روايات

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الخامس عشر 15 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر الفصل الخامس عشر 15 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر البارت الخامس عشر

رواية مصطفى أبوحجر الجزء الخامس عشر

رواية مصطفى أبوحجر
رواية مصطفى أبوحجر

رواية مصطفى أبوحجر الحلقة الخامسة عشر

-١٥- فرحة عروس

عزيزتي ..

هل سبق وأن راودكِ ذلك الشعور بالسعادة الغامرة والتحمس المُثير أثناء مُغادرتك بيت أبيكِ إلى مسكن محبوبك والذى غدا زوجك !

فكأي فتاة سيطر عليها التوتر والقلق ظاهريًا من تلك الخطوة المصيرية إلا إنها بداخلها تكون مُبتهجة مُنتشية لمجرد تصور حياتها داخل بيته وبيتها الذى انتقت كل إنش به وزينته بما يحلو لها، فتلك مملكتها التي ستغدو بها كسندريلا بردائها الأزرق المنفوش داخل أحضان أميرها الوسيم الذى طال بحثه عنها …

وكذلك كان حالها هي .. شمس ..

لطالما تخيلت ليلة زفافها عندما دق قلبها لأول مرة وذاقت عذاب الحُب ولوعته، ولطالما أغمضت عينيها لتغوص بداخل عالم أحلام يقظتها بينما ابتسامتها الخجلة تُزين محياها مُتخيلة فارسها وهو يغفو بجانبها آمنًا، وتُطالعها ابتسامته فور استيقاظها فتظل بجواره مُلازمة إياه طوال يومه في جميع أوقاته وكُل حالاته بعد أن ارتبط ضِلعها بضلعه واسمها باِسمه إلى الأبد ..

فالآن يُمكنها السهر برفقته طوال الليل في الخارج، بل والنوم حتى غروب الشمس بجواره داخل أحضانه دون أن يقوم بإزعاجهما أحد، أو يُكدر صفو ساعدتهما شيء، يأكلان متى يحلو لهما .. ومما اشتهيا دون رقيب أو مُسيطر أو مُعارض ..

فقط هي وهو داخل عشهما الدافئ، تحت سقف غرفتهما الهادئة، أعلى فِراشهما الوثير المُزين بشرشف العروس المُبهِج ..

هذا ما تصورته عن الزواج كحال جميع الفتيات، أو لنقل أن هذا ما أملته، أن تكون زوجة لشخصًا تُبادله الحُب والاحترام وتعيش معه كل تلك الأحاسيس المتناقضة والتي تصب جميعها داخل شعور واحد في النهاية .. الشعور بالسعادة .. السعادة فقط ..

كانت تلك هي أمانيها البسيطة، والتي كُللت بالخيبة عندما اصطدمت بواقع زواجها السابق، لكن تلك المرة ومثلما تمنت ..

لم تخيب آمالها بل حدث أكثر مما أملته، حدث مالم يطوف بخيالها يومًا وكأن الله قد أفاض عليها بعوضه دون أن تسأله إياه ..

أسمعتم عن زواج الأميرات ؟

هل قرأتم من قبل في إحدى الروايات عن ذلك الزواج الأسطوري عندما يقترب فارس الأحلام مُعتليًا صهوة جواده العربي الأصيل الأبيض اللامع، ليختطف أميرته دون مُقدمات رافعًا إياها بذراعه القوى المفتول ويضعها أمامه بلُطف وهدوء أعلى سرج دابته قبل أن تمتد ذراعيه لمُحاوطتها وهو يرخى لجام حصانه بينما ساقيه يضربان جانبيه بقوة لينطلق بها في سرعة مُتزايدة مُسابقًا الريح إلى مملكته الخاصة، بينما ذيل فُستانها الأبيض الطويل ينتفخ تارة إلى جانبها ويتهدل تارة أُخرى بفعل خلخلة الهواء به ؟

هي أيضًا قرأت ذلك مِرارًا وتِكرارًا وفى كُل مرة يُسيطر عليها ذلك الشعور بالبهجة والسعادة وتنتفخ أوداجُها كاشفة عن ابتسامة حالمة تُزين وجهها ويصحبها تنهيدة طويلة حارة تُقطر حُبًا وغرامًا ..

فلطالما تمنت بداخلها أن تُولد في عصر الأساطير والنُبلاء .. حيثُ لا وجود لأمثال ماجد أو … أسامة ..

هذا هو يوم زفافها .. يوم سعدها ..

استيقظت العروس بحماس وجلست القُرفصاء أعلى فراشها، وجالت عيناها في أرجاء غرفتها بغير تصديق قبل أن تبدأ في الضغط على وجنتيها بقوة عدة مرات كي تتأكد من يقظتها، فما سيحدث اليوم وبعد بضع ساعات هو واقع ملموس وليس مُجرد حلم تمنته في قرارة عقلها ..

كان وجهها مُغتبطًا سعيدًا وكأنه يزُغرد، بل وكأن كُل ما به يُزغرد، عيناها ووجنتاها وشفتاها، كُل عضو من أعضائها كان على وشك الخروج عن صمته من فرط لهفته، فما إن وقعت عيناها على تلك الحقائب المُرتصة القائمة بجوار باب غرفتها حتى اتسعت ابتسامتها بينما راحتها صعدت للتربيت على قلبها المُتلهف عله يخفف من تسارع دقاته، وفى النهاية تنفست بقوة قائلة بصوت مسموع وكأنها على وشك البكاء :

_ لا أنا مش بحلم .. مش بحلم ..

كادت أن تنفلت دمعاتها تأثرًا لولا أن استجمعت العروس قوتها للسيطرة على ذلك الانفعال الذى بدأ في استنفاذ طاقتها، لذا غادرت الفراش على الفور مُتجهة إلى خزانتها فتناولت منها منشفتها الخاصة وتلك الأدوات_ التي أعدتها مُسبقًا_ والخاصة بحمام العروس ..

وبعد عدة دقائق كانت تسترخى داخل حوض استحمامها الدافئ مُغمضة العينين، وكأنها تقبع بداخل مياه إحدى الأنهار الأفريقية ومن فوقها شلال مُنهمر يجود عليها بالكثير من الفقاعات البيضاء المُختلطة بوريقات الورود الحمراء التي ملأت مسبحها ..

اسندت رأسها على الحائط من ورائها وهى مُغمضة العينين بعد أن ارتخت مُعظم عضلاتها وتركت جسدها للمياه تتخلله من جميع النواحي دون عائق فشعرت بذهنها يصفو وبعقلها يتوقف عن القلق، وخلال ذلك لم تجد ذاكرتها ذكرى سعيدة تشغل بها تفكيرها سوى تلك المُحادثة الهاتفية التي طلب مصطفى فيها الزواج منها ..

هي لم تستوعب في البداية ما قاله إلى أن ردده على مسامعها مرة أُخرى عدة مرات، بنبرة واثقة آمرة تارة وكأنه يُملى عليها قرارًا لن تقدر على عصيانه، وتارة بنبرة دافئة شبه مترجية وكأن ذلك كُل ما يرجوه من الدُنيا، وفى الحالتين لم تقو هي على الإجابة..

فقط كانت تهُز رأسها عدة مرات مُعلنة عن موافقتها وهى تبتسم كالبلهاء وكأنه يراها، بينما عينيها بدأتا في الترقرق بدمعات صغيرة كثيرة مُعلنة عن فرحتها، فكاد أن ينفلت هاتفها ويقع من بين أصابعها من فرط تأثرها لولا أن جاءها صوته القوى الدافئ مُناديًا :

_ شمس إنتى سامعاني !

خرج صوتها مُتحشرجًا ضعيفًا وهى تُجيبه بسرعة وكأنها تخش عدوله عن قراره، فقالت مُغالبة دمعاتها :

_ آه موافقة يامصطفى موافقة ..

في تلك اللحظة لم تتوقع أبدًا ذلك الحماس الذى سيطر على نبرته فجأة قائلًا :

_ أنا هاجيلك حالًا أطلب ايدك .. لازم نتجوز في أقرب وقت ..

كاد قلبها أن يقفز بداخلها من فرط الفرحة فانفرجت شفتاها لتخرج منها كلمات الموافقة إلا إنها عادت لتعقُلها في اللحظة الأخيرة وكأنها قد تذكرت فجأة، فقالت بتأنِ رغمًا عنها :

_ طب بس استنى امهد لبابا الموضوع ..

قال هو مُعترضًا :

_ مش قولتي مامتك عرفت كل حاجة ..

أجابته مُوضحة :

_ آه بس بابا ميعرفش وبعدين في حاجات كتير لازم اعملها الأول ..

قاطعها قائلًا بتنهيدة كبيرة شعرت هي بحرارتها وكأنه يقف على بُعد سنتيمترات منها :

_ هتعملي إيه أكتر من اللي عملتيه فيا، كفاية إنك خلتيني أقرر حاجه بقالي عُمر بحاله بهرب منها ..

توردت وجنتي شمس قائلة ببراءة :

_ يعنى بجد بتحبني يامصطفى ..

أجابها بزفرات حارقة :

_ عارفة لو كنتي معايا دلوقتي .. مكنتيش هتسألي السؤال ده .. مكنتش أصلًا هديكي فرصة تنطقي بكلمة واحدة ..

شعرت هي بذلك الضعف يُراودها من جديد، وأحست بناقوس الخطر يدق مرة أُخرى فقالت مُحاولة الهرب من كلماته :

_ أنا .. أنا هقفل بقى وأروح أقول لماما وارتبلك معاد مع بابا في أقرب وقت ..

أغلقت هاتفها دون إذن منه وتوجهت مُسرعة الى غُرفة والدتها والتي حملقت فيها باستغراب مُتسائلة بقلق :

_ مالك وشك أحمر كدة ليه في إيه ؟

أغلقت شمس الباب من ورائها بحماس بعد أن تيقنت بانشغال والدها باللعب مع إبنتها بالخارج، فتقدمت بضع خطوات لتجلس بجوار والدتها أعلى فراشها وتقول بوجنتين مُصطبغتين :

_ مصطفى عاوز يجي يقابل بابا ..

علت علامات الدهشة وجه الأُم قبل أن تختلط بالشك مُتسائلة :

_ إنتى كلمتيه ؟

ثُم أضافت بسخرية :

_ وقولتيله إيه بقى ! تعالى اتجوزني ؟

هزت شمس رأسها نافية على الفور مُجيبة بثقة وفخر :

_ لا هو اللي طلب منى كدة ..

اِرتفع إحدى حاجبي مجيدة باستنكار قائلة بتأنيب واضح :

_ وانتي إيه اللي خلاكي تكلميه من الأساس ..

في لحظات اختفى حماس الابنة وقالت بلهجة شبه غاضبة :

_ في إيه ياماما هو مش ده اللي كنتي عاوزاه إنه يتقدملي خلال اسبوع .. أهو لو عليه عاوز يجي يتقدم دلوقتي حالاً ..

تشدقت مجيدة بعدم اقتناع مُتسائلة :

_ والمحروس شغال إيه بقى وهيجي بعيلته ولا لوحده ؟

ترددت شمس قليلًا قبل أن تُجيب :

_ ما أنا قولتلك هو كاتب مشهور وكدة ..

تشدقت مجيدة من جديد لكن بسخرية تلك المرة مُتسائلة :

_ كدة اللي هو إيه ! ملوش وظيفة ثابتة يعنى وهو بقى هياكلك ويشربك ويصرف عليكي إنتى وبنتك من فلوس الكام رواية دول .. وافرضي كتاباته متباعتش هيصر….

توقفت الأُم قليلًا عن الكلام وكأنها قد انتبهت إلى شيء فتسائلت بحذر :

_ ولا تكونيش مش ناوية تاخدي بنتك معاكي ؟

أجابت شمس بهلع مُدافعة :

_ لا طبعًا أنا لا يمكن أبعد عن بنتي ..

ثُم أضافت مُوضحة بتلعثم :

_ وبعدين وبعدين هو أصلًا أكيد معاه فلوس تعيّشنا كويس وعامل حسابه .. هو مش لسة عيل صغير يعنى ..

استطردت الأُم في أسألتها الصريحة غير عابئة بتبرم الأبنة فتسائلت بصورة مُباشرة ممتلئة بالسخرية والاستخفاف :

_ طيب وهيجيب أهله معاه ولا هو مش عيل صغير بردو عشان يجيبهم؟ وأهله عارفين إنك مُطلقة ومعاكي بنت ؟

صمتت شمس لبُرهة تُفكر في تساؤلات والدتها قبل أن تُجيب بشك وكأنها لم تُفكر في تلك النقاط من قبل :

_ أنا بصراحة معرفش حاجة عن أهله ..

قالت مجيده باستفزاز مُتعمد :

_ اُمال تعرفي عنه إيه؟ هو أي حد كده هتجيبهولنا من الشارع وتقولي تتجوزيه وإحنا نوافق من غير مانعرفله أصل ولا فصل ..

زاد احمرار وجه شمس بغضب من سُخرية والدتها المُتزايدة فقالت مُدافعة :

_ مصطفى مش واحد من الشارع ياماما، وأنا بصراحة مش عارفة إنتى مالك مُحتدة عليه كده ليه ورافضاه من قبل حتى ما تشوفيه ..

تخلت الأُم عن سخريتها وقالت بجدية عبرت بها عما بداخلها من رفض وقلق :

_ بقى ترفضي أسامة اللي شاريكي وعارفين أصله وفصله وفاتح شغل مضمون خاص بيه وجايبالنا واحد متعرفيش عنه أي حاجة غير إنه بيكتب شويه روايات ..

انتفضت شمس من مكانها بعصبية قائلة بعناد :

_ تانى أسامة ؟ طب لعلمك بقى أسامة ده مش هتجوزه حتى لو متجوزتش مصطفى .. ولو موافقتيش على مصطفى أنا مش هتجوز تاني وهفضل قاعدالكوا كدة ..

في تلك اللحظة فُتح باب الغرفة من ورائها بصوت مسموع ليطل محمود برأسه مُتسائلًا بقلق :

_ مالكوا صوتكوا عالي كدة ليه ؟

أجابته الأُم وكأنها تستنجد به من عناد إبنتها :

_ تعالى شوف بنتك وعمايلها ..

تقدم الأب نحو ابنته عدة خطوات قائلًا بهدوء :

_ في إيه ياشمس مزعلة مامتك ليه ؟

لم تُجبه هي بل اخفضت رأسها خجلًا بينما الأُم أردفت موضحة :

_ جايبالنا عريس .. قال إيه كاتب ..

تساءل بعدم فهم :

_ عريس إيه ده .. مين هو ؟

كادت مجيدة أن تندفع بثرثرتها الساخرة لولا أن نطقت شمس مُدافعة لتقول برجاء وكأنها تستغيث به من ظُلم والدتها :

_ والله يابابا هو شخص محترم وكويس ممكن تقعد معاه وتشوفه الأول ..

تساءل محمود بقلق وفضول أب يرغب في الاطمئنان على ابنته :

_ عنده كام سنة ده يابنتى وعرفتيه منين ؟

أجابته بأدب :

_ ٤٨ سنة يابابا وعرفته من …

غطى على كلماتها صوت شهقة عالية خرجت من بين شفتي الأُم التي لازالت تعتلى فراشها لتقول بصدمة :

_ يالهوي كمان داخل على الخمسين إنتى اتجننتى، من قله الرجالة هتاخدي واحد قد أبوكى

نظر إليها محمود قائلًا بمرح لتخفيف حدة الموقف بين الأُم والابنة :

_ قد أبوها إيه بس ياأُم شمس بتقولك ٤٨ وأبوها معدى الستين ..

مجيدة بعدم اقتناع :

_ بردو أكبر منها بأكتر من خمستاشر سنة .. إيه اللي جابرها على واحد زي ده ..

حاول محمود تهدئتها فقال بتعقل وهو ينظر إلى وجه ابنته الحزين :

_ استني بس يامجيدة الموضوع مش بالسن ..

ثم ما لبث أن وجه كلماته إلى ابنته قائلًا بابتسامة وكأنها يُطمئنها :

_ كملي ياشمس ..

أردفت هي بخجل :

_ هو عاوز يجي يقابلك يابابا.. أنا بصراحة معرفش تفاصيل كتيره عنه بس هو كمان مُطلق من فترة كبيرة ومتجوزش تاني ..

هز محمود رأسه اقتناعًا وقال بتفهم :

_ ماشي يابنتى خليه يجي بعد بكرة واللي فيه الخير يقدمه ربنا …

أضاء وجه شمس في الحال وكأن غُمتها قد انزاحت فقالت بحماس واضح :

_ طب ما تخليها بكرة يابابا ..

هز محمود رأسه رافضًا قبل أن يقول بمرح :

_ يابنتى أتقلى شوية لا يقول عليكى ما صدقتي ..

إلا إنها قالت نافية عنها ذلك الاتهام :

_ لا يابابا والله ده هو اللي مستعجل وكان عاوز يجي النهاردة كمان ..

وجه محمود نظراته إلى زوجته قائلًا وكأنه يطلب منها الدعم لموقفه :

_ إنتى إيه رأيك ياأم شمس ..

إلا إنها زجرته بنظرة حادة قاتلة قبل أن تُغادر الفراش بتثاقل بل والغرفة بأكملها قائلة وهى تتوجه إلى الخارج وكأنها نفضت يدها عن ذلك العبث :

_ اهى بنتك عندك أعمل معاها اللي انت عاوزه أنا مليش دعوة بالجوازة دي ..

ظهرت علامات الحُزن واليأس على وجه شمس إلا أن والدها لكزها في ذراعها بأصابعه قائلًا وهو يغمز بإحدى عينيه :

_ متزعليش .. يعنى إنتى هتوهي عن أُمك وعمايلها .. شوية وتروق ..

ثُم أضاف بابتسامة حانية :

_ كلميه ياستى يجي بكرة الساعة ٩ .. ها كويس كده !

أنارت الابتسامة وجهها من جديد قبل أن تحتضن أباها بسعادة وتُقبله قُبلة طويلة مُمتنة على إحدى وجنتيه، ثُم ما لبثت أن غادرت الغُرفة مُرفرفة كفراشة استعادت حُريتها للتو، وتوجهت إلى هاتفها تُحادث مصدر الضوء التي تستمد منه الدفيء والأمان لتُبلغه بالموعد المُحدد ..

طَل عليهم كعادته بهيئته الكلاسيكية الجذابة وكأنه إحدى أبطال هوليود، فلم يملك الوالدان سوى الانبهار بكل شيء به تمامًا كما انبهرت ابنتهم به لأول مرة، والتي خفق قلبها بقوة عندما لمحته أثناء توجهه إلى غُرفة الصالون، كانت تراه من جانبه فلم يُلاحظها هو، لذا استطاعت تأمل مظهره الأنيق بأعين مسحورة دون خجل، فقد كان يرتدى بِنطالًا رماديًا كلاسيكيًا وقميص أبيض ناصع يُبرز طول وقوة جذعه العلوى، تتداخل أطرافه مع بداية بنطاله ويربط بينهما حزام جلدي باللون الرمادي القاتم ..

كان يُشمر عن ساعديه أسمري اللون ويحمل بإحداهما _والتي تزينت بساعته الرولكس الأنيقة التي نادرًا ما تُغادر معصمه_ باقة كبيرة من الورود البيضاء، أما يده الأُخرى فقد كانت تحمل حقيبة كبيرة من الورق المُقوى مُبهجة مُتداخلة الألوان لا يتضح ما بداخلها ..

كانت تبدو كالحالمة وهى تنظر إليه وكأنها تراه لأول مرة فتخيلته أطول بكثير مما اعتادت، وظنت لوهلة إنه لن يستطيع المرور من ذلك الباب ذو الارتفاع الصغير لغُرفة الصالون، لكنه بالكاد مر من خلاله بفرق بضعة سنتيمترات، وما إن اجتازه حتى تنفست هي الصعداء وأخذت شهيقًا مسموعًا ممزوجًا برائحة عطره النفاذة المختلطة بطيف خفيف من عبق سجائره المُميزة …

وعقب اختفاءه أفاقت شمس من تلك الحالة الحالمة التي شملتها وتوجهت إلى غُرفتها مرة أُخرى حيثُ صغيرتها لتساعدها على ارتداء ملابسها وتُكمل هي زينتها التي بدأتها، إلا إنها وقبل اختفائها لمحت والدتها تخرج من المطبخ عابسة الوجه مُكفهرة الملامح في طريقها إلى غُرفة الصالون بتحفز حيثُ مصطفى، وكأنها على وشك افتعال شجار أو إلقاء قنبلة، تحمل بين يديها أكواب العصير وبعضًا من الحلوى بتبرم وكأنها مُرغمة على ذلك دون إرادة منها ..

لذا انقبض قلبها في الحال خوفًا من تلفظ والدتها ببعض كلماتها الغير محسوبة أو المُتعمدة قاصدة إحراجه، لذا تتبعتها بخفة وألقت على الجمع نظرة مُتلصصة طويلة من تلك الفتحة الصغيرة عند مِفصل الباب، فرأت مصطفى يستقيم واقفًا ما إن رأى والدتها وقال بلُطف مُقترن بابتسامته الجذابة الدافئة :

_ أكيد حضرتك والدة شمس مع إن ميبانش عليكي خالص ..

لم تُصدق شمس ما رأته في تلك اللحظة، فلقد تحول عبوس والدتها إلى ابتسامة واسعة خجلة، ووجها الغاضب المُتحفز سيطر عليه الارتباك وهى تقول بصوت خفيض لكنه مازال يُسيطر عليه الجمود :

_ أهلًا يابنى نورتنا .. اتفضل أقعد واقف ليه ..

أجابها مازحًا وهو لايزال واقفًا :

_ يشرفني طبعًا تكوني أمي بس حضرتك أصغر من كدة بكتير .. وأنا هعتبرك أختي الكبيرة .. مش عاوز أقول إني أنا اللي أخوكي الكبير عشان متحسبيش إني بجامل ..

صدرت ضحكة مُتفاجئة من بين شفتي الأُم بعد أن اصطبغ وجهها باللون الأحمر وكأنها هي العروس لتقول بارتباك :

_ مش للدرجادي يعنى ..

رأت شمس والدتها تتقدم للجلوس جوار أبيها بوجه مُبتهج، فابتسمت بإعجاب مُتزايد وهى ترى عريسها يجلس هو الآخر بطريقة أنيقة، وشعرت بقلبها يخفق بشدة له فهو قادر على قلب الموازين لصالحه في ثوان بلباقته ولُطف كلماته ورقة عباراته ..

كان مصطفى هو أول من تحدث عقب جلوسهم فقال بطلاقة :

_ الحقيقة أنا كُنت جاي النهاردة أطلب إيد شمس … بس بعد مااتشرفت بمعرفتكوا فأنا بلوم نفسى وبلومها إنها معرفتنيش عليكوا من زمان ..

ابتسم الأب بطيبة مُجيبًا :

_ متشكرين يابنى انت باين عليك ابن أصول ..

بينما الأُم اومأت برأسها قبل أن يقول الأب بجدية :

_ بس سامحني فى السؤال محدش من أهلك جه معاك ليه ؟

ابتسم مصطفى بأدب مُجيبًا :

_ والله ياأستاذ محمود للأسف أنا والدى ووالدتي متوفين وليا أخ واحد أصغر منى وهو مهاجر أستراليا حاليًا ..

رفع محمود إحدى حاجبيه باستغراب واضح مُتسائلًا :

_ وملكش عم .. خال .. أي قريب ..

كانت شمس لاتزال واقفة بمكانها السري تستمع إلى حديثهم، فأحست بالتوتر يسرى في أوصالها من تساؤلات والدها، وتمنت لو كان بإمكانها الدخول إليهم في تلك اللحظة، إلا إن والدتها قامت بالتدخل نيابة عنها مُعلقة :

_ جرا إيه ياأبو شمس سيب الراجل يكمل كلامه ..

ابتسم مصطفى للأم بعفوية مُجيبًا بلُطف :

_ للأسف ياأستاذ محمود أنا كان نفسى يبقى ليا عيلة .. بس أكيد انتوا هتبقوا عيلتي الجديدة

سارعت الأُم قائلة بحماس :

_ طبعًا طبعًا ..

رمقها محمود بنظرة مُتفاجئة قبل أن يزفر بغير اقتناع ثُم ما لبث أن تساءل من جديد :

_ شمس قالتلنا إنك مُطلق من فترة طويلة ..

أومأ مصطفى برأسه ايجابًا وهو يقول :

_ مظبوط يافندم ..

تساءل محمود على الفور :

_ طب وإيه سبب الطلاق ياترى ..

في تلك اللحظة قاطعته زوجته مرة أخرى قائلة وهى تلكزه برفق :

_ أتفضل يامصطفى أشرب العصير الأول ..

تناول مصطفى كوب العصير من أمامه قبل أن يقول بثبات :

_ محصلش وفاق بينا عشان كانت مش مصريه فكان على طول في سوء تفاهم بينا معظم الوقت ومعرفناش نتأقلم على العادات المُختلفة ..

تساءل الأب بفضول :

_ كانت أجنبيه ..

هز مصطفى رأسه نافيًا قبل أن يقول بتوضيح :

_ مش بالظبط .. هي من بلد عربي وكانت عايشة معايا في مصر فترة جوازنا وبعد الطلاق سافرت ..

أومأ محمود برأسه مُتفهمًا قبل أن يتساءل من جديد وكأنه قد أعد أسألته ورتبها بداخل ذهنه من قبل :

_ وياترى معندكش أولاد ؟

قال مصطفى بحزن واضح :

_ للأسف ربنا مأرادش …

فى تلك اللحظة تدخلت مجيدة قائلة وكأنها بداخل عالمها الخاص غير عابئة بتساؤلات زوجها القلق :

_ مش هتاكل الحلو بتاع عروستك بقى ولا إيه ؟

ابتسم مصطفى ابتسامة واسعة جذابة قبل أن يقول وهو يلتقط قطعة الحلوى من أمامه :

_ أنا مقدر قلقك ياأستاذ محمود وأكيد عاوز تسأل أنا ليه متجوزتش تانى طول الفترة دي ..

ابتسم الأب بتكلف قائلًا :

_ فعلًا معاك حق .. ده لو مش هيضايقك يعنى ..

اعتدل مصطفى في جلسته بعد أن وضع مابيده من حلوى وعصير ليقول بجدية ورزانة :

_ اعتقد إن شمس بلغتكوا إني داخل على ال ٤٨ سنة.. وطول الفترة اللي فاتت كُنت بحاول أبنى اسمى وسمعتي في السوق لحد ما الحمد لله ربنا وفقني في ده ..

لكن للأسف محدش بياخد كل حاجة، وفى وسط انشغالي بالكتابة محستش بعمري وهو بيجري منى، غير إني بعد تجربة جوازي الأولى والخناق المُستمر وعدم التفاهم ده خلاني أحس بالراحة أكتر وأنا لوحدي ..

تساءل محمود باندفاع :

_ وإيه اللي غير رأيك دلوقتي ؟

أجاب مصطفى مُوضحًا :

_ زي ما قولت لحضرتك في بداية كلامي .. لقيت العُمر بيجرى منى وأنا لسة مكونتش أُسرة ..

محمود بغير اقتناع :

_ متأخذنيش يابنى على اسألتي الكتير، بس اشمعنى شمس .. مع إن ما شاء الله انت أي واحدة تتمناك ومن عائلات كبيرة ..

أجاب مصطفى بتلقائية واضحة دون تفكير :

_ مش أنا اللي بختار ياأستاذ محمود ده القدر والنصيب اللي خلوني أتعرف على شمس وأحس بالاعجاب ناحيتها، وفى النهاية كله مكتوب .. مش كدة ولا إيه ؟

في تلك اللحظة ودون مُقدمات خرج تساؤل الأب بصورة مُباشرة قائلًا :

_ وياترى اتعرفت على شمس ازاى وامتى ؟

اتسعت عينا شمس بذُعر فور أن استمعت إلى تساؤل والدها، وشعرت بالاضطراب والخوف يتملكانها، فهي لم تروِ لوالدها قط من قبل ماحدث، لذا سلطت عينيها على مصطفى بترقب في انتظار ما سيتفوه به ..

لكن تلك النظرة ذات المغذى التي رمق بها مصطفى الأُم قبل أن يقول بهدوء :

_ هي شمس مقالتش لحضرتك ..

تلك النظرة كانت كفيلة بتغير ملامح الأُم التي ظهر عليها التوتر هي الأُخرى، وقبل أن يُجيب الأب نافيًا؛ أتى صوت الصغيرة من الخارج قائلة بصوت واضح :

_ ياماما تعالى أربطيلي التوكة ..

في تلك اللحظة لم تجد مجيدة مفرًا من ذلك المأزق سوى أن تقول بصوتٍ عالٍ نسبيًا :

_ تعالى ياشمس .. هاتى يارا تسلم على مصطفى ..

بسرعة البرق هرولت العروس من مكانها بوجه مُمتقع وتوجهت إلى غرفتها لتُكمل زينتها بسرعة قبل أن تُمشط شعر الصغيرة على عجل وتُهندمها، ومن ثَم اندفعت إلى الخارج بصُحبة ابنتها، وقبل أن تخطو اولى خطواتها إلى غُرفة الصالون أخذت نفسًا طويلًا ساعدها على الثبات لبضع ثوان قبل أن تظهر للجمع وتقع عليها نظرات ذلك المُترقب ..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى