحة الدماء وتنتشر فيها اصوات تأوهات خفيضة جعلت جسدها يرتجف .
ابتلعت ريقها بخوف شديد، تنظر صوب الأجساد المترامية تبحث عنه بين السجون تحاول تمييزه في الظلام الذي ينتشر في المكان .
وبعد دقائق فجأة توقفت أقدامها حين تعرفت عيونها على ثوب تعرفه تمام المعرفة، ثياب تدرك جيدًا مصدرها، ثياب تحمل شعار مشكى .
رجل يحشر جسده في زاوية أحد السجون يخفي رأسه بين قدميه وأعلى كتف ثيابه الرثة يظهر شعار مملكة مشكى والذي يعود لأخيها.
ابتسمت كهرمان بسمة قاسية وهي تقترب من السجن تهمس بفحيح وهسيس مرعب :
” تخون بلادك وتحمل شعارهم معك ؟؟ لكم أنت خائن مخلص مهران ”
ارتفع رأس مهران بسرعة مخيفة وهو ينظر صوب باب السجن خلف القضبان لذلك الجسد الذي يختفي في الظلام، ورغم عدم رؤيته لصاحب الجسد إلا أنه تعرف عليه ليشهق بعدم تصديق يتحرك صوب القضبان يقول بصدمة :
” الأميرة كهرمان ؟؟”
اقتربت كهرمان من القضبان تبتسم له بسمة قاتلة وهي تهتف :
” بشحمها ولحمها ”
ارتجفت حدقات مهران وهو يحرك عيونه على جسدها صعودًا وهبوطًا وكأنه يبحث عن علامة واحدة تخبره أنه فقط يتخيل، هو يحلم، نعم يحلم فهو احرق مخبأ النساء يومها بيده، هو من حرقه.
” كيف ..كيف لقد …لقد أحرقت مخبأ النساء بيدي بعدما …”
صمت يبتلع ريقه يحاول فهم ما يحدث لتهمس له كهرمان بصوت ميت ونبرة مرعبة :
” بعدما أمّنك أرسلان على حمايتنا، أحرقت المكان الذي تركه تحت حمايتك صحيح ؟؟”
ابتلع مهران ريقه وهو يفكر فيما حدث وكيف نجت هو تأكد بنفسه أن جميع أفراد الأسرة الحاكمة قُتلوا، من صغيرهم لكبيرهم .
تنفس يحاول الحديث :
” ما الذي جاء بكِ و….”
وقبل أن يكمل كلماته صُدم وهو يشعر بجسده يُجذب صوب القضبان بقوة مخيفة وكأنها تود تحطيم جمجمته وإخراج رأسه من بين القضبان لها حتى تدهسها أسفل أقدامها، كانت تنظر له بشر وهي تجذبه بقوة، ليس وكأنها تمتلك قوة تضاهي قوة رجل حرب كمهران، لكن المباغتة فاجئته وصدمته وهو يشعر بخنجر يوجه لمعدته في الاسفل ويضغط عليها حتى شعر به يكاد يخترق جسده وصوت كهرمان يهمس له :
” سوف تكون نهايتك على يدي، لن ينجيك أحدهم من مصيرك الاسود مهران، بحق كل لحظة ثقة منحك إياها سأجعلك تندم، جميعكم ستفعلون أنت وهذا الشيطان بافل”
كانت تتحدث وهي تضغط خنجرها أكثر حتى خرج منه تأوه جعله ينتفض للخلف وكأن الألم جعله يعود لواقعه بعدما ألقته الصدمة في هوة سحيقة :
” أنتِ …أنتِ لن تتمكني من فعل شيء، لا أنتِ ولا هم سيستطيعون، سوف أخرج من هنا وحينها سأ….”
” لا انصحك، صدقني ما يمنعني عن تعذيبك هو هذه القضبان، لذلك فلتدع الله ألا ترى نور الشمس مجددًا يا قذر ”
تراجعت للخلف وهي تحدق فيه بشكل مخيف تقول :
” من أيضًا تحالف معك ضد أرسلان ؟؟ ”
نظر لها مهران بسخرية ولم يتحدث لتقترب هي مجددًا تقول :
” من شاركك فعلتك النكراء مهران ؟؟”
نظر لها ثواني يستمتع بنظرات العذاب أعلى وجهها :
” بعض قادة الجيش فعلوا، يبدو أنه ليس الجميع يتحملون قسوة شقيقك ”
” الرجال فقط هم من يفعلون، لكن امثالك من الذكور بالطبع لا يمكنهم تحمله ”
بُهت وجه مهران، ثم اندفع فجأة صوب القضبان يلتصق بها وهو يحاول مد يده للامساك بها صارخًا بجنون :
” اللعنة عليكِ وعلى شقيقك اللعين الحقير، اللعنة عليكما سويًا، ذلك القذر لكم استمتعت برؤية سيفي ينفذ من جسده، ورؤية دماءه تسيل على قبضتي، ما أزال اذكر نظراته المصدومة حين جاءته الضربة من خلفه ووجدني، كانت أكثر لحظات حياتي سعادة ”
اتسعت عيون كهرمان وهي تراقب ذلك الجنون الواضح على عيون مهران الذي أخذ يضحك بشكل هستيري وهو يصف لها مشهد قتل شقيقها، ارتجف جسدها بقوة تتراجع للخلف صارخة في وجهه :
” بالتأكيد ستضربه من ظهره، فمن أين للكلاب بمواجهة الاسود وجهًا لوجه، أنت حتى أثناء موته خشيت مواجهته، ما يزال أخي يترك لديك أثرًا لن يزول، سيظل ذكره يثير بك جنونًا ”
ختمت حديثها تصرخ هي بجنون، تسمع باقي كلماته التي كان يهذي بها :
” رفضني واستنكر أنني أردت اخذك والزواج بكِ، وها أنا أخذت منه حياته ومملكته وكل ما يملك ”
شهقت كهرمان بصدمة فهذه المرة الأولى التي تعلم بها هذا، بينما مهران اكمل بأعين زائغة وكأنه يرى ما حدث يُعاد أمامه:
” كان يحدجني بنظراته المعتادة قبل أن يسقط ارضًا مضجرًا في دمائه، اللعين لم تختفي نظرة الكبرياء والتجبر من عيونه، انطفأت الحياة بها، ولم ينطفئ كبرياؤه، نظرته ما تزال تلاحقني في نومي”
نظر لها يبتسم بسمة أقرب للجنون :
” أوتعلمين ؟؟ أنا الآن أراه يقف خلفك يحدق فيّ بنفس النظرة المخيفة التي كان يسير بها، لطالما رماني بها وكأنه يخبرني أنه يعلم كل شيء ”
تنفست كهرمان بقوة ترى التصاقه بالسجن لتبتسم بسمة جانبية وهي تندفع فجأة ودون مقدمات تخرج خنجرها، تمد يدها عبر القضبان تغرز خنجرها في خاصرته تستمتع بصوت صراخاته العالية المتألمة، ابتسمت تدير الخنجر داخل جسده لتعلو صرخاته أكثر وهي تهمس :
” مات أخي بطلًا، تخيل أنه لم ينظر لك بضعف أو رجاء وذل وأنت اذقته الموت كؤوسًا، بينما أنت بمجرد ضربة خنجر تكاد تفقد وعيك من الوجع ..”
ابتسمت تقول :
” تؤ تؤ، عارٌ على شاربك القذر ”
ختمت حديثها تجذب خنجرها بقوة لتنطلق على أثره صرخة أشد عنفًا من الاولى وهي فقط بصقت في وجهه تقول بغضب :
” لنا لقاء آخر يا حقير، ليلة سعيدة مع شبح أخي عسى ألا تخرج من تحت يديه حيًا ”
اقتربت تهمس بصوت خافت وكأنه يأتي من بئر سحيق :
” أوصله تحياتي وأخبره أنني سأرسل له الجميع، لكن للأسف لن يلتقي بهم، فمال أخي بالجحيم الذي سيذهب له أمثالك ؟!”
وبهذه الكلمات ركضت بسرعة خارج المكان وهي تتأكد من لثامها، تتحرك بخفة ورعب أن تصادف أحدهم، لكن صوت صرخات وتأوهات مهران التي تبعتها، جعلتها تشعر أنها حتى وإن قُبض عليها في هذه اللحظة لن تبتأس، هي أرادت فقط مواجهته ومعرفة ما حدث، وقد نالت ما تريد وأكثر، بقي فقط أن تراه يُعذب وترى دولتها وقد عادت ……
_________________________
تركض بسرعة كبيرة وكأن الموت يلاحقها تسمع صرخات والدها خلفها يتبعه صوت بعض إخوتها وهم يصرخون بها أن تتوقف وإلا أذوها .
ابتسمت بسمة واسعة وهي تزيد من سرعتها، وكأنها لم تتأذى بالفعل بينهم، هم الأذى ذاته .
كانت تركض بين الجبال التي يسكنوها كالمطاريد، تحمل بين يديها ما سرقته منهم، تتنفس بصوت مرتفع، ابتسم بانتصار، فتاة في السادسة عشر تهزم جيش من الرجال المتجبرين .
ابتسمت حين وصلت لقمة الجبل تنظر للاسفل وهي ترى معاناة الجميع للصعود، فهم ليسوا مثلها تعيش نصف يومها فوق الجبال وتعلمت التسلق منذ طفولتها .
ابتسمت تقف بقامتها الرشيقة تلوح بما سرقته وهي تقول بتشفي واستفزاز مثير للحنق :
” ها هل ستعطوني ما اريد أنا وأمي أم اترك ما بيدي واحول قريتكم تلك لرماد ؟؟”
تتحدث بجدية كبيرة وهي تنظر للاسفل حيث قريتها التي تقبع عند سفح الجبل وهي تقف في الاعلى تمسك إحدى القنابل التي استولى عليها والدها يومًا، مبتزة وحقيرة وقذرة …نعم هي هكذا وهذا ما تعلمته منهم .
تنفس والدها بغضب شديد وهو يصرخ :
” يومًا ما زمرد سأقتلك بيديّ هاتين يا قذرة، مثلك مثل والدتك قذرة حقيرة ”
ابتسمت له زمرد تردد باستفزاز كبير :
” بل أنا اشبهك أنت ابي، لذا لا تُلصق قذارتي وحقارتي بوالدتي، فهذا ما ورثته أنا منك ”
اشتعلت عيونه أكثر وقد شعرت زمرد في هذه اللحظة أنه إن امسك بها سيقتلها جديًا، تقدم بافل في هذه اللحظة وهو يصرخ بجنون :
” ايتها الغبية دعي ما بيدك، حتى إن اخذتي ما تريدين الآن، بعدها سوف تقعين أسفل يدي ولن ارحمك ”
مالت زمرد برأسها تقول بهدوء وبرود :
” لا بأس وقتها يتولاني الله يا عزيزي، والآن أعيدوا لي سيف والدتي وارفعوا عنا حصاركم واعطوني طعامًا لي ولامي، وإلا أحلت تلك البِركة القذرة التي اسميتموها قرية لرماد ”
نظر لها والدها بشر كبير ورغم ذلك كانت هناك بسمة واسعة ترتسم على فمه بسمة لم تكن تلائم بأي شكل من الأشكال الموقف يقول بهدوء شديد :
” اعطوها ما تريد ولا يمسنها أحدكم بسوء ”
نظر الجميع صوب والدهم بصدمة كبيرة وهي نظرت له بسخرية واستهانة ليمنحها هو بسمة غامضة يلتمع بها فخر دفين، الفتاة الوحيد بين ابنائه والتي ظنها الجميع ستكون نقطة ضعف لهم ووصمة عار على أبنائه، كانت أكثرهم جرأة وهو يعجبه ذلك، يعجبه أن ترتشف من قذارته ما يؤهلها لتكون بمكانة عالية، يدرك في قرارة نفسه أن زمرد ستكون ذات شأن عالي يومًا ما بين المنبوذين وهو سيعمل على ذلك، ولن يسمح لنقاء والدتها أن يتمكن منها …
وعلى غرار هذه المطاردة التي كانت تدور داخل عقل زمرد، كانت هي في مطاردة مشابهه لها في الحاضر وهي تهرب من الجنود بسرعة كبيرة تقفز هنا وهناك، تصعد هذا الدرج وتهبط ذاك، تبتسم وهي تدور بهم داخل القصر ولم تترك شبرًا واحدّا إلا ووطئته معهم .
عيونها تلتمع بانتشاء غريب، انتشاء لأجل لعبها دورها المحبب، دور الشرير، نعم هي خبيثة حقيرة قذرة وشريرة وكل هذا دون وعي يضغط على نقطة سوداء داخلها، وهي توجهها لمن يستحقها .
ابتسمت وهي تتوقف تتنفس بصعوبة وقد ضللت الحراس في طريقها لهنا، هنا حيث مكانها اللطيف الذي شهد حروبًا بينها وبين رامي السهام المزعج الوسيم والذي بالمناسبة كان يقف هناك عاري الجذع يتصبب عرقًا وهو يتمسك بأحد فروع الشجرة يحدق فيها بعدم فهم …
ابتسمت له بسمة واسعة وهي تقول :
” هذا أنا ”
رفع دانيار حاجبه بسخرية وهناك بسمة جانبية ترتسم على شفاهه وكأنه يخبرها ( حقًا هذه انتِ؟! )
تنهد دانيار تنهيدة عالية مصطنعة وهو يقول :
” اوه الحمدلله أنها أنتِ كنت ارتجف رعبًا للتو ”
ورغم معرفتها أنه يسخر منها إلا أن مزاجها الجيد في هذه اللحظة بعد ركض لدقائق طويلة فرّغت به طاقة حنق وغضب، جعلها تقول ببسمة :
” لا لا تخف لن اؤذيك ”
أطلق دانيار ضحكات صاخبة وهو يكمل تمارينه بسرعة كبيرة، يستخدم الفرع كرافعة له كي يرهق جسده ويخلد للنوم بسرعة كبيرة دون الحاجة للمرور بجزء الأفكار المؤرقة ..
لكن انظروا لحظه السعيد، أفكاره المؤرقه بنفسها احتلت تدريبه تبتسم له …بخبث ؟؟ حقًا ؟؟
ترك دانيار الفرع يهبط ارضًا وهو يتنفس بصوت مرتفع بعض الشيء، يتحرك لتجفيف عرقه وارتداء ثيابه وقد شعر بلسعة برد استغلت وجود قطرات العرق لتزيد من برودة جسده .
ولم يكد يرفع سترته لارتدائها وسمع صوتها تقول وهي تدور حوله ببسمة وكأنها قررت أن تجعله تسلية له اليوم :
” بالمناسبة أنت تمتلك عضلات جيدة، احسنت العمل ”
توسعت أعين دانيار بقوة وقد ثبتت يده في الهواء واستدار لها بصدمة كبيرة وهي لم تجفل أو تنتفض معتذرة أنها تحدثت بشكل خاطئ، فقط كانت تقف وهي تحدق به بهدوء شديد .
” أنتِ يا امرأة…وقحة حقًا ”
أطلقت زمرد ضحكة عالية تفكر أن والدتها لن تكون لتكون سعيدة بكل ذلك، هل هذه ليلة ارتكاب كل ما هو محذور عليها، استغفرت ربها، ولم تكد تعلق على كلمته تلك حتى سمعت صوت خطوات عالية تقترب وأصوات الحراس وهم يشيرون في حديثها لمكانهم، نظرت بريبة صوب دانيار الذي تعجب تلك الأصوات وقبل أن يتساءل عما يحدث ركضت هي بسرعة تختبئ خلف الأشجار الخاصة بالاهداف مستغلة ظلام الليل تحت انظار دانيار المتعجبة ..
وما هي إلا لحظات حتى أبصر دانيار بعض الجنود يركضون له وهم ينحنون باحترام :
” آسفين لازعاجك سيدي لكن هل رأيت أحدهم يركض من هنا ؟؟”
رفع دانيار حاجبه، ثم استدار نصف استدارة صوب الشجر حيث تختبئ هي يقول :
” أحدهم ؟؟ وهل ذلك الاحدهم يرتدي ثوبًا اسودًا بالكامل مع قلنسوة ولثام ؟؟”
هز الجنود رؤوسهم وتحدث أحدهم بلهفة :
” نعم نعم سيدي، هل رأيته ؟؟”
نظرت زمرد لهم بحرص شديد وهي تعض شفتيها تقول بداخلها :
” لا يعقل أن يكون حقيرًا لهذه الدرجة و….”
وقبل أن تكمل جملتها رأت إصبع دانيار يشير لها وهو يقول بكل بساطة وهدوء :
” نعم هذا الاحدهم يختبئ خلف هذه الشجرة ”
اتسعت أعينها بصدمة كبيرة، هل فعلها ؟! هل سمعته يخبرهم عن مكانها ؟؟ لقد فعلها، يا الله لقد فعلها، هكذا ينتقم منها هذا الحقير ؟!
انتفضت من خلف الشجرة تؤجل سباتها وتوعدها فيما بعد وهي تطلق لساقيها الريح تركض بشكل مخيف جعل دانيار يبتسم وهو يقول بعدما رآها تهرب ورأى استعداد الجنود للحاق بها بلهفة :
” توقفوا ..عودوا لعملكم وانا سأتولى أمره ”
نظر له الجنود بعدم فهم :
” لكن سيدي هو كان يـ …”
” قلت عودوا للعمل وانا سأتولى الأمر، أي جزء من حديثي لم يكن واضح ؟!”
هز الرجال رؤوسهم ثم تحركوا بتعجب، هو حتى لم يعلم سبب ركضهم خلفه أو يعلم أي شيء من الأساس .
ودانيار حمل سهامه يتحرك بهدوء شديد يفكر بعقل تلك الغبية، وإن كان مكانها أين سيذهب، تحرك صوب القصر ليبصرها تدخل له بسرعة كبيرة، ودون شعور قادته قدمه للحديقة التي تتوسط القصر الداخلي، المكان حيث رآها اول مرة ترقص وتغني .
ابتسم وهو يراها تقف في منتصف المكان تتنفس بصوت مرتفع جدًا :
” أوه ها نحن ذا عدنا لنقطة البداية أيتها الخائنة ”
استدارت زمرد بسرعة كبيرة ترمقه بصدمة سرعان ما تحولت لنظرات مرعبة غاضبة وهي تستخرج خناجرها تركض صوبه بسرعة كبيرة تصرخ تنتوي له شرًا، لكن لم تكد تصل له حتى كانت يده تتحرك بسرعة تفوق سرعتها يمسك طرف معطفها الذي يتطاير حولها يلفه حول يديها بشكل غريب يقيدها وهو يهمس لها ببسمة :
” ما الذي فعلتيه هذه المرة ؟؟”
” لم أفعل بعد، لكنني انتوي قتلك في الحقيقة ”
” غير قتلي، ما الذي فعلتيه للحراس ؟!”
نظرت له بحنق شديد تحاول الفكاك ليشدد هو القيد أكثر :
” لم أفعل شيئًا فقط أردت الهائهم كي اساعد رفيقه لي ”
نظر لها بدقة يتساءل :
” الأميرة ؟!”
” نعم أرادت رؤية ذاك الحقير قائد جيوش مشكى، ربما تقتله ومن أنا لامنعها من قتل شخص يثير حنقها وغضبها؟”
كانت تتحدث بغضب وهي تنظر له ليبتسم هو بسمة جانبية :
” نعم من أنتِ لتمنعي قتل أحدهم ؟! أنتِ يا امرأة لن تتوقفي عن أفعالك العنيفة تلك حتى لا اقيدك بأحد الأشجار هنا ؟؟”
” تجرأ وافعلها ”
” لقد فعلت بالفعل، أنا الآن اقيدك ”
زفرت زمرد تصرخ بحنق شديد :
” حسنًا دعني أرحل، اثبتّ قوتك وتغلبك عليّ الآن أيها المخادع، دعني أرحل ”
وقبل أن تتبع جملتها تلك بأخرى رأت دانيار يجذبها من ذلك الطرف الذي قيدها به يقول بأعين محذرة وصوت مخيف :
” توقفي أن الزج بنفسك في المصائب، توقفي عن البحث عن المشاكل وتصرفي ولو لمرة واحدة كامرأة”
نظرت له بتشنج :
” وكيف تراني إن لم أكن اتصرف كامرأة يا هذا ؟!”
” رجل، تتصرفين كالرجال ”
اشتعلت أعين زمرد في المقابل، ليبتسم لها تاركًا قيدها لتتحرر وهي تتراجع للخلف ترمقه بضيق وهو ابتسم لها بسمة جانبية وقد نجح أخيرًا في إثارة استفزازها، ثم وضع إصبعين على رأسه يؤدي لها تحية :
” أراك لاحقًا يا رفيق، وتذكر توقف عن الزج بنفسك في المصائب وإلا وجدتني اقتحم تلك المصائب أجرك كالبهيمة خارجها ”
” بهيمة ؟!”
ابتسم يستدير دون أن يجيب، بينما هي صرخت بجنون :
” أنت لا يمكنك إلقاء الحديث والرحيل كل مرة دون أن تسمع ردي ”
” أعرفه دون سماعه، بل أكاد اقسم أنني اسمع الآن سبابك داخل أذني، والآن تصبحين على خير ”
هكذا ببساطة تركها بعدما أنقذها أو ابلغ عنها لا تدري، نظرت حولها وهي تتنفس بصوت مرتفع قبل أن تصرخ بغيظ :
” وما شأنك بي إن ألقيت نفسي في كارثة أو حتى بركان أيها الحقير ؟!”
صمتت تتحرك بعنف شديد صوب القصر تبحث عمن تفرغ فيه غضبها الذي أعاد هو شحنه، ذهبت إليه بمزاج صافي امتصه هو منها وتركها غاضبة وبشدة …
___________________
تنهدت براحة حينما عبرت الجزء الخاص بالسجون وهي بخير، حسنًا تتعجب حتى الآن أن لا أحد من الحراس عاد، ربما تولت زمرد أمرهم بشكل مبالغ به، هي تدين لها بالكثير إذن.
ابتسمت بسمة واسعة لكنها كانت أبعد ما يكون عن السعادة، بسمة مقهورة تخفي خلفها جبال من الوجع والحزن، تشعر بالقهر على شقيقها الذي ضاع ضحية ثقته في بعض الأشخاص الخطأ، أشخاص اغراهم الشيطان ليضلوا عن طريقهم تحت اسباب واهية ومبررات سخيفة زينها لهم كي لا تشعر نفسهم بأنها ظالمة، بل حبب إليهم شعور أنهم في هذه القصة مظلومون وما فعلوه كان ردًا على مظلمتهم ..
ولا تدري كيف قادتها قدمها خارج القصر تدور منذ نصف ساعة دون أن تهتدي لمكان، تشعر بالوجع والعجز عن النوم، لا تود العودة في هذه اللحظات لرؤية أحد، تزد أن تنفرد بنفسها .
” فقط لحظات مع النفس لاستعادتها ”
” نعم هذا ما أفكر فيه بالتحديد، لحظات مع النفس ”
انتفض جسد كهرمان بسرعة وفزع وهي تستدير بشكل مخيف صوب الخلف لتجده يقف باسترخاء يضم قبضتيه أمام صدره مبتسمًا بسمة ناعسة وهو ينظر أمامه بهدوء شديد ..
ابتعدت كهرمان بتحفز للخلف تتأكد من لثامها ليسارع إيفان ينظر لها بغموض غريب يقول :
” لا تقلقي هو ما يزال في مكانه، إذن كيف حالك، لم نلتقي منذ وقت طويل ها ؟؟”
نظرت له وهي ترفرف برموشها، ثم أبعدت عيونها عنه تقول بعدم فهم لوجوده في هذه اللحظة هنا حيث اختارت هي أن تنفرد بذاتها :
” كيف علمت أنني هنا ؟؟ أم أن الصدف تصر على جمعنا ؟!”
ابتسم إيفان بسمة واسعة وهو ما يزال ينظر أمامه بجدية كبيرة :
” لا وجود لما يسمى الصدف آنستي، هذه الكلمة وضعت كحجة سخيفة لنبرر بها أفعالنا، فندعي أن لقائنا بشخصٍ ما تم من قبيل الصدفة، ونحن من قصدنا لقاءه بكامل إرادتنا”
نظرت له بعدم فهم ظهر جليًا على عيونها ليبتسم قائلًا وهو يراقب المروج أمامه قبل أن يتحرك بعيونه لها، يقول بهدوء شديد :
” كنت اراقبك، لم يكن الأمر صدفة ”
شحب وجه كهرمان وهي تتراجع للخلف شاهقة شهقة مصدومة وعقلها ذهب للقائها بمهران، هل كان يراقبها منذ ذلك الوقت ؟؟ لكن إن كان يفعل لم يكن ليقف أمامها بهذه البساطة صحيح ؟؟
والإجابة كانت غير مؤكدة، فهذا الرجل أمامها لا يظهر ما يفكر به ولا يخبرك خطواتك بل يجعلك تراها .
وهذا كان أكثر شيء صحيح تفكر به، هذا الرجل لا يظهر أبدًا ما يفكر به، وإلا كانت أدركت أن شكوكها صحيحة ..
” رأيتك تتحركين داخل أروقة القصر فتبعتك هنا، لا اخفيكِ سرًا هناك صوت خبيث أخبرني أنك متشوقة لقتال آخر معي، لكن خابت ظنوني حين رأيتك تعبرين جوار الساحة دون نظرة جانبية حتى ”
صمت ينظر لها بجدية وهو يقول :
” ما الذي تفعلينه في هذا الوقت خارجًا وبهذه الثياب إن لم يكن غرضك قتال أحمق لإثبات تفوق اجوف منك؟! ”
استدارت له وقد تلاشت الكآبة التي كانت تحيط بها نفسها تقول بصدمة :
” عفوًا يا سيد ؟؟ أي تفوق اجوف هذا ؟؟ أنت حتمًا لا تتحدث عني ”
” بل أفعل، أنا لم اقاتل يومًا امرأة سواكِ، وحسنًا أشعر أنني لا أود تجربة الأمر مجددًا، فالأمر أشبه بتعليم طفل السير، مرهق أن تقاتل شخصًا غير محترف ”
اتسعت أعين كهرمان بقوة، وهو ابتسم بسمة جانبية واسعة يقول بجدية :
” نعم الحقيقة دائمًا ما تشعرك بالغضب، لكن هذا لا ينفي كونها حقيقة ”
تنهد بصوت مرتفع يقول :
” على أية حال، أنا فقط رأيتك شاردة لا تعيين شيئًا حولك تشعرين بالحزن، فأردت المجيئ للتأكد أن حالة الحزن تلك لن تنقشع عنكِ بسهولة، عسى أن تكون ليلتك في غاية التعاسة كما احلتي لياليّ للمثل بعد وصفك لي بالظالم ”
كانت تستمع لكلماته مذهولة من مقدار وقاحته معها وتصرفاته المزعجة تلك، لكن إيفان لم يهتم وهو يبتسم لها بسمة صغيرة يقول :
” يبدو أنني أوصلت رسالتي بكل وضوح، أراكِ في حلبة القتال أيتها الملثمة الغبية ”
تركها يتحرك بعيدًا عنها وهي خلفه تنظر له بصدمة كبيرة، قبل أن تتحدث دون وعي وبصراخ غاضب :
” أنت أكثر ملك مستفز وقح عرفته البشرية، تريد أن تحيل ليلتي لتعاسة ؟؟ لا أراك الله سعادة الليلة ”
توقف إيفان مكانه ساخرًا، الآن تحولت حربهما من السيوف للدعوات، يتباريات على من يلقي الآخر بدعوة تصيبه في مقتل، استدار نصف استدارة يقول :
” لم أكن أتوقع سعادة هذه الليلة وقد رأيتك بالفعل، تصبحين على خير ”
ختم حديثه يتحرك بسرعة بعيدًا عنها وقد شعر فجأة بشعور سييء، شعور سييء للغاية، أفكاره تأخذه دون وعي صوب تلك الملثمة خلفه، حتى وإن كان فضوله هو ما يدفعه صوبها، لكن ذلك خاطئ، خاطئ بكل ما للكلمة من معنى، في الوقت الحالي لا يجب أن ينشغل بأفكاره عن شيئين، وطنه وملكته …
تحرك بعيدًا عنها، و ظلت واقفة مكانها تحدق في ظهره بحزن وملامح سوداوية، حسنًا تحققت دعوته، فبدلًا من حزن واحد، تكالبت الاحزان عليها، والآن مضطرة للتعامل مع الأمرين..
أفكارها بخصوص بلادها .
والملك ….
____________________
تحرك إيفان صوب مخدعه وهو يشرد في القادم، الحرب على الابواب وما هي إلا أيام ويتم إعلانها صراحة، هو لن يهدأ له بال إلا حينما يعيد مشكى لشعبها ولأرسلان الحبيب .
أرسلان الذي يأبى قلبه تصديق موته، ما يزال يسمع صدى صوته بصراخ مخيف، هو بكل ما فيه مخيف، صديقه لم يكن من ذلك النوع الصامت المهيب البارد، بل كان أشبه بعاصفة تحل على كل مكان يدخل له، كان نيرانًا تحرق كل من يمر به، ثائر يأبى كلمة واحدة، مجرد كلمة بها تلميح صغير بإهانة له يحيل حياة من قالها لجحيم.
أوليس ذلك كان السبب الأول للعداوة بينه وبين أرسلان؟؟
كان يقف أمام إيفان وهو يصرخ بجنون لا يضع اعتبارًا لأحد في المكان، فقط كان يكفيه اتهامًا من ملك سفيد ليفجر غضبه وحممه :
” إيفان أنت جئت مملكتي كملك وليس كصديق، جئت تجر خلفك رجالك، فاستقبلتك كملك، وأنا في هذه اللحظة قادرٌ على إعلانها حربًا عليك وعلى مملكتك وجميع الممالك، فأحفظ لسانك، لستُ أنا من يأتي أحدهم ويلقي في وجهه اتهامًا كخاصتك، حتى وإن كان أحدهم صديقه، وأنت تعلم هذا ”
اشتعلت أعين إيفان بشدة من تلك الكلمات، وابتسم بسمة ساخرة :
” حقًا من كل عقلك تعلنها حربًا عليّ أرسلان ؟؟ بعد كل هذا تقف أمامي في اجتماع الملوك وتعارضني وتقلل من شأني، وتأتي الآن لتعلن عليّ الحرب ؟!”
” واعلنها على اشباهك الاربعين إن فتحوا أفواههم بكلمة واحدة في حقي، أنا لستُ غرًا أو غبيًا كي أسير خلف قراراتك إيفان ”
صرخ إيفان في وجهه بجنون كبير وقد فاض به الكيل من أفعال أرسلان، بعد شهور طويلة من أمور سرّها في نفسه لعدم تأكده من المخطأ، هجوم على الحدود وبضاعات فاسدة تأتيه من مشكى ويومًا لم يتحدث بكلمة ولم يظلمه أو يتهمه مجرد اتهام صغير لمعرفته أن الخيانة تنبت في كل مكان عدا أرض صديقه، لكن أن يأتي هو في اجتماع الملوك ويصرخ في وجهه متهمًا إياه بالضعف والجبن والتخاذل فقط لأنه لا يفكر بنفس طريقته هو ما لم يستطع تحمله …
وما لم يعلمه إيفان أن ما كان يحدث في بلاده تحت اسم مشكى، هو نفسه ما حدث في بلاد أرسلان تحت اسم سفيد، وارسلان لم يكن يتحدث بكلمة كذلك، بل كان يصرخ في وجوه الجميع أن سفيد بريئة من كل تلك الأفعال القذرة وهو لن يصدق ذلك على إيفان، حتى جاءت ليلة سقطت كامل ثقته تلك في إيفان والصداقة بينهما وصدق أن إيفان ما هو إلا متجبر يسير على خطى جده الأكبر فقط كي يوسع رقعة بلاده، ليلة تلقى بها أرسلان طعنته في رفيقه….
ليلة تسببت في انفجاره داخل اجتماع الملوك وهو يعترض على حديث إيفان متهمًا إياه بالتراخي والضعف، كلمات بسيطة، لكنها كانت كافية لإشعال الفتنة بينهما والتي بُنيت على تراكمات كثيرة .
ولأن إيفان غالبًا ما كان يمتاز بالهدوء والتريث، فكان أرسلان بشراسته وتجبره وعناده وجبة دسمة للفتنة كي تدخل عن طريقه .
ولم يتوقف الخطأ على أرسلان، بل تمادى ليطال إيفان ويصبح هو الآخر مخطأ بقدر أرسلان
صاح إيفان في وجه أرسلان وقد فقد تعقله وفقد صبره وفقد كل ما يمكن أن يمنعه عن التفكير فيما يقول :
” بل انت مجرد احمق غر غبي، تسير خلف تسرعك، لا تفكر بعقلك وكل ما تراه أمامك هو الدماء، أنت مجرد دموي مختل وحقير أرسلان و يومًا ما ستسقط بسبب …”
صمت إيفان فجأة بصدمة حينما تلقى صفعة رنّ صداها في كامل القاعة، صفعة واحدة تلقاها متسع الأعين مصدومًا، وكأن ما تلقاه كان طعنة سيف غادرة.
وصدمته لم تقل عن صدمة أرسلان الذي فغر فاهه لا يعي ما فعل في لحظة غضب، لقد صفع صديقه، صدمته والشحوب الذي ملئ وجهه كانا مخيفين بحق، فهذه من المرات القليلة التي يظهر بها أرسلان خوفًا، هو حتى الموت لا يخاف منه، لكن هذا …هذا صديقه .
ابتلع ريقه بصدمة، يتحرك بلهفة صوب إيفان وقد انقبضت ملامحه يقول بسرعة وخوف عليه :
” إيفان، يا ويلي إيفان أنا آ…..”
رفع إيفان كفه يمنعه من التقدم خطوة واحدة، ثم قال بهدوء شديد مخيف وكأنه يخفي خلفه عواصف شرسة :
” سأتظاهر أن من صفعني للتو كان صديقي ولم يكن ملك مشكى، فصديقي أتقبل منه طعنة سيفٍ وليس مجرد صفعة، لكن ستكون هذه الصفعة هي نهاية صداقتنا وكل ما بيننا أرسلان، هنا وانتهى الأمر ”
ختم حديثه يتحرك خارج القاعة بهدوء شديد ووجه قد كان صخريًا، فتح الباب ليجد رجاله ينتظرونه في الخارج بعدما أمرهم بالبقاء للتحدث منفردًا مع أرسلان دون رقيب .
نظر لهم يهتف بكلمات خافتة وقلب موجوع :
” لنعد للوطن، ودّعوا مشكى فستكون تلك مرتكم الأخيرة التي تطئونها ”
تنهد إيفان وهو يلقي بنفسه على الفراش بتعب شديد، لا يدري من أخطأ بينهما، هو أخطأ حينما صرخ في وجهه وعانده ورفض أي محاولة للصلح وهو يعلم جيدًا أن أرسلان يقوده الغضب والجبروت، أخطأ حينما رأى الذعر في عيونه بعد تلك الصفعة والرغبة في الاعتذار، لكنه تجاهلها ببساطة، فإن كان أرسلان يقوده غضبه، فهو يقوده كبرياؤه ..
وارسلان أخطأ في تسرعه وتهوره بهذا الشكل عليه، فقط لأنه لمرة واحدة خرج عن طور هدوئه، وهو من كان يتحمل عواصف غضب أرسلان الكثيرة، ولم يتحمل له أرسلان مرور عاصفة واحدة منه .
كلاهما اخطأ، وكلاهما دفعا ثمن ذلك الخطأ غاليًا.
” وعدتك أنني لن اخطو بلادك مجددًا أرسلان، لكنني للمرة الأولى اسقط وعدي، وسأعود إليها وهذه المرة لن اخرج منها إلا وقد أعدتها لشعبها، ولروحك يا صديقي، ولنعتبر هذا اعتذار متأخر مني …”
ختم حديثه يدفن رأسه في الوسادة يتمنى لو أنه ذلك اليوم رد له صفعته وأخبره أنه لا يهتم لكل ذلك وأنه رفيقه رغم كل شيء .
لكن هيهات ….
_____________________
” لقد رددتك لي برلنت ”
كلمات معدودة ما تزال ترن في أذنها حتى هذه اللحظة، لا تستوعب كيف استلقتها من تميم وهي تحدق في وجهه بصدمة كبيرة، هي ما تزال زوجته ؟؟ هي ما تزال زوجة تميم ؟؟ لطالما كانت هكذا طوال الوقت ؟؟
كلمات جعلتها تشعر بالتخبط وهي تبتعد عنه شيئًا فشيء تحاول التنفس بشكل طبيعي لينظر لها تميم قائلًا بجدية :
” أنتِ زوجتي منذ مولدك برلنت، لقد رددتك بعد يومٍ واحد، يوم واحد كان كافيًا لاستوعب أي غباء فعلت”
همست له بصدمة كبيرة من هذه الحقيقة، لا تصدق أنها زوجته بالفعل :
” لكن أنا…لا عدة لي و…تميم لا يمكنك ردي و… أقصد لقد كان عقد قرآن و…”
توقفت تشعر بنفسها ستتلاشى من أمامه ليبتسم بخفوت يقول :
” بيرلي صغيرتي، لقد قضيتي في منزلي أسبوعين وكان الجميع يدرك أنكِ تسكتين معي في نفس المنزل حين سفر والديكِ، وهذه خلوة وإن لم أتم الزواج بكِ، يظل لها عدة تُسمى عدة احترازية، وأنا رددتك خلال فهذه العدة وقبل أن يمر يومٌ واحد بها”
كانت برلنت تراقبه بصدمة كبيرة لكلماته تلك، كيف لم تنتبه لكل ذلك، وهو فقط ابتسم يهمس بصوت منخفض :
” لقد شعرت بروحي تسحب مني حين ادراكي لما فعلت وركضت للشيخ اتوسله أن يزوجك لي مجددًا، طرقت جميع الأبواب التي قد توصلني لكِ، وحينها أخبرني الشيخ أن بقائك معي في نفس المنزل طوال هذه المدة بعلم من الجميع، تسمى خلوة ولها عدة احترازية ”
” أنا.. أنا فقط لا…اصدق أنني كنت زوجتك طوال هذه السنوات ”
ابتسم لها يقول بصوت منخفض :
” أنتِ زوجتي منذ ولادتك ولن يغير هذا أي شيء على هذه الأرض، وها أنا بعدما وجدتك أمور كثيرة ستتغير”
” أي…أي أمور تلك ؟؟”
” وضعك داخل القصر حياتنا وكل هذا، نحتاج للتحدث بهذه الأمور برلنت ”
كانت يتحدث بجمود نسبي وكأن الغمامة الوردية التي احاطتهم منذ ثواني تلاشت فجأة وعاد لواقع أنها تركته طوال هذه السنوات يهيم بحثًا عنه دون كلمة، وإن تغاضينا على عناقه لها منذ ثواني ونظراته الهائمة بملامحها هذه والتي حُفرت داخل قلبه، يطلق تأوهات عاشقة لكل تفصيلة بها، فهو غاضب، غاضب وبشدة ولن يمرر ما حدث بسهولة ..
” غدًا صباحًا نلتقي لنعلن زواجنا في مسجد القصر ”
شهقت برلنت بصوت مرتفع وهي تنتفض للخلف، خادمة تتزوج صانع الأسلحة وأحد قادة الجيش ؟! يا الله ستصبح حديث القصر لسنوات قادمة.
لكن يبدو أن تميم لم يكن يفكر في كل ذلك، وهو ينظر لها بتصميم وقد بدا في هذه اللحظة شرسًا للغاية لا يرى أمامه سواها، هي مبتغاه وفقط .
انتفضت برلنت عن فراشها تفرك وجهها وهي لا تستطيع النوم، منذ تركها تميم على باب الغرفة _ مكرهًا _ وهي تجلس هذه الجلسة دون حركة .
هل حقًا سامحها تميم ؟؟ هو حتى لم يسألها حقيقة ما حدث منذ سنوات، لم يعلم منها سبب فعلتها الغبية تلك، لم يعلم منها أنها لم تكن تقصد، لم تخبره أنها آسفة، آسفة لأنه فقد والده بسببها ….
كانت تختبئ خلف الجدار تسمع صوت والدها وهو يقول بأعين تلتمع بالطمع وقد تناسى كل شيء :
” لقد وضعوا مكافأة للابلاغ عن مكان مؤمن، تخيلي ما يمكن أن نحصل عليه جراء هذه الأموال ؟!”
رمقته والدة برلنت باستنكار وهي تصب له بعض المشروبات الدافئة :
” مؤمن لم يفعلها وأنت تعلم ذلك، هو ليس له يد في قتل ذلك الرجل، مؤمن برئ ”
” إذن لِمَ هرب وهو برئ ؟؟”
” لقد فعل هذا حتى تثبت برائته، لكن الرجل لم يخطأ وأنا متأكدة أن الأمر مجرد سوء تفاهم وسيخرج منها بريئًا، ثم بالله عليك كيف تفكر في الإبلاغ عن رفيقك ووالد زوج ابنتك ؟؟ هل جننت ؟؟ الرجل جارٌ لنا منذ سنوات طويلة الأمد ولم نر منه سوءًا وبدلًا أن نساندهم في محنتهم وتلك المكيدة تفكر في المكافأة؟؟”
التوى ثغر والدها بحنق شديد يبرر لنفسه :
” أنا فقط اتحدث بصوت مرتفع، من أخبرك أنني قد افعل هذا الأمر ؟؟ كيف أبلغ عن رفيقي ها ؟؟ ليخرجه الله منها على خير، هيا هيا صبي بعض المشروب لأجلي ”
كل ذلك كان تحت أنظار الصغيرة برلنت التي تختبئ وتراقب كل ذلك بأعين ملتمعة بالدموع والخوف على تميم ووالده، منذ سقطت تلك الكارثة فوق رؤوس الجميع، وهي لا تجد تميم سوى شاحب الوجه غائر الأعين مقتضب الملامح، يركض هنا وهناك للبحث عن دليل براءة والده، والده الذي تورط دون ذنب في جريمة قتل .
ابتعدت برلنت عن غرفة الجلوس، وهي تتحرك صوب الباب الخاص بالمنزل تتسحب دون أن يشعر بها أحدهم، تركض صوب المنزل تدعو أن تجد تميم، وقد استجاب الله دعوتها وهي تراه يقف على باب منزله ولم يكد يدخل حتى ركضت هي له وهي تصرخ باسمه باكية .
ليستدير لها تميم يتلقفها بين أحضانه بحنان شديد وهو يقول بحب وصوت مرهق يائس :
” مرحبًا بيرلي ”
بكت برلنت بين احضانه بشكل قطع نياط قلبه ليبدأ في محاولة تهدأتها وهو يبحث عمن يهدأه ويخبره أن والده سيكون بخير .
لكن بكاء برلنت المستمر جلب الدموع لعيونه يهمس بصوت مختنق بالغصات :
” أبي..سأفقده بيرلي، صديقي وكل ما املك في هذه الحياة، سأفقده برلنت ”
تحولت الأدوار لتبتعد برلنت عنه وتبدأ هي التربيت عليه بحب شديد وهو يميل على كتفها يبكي بخوف وهي تربت على كتفه :
” سيصبح بخير، سيكون بخير تميم فقط دعه يبتعد عن المكان حتى تثبت براءته، لا تدعه يعود هنا أبدًا ارجوك، ابعده عن هنا تميم ”
كانت تتحدث بخوف وهي تخشى أن ينفذ والدها ما يطمح إليه، لكن تميم همس لها بصوت خافت متعب :
” هو يختبئ في منزل عمي القديم في جنوب البلاد، لا أحد يعلم عن مكانه شيئًا ”
بكت وهي تضمه لها بشدة تخشى أن يصل له والدها :
” لا تخبر أحدًا تميم، لا تخبر أحدًا، مهما كان ذلك الأحد ارجوك، لا تدع احد يعرف مكان عمي ”
ضمها له تميم يهمس لها بحب :
” لم أخبر أحد سواكِ ولن افعل بيرلي …”
ويا ليته لم يفعل ……
انتبهت برلنت من أفكارها على صوت ضرب الباب بقوة ودخول عاصف لزمرد التي ألقت جسدها على الفراش تهمس بغضب شديد :
” اللعنة على رجال هذا القصر أجمعين ”
نظرت لها برلنت بشر لتقول زمرد بعناد :
” وزوجك معهم، أنا اكرههم اجمعين ”
رفعت برلنت حاجبها تبتسم بسمة هادئة :
” يبدو أنكِ قابلتي رفيقك ”
” ليس كذلك و….”
ولم تكمل كلماتها تنتبه لشيء :
” مهلًا هل هذا حجاب وغطاء وجه، هل كنتِ في الخارج ؟؟”
نظرت له برلنت تخفض عيونها وهي تفرك كفيها لتطيل بها زمرد النظر قبل أن تنتفض متحركة لها تقول بصوت مصمم :
” أنتِ تخفين شيئًا، ما هو ؟؟”
نظرت برلنت لها تقول بصوت خافت :
” لقد علم تميم الحقيقة ….”
_______________________
” كم ؟؟”
كلمة نطقها في انتظار أن يسمع ارقام يصعب عليه عدها وأن يحصيها، ينتظر انتصارًا خفيًا على ضمائرهم، أن يفوز بهم لصفه، ويجعلهم مطرقة لدق أعناق باقي الممالك .
لكن يبدو أن كل أحلامه ذهب مهب الريح حين سمع صوت مساعده يقول :
” خمسة رجال سيدي ”
” خمسة رجال ؟؟ هل تمزح معي ؟؟”
ابتلع المساعد ريقه يقول بهدوء :
” سيدي هم يرفضون خيانة وطنهم، يرفضون الانضمام لجيوشنا، يأبون ذلك، وخاصة بعدما سمحت لسفيد بإدخال بعض المعونات لهم، الأمر زادهم اصرارًا على المقاومة، وهم بالأساس كانوا يقاومون قبل مجيئهم ”
اشتعلت أعين بافل وهو ينظر أمامه يشعر بالغضب يسري في اوردته، الأمر لم يكن سهلًا كما تخيل، وزاد الطين بلة ما فعل ذلك القذر سالار .
ابتسم بسمة جانبية :
” حسنًا لا بأس إذن أن تذهب لتفقد الأسواق وترى إن كان ما احضر سالار قد نفذ من عندهم أم لا ”
نظر له الرجل بعدم فهم ليقول له بافل بنبرة غامضة :
” اذهب وأخبر أهل مشكى أن حريتهم مقيدة بكلمة من ملك سفيد، وأنه هو من يرفض الجلوس على طاولة النقاش لاجلهم، وفقط يهتم لمملكته، أخبرهم أنه رفض كل محاولاتي للسلام والحديث واختار الحرب وسيلة ليضيع الشعوب في المنتصف، وهذه الأطعمة التي ادخلها لهم ما هي إلا فتات مملكته كي يزيل عن كاهله عبئهم ”
توقف عن الحديث ثم استدار له يقول بهدوء شديد :
“بالطبع أنت لن تخبرهم بهذا بشكل مباشر، أنت تعلم ما اقصد ”
ابتسم له الرجل بسمة واسعة وهو يرى أمامه نسخة ثانية مما حدث منذ سنوات بين مشكى وسفيد، حين بثوا الفتن في الأسواق وعلى ألسنة الجميع.
ورغم كل تلك الجيوش والعداد، ما استطاع أحدهم يومًا الوقوف في وجه الفتنة …
________________________
تحرك بعيدًا عن جيشه يتمطأ بتعب شديد فهو منذ عاد من مشكى تقريبًا من أسبوع وهو كان قد كثف التدريبات، وزاد من حدتها على جنوده، وفي المقابل زاد من حدة تدريباته مع الملكة كذلك ليس وكأنها ستشاركهم الحرب، لكنه أدرك أنها بالفعل قوية، قوية دون حتى أن تشعر وهو انكب على استخراج تلك القوى ليفجرها في الجميع .
دخل ساحة التدريب في موعده الثابت منذ اسبوعين او اكثر ليراها تجلس في أحد الأركان تحمل سيفها وتحركه أمامها وتؤرجحه وهي تتمتم بكلمات خافتة لم يتبين هويتها لكنه خمن أنها تغني إحدى تلك التعويذات .
ابتسم بسمة صغيرة يقف في منتصف الساحة يقول بهدوء :
” عفوًا لجلالتك إن لم أكن اقاطع ما تفعلينه هل يمكنك التقدم للساحة؛ كي نبدأ ؟؟”
رفعت تبارك رأسها بسرعة صوبه تبتسم له بسمة واسعة، تقفز عن تلك المصطبة العالية تقول وهي تحمل سيفها بكل مهارة جعلت أعين سالار تلتمع بفخر شديد، فأن تتحول فتاة كتبارك من حالتها الأولى لهذه المرحلة أمر يضيفه لقائمة إنجازاته .
” لا لا تقاطع، كنت انتظرك ”
أشار لها بإصبعه يقول بهدوء :
” تقدمي ”
نظرت تبارك لاصبعه تقول ببسمة جانبية :
” ليس جيدًا أن تأمر الملكة ”
مال سالار برأسه يقول بهدوء شديد وبسمة هادئة ساخرة :
” أنا أفعل هذا مع الجميع عدا الملك ”
” وأنا الملكة الخاصة به ”
رفع سالار سيفه وهو يخبرها بعيونه أن تفعل المثل يقول بجدية :
” ليس بعد، أنتِ حتى هذه اللحظة مجرد فتاة عادية، لستِ ملكة حتى الآن ولم ترتدي تاجك ”
رفعت تبارك سيفها بالمثل وهي تحرك بين قبضتيها بشكل ممتاز بالنسبة لها، لكن ما يزال مقبولًا لسالار، تتحرك للخلف تتخذ وضعية القتال :
” إن ارتديت تاجي، تحترمني ؟؟”
نظر لها سالار ثواني قليلة جعلتها تتعجب نظرته قبل أن يعيد سيفه للخلف ودون مقدمات كان يندفع به صوب رأسها وكأنه يود شقها نصفين لتطلق تبارك صرخة مرتفع وهي تلقي نفسها ارضًا من صدمتها، وهو اوقف سيفه على بُعد سنتيمترات قليلة منها ليقول بهدوء :
” إن توفقتي عن الخوف وتعاملتي بشجاعة، احترمك ”
نظرت له تبارك وهي تتنفس بصوت مرتفع، رغبة كبيرة بالبكاء تهاجمها في هذه اللحظات، في الأسابيع المنصرمة ظنت بكل غباء أنها بدأت تتقدم سواء في الفروسية أو الرماية أو حتى المبارزة، لكن ها هو يثبت لها وأمام نفسها أنها تحتاج لأكثر من مجرد اسبوعين كي تبدأ بالتفاخر .
تنفست بصوت مرتفع ليجلس سالار القرفصاء أمامها يقول :
” الاحترام لا يُبنى لمكانتك، بل لشجاعتك وبسالتك …مولاتي ”
نظرت له تهمس بصوت مرتعش :
” كنت …كنت هتفلقني نصين من شوية وجاي تقدملي نصايح ؟؟ ”
” أنا ؟؟ العفو جلالتك، لم أكن لافعلها لعدة أسباب أهمها أنني لا الوث يدي بدماء شخص برئ، واهمهم أنكِ امرأة وملكة، هذا فقط كان اختبار لكِ لارى إن كنتِ تدربتي على ردات فعلك أو لا ”
نظر لها بأعين ضيقة :
” ويبدو أن الإجابة هي لا ”
” أنا بس متوقعتش أنك…”
” لا شيء متوقع في الحرب، ولا مكان مضمون تأتيكِ منه الضربة، كل الاماكن هي اماكن غدر طالما أنتِ غير منتبهة لها ”
نهض يقول بجدية :
” انهضي ”
نظرت له تبارك من الاسفل وكلماته تدور في رأسها لتنتفض تحمل سيفها مجددًا بقوة تقول بصوت مرتفع :
” تمام ..تمام يا قائد، بارزني يلا، بارزي وانا ها ….”
صمتت تراه يخرج شيء من جيبه يمده لها، نظرت لقطعة القماش السوداء بيده ترفع عيونها له تقول :
” منديل ؟؟”
” اغمضي عيونك ”
ابتسمت تقول بعدم تصديق للفكرة التي انبثقت داخل عقلها في هذه اللحظة :
” عن الذنوب أكيد ”
” بل عن الرؤية مولاتي، ستحاربينني معصوبة العينين ”
تراجعت تبارك للخلف وهي تبتسم بعدم تصديق تنظر لوجهه تبحث عن بسمة تخبرهها أنه يمزح معها في هذه الأمور، هو ليس جادًا بالطبع، لكن نظراته والتي تعرفها جيدًا أخبرتها أن لا، هو لا يمزح في هذه اللحظة .
” مولاتي ايه بقى ؟؟ قول مرحومتي ”
نظر للقماشة مجددًا :
” عايزني احاربك بيها ؟؟”
هز رأسه في علامة نعم لتبتسم له قائلة :
” حسنًا لا بأس اعطني فرصة قتالك دونها واعدك حينما يخدشك سيفي خدش صغير، اقسم لك سأحاربك معصوبة العينين ”
ابتسمت حين رأت أن نظراته لم تتغير ولا حتى يده الممدودة تراجعت، هو كمان هو لتقول :
” اديني فرصة طيب احاربك وانا مفتحة وأنا هعملها وانا مغمضة، أنا لحد دلوقتي معرفتش اشوف في التدريب ده غير الارض اللي بتلحسها ليا وأنت بتعلمني، ويا دوبك عرفت أسند طولي قصادك آخر مرة، أنت حالف ما تهنيني على انتصار ؟؟”
” أنتِ كثيرة الحديث حقًا، هذه فقط كي اختبر عمل حواسك واعتمادك في القتال عليهم، وهذا هو ما سيحسن ردات فعلك، فأنتِ في الحرب لن تعتمدي على عيونك فقط وإلا هلكتي في أول ثانية”
ابتلعت ريقها تنظر لها ورغبة كبيرة بالبكاء تلبستها :
” أنت ليه مصر اني هحتاج كل ده في الحرب ؟؟ مين قالك إني هكون موجودة في الحرب ولا هروح حرب اساسا ”
” الحرب لن تستأذنك قبل أن تجذبك لها، من يدري متى تضطرك الظروف لخوض حرب ”
قالت بصوت باكي وخوف من كل تلك الأمور، لِمَ لا يقتنع أحدهم أنها حقًا لا تفقه في كل هذا ؟؟
” وقتها هستخبى في أي ركن اعيط و….”
وقبل أن تكمل جملتها وجدت سيف سالار يوجه لرقبتها وصوته يهدر بصرامة في المكان :
” لن أسمح لكِ ”
” اعيط ؟؟”
” لن أسمح لكِ أن تعيشي بجبن وضعف ”
” أنت مالك ؟؟ أنا عايشة من زمان كده ومبسوطة و…”
صمتت ترى السيف يقترب منها ونظرات سالار تزداد حدة وقد أخذ الأمر على عاتقه، هذه المرأة أمامه ستصبح مبارزة بارعة شائت ام أبت، ستصبح مبارزة رائعة وهذا وعد قطعه لنفسه في هذه اللحظة حين رأى نظراتها المرتعبة ..
رفعت تبارك سيفها تقول بسرعة ورعب من نظراته والتصميم داخلها :
” موافقة..”.
ابتسم يعطيها القماشة لتضعها على عيونها وهي تردد برعب مما سيحدث :
” بس متخمش”
” لا افهم ما تقولينه، هيا اسرعي وضعيها ”
ابتلعت ريقها تزيد من ربط القماشة أعلى عيونها، ثم حملت السيف تتخذ وضعية القتال وهي تلتف حول نفسها تسمع صوت سالار يردد وهو يدور حولها :
” حاولي التخلي عن اعتمادك الكلي على النظر واعتمد في هذه اللحظة على سمعك، وانفك وباقي حواسك ”
تنفست تبارك بصوت مرتفع وهي تدور تحاول معرفة مكانه بالتحديد من صوته، وهو يستمر في الدوران حولها يردد بصوت خافت :
” أشعري بخطواتي، اصطدام أقدامي بحبات الرمال، وحركة سيفي وهو يصطدم بالرياح ”
قالت تبارك بارتباك وهي لا تشعر بكل ما يتحدث عنه، هي لا تشعر بشيء ولا تسمع سوى صوته فقط :
” مش وقته تأمل في الطبيعة الله يكرمك، أنا مش سامعة غير صوتك اساسا، فاسكت ..اسكت خليني اسمع صوت خطوتك ”
صمت سالار بالفعل وهو يبتسم لرؤيتها تدور حول نفسها وهو حتى لم يتحرك من مكانه خطوة لحظة، يحرك سيفه في الهواء يحاول أن يجعلها تسمع اصواته، لكن هي كانت مستمرة في الدوران، فكر في السير حولها علها تتبع صوت خطوات حذائه وايضًا لا شيء .
نظر لها يفرك وجهه بحنق وحين فقد الامل تحدث كي تنتبه لمكانه :
” أنا هنا ”
وإن ظن أنها بهذا الشكل علمت مكانه فقد أخطأ، إذ استدرات بسرعة للاتجاه المعاكس تنظر له تبحث عنه وهي تحرك سيفها بشكل عشوائي في الهواء .
تشنج وجه سالار يصرخ بغيظ :
” هل أنتِ صماء يا امرأة ؟! أنا خلفك هنا ”
استدارت تبارك بسرعة وهي ترفع سيفها تحركه بسرعة كبيرة وكأنها تود تقطيعه قطع صغيرة، لكن سالار كانت ردة فعله سريعة إذ رفع سيفه بسرعة كبيرة يتدارك الأمر مسقطًا خاصتها في حركة واحدة وهو ينتزع عن عيونها القماشة ينظر لها بشر وهي اتسعت عيونها بصدمة حين رأت نظراته لتبتسم بسمة صغيرة :
” كيف كان ادائي ؟؟”
نظر لها سالار يهمس من أسفل أسنانه:
” إن كان هناك لفظ اكبر من بشع يصف مدى سوء ادائك، فاعتبريني قلته ”
نظرت له بصدمة وشحب وجهها تقول بصوت خافت :
” لا يوجد، رأيك وصل وبوضح ”
نظر لها بحنق يكره رؤية نظراتها تلك والتي تشعره أنه احزن طفلة صغيرة وعليه الآن أن يسارع ويراضيها .
” حسنًا، هذا فقط لأنه المرة الأولى لكِ، مع الوقت ستبرعين في الأمر، كما فعلتي مع المبارزة المباشرة أنا أثق بك ”
بسمة مشرقة واسعة ارتسمت على فمها تقول بسعادة :
” حقًا ؟؟”
” أثق أن هناك أمل لتصبحي ملكة …لا بأس بها ”
ابتسمت تبارك بغبطة شديدة وقد كانت تلك أقصى كلمات تود سماعها في تدريب لها مع سالار، فعلى عكس دانيار الذي يعبر عن اطرائه بكلمات مقتضبة وبسمة صغيرة مشجعة، وتميم الذي يظهر بوضوح تشجعيه وسعادته بتقدمها، كان سالار لا ينطق كلمة تشجيع واحدة حتى في حقها، ربما يكتفي ببسمة صغيرة يلوح منها الفخر وهذا أقصى ما قدمه لها .
شردت تبارك دون شعور في ملامحه وهو يمسح سيفه كي يضعه في غمده، خصلاته الصهباء التي تتطاير في مشهد معروف في جميع الدرامات ..
ابتسمت دون وعي، لكن فجأة انتفضت على صوت أحد الحراس يقتحم المكان قائلًا :
” مولاي الملك ينتظرك لأمر هام …”
هز له سالار رأسه ثم نظر لها يقول بهدوء :
” إذن مولاتي …القاكِ لاحقًا ”
وهكذا فقط كلمات معدودة ختم بها لقاءهم وهي ظلت مكانها تحدق بسيفها الملقى ارضًا والقماشة السوداء لتضيق عيونها وهي تنحني تمسكها وشردت بها قبل أن تضعها على عيونها بتصميم ……
_________________________
يجلس في غرفته ينتظر قدوم سالار وهو ينحني على ركبتيه يضم قبضتيه مستندًا عليهما بذقنه، يشرد فيما يجب فعله في يومه وفي القادم .
مذكرًا نفسه بلقاء مع الملكة اليوم ليتحدث معها في أمور المملكة كعادة بينهما هذه الأيام .
سمع صوت الحراس يخبرونه عن قدوم سالار، ثواني وابصر سالار يتحرك داخل الجناح الخاص به يقف أمامه باحترام شديد، يضع يده أعلى صدره يقول :
” مولاي …”
ابتسم له إيفان يشير له بالجلوس :
” أجلس سالار ”
جلس سالار بهدوء ليتحدث إيفان دون مقدمات :
” إذن متى الحرب ؟؟”
” خلال أيام حسب التنسيق مع الجيش، سنعلنها حربًا مع بافل ”
هز رأسه يقول :
” ومشكى هل اوصل لك رجالك أي أخبار عنها ؟؟”
” بافل لا يصمت على شيء كما تعلم مولاي، بالطبع ما يزال يحاول يائسًا ضم بعض الرجال له، حتى أنه كاد ييأس ويستسلم من انضمام شعب مشكى له، وأنت تعلم يا مولاي أنني لا أحب تحطيم الخواطر ولم يهن عليّ رؤية حزنه هذا ”
ارتسمت بسمة خبيثة على فم إيفان وقد أدرك المعنى المبطن خلف كلمات سالار يربت على كتفه بهدوء :
” جيد يا صديقي، لطالما كنت لين القلب مع الجميع ”
اتسعت بسمة ساخرة لسالار على فمه، نعم هو لين القلب مع الجميع خاصة الملكة، ليقول إيفان بصوت خافت جاد وعيون غامضة جعلت سالار يدرك أن إيفان يخفي شيئًا ما ليعتدل في جلسته يتجهز لتلقي ما يقول :
” خاصة النساء الرقيقات أمثال تلك الفتاة المدعوة كهرمان، أليس كذلك ؟؟؟؟”
___________________
وإن ظننت أن الاسرار تظل أسرار حياتك، فما فائدة وجود كلمة كـ “الحقيقة” في القاموس ؟؟
وتذكر أنها حرب، إما أن تنتصر، أو تنتصر لا خيار ثالث أمامك….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مملكة سفيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى