روايات

رواية مصطفى أبوحجر الفصل التاسع 9 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر الفصل التاسع 9 بقلم آلاء حسن

رواية مصطفى أبوحجر البارت التاسع

رواية مصطفى أبوحجر الجزء التاسع

رواية مصطفى أبوحجر
رواية مصطفى أبوحجر

رواية مصطفى أبوحجر الحلقة التاسعة

-٩- الفرص لاتأتي مرارًا

( أقدر أعرف بنتك راحت فين ؟ ))

خرجت تلك الكلمات من فم محمود بعصبية واضحة وهو يُحرك قدميه بتحفز أثناء جلوسه على المقعد المُجاور للأريكة التي اتخذتها زوجته مُتكئًا لها إلى جوار حفيدتها التي غفت أعلى ساق الجدة وهى تُشاهد التلفاز، كعادتهم اليومية عقب تناول طعام الغذاء …

أنتقت مجيدة إحدى حبات البُرتقال الموضوع على المنضدة من أمامها وبدأت في تقشيرها وهى تقول بلا اهتمام بينما عينيها مُثبتتين على تلك الدراما التي جذبت انتباهها :

_ ابقى أسألها لما تيجي ..

ربت محمود براحتيه على ساقيه بانفعال وهو يجلس على حافة المقعد بحنق واضح قائلًا لزوجته بتأنيب :

_ يعنى انتي مسألتهاش نازلة رايحة فين وراجعة امتى .. دي الساعة داخلة على ٧ وهى لسه مرجعتش ..

أجابته الزوجة دون أن تنظر إليه وهى تأكل ما بيدها :

_ عندك الموبايل أهو كلمها شوفها فين ..

أغتاظ محمود من برود زوجته فأرتفع صوته قائلًا :

_ إنتى مش المفروض أمها وسرها كُله معاكي ..

رفعت زوجته إحدى حاجبيها باستنكار مُجيبة :

_ سر مين اللي معايا .. ما أنت شايفها طول الأسبوع عاملة أزاي ومعوجة علينا ولا كأننا غاصبين عليها..

ثُم أضافت بكيد :

_ ما هو أنت لو تقفلك وقفة جامدة معاها مكنتش تتصرف على مزاجها بالشكل ده ..

هب محمود من مِقعده باغتياظ قائلًا بحدة :

_ إنتى هتجننيني ياست إنتى .. ما أنا لما جيت أشد قعدتي تدافعي عنها وتقولي حرام البنت فيها اللي مكفيها .. وحسستيني إني جوز أمها مش أبوها اللي خايف على مصلحتها …

وضعت مجيدة ما بيدها بداخل الطبق من جديد قائلة بعصبية هي الأُخرى :

_ وأنا لما جيت أعاتبها وأقرص عليها في موضوع ابن أختك وقفتني وعملتلي هليلة وقولتلي متكلمش معاها تانى في اللي حصل ..

أنتفخ وجه محمود بغضب مُجيبًا :

_ إنتى مسمعتيش نفسك كنتي هتقوليلها إيه .. ده إنتى كنتي هتعايريها بطلاقها ياشيخة ..

أرتفع حاجبيها بسخرية مُبررة :

_ مش ده الكلام اللي أنت ليل نهار عمال تقولهولي لحد ماطهقتني ..

خف محمود من وطأة حدة كلماته قليلًا وهو يقول :

_ آه بس الكلام ده بيني وبينك مش قدامها ..

تشدقت مجيدة بشفتيها قائلة بتهكم وهى تستأنف التهام ما تركته :

_ قال يعني مكنتش بتسمعنا ..

في تلك اللحظة ترامى إلى سمعيهما صوت انغلاق باب المنزل فعلِما بقدومها، حينها أشار محمود إلى مجيدة قائلًا وهو يعتلى مقعده من جديد :

_ بس خلاص البنت وصلت ..

استشاطت مجيدة غيظًا من ذلك الهدوء الذى حل عليه، فوكزته بكلماتها قائلة :

_ ما تسألها كانت فين ولا بتتشطر عليا أنا بس ..

ما إن انتهت الأم من جُملتها حتى طلت شمس برأسها قبل أن تتوجه إلى غُرفتها قائلة :

_ مساء الخير ..

أجابتها الأم دون أن تنظر إليها مُجيبة :

_ مساء النور ..

بينما الأب حاول ضبط أعصابه قائلًا بصرامة :

_ كنتي فين ياشمس ومستأذنتيش من مامتك قبل ما تنزلي ليه ..

أجابته بارتباك واضح :

_ كُنت مع منار يابابا ..

محمود باستغراب :

_ مش منار دي معاكي في الشغل ..

أجابته بأدب :

_ أيوه ..

تساءل بعبوس :

_ ومادام عاوزة تشوفيها مروحتيش الشغل النهاردة ليه ؟

تعثرت كلماتها قليلًا قبل أن تُجيبه :

_ هي كمان مراحتش فأتقابلنا في النادي شوية ..

في تلك اللحظة تدخلت مجيدة قائلة بعتاب وهى تُشير إلى حفيدتها الغافية :

_ ومأخدتيش بنتك معاكي ليه بدل ماهي قاعدة زهقانة ..

لم تعلم شمس بما تُجبها لكنها قالت بتلعثم :

_ أصل .. أصل إحنا مقعدناش ومشينا على طول عشان هي كانت عاوزه تشترى شوية حاجات ..

تشدقت مجيدة دون أن تنظر إليها قائلة بنبرة تهكمية :

_ حاجات .. آه طيب خُدى بنتك الأوضة نيميها جوة ..

حملتها شمس برفق شاعرة بتأنيب الضمير يغزو قلبها وعقلها، فكلمات والدتها جعلتها تُشفق على إبنتها الوحيدة والتي لا تجد من يلهو معها أو يُشاركها اهتماماتها كنفس حالها في فترة طفولتها، ورغم إحساسها الدائم بمُعاناة الصغيرة إلا إنها كُلما جلست للعب معها سُرعان ما تمل من ألعاب الصِغار، فتتركها وحدها من جديد وتُمسك هاتفها مُتجاهلة تبرمها وضيقها ..

هي بالفعل تُلقى بمعُظم ثِقل عبئ ابنتها على والديها اللذان يهتمان بكُل متعلقاتها حتى دراستها وكأنها ابنتهم، بعكس والد الصغيرة الذى لا يُبالى بها من الأساس ولايسعى لرؤيتها إلا نصف ساعة لا أكثر في الأعياد والمُناسبات الرسمية، متناسي ثورته وأفعال عائلته الدنيئة عِند تأخرها عن الإنجاب ..

راودتها تلك الذكرى البائسة بعد أن وضعت ابتتها بهدوء أعلى الفِراش ودثرتها جيدًا ثُم توجهت إلى مرآتها لتخلع حِجابها ..

لقد عاشت معه عامين كاملين من جحيم لايُطاق أذاقها فيهم والدته وإخوته مرار الدُنيا بسبب تأخر حملها، وهو كعادته لم يُكلف نفسه عناء الدفاع عنها ولو لمرة واحدة، حتى بدأت بالظن أن به عِلة يُخفيها ويخجل بمصارحتهم بها، فأعجبه إلقاء اللوم عليها ..

وبالرغم من عِلمهم بعدم تواجد ما يمنعها من الإنجاب بُناءًا على تقارير وتحاليل طبية قامت بها إلا إنهم رغم ذلك لم يدخروا جُهدًا لإذلالها وكأنهم وجدوا ضالتهم أخيرًا، فلم يتركوا مُناسبة صغيرة كانت أو كبيرة دون توجيه كلماتهم اللاذعة إليها مُطلقين عليها وصف “معيوبة”، لكن رحمة الله كانت واسعة فلم يشأ لها الهوان لأكثر من ذلك، وأنعم عليها بكرمه وعلمت بأمر حملها في بداية السنة الثالثة من زواجها بفضل دعوات والديها ليلًا ونهارًا ..

لم تتوقع شمس تغير معاملة عائلته لها أو حتى إظهار بعض الفرح من أجلها، وهذا ما حدث بالفعل فلم تُبالى، إلا أن ما أثارها حقًا وكدر عليها غبطتها هو موقف زوجها والذى شعرت بزيف سعادته وتصنعها، فلم تكُن أبدًا فرحة شخص يتلهف للإنجاب طوال عامين كاملين ..

زفرت شمس بعُمق بعدما عادت أدراجها إلى إبنتها الغافية تُداعب شُعيراتها الناعمة مُتذكرة عدد المرات التي كانت ستفقدها فيها خلال حملها، إلا أن الصغيرة حملت عِناد اُمها وأبت إلا وأن تأتى إلى الدُنيا لتكون سند وعوض والدتها في هذه الدُنيا، وكأنها كانت تشعر بحاجتها إليها كي تُعينها على جفاء أبيها وقسوة عائلته …

في تلك اللحظة فلتت عَبرة ساخنة من إحدى عينيي الأُم مُتخيلة حياتها دون ابنتها …

تُرى ماذا كان سيحدث إذا فقدتها في إحدى تلك المرات !! هل كانت ستُكمل زواجها من ماجد !

فما شجعها حقًا على التخلص منه هو تلك الصغيرة، بسبب مُعاملة عائلة أبيها القاسية لها بصفتها ابنتها هي، مُتناسين أنها تحمل اسم ولدهم في الأساس، وكالعادة لم يهتم الأب بتلك المشاكل السطحية من وجهة نظره، فلا شيء في تلك الدُنيا أهم عنده من اكتناز الأموال والتوفير على قدر الإمكان ..

كانت قد اعتادت على سلبيته وعدم انحيازه لصفها في أي مُشكلة تواجهها فلم تَعُد تهتم كثيرًا بتدخله، لكن تغيرت الأمور بصورة جذرية عندما تعلق الوضع بابنتها، فمن كان يقترب منها قيد اُنملة أو يستهزئ بها ولو بمُجرد كلمة صغيرة ساخرة، حينها لم تلتزم الصمت كعادتها بل انفجرت كالبُركان الثائر الذى انتظر طويلًا لإخراج كُل ما بجوفه من لظى وحُمم مُشتعلة اصطلى بها كل من شارك في إشعاله وإثارته طوال تلك السنون ..

أفاقت شمس من تفكيرها على رنين هاتفها يتصاعد بداخل حقيبتها، فأسرعت إليها تلتقطه كي تُخفض صوته حتى لا تستيقظ ابنتها، وماإن نظرت إلى هوية المُتصل حتى أنفرج وجهها العابس وظهرت ابتسامتها وهى تُجيب بلهفة :

_ آلو …

آتاها صوته الرزين الدافئ وكأنه الحياة قائلًا باهتمام :

_ وصلتي ؟

أجابته بهدوء وهى تتجول داخل الغُرفة الشبه مُظلمة :

_ آه وأنت ؟

خرجت منه زفرة ساخنة وهو يقول بقلة حيلة :

_ أنا ! أنا في حاجة نستها معاكي ..

تساءلت باستغراب :

_ معايا أنا !

أجابها بجدية :

_ من ساعة مامشيتى وانا مش لاقي روحي ..

ابتسمت شمس بخفوت وأحمرت وجنتيها بينما هو زفر من جديد قبل أن يقول بصوت ملؤه الصبابة فشعرت هي باشتياقه وهو يقول :

_ بفكر أرجع مكان ما كُنا قاعدين يمكن أشوفك تانى وألاقي روحي الضايعة منى ..

تنهدت بابتسامة رقيقة عذبة قائلة بخفر :

_ ما أحنا هنتقابل قريب ..

أجابها مُعترضًا :

_ أنا مش عاوز إننا نتقابل ..

ثُم أضاف بنبرة أقرب للهمس بصوت عميق كأنه يأتي من غمرات بير سحيق :

_ أنا عاوزك تبقى قُدامي على طول …

صمتت هي لثوان بعدما ارتفعت دقات قلبها بِعُنف، لكنها ما لبثت أن أجابته مُفكرة :

_ ودى نعملها إزاى !

حملت كلماته نبرة ذات معنى وهو يتساءل بِخُبث :

_ تفتكري إزاى ؟

التمعت عيناها بشغف بعدما فهمت مقصده، لكن ذلك البريق سُرعان ما أنطفأ، وتبدلت فرحتها بِحُزن قائلة :

_ مصطفى أنت متعرفش عني حاجة ..

أجابها على الفور :

_ طيب ما تعرفيني ..

لكنه سُرعان ما أضاف مُوضحًا :

_ مع إنه ميفرقش بالنسبالي .. المهم عندي حاضرك ومستقبلك ..

صمتت شمس قليلًا قبل أن تخرج كلماتها بصورة جادة يشوبها الإصرار بعد أن اعتزمت البوح له بحقيقة أمرها قائلة :

_ بردو لازم تعرف كُل حاجة عني قبل ما تقول أى كلام دلوقتي وتندم عليه بعد كدة…

ظل هو صامتًا بينما هي أردفت بسرعة كمن تُلقى بقُنبلة موقوتة :

_ مصطفى أنا مُطلقة ومعايا بنت ..

اِستمر صمته، بينما هي ألقت قُنبلتها وأغمضت عينيها بقوة مُنتظرة الاستماع إلى دويها، أرهفت السمع مُحاولة التقاط كلمة أو تنهيدة أو حتى زفرة، إلا أن اِنتظارها طال حتى ظنت أنه قد أغلق ففتحت عينيها ببطيء ونظرت إلى هاتفها ببلاهة تتأكد من اِستمرار المُكالمة، ثم وضعته على أُذنها من جديد في انتظار استقبال كلماته والتي تصورتها ستأتي مُقتضبه حزينة تمحى أقواله السابقة، فتمتمت بداخلها مُحاولة التخفيف عن نفسها :

_ ده أنا ودي حياتي ..واللي عاوزني يقبلني زي ما أنا ..

ثُم ربتت بقبضة يدها على قَلبها الذى تسارعت دقاته، عله يهدأ قليلًا، بينما عقلها تحدث قائلًا وكأنه يُريد أن يدفع بتلك الكلمات إلى لسانها كي تصل إلى مسامع الطرف الآخر :

_ أنطق بقى قول أي حاجة أو حتى أقفل السكة ..

في الحقيقة أن كُل ذلك الصخب بداخلها لم يتجاوز مُدته الثلاث ثوان فقط لاغير، أتبعهم خروج صوته الهادئ الدافئ يقول ببساطة :

_ وإيه يعنى ما أنا كمان مُطلق بس للأسف معنديش أطفال ..

حاولت شمس استيعاب المقصود بكلماته لكنها فشلت أو بالأحرى رفضت تصديق استمرار اهتمامه بها فتساءلت ببلاهة :

_ يعنى إيه ؟

أجابها مُوضحًا :

_ يعني ده ميغيرش أي حاجة من إحساسي ليكي ..

ارتعشت ابتسامة أعلى شفتيها، وشعرت بوجنتيها تسرى بداخلهم حرارة وكأن ألف مدفأة تُحيط بها، أحست وكأنها ملكت الدُنيا، فقلبها يُرفرف كالطائر الصغير الذى يُجرب فيها أجنحته لأول مرة، وبعكس ما كان يختلجها مُنذُ لحظات؛ خرجت كلماتها رصينة هادئة وكأنها لا تهتم بتواجده أو ابتعاده، فكتمت فرحتها وتساءلت بسلاسة :

_ طيب وأنت ؟

أجابها بنبرة طبيعية :

_ ما أنا قولتلك أنا كمان مُطلق .. بس من فترة كبيرة ..

ثُم أضاف :

_ الموضوع شرحه يطول ..

أحست شمس برغبته في عدم التطرق إلى الموضوع فقالت بتفهم :

_ أوك لو مش حابب تتكلم مفيش مشكلة ..

استدرك هو مُوضحًا :

_ الموضوع مش كدة خالص بس لازم نتقابل عشان نعرف نتكلم براحتنا وأكلمك عن نفسى أكتر ..

انفرجت أساريرها قائلة دون تفكير :

_ أكيد ..

وكأنه كان يعلم بموافقتها، فقال على الفور كي لا يُعطيها فرصة للاعتراض :

_ هبعتلك اللوكيشن والمعاد واتساب دلوقتي ..

وقبل أن تتحدث مُعترضة، أضاف هو بحرارة :

_ مش هيجيلي نوم لحد ما أشوفك بكرة ..

بالطبع توقفت الكلمات بحلقها وذاب اعتراضها كقطعة الثلج تحت وطأة حرارة وجنتيها، ولما طال صمتها قال هو وكأنه تذكر :

_ على فكرة أنا كلمت المصمم وهيبدأ في عمل الغلاف خلاص، والرواية هتنزل الجروب عندي آخر الاسبوع ده إن شاء الله..

أجابته بامتنان وتلك الابتسامة مرسومة على وجهها الضاحك :

_ أنا مُتشكرة أوى ليك يامصطفى مش عارفه أقولك ايه على كل اللي بتعمله علشاني ..

أجابها بصوت حانٍ عطوف :

_ أنا لسة معملتش حاجة عشانك .. أشوفك بكرة ..

أنقطع الاتصال لكن لم يتوقف صوته الدافئ عن التردد داخل قوقعة أُذنها، فاستعادت حديثه اللبق وكلماته الرقيقة إليها، وبلا أي مُقدمات اتسعت ابتسامتها الخجلة لتتحول إلى ضحكة فَرِحة، ووجدت في نفسها الرغبة للرقص ففعلت ذلك دون تفكير وألتفت بجسدها مُتمايلة في أرجاء الغُرفة وهى تُصدر لحنًا رتيبًا من بين شفتيها أتبعته بغنائها لكلماته الشهيرة على نفس اللحن :

_ هقابله بكرة .. وبعد بكرة .. وبعد …

لكن قاطع غِنائها رنين هاتفها الذى ارتفع من جديد فأجابت على الفور بلهجة مرحة ظانه إنه هو، وقالت بابتسامة :

_ إيه نسيت تقولي حاجة ..

لكن ابتسامتها سُرعان ما انكمشت وعبس وجهها عندما ترامى إلى سمعها ذلك الصوت الأجش الذى طالما كَرِهته والذى قال ساخرًا :

_ بالنسبالي أنا لسه هقول .. انما بالنسبة للي كان بيكلمك بقى …..

انقبض قلبها فور سماعها لنبرات صوته الكريهة وتبخرت تلك السعادة التي سيطرت عليها مُنذ ثوان فخرجت كلماتها دون أن تعي مُتسائلة :

_ ماجد !

قال بتهكم :

_ كويس إنك لسة فاكرة اسمى ..

ازدردت لُعابها وتساءلت بخوف :

_ عاوز إيه ؟

أدرك هو ذُعرها فتساءل بِجُرأة وكأنه له الحق في ذلك :

_ كنتي بتكلمي مين كل ده ؟

تداركت نفسها واستعادت جرأتها مُجيبة باِزدراء :

_ وأنت مالك ..

ثُم أضافت بلهجة قاطعة :

_ قول اللي عاوزه وخلصني ..

أجابها وقد تغيرت لهجته :

_ عاوز بنتي …

أنقبض قلبها واتسعت عيناها بِذُعر قائلة بحدة :

_ بنتك مين اللي عاوزها .. انت جرا في مُخك حاجة ..

ثُم أضافت بتهكم :

_ ولا هو العيد قرب وأنا مش حاسة !

قاطعها بسماجة مُوضحًا :

_ لا متقلقيش .. أنا عاوزها تتعرف على العروسة الجديدة ..

لم تستطع شمس إخفاء سُخريتها قائلة باستخفاف :

_ تاني !! أقصد تالت !!

ثُم أضافت بكلمات يملؤها الشماتة :

_ هي مراتك التانية مجبتش لأهلك الولد ولا إيه …

أجابها بحدة ناهرًا :

_ خليكي في حالك أحسن …

وبلهجة آمرة لاتقبل النِقاش قال :

_ بكرة هاجى آخذ البنت من أول النهار …

ظهر على ملامحها الضيق وهى تنظر إلى ابنتها بخوف قائلة بلا حول لها ولاقوة :

_ بس ترجعها قبل النهار ما يخلص ..

لكن ذلك الضعف سُرعان ما تحول إلى شراسة قِط على استعداد للفتك بمن يقترب من صغاره، فقالت مُحذرة :

_ على الله تغصبها على حاجة هي مش عاوزاها، المرادي مش هسكتلك .. وأنت عارف أنا ممكن أعمل إيه ..

لم تنتظر إجابته بل أغلقت الهاتف وألقته أعلى الفِراش، قبل أن تجلس بجوار ابنتها الغافية وتتأمل ملامحها البريئة الهادئة مُشفقة عليها من أنانية أبيها الذى لم يرحم صِغر سنها عندما كانت في الرابعة من عُمرها وأمرها بمُناداة زوجته الثانية بلقب (ماما) رغمًا عنها ..

ذلك ما علمته منها عندما أتت إليها مُنهارة من البُكاء فاحتضنتها بقوة ولم تُفارق الصغيرة أحضانها لمُدة ثلاثة أيام كاملة، تصحو فيهم الابنة ليلاً فزعة باحثة عنها حتى تجدها بجوارها فتنكمش بداخلها كالجنين حتى تشعر بالآمان وتغفو مرة اخرى ..

لقد عانت كثيرًا مع ابنتها في تلك الفترة حتى استطاعت إعادة إحساس الأمان لديها من جديد، مؤكدة لها أنها لن تبتعد عنها مهما حدث، وهذا من أهم أسباب رفضها الزواج طوال تلك السنوات، فهي لن تُجبرها كما فعل أبيها على إطلاق لفظ (بابا) على شخص جديد يدخل حياتها عِنوة، فالصغيرة لن تحتمل صدمات اُخرى ..

في تلك اللحظة تحول مسار تفكيرها، كالقطار الذى يتغير اتجاه القُضبان من أسفله فيسير في تفريعة جديدة تقوده إلى مُبتغاه، وهُنا أنار عقلها مُتسائلًا :

_ مادام الحال كذلك وأنتِ لا تنتوي الزواج من جديد، فلماذا تقومي بفتح الباب إليه مُتقبلة تلميحاته التي …

لكن .. لكنه لم يطلب منكِ الزواج بعد !

ابتسمت بسُخرية على سذاجة تفكيرها وتمتمت كالواثقة .. ماذا لو طلب ! ..

بل ماذا إذا لم يطلب !

أفاق عقلها على جوانب تلك العلاقة التي تخطو إليها دون مُبرر، فمامعنى الأحاديث واللقاءات ! لأى غرض هي إذا ما كانت لا تنوى أو لا ينوى هو تكلليها بالزواج !

أصابتها تلك الانقباضة فزفرت بضيق وكأنها تزفر كل الهموم والمصائب بحياتها، وقالت بصوتٍ عالٍ نوعًا ما كي تُبعد ذلك التفكير المؤنب عن عقلها :

_ بكره هيبان كل حاجة لما أقابله ..

ثُم أضافت ناظرة إلى ابنتها الغافية :

_ المهم دلوقتي يارا أمهدلها زيارة أبوها اللي كانت لاعلى البال ولا الخاطر دي ..

في تلك اللحظة .. أضاء هاتفها برسالة منه على تطبيق الواتساب، يُخبرها بمكان لِقائهما وموعده وأتبعها بتلك الجُملة (( هل استطيع أن أراكِ في حلمي تلك الليلة؟ )) ..

لكن ..

” ألم يُخبرها مُنذُ قليل بأن النوم سيُجافيه حتى يأتِ الغد، فمن أين له بالأحلام !! “

*************
هل سبق وأن صادفت تلك اللحظة التي يدق بها القلب وتضطرب فيها النفس وتطرب لها الروح !؟

تلك اللحظة عندما تقع عدستاك لأول مرة على الشخص الذى سيتعلق به مصيرك إلى الأبد ويذكره فؤادك في كُل دَقة رغمًا عنك، ولسبب ما، بل ومن غير سبب منطقي ملموس، هُناك ذلك الشيء الخفي الذى يجذبك إليه حتى المُنتهى، شعور غريب بأن القدر أهداك حقًا بل مُلكًا يتوجب عليك الدفاع عنه حتى ضد القدر نفسه !؟

تلك اللحظة .. شعر هو بها باكرًا حتى قبل أن يُدرك المعنى الحقيقي للحُب أو يشعر بمُتعة خفقان القلب، شعر بها وهو لايزال في سن السابعة مِن عُمره عندما اِنتقى لها اسمها “شمس” ..

اختاره فور رؤيتها لأول مرة، بعد ولادتها بعِدة ساعات، ومنذُ ذلك اليوم وهو يُرافقها كظلها وكأنها ضلع من أضلعه، يلعبان معًا، ويدرسان معًا، ويُسافران معًا بل وينامان في نفس الغُرفة أيضًا برفقة إخوته في بعض الأحيان إذا حكم الأمر، كان يشعر بمسؤوليته الكاملة عنها كشقيقته، بل كشخص أكثر قُربًا وانتماءًا إليه من شقيقته، علاقة لم يستطع تفسيرها إلا عِند بلوغه سن الثامنة عشر، حينما ابتعد عنها بدافع من العادات، وبالتدريج أصبحا لا يلتقيان إلا نادرًا وسط التجمع العائلي، خاصةً بعدما بدأت هي بالنضوج، واِزداد تعلُقه بها وتعلُقها به؛ تعلُق من نوع آخر بإحساس يختلف تمامًا عن إحساس الطفولة .. وكاد أن يرنو إليه ..

لكن .. جذبته تلك الخيوط إلى الوراء، وشدته بعيدًا عنها ، خيوط من تقاليد عاش فيها ولايزال، تُحتم عليه ألا يقترب منها، وبداخله ذلك الوازع الديني يقوم بدور الرقيب داخل نفسه في أشد اللحظات اِحتياجًا للتهور والانطلاق …

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مصطفى أبوحجر)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى