روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل العشرون 20 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل العشرون 20 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء العشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت العشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة العشرون

كلمة واحدة كانت كفيلة بإشعال حرب؛ حرب غير عادلة بين طرفين؛ أحدهما مكون من أربعة أشخاص كالثيران _ كما يصفهم صالح _ مستعدين للقتال أيام متتالية دون كلل، والطرف الآخر مكون من صالح، وصلاح الذي لا يحبذ قتال الجسد، بل يفضل صراع العقول، ومحمود الذي لا يمكث في عالمنا سوى ثواني، قبل أن يُسحب لعالم ملئ بـ “البسكويت ” والمخبوزات .
بالطبع ليست عادلة البتة …
نظر محمد صوب رانيا وملامح الصدمة تزين وجهه بشكل كبير، وهي حاولت أن تتلاشى النظر له وللاخرين، لكن كيف تفعل وهي محاطة بالأربعة من جميع الجهات ؟؟
ثواني وسمعت كلمة محمد يتأكد منها أنه لم يخطأ السمع :
” موافقة ؟؟ ”
ترددت رانيا لحظات في رفع رأسها، ولكنها فعلت أخيرًا وهي تهز رأسها بهدوء وتناظر أعين محمد بجدية كبيرة تحاول ألا تتراجع أمام صدمته، وقلبها يؤلمها أن عصت يومًا رغبة اخوتها ..
والثلاثة الباقون يراقبون بافواه متسعة صدمة وغيظًا، لكن كل ذلك قاطعه صوت صالح الذي خرج سعيدًا يرفع كفيه في الهواء مرددًا :
” الفاتحة بقى لأجل ما ربنا يكرمنا في الجوازة دي ”
وقبل أن يتحدث أحدهم بكلمة واحدة معترضًا، كان صالح يغمض عينيه ويقرأ آيات الفاتحة، وصلاح يحرّك عيونه في المكان حوله بضحكة مكبوتة، لكن رفع يده هو الآخر يشارك شقيقه وكذلك فعل مرتضى ورؤوف، الجميع تقريبًا عدا الأربعة أشقاء ….
وبمجرد انتهاء الجميع انتفض صالح من مكانه بسرعة كبيرة يتحرك صوب رؤوف يضمه بسعادة مربتًا أعلى ظهره :
” مبارك يا عمي عقبال يارب باقية عيالك وتريح دماغك منهم”
ومن ثم تحرك صوب محمد يجبره على النهوض، يعانقه بقوة مانعًا أي مقاومة، ومحمد يحاول أن يدفعه متأففًا :
” يا عم ابعد هي ناقصة قرف ”
لكن صالح عاند وزاد العناق وهو يهمس :
” لا خلي نفسك طويل كده يا ابو النسب ده لسه قدامنا تحضيرات كتير على الفرح ”
اشتد غضب محمد وهو يضع يده أعلى ظهر صالح ضاربًا إياه بشكل متتالي كما لو كان يربت عليه :
” بعينك ..”
ضحك صالح يبتعد عنه، ثم تحرك صوب جبريل الذي رفع يده يرفض منه الاقتراب، لكن صالح لم يهتم وهو يضم عبدالجواد والاخير يتأفف ويحاول أن يخرج من أسر يديه :
” والله يا عبدالجواد قلبي بيقولي أننا هنكون حبايب ”
دفعه عبدالجواد بحنق :
” في احلامك ”
ابتسم له يتحرك صوب الأخير والذي كان يراقب ما يحدث بهدوء وحينما اقترب منه ليضمه، فاجئه عبدالله بالمبادرة وهو يهمس له بتحذير :
” دمعة من اختي، برقبتك ”
ربت صالح على ظهره بسخرية :
” حبيبي تسلم، عقبالك إن شاء الله ”
ابتعد عنهم وقد نال منهم ما يكفيه لليوم، نظر للجميع حيث والده الذي بدأ يتبادل حوار ودي مع رؤوف، وصلاح الذي أشار له بأنه سيخرج للقيام بمكالمة مهمة، ومحمود الذي اختفى منذ دقائق ولا يدري أين ذهب …
واخيرًا سقطت عيونه على رانيا التي اتسعت بسمتها تخجل أن تنظر له مباشرة بعد ما قالت ..
ابتسم لها صالح بسمة واسعة أظهرت أسنانه، ثم غمز لها يحاول اخبارها بشيء، وهي لا تفهم ما يريد ..
نظر صالح حوله يبحث عن اخوتها ليجدهم يتحدثون في اجتماع مغلق، على الأغلب يحاولون ايجاد طريقة للتخلص منه .
تحرك يتجاهلهم مستغلًا انشغالهم وهو يقترب من رانيا ودون أن يراه أحدهم أخرج ورقة من جيب بنطاله والقاها عليها لتتلقفها رانيا بفزع، نظرت لوجهه متسائلة، بينما هو أشار لها بسرعة أن تخفيها ..
فعلت رانيا ما طلب وهي تبتسم بغباء في الوقت الذي اقترب منها عبدالجواد يهمس لها بصوت منخفض :
” عطاكِ ايه ؟!”
حدقت به رانيا مصدومة وبشدة من انتباهه لما حدث، نظرت حولها تبحث عما إذا كان الباقيين قد انتبهوا أم لا، لكن عبدالجواد قاطع ذلك هامسًا :
” محدش شاف حاجة غيري، بس لينا حوار طويل بليل ماشي ؟؟”
صمت ثم نظر حوله وقال :
” متفتكريش أن الموضوع خلص، ده محمد شايل جواه كتير ومستني الدنيا تهدى عشان ينفجر في وشنا، والمرة دي أنا مش هدافع عنك يارانيا ”
نظرت له رانيا بأعين متوسلة وملامح حزينة، ليتراجع في كلمته ويقول بصوت خافت :
” شوية، هدافع شوية صغيرين مش كتير، عشان أنا كمان متعصب منك ”
ابتسمت له بحب ليزفر عبدالجواد بحنق مبتعدًا عنها حتى لا ينتهي به الأمر راقصًا سعيدًا في حفل زفافها، وأثناء نهوضه انتبه لتحرك مروة من أمام الغرفة التي يجلسون بها، تتحرك سعيدة وهي تحمل هاتفها صوب مكانٍ ما في منزلهم .
تحرك صوبها بتعجب شديد، وخرج من الغرفة يناديها ظنًا أنها قررت الرحيل ..
لكن صُدم حينما وجدها تقف مع صلاح تتحدث بأريحية كبيرة وبسمة واسعة لم يرها يومًا تبتسمها له، اشتعلت النيران بصدرة وشعر أن أبناء مرتضى أصبحوا كاللعنة عليه، يحاولون سلب منه كل امرأة يحب، اولًا شقيقته الحبيبة، وثانيًا حبيبته الوحيدة .
وعند صلاح وأثناء محاولته الاتصال بميمو، شعر بصوت خلفه، صوت رقيق هادئ وخافت يناديه بلطف وقد فطنت أنه هو نفسه صلاح، حيث أن رانيا أكدت عليها أن صالح لا يرتدي ثياب رسمية، ومن حسن حظها أنه كان صلاح بالفعل وليس صالح :
” استاذ صلاح؟؟ ”
ابعد صلاح الهاتف عن أذنه ببطء شديد مستديرًا صوب الصوت ليجد فتاة ذات ملامح مألوفة له، ابتسم بهدوء يردف :
” أيوة اتفضلي ؟؟”
قالت مروة بتردد شديد خوفًا أن يكون قد نسيها حقًا، ويخيب أملها للمرة الثانية بعد فعلة توأمه بها، لكن صلاح كان أبعد ما يكون عن صالح، حتى وإن لم يتذكر اسمها إلا أنه يتذكر رؤيته لها لذلك ابتسم يضيف :
” أنا شوفتك قبل كده صحيح ؟!”
اشرق وجه مروة وبقوة عن بسمة سعيدة وملامحها مُلئت أمل وقبل أن تتحدث بكلمة تصف مدى سعادتها بذلك شعرت بمن يدفعها جانبًا ويحل محلها وبقوة :
” وحضرتك بقى شوفتها فين قبل كده ؟!”
رمشت مروة سريعًا لا تستوعب ما حدث منذ ثواني وجسد عبدالجواد حال بينها وبين كاتبها المفضل والذي جائت اليوم خصيصًا لأجله ..
” فيه ايه ده …”
استدار لها عبدالجواد نصف استدارة :
” اششش، اصبري أنتِ دلوقتي ”
نظر بعدها لصلاح الذي كان يرمقه ببرود كبير :
” نعم ؟! فيه حاجة ؟!”
ابتسم عبدالجواد بغيظ :
” والله ده سؤالي، نعم فيه حاجة ؟! واقف مع خطيبتي ليه ؟؟”
شهقت مروة تردد من خلفه ببلاهة :
” خطيبتك ؟؟ خطيبة مين ؟!”
حدق به صلاح ثواني قبل أن يقول بجدية :
” عبدالجواد؟؟ مش كده ؟؟”
ضم عبدالجواد ذراعيه لصدره ولم يمنحه ردًا، لكن صلاح في الأساس لم يكن ينتظر منه رد وهو يربت على كتفه بهدوء :
” بص يا عبدالجواد حاول أنت وأخواتك متاخدوش كل حاجة على اعصابكم كده، الآنسة وراك واحدة من القراء بتوعي وقابلتها قبل كده في لقاء ”
هزت مروة رأسها موافقة بسعادة :
” أيوة صح، حضرتك لسه فاكر ؟!”
حدجها عبدالجواد بشر محذرًا إياها أن تتمادى في الحديث معه، لكن مروة لم ترى تلك النظرة وهي تخرج الهاتف الخاص بها تتجاوز عبدالجواد بسرعة، تلقي له بهاتفها :
” معلش خد ليا صورة مع استاذ صلاح ”
أنهت جملتها وهي تقف جوار صلاح الذي حفظ مسافة مناسبة بينهما ونظر صوب عبدالجواد ببسمة هادئة …مستفزة .
وعبدالجواد يشاهد الهاتف بعدم فهم، ويحرك نظراته بينهما وبينه، حتى رفع عيونه أخيرًا لمروة التي كانت تبتسم بسعادة وترقب لضوء الكاميرا :
” عايزاني اصورك ؟؟”
” أيوة لو مش هتعبك، بص عادي من غير فلتر أنا هظبطها بعدين ”
رفع عبدالجواد الهاتف عاليًا وهو يعض شفتيه بغضب جحيمي وكم ود لو هبط به أعلى رأسها صارخًا :
” والله لو ما اتحركتي من قدامي لكون نازل بيه على نافوخك يا مروة، اتحركي من وشي ”
نظرت له مروة بصدمة واعين متسعة لتعلو صرخاته :
” بقولك غوري من قدامي مش عايز ازعلك مني ”
حدقت مروة بصلاح ثواني و نظرت مرة أخرى لعبدالجواد بغضب تنتزع منه الهاتف، معتذرة من صلاح بهدوء شديد، ثم غادرت المكان والمنزل بأكمله كعاصفة هوجاء تاركة عبدالجواد يجاهد أنفاسه ليهدأ ..
ابتسم صلاح وهو ينظر له بشفقة :
” يفضل المرة الجاية وأنت رايح تصالحها توضح ليها أنك كنت غيران عليها مش اكتر، عشان اللي عملته ميتفهمش غلط، ده لو مصلحتك ”
ختم حديثه يتحرك من أمام عبدالجواد الغاضب وهو يبتسم بسخرية، لكن فجأة لمح بطرف عينيه مكالمة جارية مع ميمو، هل كانت طوال الوقت تستمع لما يحدث ؟!
_____________________
اصطدمت يد هاجر بقوة في قطعة الكيك لتسقطها ارضًا ويعلو التوتر وجهها وهي تقول بنبرة مصدومة مشيرة للحلوى التي سقطت :
” أنا بس خبطت فيها غصب عني ”
ابتسم لها محمود بحب وقبل أن يبادر بقول كلمة، انحنت هاجر تجلس القرفصاء وهي تجمع ما اسقطته فقط لتعطي نفسه هدنة تتنفس بها بعيدًا عن نظراته، ومحمود يراقبها بشفقة، لا يدري أيتركها تلتقط أنفاسها، أم يعمل بمبدأ طرق الحديد وهو ساخن ؟؟
وهاجر تجلس ارضًا تشعر بارتجاف يديها، ولا تدري أن خلفها من يرتجف كله لأجلها.
وبمجرد أن انتهت اخذت نفس عميق وكأنها على وشك الغوص في محيط، ثم نهضت فجأة تمسك طبق الحلوى تقول ببسمتها المعتادة :
” كويس أني عاملة كيك زيادة، وإلا كان زمان فيه واحد ما اخدش نصيبه ”
ومحمود لم يرحمها وهو يندفع بهجوم آخر أكثر شراسة عليها :
” أنا ممكن اتخلى عن نصيبي في الحلويات دي، واخد نصيبي فيكِ، وقصدي هنا بنصيبي هو كلك”
تركت هاجر الطبق على الطاولة بقوة تنظر له كمن على وشك البكاء :
” محمود ..”
” نعم ؟!”
ابتسمت له تقول بتوتر وهي تدفع له قطعة حلوى :
” ممكن تدوق دي وتقول رأيك ؟؟”
نظر محمود بعدم فهم للحلوى، هل هذه طريقتها للهرب منه ؟؟ حسنًا طريقة مبتكرة لطيفة، لكنه لن يتركها تنطلي عليه، إذ حمل ملعقة يتذوق قطعة حلوة بتلذذ :
” جميلة اوي، ها بقى اقدر اكلم اخوكِ امتى ؟!”
هزت هاجر رأسها تدعي الانشغال في تجهيز الحلوى فقط لتتلاشى النظر لوجهه، لا تريد أن تنظر لعيونه في تلك اللحظة، ابتلعت ريقها تجيب بنبرة مرتجفة :
” ممكن لما يرجع تكلمه ”
اقترب محمود خطوات يقول برجاء كبير وأمل اكبر :
” يعني أنتِ موافقة ؟؟ أكلمه واتكل على الله ؟!”
نظرت له هاجر بعجز، كيف تخبره أنها لا تستطيع أن تجيب سؤاله، كيف تقول انها الآن حتى وإن كانت لا تمتلك أي شيء قد يمنعها من الموافقة إلا أنها لا تستطيع أن تنطق بها صراحة ؟؟
” أنت بس كلمه يا محمود، وباذن الله ردي هيبلغك بيه ياسين ”
أشفق محمود على ملامحها التي كانت تخبره وبوضوح أنها ليست مؤهلة للتحدث في هكذا أمور، ليس وأنها فتاة ناضجة تدير مخبزًا وحدها وتقابل في اليوم مئات الأشخاص ..
في تلك اللحظة اندفعت رانيا للمطبخ لتنأى بنفسها عن أعين صالح واخوتها، وهاجر المسكينة بدى كما لو أن أحدهم امسك بها في وضع سييء لتبدأ التحدث بسرعة :
” أنا كنت بحط الكيك في الأطباق و محمود دخل يشرب و….”
لكن رانيا لم تكن حتى تسمع ما تقوله هاجر وهي تتحرك صوب أحد المقاعد تجلس عليه وتخرج الورقة التي كتبها لها صالح تقرأها بشغف كبير .
ومحمود يراقب ملامح حبيبته المسكينة :
” متخافيش اللي معاه صالح مش بيكون عنده وقت يفكر في حاجة تانية، ربنا يكون في عونها ”
نظرت له بعدم فهم ليمنحها غمزة متبوعة ببسمة واسعة عاشقة :
” عقبالك كده لما تكوني معايا ”
حملت هاجر الصينية فجأة وهي تردد ببسمة متوترة :
” هروح أخرج الكيكة للكل وأنت ..أنت ممكن، بص اعمل اللي تحبه براحتك ”
هز لها محمود رأسه لتمنحه بسمة صغيرة، ثم غادرت المطبخ سريعًا تطلق زفرة عالية مرتاحة، لكن فجأة فتحت عيونها بصدمة وهي ترى محمود يجاورها مبتسمًا، لتحدق أمامها برعب أن ينتبه لهما أحد :
” أنت بتعمل ايه ؟؟ ماشي جنبي كده ليه ؟!”
اجابها محمود ببساطة :
” أنتِ جوا قولتيلي اعمل اللي بحبه براحتي وانا حابب اكون جنبك كده ”
اتسعت عين هاجر بقوة وما كادت تتحدث بكلمة واحدة حتى سمعت صوت كالرعد يقول بنبرة جامدة :
” هاجر فيه مشاكل ولا ايه ؟؟”
نظرت هاجر بفزع لجبريل تنفي سؤاله :
” لا …أنا بس ..الاستاذ كان بيعرض يساعدني وانا قولتله ان الصينية مش تقيلة ”
هز جبريل رأسه بهدوء يقترب منها يأخذ الحلوى، ثم أشار لها بعينه أن تبتعد عن المكان يحدق في محمود بتحفز جعل الأخير بتشنج رافعًا طرف شفتيه بحنق…
راقب محمود رحيل هاجر وابتعاد جبريل وهو يزفر بضيق، قبل أن يسمع صوت صالح جواره يقول بتعجب :
” كنت فين يا محمود ؟؟ أنت جاي هنا تشوف مصلحتي ولا تسرح بمصلحتك؟!”
أشار محمود على جبريل بكره شديد تولد في صدره له :
” وانا عارف اعمل حاجة بسبب الحصار ده ؟؟ يا اخي الله يكون في عونك دول ناس ثقيلة اوي ”
ربت صالح على كتفه بمؤازرة :
” معلش يا صاحبي بلاء لا بد منه، استحمل أنت بس اعدي حواري بعدين افوق ليك أنت والبسكوتة بتاعتك ”
________________
سقط مسعد ارضًا يشعر بوجع كبير ينخر خصره، تأوه بقوة يضع يده أعلى منطقة الوجع وهو يرفع نظراته صوب سليمان الذي كان يستند على عكازه بعدما استخدمه ليسقط مسعد ارضًا غير مهتمًا بكونه ضيفًا في منزله، ولم يضع اعتبارًا لعمر ومكانة مسعد، والمعرفة بينهما التي امتدت سنوات، هو لم يفكر سوى بأنه شخص أهان نساء منزله وفي وجوده دون اهتمام ..
” لما تتكلم عن مرات ابني تتكلم باحترامك يا اما تمشي باحترامك، بدل والله يا مسعد لهتشوف مني تصرف مش هيعجبك، قوم أخرج من بيتي ومش عايز اشوف وشك قدامي عشان تتعلم تحترم حرمة البيوت ”
نظر له مسعد بقوة وقد أسقط سليمان بهيبته ومكانته الأرض، ابتلع ريقه ينظر لرائد الذي كانت أعينه تطلق نيرانًا تكاد تحيله رمادًا ..
وحينما طال تحديقه بهم ضرب سليمان عكازه بالارضية في عنف صارخًا :
” برة بدل ما انادي اللي يرميك وأقل بكرامتك قدام أهل البلد، أنت عارف أن اللي يجي على حرمة بيت هنا ملوش احترام، وأنا ممكن اقعدك في قعدة أبيعك اللي وراك واللي قدامك على كلمتك دي، بس مش هعمل رأفة بسمعة بنتك وعشان أنت واحد غبي مش عارف تتحكم في غضبك، فزّ(انهض) امشي من بيتي ”
نهض مسعد وصدره يغلي غضبًا على تلك الإهانة التي تعرض له، ورغم أنه يدرك جيدًا مقدار خطأه وأن سليمان قد يتسبب في تجريده من كل ما يملك إن عقد جلسة عرفية وجمع بها كبار البلدة، لكن هو أيضًا اخطأ في حقه وحق ابنته .
صمت ولم يقل كلمة واحدة يتحرك خارج المنزل وهو يشعر بالشياطين تلاحقه، ورائد يضغط على سلاحه بقوة و ود لو يخرج رصاصة تتوسط رأسه ..
كل ذلك تحت انظار تسبيح التي لم تصدق أن سليمان دافع عنها بهذه الضراوة، فجأة انتفضت على صوت سليمان الذي قال بتقرير رافضًا تأجيل شيء :
” جهزوا نفسكم، كتب الكتاب بكرة بعد صلاة العصر ”
وبهذه الكلمات أصدر سليمان فرمانًا لم يلقى اعتراضًا من احدهم، وكيف يحدث ورائد في تلك اللحظة كان يطير في السماء سعادة، حتى أنه ود لو يركض لمنزل مسعد ويضمه ويقبله امتنانًا .
وتسبيح كانت تقف متسعة الاعين والفم وصوت زغاريد نعمة تعلو بقوة حولها وهي فقط تراقب ما يحدث كأنه لا يخصها، ولم تفق سوى على صوت رائد الذي قال بسعادة كبيرة :
” هروح اكلم صالح وصلاح واقولهم عشان يلحقوا يجوا ”
اقتربت منها نعمة تضمها والسعادة تملء جميع خلجاتها، ابنها الوحيد سيتزوج واخيرًا، سيصبح عريسًا ..
” يلا يا عروسة تعالى نطلع نشوف أي محل فاتح نتشري منه فستان حلو عشانك ”
نظرت لها تسبيح دون فهم، هل تتحدث لها هي ؟! هي ستقتني فستانًا جديدًا؟؟ هل تتذكر حتى متى آخر مرة اشترت لنفسها ثياب ؟؟ وقبل أن تدرك ما يحدث وجدت رائد يسحب والدته جانبًا يتحدث لها بجدية :
” اشتري ليها كل اللي تحبه يا امي ماشي؟! هي مش هتتكلم ولا هتقولك أنا عايزة ده، دي ممكن ترفض اساسا تشتري ليها حاجة أنا عارفها كويس، بس أنتِ يا امي اوعي تسمعي منها، هاتي ليها كل اللي تحتاجه لغاية ما بإذن الله نخلص كتب الكتاب وبعدين انا هاخدها اشتري ليها اللي تحبه ”
كانت كلمات رائد خافتة، لكنها سمعت كل ما نطق به لتبتسم دون وعي، تراه ينظر لها بطرف عيونه ثم غمز مشاكسًا حينما رآه تحدق به، وهي أبعدت وجهها خجلة تراقبه يتحرك خارج المنزل بعدما القى عليها السلام ..
ووالدته عادت لها تقول ببسمة :
” استني يابنتي هروح اغير العباية دي وجاية ”
هزت لها تسبيح رأسها بهدوء، ثم راقبتها تتحرك بعيدًا عنها وهي ما تزال تقف مكانها دون حراك، وقبل أن تجلس على الأريكة وجدت رائد يعود مهرولًا لها، مخرجًا بعض النقود من جيب بنطاله يضعهم في يدها دون انتظار كلمة منها :
” دول احتياطي عشان لو تهتي من امي في السوق تعرفي تاخدي توكتوك وترجعي، قوليلهم بس بيت العمدة تمام ؟؟ ولو حصل حاجة رقمي معاكِ، متسبيش الحاجة خالص، ماشي ؟؟ ماشي ”
هكذا سأل رائد السؤال واجابه بالنيابة عنها، ثم رحل مجددًا ليرتب الأمور ويتحدث للمأذون، وكل تلك اللحظات التي يعيشها تمنحه راحة وسعادة كبيرة، ربما لأنه اوشك واخيرًا على الاستقرار ..
وتسبيح ما تزال تنظر ليدها التي دس بها الأموال في عدم فهم، قبل أن تستمع لصوت نعمة تقول بحماس شديد :
” يلا يا بنتي عشان نلحق نخلص الحاجة …”
_________________________
” ايه يا محطم قلوب العذارى يا رقيق ؟؟”
أطلق صلاح ضحكات صاخبة وهو يستمع لكلام ميمو الذي ارتفع بمجرد أو وضع الهاتف أعلى أذنه ونطق بـ ( اهلا) ..
وميمو التي استمعت لكل كلمة قيلت لم تتحكم في شعورها الخانق وهي تستمع ضحكات، ذلك الخبيث يستمتع بغيظها وغضبها وهي تتلوى هنا .
زفرت بضيق :
” ايه متصل بيا عشان تضحك كتير كده ؟؟”
” لا والله متصل بيكِ عشان وحشتيني مش اكتر ”
صمتت ميمو ثواني قبل أن تجيب بنبرة حاولت جعلها ممازحة لتكسر تلك الأجواء التي يبرع صلاح في خلقها :
” مش شايف أنك صريح شويتين ؟؟”
” لا الحقيقة أنا صريح كتير بس أنتِ اللي لسه مجربتيش صراحتي كلها، تحبي نتعرف اكتر وتعرفي اكتر عن صراحتي ”
تحركت ميمو من مكانها تتوسط النافذة مراقبة بأعين متفحصة نيرمينا التي أخذت تتحدث مع مختار بشغف والاخير فقط يستمع لها وهو يحرك رأسه في أشارة منه على انتباهه .
ابتسمت تتمنى لو يومًا امتلكت علاقة نقية كتلك العلاقة، أن تتعامل مع الجميع بلا حذر، أن تتعامل بخفة دون أن تشعر بماضي يثقلها، لكن أكان مختار كما تتحدث أم أن هناك ما يثقله مثلها ؟!
تنهدت بصوت مرتفع لتنتبه الى صلاح الذي قال بجدية :
” ميمو أنتِ بخير ؟؟”
مسحت ميمو وجهها تستند بظهرها على النافذة وقد شعرت بمشاعر كثيرة تتكاثف داخلها :
” أنا مش بخير خالص، أنا حاسة بخنقة جوايا، حاسة إني مش قادرة اتنفس بحرية، أنا …أنا محتاجة اتكلم مع حد وكنت هتصل بيك لقيتك بتكلمني ”
نظر صلاح حوله، ومن ثم تقدم من الغرفة التي يجلس بها الجميع ليشير إلى صالح بالقدوم، وبالفعل اقترب منه صالح ليتحدث صلاح بجدية :
” لحظة يا ميمو خليكِ معايا ”
انتظرت ميمو على الهاتف وهي تنصت باهتمام لصوت صلاح يتحدث بصوت منخفض وصل لها لقرب الهاتف من فمه :
” صالح باقي حاجة تانية محتاجني فيها ؟؟”
” ليه حصل حاجة معاك ؟!”
حرك صلاح رأسه نافيًا، ثم قال بصوت خافت أكثر :
” لا يا حبيبي متقلقش، بس فيه موضوع ضروري هضطر ارجع عشانه القاهرة ”
تفهم صالح الأمر ليهمس بكلمة واحدة :
” ميمو ؟؟”
اومأ له صلاح، ليبتسم صالح يربت على كتفه بحب :
” لا خلاص يا صلاح روح أنت كده زي الفل انهاردة، تسلم يا حبيبي مش عارف من غيرك كنت عملت ايه معاهم ”
ضحك له صلاح، ثم ضمه بحب :
” أي وقت هتلاقيني في ضهرك يا صالح”
ابتعد يخرج مفاتيح من جيب بنطاله، ثم وضعها في يد أخيه يقول بهدوء وجدية كبيرة يستعد للمغادرة :
” دي مفاتيح العربية عشان متتبهدلوش، أنا خفيف هرجع مواصلات ”
تفهم صالح مقصده ليودعه :
” تمام أنا خلاص باقي اتفق على حاجات أخيرة وهنلحقك”
” تمام ”
وبمجرد نطق الكلمة عانقه صلاح سريعًا، ثم قال سعيدًا لأجله :
” مبارك يا حبيبي ”
وفورًا تحرك خارج المنزل وهو يتحدث في الهاتف :
” أنا جاي يا ميمو ساعتين بالكتير باذن الله واكون عندك ”
شعرت ميمو بشعور رائع، أن يهتم بك أحدهم لدرجة أن يترك الجميع لأجل مشاركتك لحظات ضعفك لهو أمرٌ مريح للروح ..
تحركت ميمو خارج الغرفة وهي تقول بجدية :
” هستناك يا صلاح ”
” مش هتأخر عليكِ ”
وقد أخذت كلمته وعدًا واطمأنت له، هبطت الدرج دون أن تأبه بأخذ أموال معها أو أي شيء، قررت أن تجلس في الحديقة في انتظار صلاح، لكن وأثناء خروجها سمعت أصوات تأتي من مكتب سعيد، اصوات مريبة جعلتها تتحرك صوبه بحذر ..
_____________________
بعد مغادرة صلاح بدقائق ..
كان صالح يتحدث وهو يعرف نفسه أكثر لهم ويخبرهم بتفاصيل أدق، وعيونه تتابع ملامح رانيا محاولًا معرفة ما تفكر به .
” أنا عندي بيت ملك في البلد غير شقتي في بيت اهلي، وبفكر اشتري شقة في القاهرة عشان شغلي، الحمدلله الأمور متيسرة ومرتبي كويس، يعني باذن الله مش هخلي رانيا تحتاج حاجة”
خرج صوتًا حانقًا حنجرة جبريل، ليناوله صالح كوبًا من الماء ببسمة ودودة :
” بالشفا يا حبيبي إن شاء الله ”
نظر بعدها لرؤوف الذي كان يبتسم باتساع على ما يرى :
” ها يا عمي، قولت ايه ؟؟”
نظر رؤوف لابنائه، فحتى إن كانوا رافضين الأمر برمته، هم في النهاية إخوتها ولهم حق المشاركة في ذلك، نظر لهم ينتظر أن يشاركه أحدهم ويسعد رانيا، وكان المتحدث هو عبدالجواد الذي تساءل بهدوء مثير للأعصاب :
” واختنا بقى هتعيش في القاهرة معاك ولا في البلد ؟؟”
أجابه صالح بكل هدوء ومنطقية :
” مراتي هتكون في المكان اللي انا فيه، وانا شغلي كله في القاهرة، فأكيد هتكون معايا، ولو هي حبت البلد معنديش مشكلة استقر معاها لهناك، كده كده المسافة ساعة من القاهرة أو اقل بكتير ”
اطال محمد التحديق به قبل أن يقول بنبرة لا تقبل النقاش، وهو يتمنى أن يناقشه صالح في الحقيقة لتكون له حجة للرفض :
” اختي هتسكن هنا في اسكندرية عشان نكون جنبها في أي وقت ”
وعلى عكس المتوقع من صالح هز كتفيه يجيب ببسمة لطيفة رقيقة تتنافى مع شخصيته، حتى أن والده نظر لشعره سريعًا ظنًا أنه أُستبدل بصلاح ..
وصالح تحدث بكل بساطة :
” تمام، موافق ”
شهق محمود باستنكار شديد وهو يهمس لصالح :
” أنت بتقول ايه ؟! هتنقل اسكندرية بجد ؟!”
أطلق صالح صوتًا ساخرًا من حنجرته يرد بصوت خافت :
” يا عم هو الكلام بفلوس، النوع ده متعاندوش، ده تاخده على قد عقله، خليهم يتشرطوا وانا عليا حاضر ونعم، وبعدين هتكلم مع ابوهم بهدوء ”
كانت رانيا مصدومة من رد صالح تحاول البحث في وجهه عن أي بادرة للمزاح، وفورًا تحدثت دون حسبان :
” أيوة بس شغلك والمستشفى ؟؟”
نظر لها صالح ببسمة واخوتها بشر، لكنها لم تهتم سوى لحديث صالح، هل سيضحي بعمله لاجلها ؟؟
وصالح في الحقيقة كان على أتم الاستعداد لتنفيذ ذلك الشرط إن انتهت سبل التفاوض ولم يستطع أن يقنعهم برأيه، لكن نظرات رانيا له جعلته يود الضحك، تلك المسكينة تظنه صاحب عملٍ تجاري لا يستطيع نقله من مكانٍ لآخر…
” هقدم على طلب نقل يا رانيا، الموضوع مش مستحيل كده، ولا أنتم معندكمش مشرحة في اسكندرية اشتغل فيها ؟!”
ردد الأربعة فجأة بذهول وصدمة كبيرة :
” مشرحة ؟؟”
تعجب صالح صدمتهم ليقول ببسمة غبية :
” واضح أن فيه حاجات كتير ناقصة في الحوار ده، أنا طبيب شرعي وتحديدًا الطب الشرعي الباثولوجي، اللي هو تشريح الجثث وما إلى ذلك ”
نظر له الجميع بصدمة وعدم استيعاب أن يكون شخص كصالح صاحب منصب ووظيفة بمثل تلك الأهمية، وصالح انتبه لجميع نظراتهم ليرفع يديه في الهواء قائلًا ببسمة واسعة :
” تمام عشان نشيل الغموض ده، نبدأ من اول خالص بقى، بسم الله الرحمن الرحيم …”
وهكذا شرع صالح يتحدث باستفاضة عجيبة عن نفسه وعن صلاح وعائلته، ووالده يراقبه بتحذير أن يتوقف عن ذلك الهراء الذي يفعله، والجميع يرمقه باستهجان لما يقص عليهم، لكن صالح لم يهتم لشيء وهو يزيد من كلماته وقد اندمج وبشده في الأمر ..
” وفي يوم وانا قاعد في الأرض كده مرة واحدة حسيت إني عايز ابقى حاجة في المستقبل، بيني وبينكم فكرت ادخل هندسة في الاول، لكن بعدين اول ما شوفتكم قولت الحمدلله اني غيرت رأيي، أصل أربعة ومكدرين حياتي، بالكم بقى لو كل تعاملي مع مهندسين وخاصة لو زيكم كده، جحيم حقيقي جحيم ”
يتحدث ويتحدث ولا يهتم أنه في منزلهم وهم أهل الفتاة التي يحب ويرغب، يتحدث دون حسبان وهم فقط يستمعون له بأعين متسعة من الصدمة التي تولدت حين سماعهم لحديثه ..
ورانيا تشير له أن يتوقف عما يفعل، لكن صالح كان قد اقسم على كل إهانة تلقاها منهم، دفع بطبق الحلوى صوب رؤوف يقول بجدية :
” لا فوق كده يا عمي احنا لسه يا دوبك في اعدادي، لسه مقولتش أنا عملت ايه في ثانوي وجامعة ”
وعلى الأريكة جوار صالح كان محمود على مشارف السقوط في نومة عميقة وهو ينظر للجميع من بين جفونه، ورؤوف يراقب الأمر بتعجب، ليس لما يفعل صالح، بل لصبر ابنائه كل ذلك الوقت يستمعون له ولمغامراته، أم أنهم يتعمدون ذلك لجمع أكبر قدر من المعلومات عن نفسه ؟!
واخيرًا وصل صالح لجزءه المفضل :
” وبعدين قابلت محمود في تقديمات الجامعة ”
وبمجرد أن سمع محمود انتفض سريعًا ينظر حوله بأعين ناعسة :
” ايه ؟؟ هنمشي ؟؟”
ابتسم صالح يربت عليه بفخر :
” لا وصلنا للجزء بتاعك في الحكاية يا صاحبي ”
” يعني خلاص وصلت للمستشفى وهتخلص ؟!”
والرفض المستنكر الذي رمق به صالح محمود، أخبر الاخير أن الأمر ليس بهذه السهولة أبدًا :
” مستشفى ايه يا محمود أنا لسه في جزء تقديمات الجامعة لما قابلتك عند الشؤون وكنت ناسي اجيب وصل نور فاخدت وصل النور بتاع بيتكم”
هز محمود رأسه متفهمًا يغمض عيونه مجددًا :
” طب لما توصل لليوم اللي روحت تتقدم فيه لرانيا صحيني ”
ربت عليه صالح بحنان، ثم استدار للجميع يكمل قصته كلها، لكن وقبل أن ينطق بكلمة قاطعه والده الذي ملّ تصرفاته الغريبة تلك :
” خلاص يا صالح، خلاص عرفنا أن حياتك مكانتش سهلة ومريت بصعاب كتير، وأنك متربتش، خلاص الناس هيرفضوا يبصوا في وشك ”
ابتسم صالح يحدق في الأربعة الذين كانوا يراقبونه باهتمام شديد وبسمة متسلية يخفون خلفها ضجر وضيق به وبتلك الجلسة ..
” تمام كفاية كدة، المرة الجاية فكروني احكيلكم اول ميد تيرم ”
وبعد كلمات مترامية من الطرفين تم بها الاتفاق على كل شيء أعلن رؤوف ببسمة واسعة وقد نال صالح أعجابه على الرغم من كل شيء به، إلا أنه لمس فيه أصل طيب و ورجولة أضحت نادرة في زمن الاشباه، والأهم حب لابنته، واخيرًا وبعد شجارات طويلة ومناقشات، قال رؤوف :
” تمام الخطوبة باذن الله آخر الاسبوع الجاي ”
نظر صالح صوب رانيا التي كعادتها كانت تنظر ارضًا وقال ببسمة واسعة :
” على خير باذن الله يا عمي ”
رفعت رانيا رأسها لتجده ما يزال ينظر لها بهدوء ..
في ذلك الوقت بدأ مرتضى يوقظ محمود الذي فتح عيونه يقول بتساؤل :
” ايه هنروح ؟؟ ”
” أيوة يا بني قوم خلاص هنروح ”
نهض صالح وبدأ يودع الجميع باحترام، ثم اقترب من محمد وقبل أن يتقدم خطوة مد محمد كفه يمنعه من العناق، لكن صالح لم يهتم وهو يمسك بكف محمد يصافحه ببسمة واسعة :
” اشوفك على خير الجمعة الجاية يا ابو النسب، عايزك كده تلبس بدلة وتتشيك ”
ختم جملته، ثم مر على الثلاثة الباقيين يعانقهم بالاجبار، بل ويقبلهم ليزيد من غيظهم، ومن ثم اقترب من رانيا يهمس لها بصوت منخفض :
” قرأتي الجواب؟”
نظرت له رانيا بشر ليضحك صالح ضحكة خافتة كي لا يجذب انتباه أحد لهم :
” هستناكِ برة تاخدي هديتك، ماشي ؟!”
أبعدت رانيا وجهها عنه، ليقول صالح بصوت خافت :
” لا افردي وشك كده لاحسن اخواتك يشوفوكِ وياخدوا تكشيرتك حجة عشان يلغوا الجوازة، أنا مثبتها على تكة والله ”
ابتسمت رانيا، كانت بسمتها متشفية لما يحدث معه تشعر بالانتشاء للانتقام منه على كل مرة اغضبها واخافها قديمًا، نظرت لعيونها وقالت بهدوء :
” طب حاول متزعلنيش بقى عشان هما التانيين بيزعلوا وزعلهم وحش ”
تشنج صالح بغيظ :
” هما اللي يزعلوا ؟؟ والله أنتم المفروض بعد اللي بيحصل فيا ده تعاملوني معاملة بسكوت النواعم اللي بيتسقى في شاي ”
سمع صوت محمود يتحدث من الخلف :
” بتقول ايه أنت ؟؟ سامعك بتجيب في سيرة البسكوت ”
حدجه صالح بتهكم شديد وقد فاض به الكيل من هذه العائلة التي أخرجت اسوء ما فيه، ليس وكأنه هو من ظل طوال الجلسة يستفزهم ويثير حنقهم :
” هو مفيش بسكوت غير البسكوت بتاعك ؟! ايه رئيس قسم البسكوت في شركة بيسكو مصر ؟؟ ما ترحمني يا محمود مش هتبقى أنت وهما عليا ”
رفعت رانيا حاجبها بعدم فهم من انفجاره:
” أنت بتقول ايه ؟؟ مين اللي عليك ؟؟ ده أنت من وقت ما قعدت وأنت مبطلتش حرق دم في اخواتي الأربعة، ما شاء الله مفيش واحد فيهم فلت منك ”
” فكرك ده مش مرهق ؟؟ عامة اهو اليوم خلص الحمدلله، يلا تعالي عشان تاخدي الهدية بتاعتك ”
اتسعت عيون رانيا وهي تقول بتوتر :
” هدية ايه ؟! مش هينفع أخرج معاك خالص ولا اعمل حاجة ”
رفع صالح حاجبه حانقًا، ثم تحرك خارج الغرفة يشير لها أن تلحقه محذرًا إياها بكلمات مقتضبة :
” لو مخرجتيش تاخديها، هدخل أنا بيها ”
وبتلك الكلمات أعلن صالح ما سيحدث تاركًا رانيا تتلظى بنيران غيظها منه، لمحت هاجر تقف جانبًا وهي تتحدث مع عبدالله بشكل ودود لتشير لها بالاقتراب .
تحركت هاجر صوب رانيا التي قالت بجدية :
” هاجر ممكن تعطلي الكل لغاية ما ارجع ؟!”
لم تفهم منها هاجر شيئًا :
” اعطل مين و….”
قبلتها رانيا بحب شديد :
” تسلمي يا هاجر، بصي ركزي اكتر حاجة مع محمد وجبريل ماشي؟؟ لو حد سأل قولي إني روحت الاوضة اعمل حاجة ضروري، انما لو بابا قوليله الحقيقة عادي ”
أنهت حديثها تركض صوب الخارج وكلها لهفة لترى ما احضر لها صالح واخبرها بضرورة استلامه، وهاجر تراقبها بجهل :
” أقوله حقيقة ايه ؟؟ وانا اعرف اساسا أنتِ رايحة فين؟”
_____________________
كانت تراقب المكتب بتفحص، ودون أن تفكر في شيء دفعت الباب ببطء شديد لترى الظلام يعم المكان بأكمله وهناك جسد ممدد ارضًا يستند بنصفه العلوي على المكتب وهو يرفع رأسه محدقًا للسقف وهناك تأوهات تخرج منه ..
نطقت ميمو بتعجب :
” سعيد ؟؟”
وسعيد كان في عالم آخر يناجيها بوجع كبير، ينطق اسمها الصادر من أعمق نقطة به، دموعه تهبط بقوة، حاول أن يتحدث لها، سار كل الطرق التي تؤدي لها، لكنها كلها كانت مسدودة.
اقتربت ميمو من سعيد ببطء تتحدث بصوت منخفض :
” سعيد، فيه ايه ؟؟”
رفع سعيد عيونه لها يعض شفتيه بقوة شديدة قبل أن ينفجر في الضحك بشكل هستيري جعلها تشعر بوجود خطب، وحينما اقتربت أكثر تسربت لها رائحة سيئة وبقوة جعلتها تنظر له بصدمة صارخة :
” سعيد أنت سكران ؟؟”
نظر لها سعيد يردد من بين ضحكاته :
” لا أنا حران، حاسس اني قاعد في بركان والنار عمالة تزيد من حواليا، هاتي أي طفاية من برة وطفي النار ”
صمت ثم نظر لها بدقة قبل أن يلوح بيده :
” اه صحيح نسيت أنك مرات ابويا ومش طيقاني ”
غضبت ميمو وتغضنت ملامحها بالنزق، تنهض من مكانها، ثم خرجت من المكتب بسرعة تتصل بأحدهم وهي تتحرك صوب مطبخ المنزل، وحينما وجدت استجابة من الطرف الآخر تحدثت دون انتظار إجابة :
” اوعى تخلي ميمو تدخل البيت دلوقتي، اشغلها لغاية ما اشوف الغبي اللي اسمه سعيد ده، ومتخافش مفيش اي خطر عليا ”
أغلقت المكالمة تدس الهاتف في جيب بنطالها، ثم أحضرت شيء من المطبخ وعادت أدراجها صوب المكتب تضئ جميع الانوار به، ودون كلمة واحدة كانت تسكب مياه مثلجة فوق جسد سعيد صارخة بحنق :
” لو عايز تعمل القرف بتاعك ده يبقى برة البيت، مش ناقصين جاد تاني في البيت يا سعيد، فوق بدل ما اختك تيجي تشوفك كده ويحصلها حاجة من قهرتها عليك ”
نظر لها سعيد يحاول التنفس وجسده ينتفض من برودة المياه التي زادت من بروده الأجواء حوله، وعندما استوعب جسده الصدمة أطلق سعيد سبة نابية لها قبل أن ينهض ويدفعها بقوة صوب الأريكة شاتمًا إياها بكل ما يعلم من السبات وميمو تستقبل ما يقول دون كلمة وحينما توقف ليلتقط أنفاسه باغتته ميمو بصفعة مدوية :
” دي عشان تتعلم مترفعش عليا صوتك ولا تطول لسانك في يوم على واحدة ست، ولو فاكر أن اللي بتعمله ده هيرجع ليك زهرة، فأنت غلطان، فوق وبطل غباء زهرة ابعد ليك من نجوم السما، لو عايز فعلا تكسبها ارجع لسعيد اللي هي حبته وبطل القرف ده ”
نظر لها سعيد من خلف خصلاته المبتلة واعينه قد غزاها الاحمرار وبقوة، وميمو تتذكر اصوات بكاء زهرة لها وهي تخبرها ما حدث معها ومع سعيد :
” سعيد أنت واعي أن كل الكره من زهرة ده ليك وهي لسه متعرفش اللي بتعمله ؟؟”
نظر لها سعيد بأعين غائرة وكأنه يتخيل ما تقول ووجهه بلا ملامح، جامد لا يؤتي ردة فعل .
” تخيل بقى لو عرفت ؟؟ ”
ابتسم سعيد بسمة جانبية يقول بسخرية لاذعة وصوته خرج بنبرة شبه مخدرة :
” ومين بقى اللي هيقولها ؟؟ أنتِ يا ميمو ؟؟”
ورغم أنها ما كانت لتفعل ذلك، ليس لأجله، بل لأجل زهرة تلك المسكينة التي ما تزال تعاني لتتعالج من حب سعيد، إلا أنها قالت ببساطة :
” ليه لا ؟؟ على الأقل اكسب فيها ثواب ”
أطلق سعيد ضحكات عالية وهو يتحرك ببطء يلقي نفسه على الأريكة التي تجاور مكتبه وميمو ما تزال تقف في منتصف المكتب تراقبه بحرص..
” قوليلها، قوليلها كل حاجة، مبقتش فارقة خلاص، زهرة ضاعت، واخر حاجة كانت ربطاني هنا ضاعت ”
راقبته ميمو دون ردة فعل، ثم قالت بصوت مشفق :
” مش فاهمة بجد شيطانك ده باالقوة دي ازاي ؟؟ واحد غيرك كان زمانه عايش يكافح ويحارب عشان ميبقاش نسخة من اللي دمره ودمر امه، شخص غيرك كان عاش يجري ويتعب ويطلع عينه عشان لما يكون عنده اولاد ميعيشوش اللي هو عاشه، شخص غيرك كان تخطى كل ده وعاش حياته ”
سقطت دموع سعيد أمامها بوجع، قبل أن يبتسم لها بسمة غريبة متسائلًا :
” وأنتِ ؟؟ عشتي حياتك يا ترى؟؟ مش شايفك يعني ماشية تغني عايشة سني وبغني وبحب الحياة ؟؟ ”
ضحك بقوة مكملًا :
” أنا شايفك ماشية تغني أنا موصلتش لحاجة من اللي حلمت بيه، وشكلي أنا كمان همسك طبلة وهمشي اغني وراكِ”
تغضنت ملامح ميمو بقوة وارتسمت أكثر تعابير مؤلمة قد تراها يومًا على وجه انسان :
” وأنت بتقارن نفسك بيا ؟؟ بأي حق تقارن اللي حصلك باللي حصلي ؟؟”
نظر لها سعيد بأعين خاوية دون إجابة، لتكسر ميمو اول شيء رأته في وجهها وقد كانت مزهرية صغيرة تتوسط طاولة في ركن مجاور لها تصرخ بجنون ودموعها تهبط وقد عادت لها الحالة السيئة والاختناق ازداد وبقوة داخل صدرها :
” بتقارن نفسك بيا على اساس ايه ؟؟ أنت اساسا عشت ايه من اللي انا عشته ؟؟ ابوك كان بيضرب امك وبيعاملك وحش ؟! ابويا كان كل يوم يصبح امي بعلقة ويمسيها بعلقة ويشغلها خدامة في البيوت والحضانات عشان بس ياخد فلوسها يشم بيها القرف اللي بيشمه، كل يوم كنا بنام على صوت عياطها وبنصحى على صوت صويتها ”
صمتت تتنفس، ثم صرخت من بين دموعها وقد انفجرت كل أحزانها فجأة وكأنها تنتظر أن تخرجها، مشيرة لنفسها :
” شوفت عيلتك كلها بتولع قدامك زيي ؟؟ شوفت امك وهي بتصرخ وتستنجد حد يلحقها ؟؟ سمعت صوت صريخ اهلك وهما بيموتوا ؟؟ اختك معاك، لكن أنا اخواتي فين ؟؟ ”
صمتت ثم صرخت بجنون :
” ماتوا …ماتوا مع اهلي كلهم، كلهم ماتوا وسابوني لعمي اللي باعني لابوك عشان كل يوم يكمل عليا ويقتلني اكتر، ابوك يا حرام كان بيعاملك وحش وضربك ؟؟ أنا ابوك كان عاملني زي الدواسة رايح جاي يدوس عليا وبالقوي، كل يوم ضرب وإهانة ومعاملة خلتني اتمنى لو سابوني اموت في الحريق مع اهلي ”
كان سعيد يراقبها دون أن يبدي أي ردة فعل وميمو قد جن جنونها وهي تحط كل ما حولها :
” قولي ايه معاناتك في الحياة ؟؟ قولي عشت ايه من اللي انا عشته ؟؟ ورغم كده شوفتني بقيت زبالة زيك وبأذي غيري ؟! ”
صمتت وهي تشعر أن ساقيها لم يعودا قادرين على حملها لتسقط ارضًا تصرخ وتبكي بقوة، وسعيد ما يزال يراقبها بأعين ضبابية لا يرى أمامه سوى صور متلاحقة لما عاناه في طفولته :
” فكرك ابويا كان بيضرب امي ليه ؟؟ عشان عملتله البيض اومليت وهو بيحبه عيون ؟؟”
كان يتحدث بنبرة ساخرة جعلتها ترفع عيونها له وتحدق به وصدرها يعلو ويهبط لا ترى أمامها سوى دموع فقط، مصدومة مما قالته ومن إخراج آلامها وأمام سعيد تحديدًا ..
ابتسم سعيد يقول ببساطة كلمات إصابتها في مقتل :
” ابويا كان بيضرب امي لأنها مكانتش بترضى تخلي صحابه يغتصبوها وهي ساكتة، كانت بتدافع عن شرفها وتترجاه يطلقها أو يرميها ويسيبنا ليها، لكن هو مكانش عاجبه أنها ترد عليه قدام حد فكان ينزل فيها ضرب واول ما تتعب ويغمى عليها يرميها لصحابه عشان يمشي مصالحه وكل ده قدام ابنه اللي مكانش كمل حتى ١٢ سنين وبنته اللي عمرها سنة واحدة ”
صمت ثم قال بصوت خافت متسائلًا :
” ميمو أنتِ تعرفي امي ماتت ازاي ؟؟”
نظرت له ميمو دون أن تملك القدرة على الرد، ليقول سعيد ببسمة شقت وجهه بشكل غريب من بين دموعه :
” مامتتش بالسرطان زي ما الكل مفكر، امي ماتت بالإيدز بسبب واحد زبالة من اللي نهشوا فيها، فأنتِ تحمدي ربنا أن جاد اكتفى بضربك وموصلش بيكِ لمرحلة امي ”
صمت ثم نظر للسقف بهدوء شديد وميمو تجلس أمامه متسعة الاعين وجسدها ارتجف بقوة وهي تتخيل ما حدث مع زينب، تلك السيدة الطيبة التي كانت كل يوم تتأكد من تناولها للطعام ونومها بشكل جيد بعيدًا عن يد جاد .
شعرت بموجة اشمئزاز تضربها وبقوة وهي تتخيل أن يد ذلك القذر والتي كانت تقذف بزوجته لرجال آخرين ينهشون بها كما الكلاب، تتلمسها …
ودون أن تشعر ركضت صوب المرحاض تتقيأ وبقوة وهي تشعر بوجع كبير في معدتها وقلبها يرتجف لما تسمعه، بينما سعيد يراقبها بلا اهتمام، ثم تنفس بصوت مرتفع يقول ببسمة هادئة :
” الظاهر أن زهرة عندها حق وانا محتاج اتعالج، تحبي تيجي معايا تتعالجي ؟؟ وناخد بالمرة نيرمينا ونخلي الدكتور يعملنا خصم ؟؟ ”
ابتسم وهو يهز رأسه بهدوء، ثم فجأة أطلق ضحكة مدوية :
” جاد ده كان لعيب والله، عمل هاتريك ودمر تلاتة في وقت واحد ”
نهضت ميمو من أرضية المرحاض تتحرك ببطء شديد صوب الخارج، لا تريد أن ترى أحد في تلك اللحظة، لِمَ كلما حاولت الهرب تجد الحزن يطاردها بضراوة وكأنه يرفض فكرة ابتعادها ؟؟
________________________
خرجت رانيا من المنزل لتجد صالح يقف أمام السيارة مستندًا عليها باسترخاء وكسل شديد، وبمجرد أن رأى طيفها ابتسم معتدلًا في وقفته وهو يخرج حقيبة صغيرة من النافذة التي تجاوره ..
اقتربت منه رانيا بخجل شديد تحاول منع ابتسامة بلهاء من الارتسام على فمها، وقفت أمامه تقول بصوت خافت :
” كنت بتقول عايزني عشان هدية كده؟! ”
ابتسم صالح يمد يده بالحقيبة لها وهي تلقفتها بلهفة شديدة، تحاول أن تخترقها بعينيها، لكنها ادعت التعقل أمامه :
” تعبت نفسك يا صالح، مكانش له لزوم كفاية الورد والشوكولاتة اللي جبتهم ”
ابتسم لها صالح بحنان :
” لا الورد الشكولاتة ده كانوا فكرة صلاح اساسا، أنما الهدية اللي معاكِ دي أنا اللي اخترتها بنفسي، يارب تعجبك”
زاد فضولها اضعافًا حينما سمعت كلماته تلك، وارادت وبشدة أن ترى ما تخفيه تلك الحقيبة، لربما تكون نافذة لها لتتعرف على جزء آخر من صالح، جزء شاعري حالم كذلك الذي غازلها بكلمات معدودة في الداخل ..
ومن بين أفكارها انبثق صوت صالح يقول بسعادة تنافس خاصتها ليعلم ردة فعلها على هديته :
” افتحيها ”
نظرت رانيا بتردد للحقيبة وقد نال منها الفضول بالكامل، لتسارع في فتحها، لكن فجأة توقفت تنظر له بشك :
” دي حاجة بتتاكل؟؟”
رمقها بتعجب لسؤالها، وهي وضحت بسخرية :
” تكون جايبلي طاجن عكاوي أو بامية باللحمة؟؟ ”
أطلق صالح ضحكات عالية جعلتها تبتسم تلقائيًا وهو يقول بغمزة :
” لا مش بتتاكل دي بتتشال ”
وتلك الكلمة لم تساهم سوى في زيادة فضولها أكثر وهي تفض الحقيبة بأيدي متلهفة وعيونها تلتمع بسعادة كبيرة، يراقبها صالح بنظرات سعيدة لسعادتها تلك، وفي هذه اللحظة أدرك صالح أنه على استعداد لمحاربة الكون بأكمله ليظل محافظًا بتلك البسمة وينال مكافئته الكبرى التي تمثلت في رانيا، لذلك اخوتها لن يكونوا أبدًا عقبة امامه للحصول عليها …
أخرجت رانيا علبة سوداء غريبة، رفعت عيونها لصالح، ليشجعها الاخير بإكمال فتح الهدية، وكذلك فعلت حيث أمسكت العلبة تقبلها بين يديها، تفتح الجزء العلوي لها تخرج منها جزء كرتوني آخر به شيئان، أحدهما جهاز كهربي والآخر زجاجة تشبه العطر ..
رفعت رانيا عيونها صوب صالح بعدم فهم :
” أيه ده ؟؟ أنت جايبلي مكنة حلاقة وبرفيوم ؟؟ أنت بتهزر معايا ؟!”
اتسعت عيون صالح منها، لينفجر بالضحك وقد شعر أن سيسقط ارضًا من شدة الضحك ورانيا تراقبه بملامح متجهمة، قبل أن يتكرم عليها ويتوقف عن الضحك قائلًا :
” مكنة حلاقة وبرفان ايه؟ دول صاعق كهربا وبخاخ فلفل لأجل حماية الذات وكده ”
زادت حيرة رانيا أكثر لينتزع منها صالح الجهاز وهو يشغله ويلوح به في الهواء :
” أنا لقيت أن دفاعك عن النفس مش قد كده، وقت ما عصبتيني وزعقت في وشك انكمشتي على نفسك زي السلحفة من غير حتى ما تخرجي أي أداة دفاع عن النفس، وعشان الموضوع ميتكررش مع واحد زيي تاني، جبتلك دول، بصي أي حد يفكر يقرب منك عايزك تنشفي دمه بالجهاز ده ”
وحينما نطق جملته الأخيرة قام بتشغيل الجهاز يحركه صوبها لتصرخ رانيا متراجعة للخلف، وصالح لم يتوقف بل أخذ البخاخ وقال :
” خفتي من الجهاز، ممكن تستخدمي البخاخ ده مؤقتًا لغاية ما أعلمك أنا تستخدميه ”
كانت رانيا تراقبه متسعة الاعين، وهو يقوم بإعادة كل شيء للعلبة الخاصة به يردد بهدوء :
” لولا شكلك كبنت وإن دي حاجة وحشة اساسا، كنت جبتلك مطوة زي بتاعتي، بس دي مش حاجة لطيفة خالص عشانك”
أنهى حديثه يضع العلبة بين يديها، ثم ابتسم لها بلطف :
” استخدميهم كويس، واي حد يقرب منك خلصي عليه وابعتيلي جثته أنا اكمل عليها ”
ودون شعور اتسعت بسمة رانيا شيئًا فشيء وقد شعرت بالحماس والادرينالين يندفعان لجسدها وبقوة :
” يعني دول بتوعي ؟؟ اقدر استخدمهم ؟؟”
غمز لها صالح ممازحًا :
” مؤقتًا بس لغاية ما نتجوز ووقتها مش هتحتاجيهم بإذن الله، هناخد المطوة بتاعتي شيفتات ”
ضحكت رانيا بقوة تضم العلبة لصدرها بسعادة كبيرة، لطالما تمنيت أن تقتني هكذا اشياء، لكن اخوتها كانوا يمانعون خوفًا أن تتأذى، وايضًا بحجة أنها لا تحتاج مثل تلك الأمور في وجودهم .
رفعت رانيا أعين تلتمع بالسعادة لصالح شاكرة إياه بامتنان :
” شكرًا اوي يا صالح، بجد فرحتني ”
وتلك الكلمة كانت كافية على صالح ليشعر بعالمه يتحول للـ لون الاحمر الزاهي ويزدهر بورود حمراء وفراشات فجأة.
وهو يحدق في ملامحها يراها تخفي الهدية في الحقيبة مخافة أن ينتبه لها أحد اخوتها ..
رفعت عيونها له تقول :
” شكرًا هاخد بالي منها اوي ”
” خدي بالك من نفسك أهم يا رانيا ”
كانت كلمات صالح خافته حنونة وهو يشملها بنظراته كلها، ومن ثم ابتسم يقول بهدوء مقتربًا منها يميل بنصف جسده قليلًا :
” خدي بالك من نفسك بس لغاية ما تكوني معايا ووقتها سيبيلي نفسك أنا أخد بالي منها، اتفقنا ؟؟”
كانت رانيا تحدق فيه بصدمة وهي تشعر بالمكان يدور حولها، وبالتفكير في حالتها المذرية الآن علمت أنها تفضل صالح الوقح اكثر، على الأقل ذلك الآخر لا يجعلها بمثل تلك البلاهة ..
هزت رأسها ببطء ليمنحها صالح بسمة واسعة أظهرت أسنانه يشير برأسه لها أن تفيق :
” خلاص ارجعي البيت ..”
نظرت له بشرود ليكرر كلامه بصوت اوضح :
” ارجعي البيت يا رانيا عشان محدش يلاحظ”
سارعت رانيا بتحريك رأسها لأعلى وأسفل ومن ثم نظرت له نظرة أخيرة وركضت سريعًا صوب المنزل وهو يرمقها ببسمة واسعة، قبل أن يتنهد بصوت مسموع ينتظر خروج والده ومحمود للرحيل …..
________________________
بعد ساعات …
توقفت السيارة أعلى التلة نفسها التي قضى عليها الاثنان ليلة فيما مضى، ليلة انتهت بضحكات صاحبة وبسمات عديدة، لكن اليوم كانت الوجوه غائمة بالحزن والضحكات مستترة خلف تلك الغيوم، تنتظر الأمطار لتنجلي الغيوم وتظهر واضحة.
استندت ميمو أعلى سيارتها الخاصة، وهي تنظر للسماء دون كلمة واحدة، وصلاح جوارها يعطيها كامل الوقت الذي تحتاجه، واستمر الصمت حتى امتد لنصف ساعة .
تنفس صلاح بقوة، ثم قال يجذب انتباهها :
” تحبي اقول للمطعم يشغل اغنية حزينة ؟؟ ”
نظرت له ميمو بتعجب ليبتسم لها في هدوء شديد :
” يعني عشان الأجواء دي ”
نظرت له ميمو مطولًا قبل أن تتحدث بكلمات لا تدري سببها، ولا تعلم ما تريد من خلفها، لكنها فقط شعرت أنها تريد قول ذلك وبشدة، وله بالتحديد :
” تعرف اني وانا صغيرة كنت بحب اقرأ اوي ؟؟”
ورغم غرابة طرحها للأمر في هذه اللحظة بالتحديد وبهذه الملامح المليئة بالشجن، إلا أنه أظهر لها اهتمام كبير وهو يولي لها كامل انتباهه يشاركها ما تحب، حتى وإن لم يكن شغوفًا به، فما بالكم وهي تتحدث في مجاله الأحب ؟؟
” بجد ؟! أنا كمان كنت بحب اقرأ وانا صغير، كنت بقرأ اي حاجة قدامي كتب روايات جرنال مجلة، أي حاجة بشوفها ”
ابتسم ميمو بسمة صغيرة من بين ملامحها الحزينة :
” لا أنا كنت بحب اقرأ روايات بس …رومانسي كمان ”
نظرت له بأعين دامعة دون أن تشعر تردد عليه احلامها التي عاشت تحلم بها طوال فترة طفولتها، لتتحطم على صخرة الواقع في مراهقتها، وتبكيها حسرةً في شبابها ..
” كنت بحب اوي اعيش الرواية واتخيل نفسي مكان البطلة، قرأت روايات مترجمة وعربية وكل اللي يخطر على بالك، وانا طول الوقت بقول لنفسي إني في يوم من الأيام هعيش اللحظات دي مع الشخص اللي هختاره…”
ابتلعت ريقها ثم أكملت بصوت أبح :
” هنخرج سوا ويعزمني على قهوة، هنسافر سوا بلد فيها تلج ونتنطط تحته، هنسهر طول الليل نتكلم، ويجبلي الهدايا اللي نفسي فيها، هيشتري ليا فساتين ويقولي أنها بقت احلى عليا، هيفضل سهران يكلمني طول الليل في التليفون ”
سقطت دموعها ولا تدري أحزنًا على احلامٍ واهية، أم قهرًا على حياة ضائعة :
” حتى اني تخيلت لما يجي يطلبني من بابا ويجبلي الورد اللي بحبه، ويقف تحت الشباك قبل ما يدخل البيت ويشاورلي أنه جه عشاني ويكون معاه بلالين كتير فيها خاتم الخطوبة، وبعدين لما يقعد معايا يفضل يهزر معايا ويحاول يخفف احراجي، وبعدين يقولي قد ايه بيحبني، وفي يوم الاقيه ركع على ركبته ويطلبني تاني بشكل احلى”
تشنجت ببكاء خفيف، وكأنها لم تعد قادرة على إبداء حزن أكثر من ذلك :
” بس محصلش أي حاجة من ده، محصلش اني اعيش اللحظات دي يا صلاح، اتحرمت إني اعيشها واتسحبت من بيت عمي على بيت جاد زي الحيوان اللي بيشدوه للمذبح”
رفعت عيونها الدامعة لصلاح الذي كان يراقبها بهدوء دون أن يفكر في مقاطعة حديثها، يستمع لكل ما تقوله بقلبٍ نازفٍ، يرى دموعها تهبط على قلبه تكويه لوعة وحسرة ..
ابتسمت ميمو من بين دموعها وقالت وهي ترتجف :
” حتى لما لقيت بطل الرواية اللي بحلم بيه، مبقاش ينفع يكون لينا قصة باسمنا، لأن خلاص انا مبقتش الطفلة اللي مستنية فارس أحلامها ”
سقطت دمعة منها تقول بوجع كبير قتل صلاح مئات المرات وتركه شاحبًا مذهولًا :
” يا ريتك كنت جيت في وقت تاني يا صلاح، يا ريتك كنت سبقت جاد، كنت جيت قبله واخدتني من كل ده، كنت هقولك قد ايه انا بحبك ومستعدة استناك العمر كله ”
تأوه صلاح بقوة ولا يدري أيلوم الزمان، أم يبكي الظروف التي جعلته لا يراها سوى الآن ؟!
وارتفع صوت ميمو مجددًا تقول :
” مازن كان هيحبك اوي لأنك شبهه، وهو دايما كان يقولي مش هسلمك غير لواحد زيي عشان يعرف يحميكِ من دماغك ”
ابتسم لها بحنان، لتكمل هي بشجن وحنين :
” ونادر كان ممكن يغير منك لأنه متعلق بيا، لكن كان بعدين هيبقى صاحبك ويحبك اوي، لأنه كان الطف واطيب واحد فينا، وبيحب أي حد بحبه أنا ”
ابتسم صلاح يتساءل بلا مقدمات وبلا مناسبة :
” اتجوزتي وأنتِ كام سنة ؟!”
نظرت له ميمو بملامح خالية من أي شيء تجيبه بهدوء :
” كنت لسه ١٥ سنة وقتها ”
ابتسم لها صلاح بسمة عاشقة يقول بحنان ولطف شديد وهو يتأمل ملامحها الحبيبة، أعين سوداء تأسره وملامح شرسة ورقيقة في ذات الوقت، تلك الفتاة تمتلك الشيء وعكسه :
” كنت أنا ١٧ سنة، على مشارف الـ ١٨ كده، في الوقت ده كتبت اول قصة في حياتي، كانت وقتها قصة خطتها بأنامل مراهق ساذج بيدور على الحب في كل حتة وهو ميعرفش أن حبه بعيد عنه ومستنيه ”
اكان يوجه لها كل كلمة ويضغط على كلماته ليوصلها إلى عقلها :
“كانت الرواية الوحيدة الرومانسي اللي اكتبها في حياتي، الرواية الوحيدة اللي مشافتش النور ولا اخترت ليها اسم ولا حطيت ليها نهاية، رواية كتبت فيها جزء البطل بس واستنيت ألاقي البطلة عشان اكملها، فها ؟؟”
نظرت له ميمو بعدم فهم من بين دموعها ليبتسم لها صلاح، يجلس على ركبتيه ارضًا راكعًا يحقق لها أول حلم ومطلب، يبتلع ريقه مرددًا :
” تقبلي تكوني الجزء الناقص من قصتي، تشاركيني حكايتي وتكملي روايتي يا ميمو ؟! ”
صمت ثم قال بهدوء وهو يرى اتساع عينيها القوي ونظراتها المصدومة من كلماته التي نطقها، وصلاح لم يهتم لشيء سوى لما يريد، وهو يريدها هو :
” تقبلي تكوني زوجتي وبطلة كل حكاياتي يا ميمو ؟!”
سقطت دموع ميمو بصدمة كبيرة لا تصدق ما تسمع، كيف ؟؟ هل يمكنها حتى أن تفكر في الأمر ؟! تتزوج صلاح وهي المحطمة ؟؟ تتزوج وهي مجرد ركام وبقايا انثى ؟؟
سقطت دموعها بصدمة ليخرجها صلاح من كل تلك الأفكار بصوت هامس حنون، وعيونه ترسل لها رسائل رجاء وتوسلات :
” وافقي يا ميمو، وافقي بدل ما روايتي تفضل مركونة طول العمر، لأن لو أنتِ مكنتيش بطلتها، فهتنتهي من غير بطلة وهيفضل البطل تايه بين الصفح يدور عليكِ ”
بكت ميمو تهز رأسها نفيًا، هو لا يعي ما بها، هو لا يعلم ما عاشته، لا يعلم شيئًا :
” أنت… أنت متعرفش أي حاجة..أنا ..”
” ايًا كان اللي معرفوش، ميهمنيش غير أنتِ، ايًا كان اللي حصل أنا مش عايز غير ميمو بس من كل الحكاية دي، هاخدك واحطك في حكايتي ”
بكت ميمو وقد شعرت لأول مرة بنفس المشاعر الوليدة التي كانت تخبره بها منذ دقائق، أيحق لها العيش بعدما استحالت لرماد، أيكون لها فرصة الانتفاض من أسفل الركام ؟!
” ميمو …اتجوزيني ”
ابتلعت ميمو ريقها تقول بدموع وهي تحدق في عيونه بوجع كبير وشفتيها ترتجفان بقوة كبيرة :
” مَقْدِس….اسمي مَقْدِس ”
رمقها صلاح بدهشة كبيرة واعين تلتمع بمشاعر عديدة، اختل نبضه لثواني ثم عاد اقوى من قبل، نطق اسمها بتمهل وكأنه يتذوقه بتلذذ :
” مَقْدِس ؟؟ ”
هزت رأسها ببسمة تتوسط دموعها :
” ناديني باسمي حابة اسمعه من حد قريب مني وبيحبني”
منحها صلاح بسمة عاشقة وجسده يرتجف بأكمله لأجلها :
” اسمك مش بس يتنطق يا مَقْدِس، اسمك بيتقال فيه اشعار ”
ابتسمت ميمو من بين دموعها تجففها بظهر كفها، ثم ركعت ارضًا أمامه تحاول أن تصل لعيونه بخاصتها، وصمتت قليلًا، قبل أن تقول ببسمة :
” مستعد تسمع الحكاية يا لذوذ ؟؟ ”
مال صلاح برأسه متسائلًا :
” حكاية ؟! ”
هزت رأسها تقول ببسمة لا تجد لها تصنيفًا :
“جزء البطلة بتاعة روايتك، ولو وافقت بعد ما تسمع، يبقى تقدر تنهي حكايتك يا صلاح ”
منحها صلاح بسمة واثقة يهز رأسه :
” اعتبري النهاية اتحطت يا مَقْدِس، لأن مفيش كلمة ممكن تقوليها تغير رأيي ولو بنسبة سنتي واحد”
” شكلك واثق اوي ”
غمز لها يردد ببسمة :
” تؤتؤ انا عاشق اوي ..”
_________________________
تجلس أعلى فراشها تحاول تجاهل كل ما يحدث حولها، لا لن تضعف أو تستسلم أو تنحني لذلك المرض الخبيث المسمى _ ظلمًا _ بالحب .
لكن تلك الأصوات الصاخبة أسفل نافذة شقتها ازدادت وبقوة، لدرجة جعلتها تتحرك وتنظر من النافذة بضيق شديد، لكن لم تبصر شيئًا فتعجبت سماعها لأصوات مألوفه منذ ثواني .
عادت مجددًا للفراش، ترى حال غرفتها المزري، مناديل مستعملة في كل ركن من الغرفة، الملائات ملقاه ارضًا والوسائد مقذوفة بعشوائية ..
تنفست بعنف تحاول أن تلملم شتات نفسها، لكن ارتفاع جرس المنزل حال ما دون ذلك، لتتحرك بقوة صوبه صارخة :
” يابني قولتلك أنا كويسة مش كل خمس دقايق تـ ..”
توقفت فجأة عن الحديث حينما أبصرت وجهه ينظر لها نظرات أصابتها في مقتل، اخفضت وجهها بسرعة كبيرة، ثم دفعت باب المنزل مجددًا وقبل أن ينغلق بالكامل منعه سعيد وهو يردد :
” لحظة …لحظة يا زهرة ارجوكِ اسمعيني ”
توقفت زهرة وهي تحاول مقاومة ارتجاف وقد أخذت عهدًا على نفسها ألا تريه ضعفًا :
” خير يا استاذ سعيد ؟! جاي بيتي في وقت زي ده ليه ؟؟”
ابتلع سعيد ريقه وهو ينظر لها :
” ممكن نتكلم، ارجوكِ أنا بس هقول كلمتين وامشي مش هكتر ”
نظرت له زهرة بدقة شديدة تحاول أن تصل لمكامن نفسه، وملامح الحزن التي تزين وجهه قد اشعرتها بالشفقة لثواني، لكنها لم ولن تتناسى ما حدث أبدًا :
” تتكلم هنا ؟؟ ودلوقتي ؟! وبالشكل ده ؟؟ مش شايف أن الموضوع غلط ؟؟ لو مش خايف على نفسك خاف على سمعتي يا سعيد في العمارة، أنا ساكنة لو حدي وكده ممكن حد يـ ”
قاطعها سعيد بلهفة شديدة وقد كانت ثيابه رثة وبشدة، خصلاته مبعثرة، عيونه حمراء وكأنه تجرع من الخمر كؤوسًا حتى أصبح لا يشعر باطرافه، لكن الحقيقة هي أنه فقط تناول كأسين وما يزال يعي كل ما يفعل :
” هتعالج..هتعالج يا زهرة ”
اتسعت عين زهرة بصدمة كبيرة وهي تحدق في وجهه بقوة، تحاول معرفة إن كان جادًا أو لا، لكن صوتًا داخلها منعها أن تصدقه، لربما مجرد مقلب صغير فقط ليجذبها له مجددًا :
” اتعالج يا سعيد أنا مليش علاقة بيك، تتعالج أو لا ده يعود ليك، بعد اذنك”
وقبل أن تغلق الباب قاطعها سعيد وهو يقول بقوة وغضب شديد من عدم اهتمامها به، وفكرة أنها تناست كل ما بينهما يقتله :
” لا اصبري، زهرة أنا …أنا هتعالج عشانك، أنا هعمل اي حاجة عشانك صدقيني أنا …أنا مش عايز اعيش لوحدي و…أنا خايف يا زهرة اموت لوحدي بعيد عنك، أنا مستحمل الحياة دي عشان مفكر اني هموت في الآخر بين أحضانك”
ارتجف جسد زهرة حزنًا على ملامحه، لكن أن تضعف الآن هو أمر مرفوض تمامًا، وقبل أن تتحدث بكلمة رأت دمعة تهبط من عيون سعيد يزيد على حديثه السابق بقهر :
” أنا مش عايز اعيش كده طول عمري، أنا تعبت، أنا بس كنت ….كنت بصبر نفسي أنك معايا يا زهرة و…هتعالج عشانك، و…ارجعي، ارجوكِ”
سقطت دموع زهرة بقوة تبعد وجهها عنه تحاول أن تزيح صورة سعيد اللطيف من رأسها، تحاول أن تتناسى ذلك الخيال الذي يرسم لها سعيد الشاب يبكي في أحد أركان ذلك السعيد أمامها يترجاها للمساعدة ..
” مينفعش تتعالج عشاني، لو حابب تتعالج فلازم تتعالج عشان نفسك الاول، اتعالج عشان تعيش مرتاح، عشان التقل التي على قلبك ده يخف، اتعالج عشان خاطر سعيد وبس ”
صمت سعيد ثواني قبل أن يهز رأسه موافقًا بيأس :
” موافق، أنا هتعالج عشان نفسي وعشان ترجعي ليا تاني”
تقطع قلبها اربًا وهي تستمع لنبرته :
” أنا عمري ما كنت معاك يا سعيد عشان ارجعلك، أنا كنت على طول مع سعيد التاني اللي أنت بايدك قتلته وبنيت على انقاضه شخصية تانية سيئة، شوف ايه الغلط في حياتك وصلحه يا سعيد، عالج كل مشاكلك، ولو محتاج مساعدة كل اللي اقدر أقدمه اني ارشح ليك دكتور نفسي كويس اوي يقدر يساعدك ”
نظر لها سعيد برجاء :
” ساعديني أنتِ، كوني الدكتورة بتاعتي وساعديني ”
ابتسمت له بسمة صغيرة تقول بهدوء وهي تتوسل له أن يلغي من رأسه فكرة أن تكون هي طبيبته :
” تمام، بس خليك فاهم إني لو بقيت الدكتورة بتاعتك، عمري ما هكون غير دكتورة يا سعيد، لأن تنسى إني ممكن في يوم احب مريض عندي، ولا ادخل مشاعري في شغلي”
فكّر سعيد ثواني قبل أن يقول بجدية وإصرار :
” تمام، خلاص …قوليلي ابدأ ازاي وانا هبدأ …”
____________________
كان ينام بعمق أعلى فراشه في غرفته التي خصصتها له ميمو حينما بدأ العمل معها، غرفة واسعة تتوسط حديقة القصر الخلفية، تقلب مختار في نومته وهو يستشعر بالقلق الشديد، فهو لم ير ميمو منذ عاد …
ابتسم يتذكر أن سبب انشغاله كان تلك المدللة اللطيفة نيرمينا، وعلى ذكراها شرد فيما مر به معها وسقط في نومٍ عميق ..
نوم تخلله العديد والعديد من الاحلام، اصوات من الماضي وصرخات تعلو وبكاء وعويل جعله يسقط في هوة تمنى ألا يعود لها يومًا ..
كان يقف وهو يحمل سكين ملئ بالدماء وأصوات الصرخات جواره تكاد تصمه، نظر للرجل الملقى في دمائه ارضًا بسبب فعلته وهو يستشعر ارتجاف جسده، ما الذي فعله ؟؟ قتله ؟؟ لقد قتل انسان للتو ؟!
شهق مختار يعود للخلف برعب شديد وبدأت دموعه تسيل بقوة وجسده يرتجف بقوة يهز رأسه نافيًا وكأنه ينفي تهمة عن نفسه …
فجأة شعر بيد تمسك كتفيه وتهمس له بلوعة شديدة وبكاء حار :
” اهرب يابني …اهرب بسرعة قبل ما حد يشوفك، اهرب…اهرب بسرعة ”
نظر لها مختار بأعين مفزوعة باكية، وبدون انتظار لكلمة أخرى كان يطلق لساقيه الريح ويركض من المكان بأكمله يتنفس بصوت مرتفع، يشعر بالادرينالين يندفع لجسده بأكمله وصوت شهقاته يخرج بصعوبة، يبكي وهو لا يرى أمامه بسبب بكاءه، الحياة تضيق به والطرقات تؤدي كلها لمكان واحد، الموت …
وحينما وصل عقل مختار لتلك النقطة انتفض جسده بقوة يحاول الصراخ بجنون، وهو يشعر بجسدٍ يكبله، أحذ يتلوى بهيسترية، ودموعه تهبط يحاول دفع ذلك الذي يكبل جسده، لكن فجأة تلاشى كل دفاعه ومقاومته حينما سمع صوتها الهامس الحنون وهو يردد بدموع مكبوتة :
” أهدى، اهدى، كل شيء عدى، كل شيء خلص يا قلبي اهدى ”
نظر لها مختار ثواني قبل أن ينفجر في البكاء وهو يبادلها العناق وبقوة، يبكي وينهار بين أحضانها وهي تشاركه البكاء وقلبها ينتفض حزنًا لأجله، ومختار يزيد من ضمها بقوة شديدة يفتح فمه يحاول الصراخ والشكوى …
الحريق والمنزل المتفحم وصورة عائلته بأكملها تنازع للحياة، كل ذلك يُعرض أمام أعينه، صرخات الاستجداء وصوته الذي بُح من الصراخ وهو يرى مظهر الانفجار مسقطًا إياه ارضًا، كل ذلك هو ما يدور أمام عيونه الآن…
ضمته ميمو أكثر وهي تقبل رأسه بحنان والدموع تسيل من عيونها بلا توقف، تطلب منه أن يهدأ، لكنه لم يتوقف عن البكاء والاترجاف بقوة، قوة ازدادت حتى فزعت أن يصيبه انهيارًا كما حدث قديمًا وتسوء حالته أكثر، لذلك شددت من ضمها بشكل أقوى تناديه هي بحب وحنان :
” نادر …”
_____________________
الحب نوعان :
نوع يريك كيف من الممكن أن يتمثل الجحيم في الدنيا.
ونوع آخر يريك صورة مصغرة عن نعيم الآخر.
ولا يدري أحد بأي نوعٍ قد يوقعه به قدره ……

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى