روايات

رواية ما بين الألف والدال الفصل الثالث 3 بقلم ملك منصور

رواية ما بين الألف والدال الفصل الثالث 3 بقلم ملك منصور

رواية ما بين الألف والدال الجزء الثالث

رواية ما بين الألف والدال البارت الثالث

رواية ما بين الألف والدال الحلقة الثالثة

“الصفعة التي لا تتعلمي منها، تستحقيها مجددًا.”
يلوح مشهده أمام رأسي، عندما نهضت “نادين” لتُجيب على “محمد” الذي يطمئن عليها، لمحتك من بعيد، تجلس في طاولتنا المعتادة و…؟
مهلًا! كيف؟ ومتى؟ ولِمَ؟
تجلس معها!
هل أخبرتني أنك مُنهك لتقابلها؟
وأين؟ في مكاننا المعتاد!
لم أستوعب ما رأيت، تسمرت في مكاني اتأكد، بالتأكيد أنا مخطئة، فلِمَ ستنزل وتقابلها ولن تخبرني!
لِمَ ستخبرني أمس أنك مرهق غير قادر على الحراك وتذهب في اليوم التالي لتقابل صديقتك المقربة دون حتى إخباري!
لم ارد أن أتسرع كما تخبرني دائمًا، انتظرت، شاهدت وتأملتك حتى أحترقت عيناي، ولكن… مهلًا..ما هذا؟ ماذا الذي؟ ما الذي تفعله تلك الـ…
إنها تسكن بين أحضانك حقًا على الملأ! بل وأنت…تُربت عليها!
قاطع ذلك المشهد المثير قدوم ” نادين” لم أعي سوى بقدمي تحملني ذاهبه لحيث لا أدري،
متى؟ وأين؟ أين عُدت معها بهذا القرب؟ أين كنت أنا؟ لِمَ؟
لم تقدر قدمي على حملي، اقتربت بوهن من إحدى الكراسي المثبتة في الشارع وانهارت في البكاء، أنا الذي كنت أقتل دمعتي على أبواب عيني أصبحت دموعي على الملأ، مشهد يُسلي كل مختنقٍ بملله في طريقة لوجهته، لأول مرة تنهار دفاعاتي مُسلمة الراية لعقلي الذي لم يأخذ بأي مبرر أخرق أقدمه له، بل ولأول مرة لا أجد لك مبرر!
لقد انتهوا! انتهت مبرراتي مع فرصي المتناهية التي منحتها لك دون أن تطلبها، لا أعلم كم مضيّ من الوقت على تلك الحالة، ولكن المؤكد أنني تأخرت، فقد حلّ الليل، عدت للبيت بهدوء متوجهه لغرفتي، غفوت!
بملابسي، لم أمنح أمي فرصة للسؤال وغفوت…
كان أسبوع ثقيل على قلبي، ازدادت النغزات بشدة، أغلقت شرفتي لم أخطو ناحيتها طوال الأسبوع، ولم أراسله، لم اتفاجئ بعدم فعله عكس ذلك، فلقد أعتاد،
من الحماقة أن تنتظر نتيجة عكسية عن طريق تكرارك نفس الفعل مجددًا، الأمر أشبه لمن يُشاهد فيلم للمرة المئة منتظرًا تغيرًا في المشهد الذي أحزنه،
لم أجد إجابة لعلامات الاستفهام داخل رأسي إلا أنني أستحق، أنا من كسرت ساعتنا الرملية فارشة رمالها أسفل قدميك لتُشكلها كيفما تشاء، سلمتك زمام الأمور وما أفضلك من قائد!
ثقبت ساعتنا الرملية أثناء محاولتي إضافة رمل جديد لملأها.
تجنبت مكالماتك القليلة طوال الأسبوع، أربع مكالمات كل يومين تغرقني بمكالمة!
اكتفيت بالرسائل متجنبه أن أسمع صوتك، أرسلت لك في نهاية الأسبوع رسالة أخبرك أنني سأنتظرك في مكاننا المعتاد على طاولتنا الخاصة،ذهبت قبلك بنصف ساعة، أستمد القوة مني، أُعد نفسي لما سأقبل عليه، لستُ متردده ولكني متألمة، بل وبشدة، أشعر بنزيف قلبي يلمس داخلي، من أشده القرارت وهنًا على قلبي، هل كان أسبوع كافيًا لأجله؟
لا، ولكن تراكم القطرات تملأ الدلو، وداخلي تراكم حتى فاض، إذا انتظرت أكثر ربما بل من المؤكد سأعود عن قراري، فقلبي لا يقدر ولا أقدر على هرسة كل تلك المدة، كانت تلك أقصاني…
_ وحشتيني.
أولى كلماته التي قص بها شريط الصمت فور وصوله، هزتني كلمته لا أنكر، أعلم أن القرار صعب وأن هذا المغفل سيركض وراء أول بسمة، لمعت الدموع في عيني ضد إرادتي.
_ فينك كده بقالك أسبوع مختفية على عكس عادتك، محكتليش كلتي إيه إمبارح، إيه اللي حصل.
نظرت اه بهدوء أعلم أنه قد أثار الريبة داخله، أمسكت كوب القهوة أمامي،لاح شبح ابتسامه على وجهي وأنا أتذكر مقوله قرأتها أحد الأيام فور لمس برودة الكوب يدي.
” الردود، الإهتمام والقهوة لا تقدم باردة.”
نظرت له نظرة مهتزه والدموع تلمع في عيني، قرأت التساؤل في عينيه الذي سرعان ما تحول لدهشة مع تحريكي لشفتي.
أبتلعت الغصة في حلقي وأردفت بتقطع:
– أنا…أنا مبقتش قادرة… تعبت…تعبت يا أدهم.. “صمت هنيهه”
أنت أكيد…أكيد هتلاقي الأحسن مني… “تحشرج صوتي مُكملة”
اللي تفهمك، وتعوضك، اللي مش هتقرفك برسايلها وتفاهتها وقلقها الأوڤر، والأهم مش هتبقى متسرعه أكيد “ضحكت بسخرية لاذعة”
أو لقيت…
وضعت يدي أعلى إصبعي ونزعت الخاتم ببطىء شديد أسفل نظرات الذهول في عينيه.
– أنا طلبت اقابلك عشان…عشان أديك دي…ربنا يعوضك خير.
انهارت بسمته التي لم تغادر ثغره فور جلوسه، وتبدلت لدهشة، لا يعي شيء، أمسكت هاتفي أتابع وصول سائق الأوبر، فقد طلبته فور وصوله حتى لا أعطيه فرصة للحديث، فلن أقدر، سأضعف إن لم أفعل!
نظر لي بدهشة غلفتها الهلع:
– إنتِ..إنتِ بتقولي إيه؟
ده مقلب صح؟ بطلي هزارك البايخ ده، أنا كنت هصدق خلاص.
فرت دمعة من عيني مسحتها بسرعة ونهضت بهدوء دون إضافة كلمة، أعطيته ظهري تاركه الحرية لدموعي وترجلت بخطوات واسعة كي لا يلحقني، نهض خلفي مسرعًا موقفني بصياحه.
– داليا إنتِ بتعملي إيه، إيه هزارك ده، إنتِ رايحه فين؟
انهارت دموعي حتى وصلت لسائق الأوبر، لم أعطه وجهي بل أسرعت حتى ركبت السيارة، وقف خلف الباب وطرق على النافذة صائحًا:
– داليا انزلي، إنتِ رايحه فين بقولك، أنا بتكلم هنا يا داليا، بطلي هزارك ده.
” في حاجه يا فندم؟ الشخص ده بيزعجك؟”
_ لأ مفيش اطلع بسرعة لو سمحت.
اجبته وأنا أبكي، لم أتوقف عن البكاء طوال الطريق تحت نظرات الشفقة التي أكرها من السائق ولكن ماذا أفعل، لم أعد أقدر على حبسها، فقد أصبح حبسها يُلهب عيني، لا أعرف كيف فعلتها! كيف قدرت! من لم تكن تقدر على بعدك واتألم في سبيل ألا تغضب، هجرتك!
هجرت الألم الذي تسببه لروحي خالقة ألم جديد لا أعرف هل سأتخطاه؟
لا بل كيف سأتخطاه، بل هل حقًا سأقدر على تخطيك؟
لا أظن، ولا أريد أن أمحيك، لا أريد أن تصبح مجرد ذكرى، فأنت لم ولن تكن ذكرى، أنت حبيب روحي، “أدهم” الذي أنعش روحي في أوقات جاعلًا قلبي يرفرف فرحًا، ذاته “أدهم” الذي أحرق روحي، هارسًا قلبي أسفل قدميه، لم أتخيلنا يومًا سوى معًا، سويًا، في جملة واحدة، لم أحسب قط ما قد يحول بيننا، ما قد ينحشر مسببًا مسافة تنمو كل ليلة لتصبح أمتار، لا تستهين بحبة الرمل، فتراكمها يُنشأ لك الصحراء وغضبها يُنشأ لك بئر،
كنت أعلم أنه سيلحقني للبيت، فذهبت لمكانٍ هادئ، كنت أحدثه عنه كثيرًا وكم أرغب في أن نذهب سويًا ولكن لم تسنح لنا الفرصة، ها أنا ذا أذهب حاضنه خيبتي لأتأمل اللاشيء غارقة فيه..
جلست حتى لم أعي الوقت، عُدت البيت متأخرة، علمت من امي أنه قد آتى وانتظرني ثلاثة ساعات!
دُهشت ولم أفعل في الوقت ذاته، فكنت توقعت أنه سيأتي وربما لن يفعل، أصبحت لا أفهمه!
لم أغلق هاتفي ولم أحظر رقمه، تركت كل شيء، لم تتوقف اتصالته منذ مغادرتي، فاقت المئة مكالمة!
أعلم أنك تعيش الآن شعور اللاشيء، تائه ولا تعرف أين تذهب، رغم أن الطريق واضح والسُبل مُيسرة ولكنك لا تستطيع الوصول إليّ، قريبة وبعيدة في الآن ذاته، إنك الآن تعيش ما قد أعتدت عليه لأشهر! ما قد أصبح جزءًا من يومي، قريب مني إلى حد الألم، لم أكن متعمدة ذلك، لم أُردك أن تعيش ذلك ولكنه القدر، كما يُقال “كما تُدين تُدان”
كانت من أثقل الليالي عليّ، تمكلني الوهن، لم أخسر مجرد حبيب، بل أعز صديق على قلبي، الخسارة مؤلمة ونعم أقول خسارة فنحن خسرنا أغلى ما نملك، خسرنا نحن، ولم نعد نحن!
أشد الآلام نعيشها برغبتنا سواء أدركنا ذلك أم لا..
…..
_ مالك يا حبيبتي، من إمبارح وإنتِ مش مظبوطة ودخلتي على أوضتك على طول من غير كلمة، إنتِ رجعتي لوحدك ليه؟ مش كنتِ نازلة مع أدهم؟
نظرت لها بأعين منتفحة تملأها الدموع، كنت ظننت أن أنهر عيني جفت ولكن فوجئت ببئر جديد انفجر في أحضان أمي، لم أقدر على حمل كل ذلك وحدي، أردت لمن يُخفف ولو قليلًا، ارتميت في أحضانها قائلة بصوت متحشرج:
– أنا سبت أدهم يا ماما.
دُهشت أمي ولم تستوعب، لم أروي عطشها لمعرفة الأسباب، واكتفيت بقول لم نتفاهم، كان أخرق عذر اخترقته لها وهي خير من يعرف طبيعة علاقتنا، وكيف نحب بعض من الأزل…
مرّ أسبوع بطعم المرارة، مرّ كالعام عليّ، أسبوع لم يخلُ من قدومه كل يوم بعد عمله فتخبره أمي أنني نائمه فينتظرني ساعتين بلا جواب، كنت أحارب نفسي كل دقيقة وهو يجلس في الخارج ويفصلنا باب غرفتي، أسبوع لا يخلُ من إتصالاته ورسائله التي تعمدت عدم فتحها، أعلم أنني بكلمة منه سأضعف وأنهار بل نظرته كافية لأخلق له مبرر جديد لا يمس صورته بسوء، كان من الصعب عليّ تجاهل إتصالاته التي لم تنقطع من بداية اليوم حتى نهايته، لم أعتده مُلح في إعتذاره بل لم أعتده يعتذر!
……
_ داليا فين يا خالتو؟
– يبني….
_ ومتقوليش نايمه، أسبوعين نايمه؟
أنا سبتها تهدى بما فيه الكفاية، لو سمحتي يا خالتو قوليلها إني عايز أتكلم معاها ومستنيها في الصالون.
كنت أستمع لحديثه من وراء الباب، لم يكف عن المجيء كل يوم ولم يمل من الإتصال كل ساعة!
على عكس ما ظننته منه، بل على عكس ما اعتدته منه، توقعت منه برود، لا مبالاه ولكنه لا يتوقف عن مفاجئتي، فهمت أنه لا مفر، حاولت تهدئة نفسي قدر استطاعتي وارتديت إسدالي لأخرج لمقابلته، كان يبدو عليه الوهن، انتفض فور رؤيتي ماسحًا أي ضيق على وجهه راسمًا إبتسامه حنونه أصابت قلبي في مقتل.
– داليا، اسمعيني، أنا مش فاهم حاجة، ممكن نتكــ
لم أقدر، تجمعت الدموع في عيني مظلله عليّ الرؤية، قطعت كلامه في حلقه مُردفه بصوت يملؤه البكاء:
_ لو سمحت يا أدهم وقف اللي بتعمله ده، ملوش لازمه، أنا قولت كل اللي عندي، ومعنديش إستعداد للنقاش أو أسمع أي كلمة، أرجوك أتقبل الوضع، اللي إنت بتعمله ده مبيأذيش حد غيرنا، لو سمحت كفاية.
ألقيت بكلامي غير منتظرة رد وأسرعت لغرفتي، استمع لصياحه من وراء الباب.
– لأ مش هقبل يا داليا، وكلامنا مخلصش لحد هنا، أنا مش هسيبك سامعاني؟
لم يزد كلامه سوى حرقة قلبي، لِمَ؟
لِمَ لا تتوقف؟
السؤال الذي لم أحصل على إجابته حتى الآن، لِم،
لِمَ هُنت عليك؟
لِمَ هان قلبي عليك وأنا التي لم تُقدم لك سوى كل حُب حرصت على أن أغلفه في هدية تُلائم روحك، لِمَ أحرقتني؟!
لاح في عقلي قول جبران:
“ولكنك ارتضيت لي الأذى وأنا الذي كنت أحسبك أرق على قلبي مني”
كنت أحسبك، أقسم أنني لم أفعل إلا ذلك.
…..
_ يا ماما بقولك مش راضية حتى نتكلم، أنا بقالي أسبوعين بتصل بيها واجي عندهم رافضة تقابلني، أنا مش فاهم إيه اللي حصل فجأه تقرر تسيبني!
نظرت له والدته بتشكك:
– فجأه؟
بادلها بنظرة متسائلة:
_ يعني إيه؟
– يعني شوف نفسك كده أنت عملت إيه، يعني مثلا لما نسيت عيد ميلادها.
_ أنا… أنا منسيتش عيد ميلادها، أنا كنت مشغول ولما فضيت كلمتها متطنشتهاش، وبعدين داليا مش بتضايق من الحاجات دي، ومش هو ده السبب اللي يخليها تسيبني فجأة وترفض حتى تقابلني!
– وده ملفتش نظرك لحاجة؟
مين قالك إنها مش بتضايق؟ أكيد مش هفهمك داليا اللي إنت حافظها.
_ يا ماما أنا مش فاهمها، دي مش داليا اللي أعرفها، داليا مبتعملش كده، مبتمشيش فجأة من غير ما توضح أو تقدم مبررات، بتتكلم وتتناقش وتطلع اللي جواها مبتسيبش المواضيع عايمه، أنا متفاجئ من اللي بيحصل، ومش موقف عيد ميلادها هو السبب، حتى اتكلمنا بعدها عادي وكانت تمام.
– مش موقف واحد يا أدهم، المسألة مش مسألة موقف، شوف إنت الفترة الأخيرة وقضدي بيها آخر ست شهور كنت عامل إزاي وبقيت عامل إزاي وكنت بكلمك كل شوية وانبهلك لـ إيه، أقعد مع نفسك شوية وراجع نفسك يا أدهم، وافتكر إن الواحدة زي الزرعة، لو اهتميت بيها وسقيتها بانتظام هتطرحلك طرحة جميلة، شوف إنت كنت بتسقي زرعتك إيه.
…….
الوقت ثقيل، يمُر اليوم كالسنة، تفتت قلبي وتلاشى، لم أظن يومًا أنني سأعيش هذا الألم بسببك!
لطالما رأيتك في مكانة أخرى، بعيدة عن الكل، مختلف عن الجميع، علاقتنا سامية، في منزلة أخرى أخشى عليها من التفكير،
لا أعلم كيف مرّ على بُعدنا ثلاثة أسابيع، كيف مرت؟ لا أدري، لا أدري سوى بشحوب وجهي الملحوظ مع إلحاحات “نادين” لأحكي لها حتى نتشارك حزني فتُخفف عني، ولكني آبيت، آبيت أن أحكي لأحد شيء واكتفيت بما بيننا أن يبقى بيننا، يُحيطه قلبي مُغلقًا عليه، هجرت الشُرفة كما هجرتك، لم أُعد في حمل الإستماع لصوتك، يكفيني مجيئك كل ليلة بعد عملك لتجلس ساعتين وترحل خالي الوفاض، كم يصعبُ عليّ أن يفصلنا باب ولا أهدمه لأرى بسمتك، كم يعصبُ عليّ أن أهجرك، أن أهجر نفسي، وأنت خير من تعرف أنني أكره الهجران…
…….
_ شكرًا يا نادين إنك وافقتي تقابليني، إزيك يا محمد عامل إيه، شكرًا ليك إنك جيت.
– على إيه بس يا عم أدهم، إنت أخويا.
_ حبيبي يا محمد.
نادين، لو سمحتي قوليلي إيه اللي حصل، إيه اللي زعل داليا فجأة، إيه اللي خلاها تفركش هي أكيد حكيتلك، هي رافضة تقابلني أو حتى نتكلم.
– صدقني يا أدهم داليا مقالتليش حاجه ومش عايزة تحكي، هي بقالها فترة مش متظبطة، مش داليا اللي أنا أعرفها، في حاجة مضايقاها ومش راضية تقول، إنت عارف داليا وفاهمها، أنا في الأول قولت مشكلة ما بينكم أو حاجه فمش برضى ازن عليها عشان في أي مشكلة بينكم هي مش بتحكيها وبتوه الموضوع.
_ طب هي كان مالها أنا صدقيني مش قادر أحدد السبب.
– مش عارفه، بس من بعد ما نزلنا سوا أول الشهر وروحنا المكان بتاعنا ومشيت فجأة وأنا معرفش إيه اللي حصل، استغربتها، كان في حاجه حصلت معرفش إيه هي، حتى قامت بطريقة غريبة قالتلي أنا عايزه أروح ومشيت من قبل ما أرد عليها، فضلت اكلمها وجتلها البيت ومقالتليش إيه اللي حصل.
وضع يده أعلى رأسه برهبه من أن يكون ما فهمه صحيح، أردف بتوتر ملحوظ:
_ إنتِ قولتي نزلتوا أول الشهر؟
– آه، حتى كان الخميس اللي بتنزلوا فيه دايمًا.
مسح على وجهه بغضب وقد أيقن أن أشد مخاوفه أصبحت حقيقة، استأذن منهما برقي ونهض لينفرد بنفسه، قد أمسك بداية الخيط، بدأ يفهم ما يحدث، فليست “داليا” من تقسو بتلك الطريقة وليست “داليا” من تبادر بالهجر، لقد رأتني مع نور، ولكن أقسم لكِ أنكِ لا تعرفين حقيقة الأمر، فقط أعطيني فرصة، لا تهجريني، لا تتركيني فأغرق!
…….
تتشابه أيامي، أصبح الأبيض والأسود ما آراه بعيني وبعض الاحيان أرى الرمادي، أصبحت أبعد ما أكون عني، نقترب من الشهر!
شهر من الوهن أسأل نفسي فيه كل ليلة مُحدثة وسادتي المحتضنة لدموعي، كيف تشعر اليوم؟ بل كيف يمُر يومك؟
لا تتوقف عن إرسال لي الرسائل على “الواتساب” وأقوم بدور المتجاهله، تبدلت أدوارنا بطريقة مثيرة للسخرية!
أغلقت هاتفي، لم أعد أستخدم التطبيقات التي تستطيع الوصول إليّ فيها، أعتزل كل شيء على أن اعتزلك، لن أحظرك، ففي النهاية أنت ابن خالتي، اتخذت من حاسوبي وكتبي كا يهون عليّ ولو القليل.
لا أتوقف عن التفكي، هل تتألم كما اتألم؟
هل يعتصر قلبك أم أنا فقط من يُعاني؟
أخبرني حتى أخبر ذلك الأحمق الذي يأخذ حصتك من الألم…
تذكرت مقوله قرأتها في مكانٍ ما:
إذا جَرحتُ
وإذا جُرِحتُ
في الحالتين اتألمُ
أنا لا أجيدُ أن أكونَ خصمًا أبدًا.
حقًا لا أجيد…
ترغب في الحديث ولكن ماذا ستقول، لم أعطك سبب واضح تتشبث به لتنسج أكذوبة ما يصدقها قلبي الذي لا يُفرط بك، لم أعتدك كاذب، فلم تكن كذلك، لِمَ أخفيت عني؟
لِمَ أعتدت حزني وأصبح يُمثل لك المعتاد؟
لازالت “لِمَ” سؤال يتردد في رأسي عاجزه عن إجابته…
“بعدما أمسكت طرف الخيط لازلت أعجز عن إيجاد الحل، ليست “داليا” من تفعل ذلك، ليست من تترك دون إجابة، لا تتخذ الغموض وتذهب تاركة القافلة تحترق ورائها، بل تأتي لتلومني، تُحدثني عن حزنها وتفيض في وصف كم الألم الذي سببته لها، لا تترك تفصيلة تؤلمها حتى لا تتراكم داخلها كما تخبرني دائمًا، تصيح بي لعدم مهاتفتي لها صباحًا، لا تدع التفاصيل تتخلل بيننا، لم أعتد منها القسوة، لم أعهدها هاجره، فلم يكن البرود طبعها، ولا الغضب من شيامها، لِمَ تبدلت أدوارنا؟
المسألة أعمق من ذلك، أعمق وأنا اخشى التعمق، كما قالت أمي، كنت أحتاجها أن تُكذب عقلي رغم يقيني أن حديثها صحيح، أعلم أنكِ تتألمين، بل وبشدة، ولكن لا تتركي، ابقي لأتألم بدلًا عنك، ابقي وأخبريني كم أحزنتك ولكن لا تتركي..!”
…….
كنت أشعر أنه قريب، عادت إليّ النغزات، معذرةً، بل زادت، كنت مقرره من بداية اليوم أنني سأذهب للبيت مبكرًا متخذة بضعة أيام اجازه، لم أعد أقدر على إدعاء القوة، بل بعض القوة التي تجعل قدماي تحملني، قررت أن استريح، اتمدد على الفراش بلا حراك، فأشعر أنني كنت في حربٍ ضارية خرجت منها بخسائر قاسية…
” أتممتِ شهر من البُعد، لا أدري كيف حدث ذلك أو كيف قدرتِ!
ذهبت للبنك الذي تعملين فيه بعد إلحاحًا طويل لأعرف مكانه من أمي، كيف وصلنا إلى هنا!
لا أعلم أين تعملين!
انتظرتكِ قبل موعد خروجكِ بساعتين حرصًا إذا حصلتِ على إذن لتغادري مبكرًا، وما حسبته وجدته، تخرجين قبل موعدكِ بساعة ونصف!
هرولت إليكِ مسرعًا، تبدين منطفئة وبشدة، ذبلت زرعتي وبُهتت لألوانٍ أبعد ما تكون عن بهجتها!..”
_ داليا، ممكن دقيقة.
قطع طريقي صوته!
ماذا يفعل هنا؟
بل كيف عرف أين أعمل؟
أيعقل أنني أتوهم!
ضحكت بسخرية وأنا أمسح على وجهي بخفة مُكملة طريقي، اوقفني سحبه لي، يبدو أنني لا أتوهم.
_ لو سمحتي يا داليا، عربيتي هناك أنا هوصلك.
سحبت يدي منه ببطء قائلة بإهتزاز:
– أنا… أنا هروح لوحدي.
نظر لي ببسمة حنونة، مهلًا لقد ظننته سيصيح أن أتوقف وأركب دون مناقشات.
_ لو سمحتي يا داليا، بلاش عِند، عربيتي الصف التاني، عايز أتكلم معاكِ شوية.
– أحنا اتكلمنــ….
_ لأ متكلمناش، واتفضلي امشي معايا دلوقتي.
حسنًا لقد غضب لا بأس، ولكني لن استسلم بسهولة، نظرت له بغضب واهم قائله ما أفقده صوابه:
– أنا مبقيتش خطيبتك عشان تؤمرني، ولو سمحت أبعد…
قطعني سحبه ليدي بخفة لأعبر معه الطريق، لن تتوقف عن تواقحك يا “أدهم”
نظر لي برجاء وهو يفتح لي الباب الأمامي:
_ لو سمحتي يا داليا، اديني فرصة أشرحلك.
نظرت له بأعين محترقه وأنا أركب السيارة، حسنًا لقد أتت تلك اللحظة التي كنت أمطها قدر استطاعتي.
أردف فور دخوله للسيارة بتأثر وكأنه يحاول أن يبُث لي مبرراته:
_ اسمعي، لما شوفتيني أنا ونور صدقيني إنتِ فهمتي غلط، أنا مش بخونك، أنا مقدرش اخونك يا داليا، نور كان عندها مشكلة بقالها فترة، في ولد بيضايقها وهكر موبايلها وبيساومها بصورها ومكنتش لاقيه حد تحكيله وحد يقدر يساعدها غيري، فضلت معاها لحد ما مشكلتها اتحلت لسه من قريب مفيش شهر.
ضحكت بسخرية، وتحدثت بذات العيون الملتهبة التي تتوزع في أركان السيارة متجنبه النظر لعينيه:
– إنت فاكر إن نور هي المشكلة؟
إني مشيت بسبب إني شوفتك وإنت واخدها في حضنك وبتطبطب عليها؟
_ داليا، أنا فاهم كويس إن مش نور هي السبب الرئيسي وعارف إن في حاجات تانية، بس أنا عايز اوضحلك الموقف نفسه.
– سؤال بس، هو إنت صدقتها؟ صدقن الفيلم اللي حكيتهولك ده؟
_ أصدك إيه، هتكدب عليا مثلًا، وعبيط أنا عشان يضحك عليا؟
– مقولتش كده، إنت شوفت الولد أو مثلًا الاسكرينات أو أي حاجه تدل على كلامها؟
_ داليا، بطلي استخفاف بعقلي.
– مش بتسخف بس لو سمحت ممكن تجاوبني.
نفخ الهواء بضيق:
_ وريتني حاجات آه مش كتير بس هي كانت في مشكلة وزعلانة وعايزة حد يدعمها مش يكدبها.
– الموقف بتاعها ده اتحل من بعد ما اديتك الدبلة؟
صمت برهه يفكر وأردف:
_ آه ما أنا قولتلك اتحل من قريب.
وضعت يدي على وجهي وأنا أضحك بسخرية لاذعة:
– وده ملفتش نظرك لحاجه؟
_ مشـ…
إلتفت له والدموع قد ملأت عيني الحمراء وأنا أجيبه بغضب لأول مرة يبدو عليّ:
– مفيش مشكلة حصلتلها يا أدهم، وحتى أسأل سيرين ولا يونس وهما يأكدولك عشان أنا كلمت سيرين لما عرفت إنك رجعت تكلمها وشكيت إن في حاجه وطلع معايا حق، مفيش مشكلة عندها، اللي إنت مش فاهمه إنك مشكلتها، إنت النقطة اللي في حياتها اللي اتخذلت فيها، بتحبك من زمان وكانت فكراك بتحبها لحد ما اتخطبنا، كانت صدمة بالنسبة لها ومش بلومها إنها زعلت، إنت مكنتش واخد بالك ولا عارف بس كلنا عارفين ولكه فاهم ما عداك، ما لفتش نظرك إنها بعدت بعد ما اتخطبنا؟
وبعدين رجعت فجأة؟ والصدفة الكونية إنها ترجع تكلمك عشان مشكلة عندها والمشكلة تتحل أول ما نفركش؟
كل ده ملفتش نظرك ؟
كانت الدهشة تملأ وجهه، كمن صُعق، كنت أعلم أنه لا يعرف طبيعة مشاعرها ولم أود إخباره لعلمي أنه لن يصدق، ولا يريد أن يخسرها، ولكن قد امتلأ الدلو حتى فاض.
هدأت من غضبي وأخذت نفسي ببطء حتى انتظم تنفسي، مسحت بعض الدموع التي فرت من عيني وأكملت بتألم:
– أنا عارفه إنك رجعت تكلمها، ومش يوم ولا اتنين، لأ أنا عارفه إنك بتكلمها بقالك 3 شهور، إنت قولت جملة قبل ما أركب قولتلي اديني فرصة، تخيل إنت عايز فرصة واحدة وأنا اديتك كام من غير ما تطلب؟ كنت بسمعك كل يوم من البلكونة وإنت بتكلمها في نفس المعاد، وإنت بتضحك وصوت ضحكك بيسمع البيت كله، أنا كنت ببقى قاعدة تحتيك عشان بس أسمع صوتك، ورغم أنك بتكلمها وإنت عارف كويس إني هتضايق ومش بحب تتكلم معاها إلا إني فضلت كل يوم استناك تيجي تحكيلي، تيجي تقولي حصل كذا وأنا بعمل كذا، فضلت شهر مستنياك وأقول أكيد هيجي يحكيلي بكرا، أكيد عنده أسبابه، اديتك بدل الفرصة مئة….
ده إنت فضلّت تكلمها يوم عيد ميلادي على أنك تبعتلي ماسدج!
شايف أنا مستنيه إيه، مش مستنيه حاجه، مجرد رسالة بتقولي فيها كل سنة وأنتِ طيبة….
إنت عارف كويس إن الحاجات دي بتفرق معايا وعارف إني بتأثر وعارف إني مش بحبك تكلمها… إنت عارف كل حاجة… ورغم كده كنت بتعملها!
متلومنيش عشان مجيتش عاتبتك، أنا عاتبت قبل كده كتير، فضلت أعاتب لحد ما أنت بقيت عارف قبل ما تعمل الحاجه أنها هتزعلني….
القصة مش قصة نور أو غيرها، هي مش فارقة معايا وإنت عارف ده كويس، ده أنا يوم ما شوفتكم أنا مفكرتش إنك بتخوني… إنت مستوعب أنا واثقة فيك ومدياك مكانة قد إيه؟
الفكرة هنا تقدير، إنت…
“كانت قد امتلأت عيناي بما يكفي، لا أعرف من أين حصلت على القوة لأرص له كل هذا دفعة واحدة، أكملت بصوت مُتقطع:
إنت مبقتش تقدرني، أو تهتم، مطلبتش منك إهتمام أوفر، مطلبتش منك حاجه، بس أنا بقيت أحسك بتستتقل الرسالة اللي ببعتهالك الصبح، المكالمة اللي بتطمن بيها عليك بليل، كل ده بقى يتعبك، مبقتش تستحمل قلقي وإنت عارف كويس قد إيه أنا بقلق وبخاف عليك، ده أنا يوم ما اتصلت بيك مرتين ورا بعض اتعصبت وزعلت، وإنت متعرفش إني من الصبح عماله أكلمك وبيديني مغلق ومردتش اكلمهم عشان محدش يقلق، ومفيش غير سيناريوهات سيئة بس في عقلي، ورغم كده جيت صالحتك عشان مبيهونش عليا تفضل زعلان يوم حتى لو أنا مش غلطانه، مبيهونش عليا زعلك بس أنا هُنت عليك!
إنت مبقتش تستحمل ده وبقيت أحس إني وجودي غير مرغوب ودي أسوأ حاجه ممكن حد يحس بيها وبالذات مع الشخص اللي مينفعش معاه يبقى وجوده غير مرغوب، وإنت عارف إني بكره أحس ولو لوهله بالإحساس ده، المشكلة…. المشكلة إن إنت عارف يا أدهم، المشكلة إنك عارف…
اختنقت جملتي الأخيرة بالبكاء، لم أتحمل، انهارت في البكاء وأنا أفتح باب السيارة غير تاركه أي فرصة له من أجل الإعتراض أو حتى الرد، كانت الصدمة مرسومة على وجهه، ملامح الدهشة والذهول تتربع تلو الأخرى لتستقر على وجهه علامة إستفهام كبيرة مختلطة بالحزن، رأيت كل ذلك في عينيك، كفتني لحظة لأحلل فيها عينيك،
كانت كلماتي واضحة، تُخبره أن تتوقف عن المحاولة، توقف عن استنزافنا أكثر من ذلك..
رن في عقلي قول أحمد عبداللطيف:
” وغزيرُ المشاعرِ مُهمَلٌ دائمًا، أو مُهان.”
صدقت يا أحمد، صدقت بطريقة مؤلمة…
لم أعد للبيت مباشرة، ذهبت للتمشية على كورنيش قريب من بيتي، هدأت نفسي مُخرجه كل دموعي، دموع محترقه بالأسى، الخيبة تتضح من ملوحتها، لا أدري كم من الوقت بقيت اتأمل النيل ولكنه لم يكن بالقليل، عدت مع غياب الشمس، أخبرت أمي أنني كنت أتجول قليلًا، دخلت غرفتي، لقد توقف عن الإتصال!
الرسائل، حتى لم تخبرني أمي أنه أتى اليوم، لقد توقف!
شعرت بنغزة قلبي تشتد، تسطحت على السرير وفي غضون دقيقة لم أعي بشيء، غفوت، لا أعلم كيف ولكني أفهم أن جسدي أرحم بي مني…
…..
” كان حديثها صادمًا لي، مُحملًا بالألم، الخيبة تُغلف حروفها، لقد تلمست مرارتها، إنها تُعاني، بل وكلمة تُعاني بسيطة لوصف المعركة داخلها، لم أتخيلني قط أجرحها، كنت أكره رؤية دموعها والآن أنا المتسبب بها!
أنا المتسبب بمرارة حلقها وإحتراق قلبها، والمؤلم أن حديثها كله صحيح!
صحيح لحد الألم، لا أعلم كيف بل ومتى أصبحت هكذا، لقد أهلكت زرعتي بيدي، آلمتك، أنا من كنت أخشى عليكِ مني، أحرقتك في سبيلي للحفاظ علينا!”
……
_ يبني متتعبش نفسك وأطلع ريح إنت وراك شغل وراجع هلكان “تنهدت مُكملة” مش هتخرج.
نظر لها بإبتسامة واهنة:
– هتخرج يا خالتو، إن مكانش انهارده فبكرا.
لم تنقطع عن المجيء، قد ظننت حديثي آخر مرة أوقفك، ولكن لا، وجدت أمي تخبرني في اليوم التالي أنك أتيت وانتظرت ساعتان وأنا نائمه، لم تصدق كوني نائمه ظننتني أتهرب ولكني حقًا كنت نائمه!
أربعة أيام على الحال ذاته، تأتي كل يوم بعد عملك مباشرة لتطلب مقابلتي فأقول لأمي أن تخبرك أنني لن أخرج، لن أكذب عليك ولكني لن أخرج، قررت أن أقولها صريحه جارحه حتى تتوقف عن حرق روحي أكثر، ولكنك لم تكن تزداد إلا إصرارًا، أتذكر الأسابيع التي كنت لا ألقاك فيها، وأنظر الآن فأستعجب حالنا، كنت أنتظر بفارغ الصبر مجيئك من العمل حتى تتناول معنا الغداء، أنتظرك بالأسابيع لأراك من كثرة أعمالك أو حتى أستمع لصوتك، تبدلت أدوارنا بطريقة مثيرة للسخرية!
فلم أتوقع منك ذلك، بل لم أتوقع منك شيء!
ظننت أنني سأذهب بهدوء كما كنت أجلس بهدوء ولكنك آبيت، تصيح كل ليلة أمام الباب وأنت تغادر ” لن أترككِ، لن أدعكِ تفعلي هذا بنا” ولكنك من فعلت! ماذا فعلت أنا!
صدقني لم أتخيل يومًا أنني قد أقدم على خطوة كهذه، ومعك!
لم أتخيل قط أنك ستكون في الخارج تجلس تنتظرني لساعات وقلبي قاوم شوقه إليك ولم يفتح بابه!
لاح في عقلي:
“‏لا تُراهِن على لين قلبي، بهِ قسوة تُفزعني أحيانًا”
حقًا أُفاجئ بي!
…….
ماذا فعلت لك النملة لتهرسها؟
كان سؤال شاركته على مواقع التواصل الإجتماعي، يبدو للوهلة الأولى سؤال مازح، للضحك، والتعليقات لم تكن عكس ذلك، ولكن باطنه خفي، باطنه لا يعلمه غيري، أشعر بكلماته ومعانيه الموجهه لي، لم تحظرني من أي جهة تواصل، لم أتفاجئ فلن تكوني أنتِ إن فعلتِ عكس ذلك، تتألمين وتبكين بحرقة، مُرتديه قناع البسمة صباحًا وكأنك لم تخوضي حربًا ليلًا، أفهمك وبشدة، لا أعلم كيف فرطت بقلبك، كيف انسقت وراء طاحونة العمل صاببًا غضبي عليكِ وأنتِ التي لم تُقدم لي سوى كل دفىء أحببته واعتدت على وجوده حتى أثلجت روحك فأصبحت باردة كـروحي، تلاشى الدفىء بها في سبيلي الذي لم يُقدم لكِ سوى ثلوجه..
“استمع لصوت نحيب بكاءك كل ليلة، حتى لو لم يكن مسموعًا فكان لقلبي كالسوط كل دمعة تجلده بقوة،
أعلم أنني اخطأت، آلمتك وتسببت بجروحٍ في قلبك، لم تفعل النملة شيء، ولم أقصد هرسها، لقد دفعتني الحياة بعنف حتى هرست النملة بدون وعي مني، ألا يمكن لتلك النملة اللطيفة أن تمنحني مجرد فرصة صغيرة لأضمد لها جروحها المُلتهبة؟ ”
كانت تلك كلمات رسالتي التي تركتها في بريدها أسفل البيت، أعلم أنها تحب الرسائل المكتوبة أكثر من الإلكترونية، تهتم بالتفاصيل وتحبها، تُسعدها أبسط الأشياء وتُغضبها أبسطها، تناقض لذيذ أحبه، ولم أحب غيره، أضعتك من يدي بحماقتي ولكني لن أسمح لكِ بفعل فعلتي.
……
لم يتوقف..
استمر على الحال ذاته لأسبوع آخر بل أضاف عليه الرسائل التي يتركها في بريدي كل يوم، اقرأ رسائله فينتفض قلبي، أهرستني حقًا دون وعيك؟ لا أتوقف عن سؤال نفسي لِمَ؟
أكان عليّ الرحيل قبلًا حتى تشعر بسوء ما تفعله عليّ؟
ولِمَ عليّ الرحيل؟ ألم تكن تستطيع أن تفعل ربع هذا ونحن معًا!
لِمَ راهنت على بقائي؟
تخبرني في رسالتك “بكائي كالسوط يجلد قلبك”
أحقًا أصبح الآن بكائي كالسوط؟ أحقًا أصبحت تستمع لنحيبي؟
أتعجبك وأتعجب نفسي، نفسي التي قدرت على البعد شهرين، نفسي التي ترد محاولاتك المُلحة، التي لم تكن يهون عليها نظرة حزينة منك، أكذب إن قلت أنني أكثر هناءًا الآن، بل إنني أكثر عناءًا، أكثر تألم، أكثر وغزًا، مجيئك يعصر قلبي مرددًا أعطه فرصة!
فيصفعة عقلي قائلًا: عن أي فرصة تتحدث؟
ألم تتعلم قط!
حقًا ألم تتعلم..
……..
“لا ألومك ولا أقدر على فعل ذلك، فقط أعطي ذلك المتأم فرصة، فرصة صغيرة ليعود أدهم خاصتك.”
كانت تلك رسالته الثامنة على التوالي، رسائله التي اقرأها خلسة، وأنا ادعي عدم إهتمامي تاركه إياها في بريدي، اتنهد بعد قرائتها واتجه لعملي محملة بالأثقال، يرن في بالي كلمات إحدى رسائلك السبع، التي تخبرني فيها “لا يهون عليّ حزنك، لا يهون عليّ فراقنا”
ولكنني هُنت!
هُنت عليك وما أشد أن يصيبني شعور الإستغناء، قلبي لازال يتألم، لازال ينزف، ولازال ينبض لك!
………
إشتقت لكِ، إشتقت لصوتكِ الذي أصبح كلحنٍ يُطرب أذني، إشتقت لبسمتكِ التي كنتِ تُهديني إياها فور رؤيتي لكِ دون طلب، إشتقت لبهجة روحكِ التي اعتادتُها منكِ، لم أعتد منكِ الحزن، الألم، الإنطفاء الذي أصبح يُحيط عينيكِ، أدركت حقًا أننا لا ندرك قيمة ما معنا حتى يذهب من بين يدينا في اللحظة التي نضمنه فيها، وأنا ضمنتك!
ضمنت وجودك بين يدي، كنت أعلم أنني لن أهون عليكِ ولن يهون حزني، تغافلت عن نظرة الخوف التي لمحتها في عينيكِ فور غضبي أو علو صوتي بدرجة، أعلم أنكِ لا تحبين أن يصيح أحد بكِ، وتخافين إن كان هذا الشخص أنا، ولكنني تغافلت أو ادعيت عدم الرؤية، كما قلتِ “المشكلة أنني أعلم” وكم صدقتي!
لم تفعلي سوى أنكِ تقدمي ولم أفعل أنا سوى الاعتياد على ما يأتي منكِ متغافلًا أن لكل زهرة ماء وغذاء تحتاجه حتى تستمر في إمداد رحيقها ولكني تغافلت، اعتدت وما أسوأ أن نعتاد على الأخذ، لقد تعلمت درسي بقسوة، وفهمت الآن قيمة التفاصيل الصغيرة التي كنتِ تأبي أن نتغاضى عنها، فهمت الآن أن حبة الرمل قادرة على فعل صحراء، فهمت الآن أن التراكمات تبني جبل يصعب هدمه ولو بشتى الطرق ولكني سأفعل، سأهدم تلك الثلوج فلن اسمح لكِ بسلبي مني.
……..
_ يبنتي كفياكِ عِند، جايبه الراس الناشفة دي منين ده أنتِ عمرك ما كنتِ كده، الواد نشف كل يوم يستناكِ بالساعتين، أنا معرفش عملك إيه بس سامحيه يا داليا، أدهم بيحبك بجد.
نظرت لها والحزن يغلف عيني مُردفه بوهن:
– الحب مش كل حاجة يا ماما، في حاجات تانية مهمه عشان تحافظ عليه.
_ يعني أنتِ عاجبك حالك ده، ده أنتِ كل يوم بتسوئي عن اللي قبله، اتمأتي ووشك بقى مصفر وبهتان.
اكتفيت بنظرة حزينة مستمعة لباقي حديثها الذي أصبح كالأغنية مؤخرًا تردده كل يوم.
تابعت بسخرية:
_ عامله قدامه قوية أوي، اشحال ما بسمعك بليل وإنتِ نازله نح نح، المخدة اشتكت خلاص.
زفرت بضيق قائلة بخفوت:
– يا ماما كفاية بقى، لو سمحتِ سيبيني أريح شوية.
_ يبنتي أنا خايفة عليكِ وعايزة مصلحتك، لازمته إيه الكبر ده، ارحمي نفسك وارحميه معاكِ، أنا هسيبك تستريحي يمكن تلاقي راحتك اللي بتقولي عليها.
حديث أمي لم يكن سوى كملح يُرش على جرح لم يندمل بعد، نعم أعاني بل أحترق، ولكن ما العمل!
حقًا ما هو؟
نختار الرحيل مُرددين على مسامعنا “ألم الرحيل أهون من عناء البقاء” والأسف أن في الحالتين عناء.
فنحن نحتاج يا أمي لإتخاذ بعض القرارات المؤلمة، وقفات نقف عندها لرؤية ما فاتنا ونلقي نظرة على ما نحن مقبلين عليه، لقد أغمضت عيني دائمًا واتخذتك بوصلتي، أسير ورائك دون العبء بما هو قادم أو ما فات مردده على عقلي يكفي أنني معك ويكفي أننا معًا، ولكنه لم يكفي، لم يسعنا قلبي ولم يوطدنا حبي، بل تبعثرت في المنتصف وتبعثرنا معي، فهل تستطيع جمع شتاتنا؟
هل تستطيع جمعي؟

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف والدال)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى