روايات

رواية لولا التتيم الفصل الحادي عشر 11 بقلم ناهد خالد

رواية لولا التتيم الفصل الحادي عشر 11 بقلم ناهد خالد

رواية لولا التتيم الجزء الحادي عشر

رواية لولا التتيم البارت الحادي عشر

رواية لولا التتيم الحلقة الحادية عشر

أغمضت عيناها تتنهد بتعب قبل أن تردف بخفوت:
_ تعبت.. مبقتش قادرة اتحمل طريقته معايا، أنا عارفة إني غلط بس الموضوع ميستاهلش الزعل ده كله بقاله اكتر من شهرين بيتعامل معايا بالطريقة دي، مبقتش عارفه اتعامل معاه وحاسه إن طاقتي بتخلص.
أتاها الرد من محدثتها على الطرف الآخر:
_ وهو ليه معملش زيك دلوقتي؟ليه فضل سنين يحاول معاكِ من غير طاقته ماتخلص؟ عارفه ليه.. عشان حبه أقوى من حبك بكتير، أنتِ محتاجه تحبي عاصم أكتر يا ريهام.
اعترضت بشدة وهي تردف:
_لا طبعاً أنا بحبه و…
قاطعتها “ليل” وهي تقول:
_ بتحبيه وبس، يمكن تكوني بتحبيه فعلاً، بس مش الحب الي يخليكِ تعافري لحد ما يسامحك، أنتِ زهقتي بعد شهرين! كده يبقى حبك له كبير؟
حاولت التبرير وهي تقول:
_ غلطه مش زي غلطي.. انا معملتش ربع الي عمله.
أجابتها مستنكرة:

 

_ زعلك منه كان عشان اتخلى عنك لما عرف إنك حامل.. وكل البهدلة الي اتبهدلها وراكِ بسبب كده، فين غلطه بقى وأنتِ مرمطية على كدبة!
بُهتت ملامحها وهي تتذكر ذلك اليوم الذي عرف فيهِ “عاصم” الحقيقة، تلك الحقيقة التي حرصت على دفنها تحت رماد الزمن وأنه لن يعرف عنها شئ مهما حيت.. ولكن القدر كان له رأي آخر ويالسخريته حين استمع للحقيقة منها هي!
كانت تتحدث مع “ليل” عبر الهاتف وهي تقول:
_ بجد مش عارفه اشكرك ازاي، أنتِ قدمتيلي دعم في اكتر وقت كنت محتاجه حد فيه، دلتيني على الطريق وقت ماكنت تايهة ويمكن لولاكِ مكنتش مع عاصم دلوقتي.
وعلى ذِكر “عاصم” كان قد دلف من الشرفة للتو بعد أن انهى مكالمته ليستمع لجملتها الأخيرة، فوقف قاطبًا حاجبيهِ متسائلاً بداخله عن هوية من كانت
السبب في عودتهما مرة أخرى، ترى هل هي شقيقتها ام شخص مجهول بالنسبة له؟ وربما هذا ما دفعه للوقوف صامتًا كي يعلم هوية من تتحدث له.
استمعت لصوت “ليل” المرح وهو يقول:
_ يعني خلاص كده خلصت حكايتنا؟
ابتسمت بهدوء وهي تجيبها:
_ يمكن.. ويمكن احتاجك تاني في يوم من الأيام.
اتاها صوت “ليل” الجاد:
_ ريهام أنتِ لسه مش صافية لعاصم؟

 

أجابتها سريعًا:
_ لا أبدًا، أنا صفياله والله وقررت انسى أي حاجه حصلت زمان.
هتفت “ليل” بحيرة:
_ اومال ليه حساكِ مش مطمنة، أو متوقعه الأمور تسوء بينكم تاني؟
تغيرت ملامحها للقلق وتلونت عيناها بنظرات الحزن وهي تقول:
_ خايفة سري يتكشف.. حاسة إني مهما حاولت اداريه هييجي وقت وهيتكشف.
قطب حاجبيهِ بحيرة وهو يستمع لحديثها عن أي سر تتحدث؟ ورغم أن قلبه شعر بالقلق حيال ما سيسمعه إلا أن فضوله اللعين دفعه للاستماع.
_ تاني سرك؟ أنا بجد نفسي أفهم ايه السر ده؟ وليه مخبياه عليَّ أنا حتى، المفروض اكون عارفه يمكن اساعدك، يمكن ميكنش مستدعي كل القلق الي أنتِ حساه ده.
_ انا من كتر مانا خايفة حد يعرف سري ده بقيت محبش اقوله بيني وبين نفسي حتى.
اعترضت “ليل” وهي تقول:
_ بس أنا غير يا ريهام.. أنا لازم اعرف ولازم كان اعرف من زمان يمكن كان يفرق في طريقة معالجتنا للموضوع، يمكن كان حنن قلبك على عاصم من بدري.
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تقول:
_ أنتِ كمان خايفة من ردة فعلك لما تعرفي، اكيد هتشوفي إني مكنتش استاهل تضيعي وقتك معايا.

 

_للدرجادي؟! لا أنا بجد محتاجه افهم، وأنتِ لازم تواجهي وتحطي حد لهواجسك دي ياتقرري تعترفي بسرك ده لعاصم وتنهي الموضوع يا تقرري تدفني سرك ده لدرجة إنك أنتِ نفسك تنسيه، لكن بالوضع ده هيبوظلك حياتك.. وطبعًا بناءً على أي هو السر هتاخدي القرار.
استغرق الأمر دقيقة رُبما، عقلها يتخبط، ولسانها يتردد كلما حاولت أن تنطق، وكأن هناك شئ خفي يحذرها من البوح، ولكنها بعد دقيقة كاملة استطاعت التخلص من ترددها لتبدأ بالحديث:
_ هحكيلك كل حاجة، بس متقاطعنيش، وحاول تفهمي موقفي..
تنهدت بعمق وأكملت بعقل شرد في ذكرى بعيدة:
_ كانت فكرة غريبة جت في بالي فجأة، معرفش ازاي، كان كل هدفي منها وقتها إننا نتجوز بجد.. كنت تعبت من علاقتنا الي في السر.. شوفتها حل مناسب عشان اخليه يسرع في جوازنا قدام الكل… فقررت انفذها.
انسدلت دمعة وحيدة من عيناها وهي تتابع:
_ أنا مكنتش حامل.. أنا قولتله كده عشان اربكه واحطه قدام الأمر الواقع وانه مبقاش في وقت إننا نأجل جوازنا اكتر من كده.
كمن حلت عليه صاعقة من السماء، كمن تلقى صدمة عمره وهو بالفعل كذلك!! وللعجب شعر بنغزة قوية لكنها لم تصيب قلبه، بل عقله، وكأن دمه قد ارتفع بشدة حتى اصطدم بقوة بعقله.. لم يبدى أي ردة فعل، حقُا لم يفعل!
أكملت حديثها غير واعية بالواقف على مسافة قريبة خلفها:

 

_ كنت متخيلة انه هيفرح ويقولي لازم اتقدملك ونتجوز في أسرع وقت، بس صدمني برد فعله، حسيت كأني وقعت فجأة على جدور رقبتي.. اتصدمت من رد فعله وفجأة لقتني خدت الموضوع جد.. جد لدرجة إني انهارت وتفكيري كله انحصر في الي بيحصل..عارفه الي بيقولك كدب كدبة وصدقها، هو ده بالضبط الي حصل.. صدقتها لدرجة إني مطقتهوش بعدها.. كل تفكيري كان في كنت هعمل ايه لو الموضوع بجد، كان هيتخلى عني برضو وكنت هلاقي نفسي في مصيبة مش عارفة أخرج منها.. حسيت وقتها إني كنت مع الشخص الغلط، حسيت بحجم الكارثة الي حطيت نفسي فيها… حسيت أنه مكنش بيحبني أصلاً وكان مجرد وقت بيقضيه معايا.
أتاها صوت “ليل” المصدوم وهي تقول:
_ يعني ايه؟ اومال انا كنت بساعدك في ايه؟ انا كنت بساعدك تتخطي حادثة محصلتش اصلاً.. أنتِ مخدعتيش عاصم بس أنتِ خدعتيني أنا كمان.. ازاي قدرتي تكدبي باحتراف لدرجة إننا صدقناكِ! أنتِ كنتِ بتحكيلي عن لحظة ما روحتي تنزلي البيبي ومكنش حد معاكِ… حكتيلي ازاي حصلك نزيف ولحقوكِ وازاي كانت حالتك لما رجعتي واتحملتي عشان والدتك متلاحظش.. ازاي كل ده محصلش؟ ورعشة صوتك وأنتِ بتحكيلي.. وانهيارك وقتها!!!!
انسدل المزيد من دموعها وهي تقول بغصة بكاء:
_ عشان صدقت بجد.. انا صدقت كدبتي لدرجة إني كنت موجوعة من جوايا على الي متخيلاه.. كنت موجوعة كل ما اتخيل أني اتحيط في الموقف ده بجد ورد فعله كان كده.. الموقف ده لو كان حقيقي انا كنت موت فيها والله.

 

صمتت تكتم شهقتها والتفت كي تطمئن على وجوده في الشرفة.. سقط الهاتف من يدها ووقفت ببطئ بأعين متسعة حين رأته واقفًا كالتمثال أمامها.. ولكن تمثال انعكست على ملامحه ثورانه الداخلي..
وكيف لها أن تعرف للحديث طريقًا الآن وفي وضع كهذا؟ ظلت صامتة ولكن عيناها تركض على ملامح وجهة تحاول إيجاد لمحة لين قد تدفعها للحديث معه ولكنها وللأسف لم تجد.. كل ما وجدته هو جمود وشرارات تُنذر بعاصفة قادمة.
وكان أول من خرج عن صمته هو حين قال بهدوء ثلجي:
_ يعني كل الي عشته ده كدبه؟ لفي وراكِ كل السنين دي عشان تسامحيني على حاجة محصلتش؟
ابتلعت ريقها بصعوبة ودموعها تتهاوى على وجنتيها بصمت.. ها هو حدث ما خشته وانكشف سرها المخفي.. ها هي لحظة المواجهة التي لم تستعد لها يومًا.. حاولت التحدث بصوت خافت:
_ عاصم.. أنا كان قصدي خير، أنا عملت كده وقتها عشان نتجوز قدام كل الناس.. عشان كنت تعبت من جوازنا الي في السر، وكل ما كنت بحاول افتح معاك الموضوع ده كنت بتقفلهولي ضبة ومفتاح، مسبتش خيار تاني ليَّ.. أنا.. أنا آسفة بس..
وفجأة حدث ما لم تتوقعه، كان رده هو حين قال ببرود ظاهري:
_ حضري الأكل عشان شوية ونازل الشغل.

 

هل هذا كل ما في الأمر؟ ألن يضيف شئ؟ ألن يتطرق للحديث حول الموضوع؟! ومن وقتها وهو بنفس وضعه وربما أنه لو تحدث وأباح بمكنونات صدره لكان أهون من هذا الصمت والتجاهل المميت.. بالتأكيد لكان أهون..
عادت من شرودها لتقول ل”ليل” بتعب:
_ يمكن هو بيحبني أكتر…يمكن عنده قوة تحمل أكتر مني، معرفش السبب بس الي اعرفه إني مقدرش اتحمل ربع الي اتحمله.
احتدت نبرة “ليل” وهي تقول:
_ ريهام أنتِ غلطي أيًا كانت مبرراتك بس غلطي.. وأنتِ مش طفلة عشان متتحمليش نتيجة أخطائك، غلطي يبقى هتتحملي رد فعل عاصم على الغلط ده وهتصبري وتعافري لحد ميصفالك.. واعتقد أنه زي مابتقولي بيحبك اكتر منك يعني مش هياخد نفس الوقت الي خدتيه عشان يصفالك.
تنهيدة عميقة هي كل ما صدر منها قبل أن تشعر بحماس يتسلل لها يدفعها خفيًا للتحمل والصمود أكثر حتى تنال الغفران..
___________
_ أنتَ متأكد إن بابي تحت؟
سألت بها “صفية” وهي تقف أمام المرآة ترتدي حجابها، ليجيبها الصغير المتحمس من خلفها:
_ ايوه يا مامي يلا بقى.
عقبت بضيق مصطنع:
_ حاضر.. متسربع على ايه أنتَ!
حمل حقيبته الصغيرة وهو يجيبها بحماس وبراءة طفولية:
_ أصل بابي هيوديني الأول الملاهي، وبعدها هنروح نجيب العاب وكمان قالي انه هيجبلي دونتس كتير.
انتهت لتخرج من الغرفة وهو يتبعها وهي تقول بصوت مسموع في حين تفتح باب الشقة:
_ لا وحياة بابي ما في دونتس كتير عشان سنانك هي واحدة بس يا يونس سامع؟
شهقت بخضة وهي ترتد للوراء حين وجدته بوجهها مباشرةً حتى كادت تصتدم بهِ، يقف مستندًا بكتفه على حافة الباب مكتفًا ذراعيهِ فشُد قميصه على جسده أكثر ليعطيه مظهر جذاب حتى وإن أنكرت هذا.
نظر لأعينها المتسعة بأعين شغوفة تلوح بها نظرات الإشتياق بعد غياب أشهر لم يلمح بهم ظلاً لها، رسم ابتسامة ملتوية بدت ساحرة على ثغره وهو يردف بصوتٍ عميقٍ وعيناه لم تترك عيناها لوهلة:
_ هي حياة بابي مهمة كدة لدرجة إنك تحلفي بيها؟

 

وكأنها أفاقت على حديثه من سحر اللحظة، لن تنكر أنها اشتاقت له حد الجحيم، اشتاقت له اشتياق الأم لوليدها.. واشتياق الأرض للغيث بعد الجفاف، هل عدة أشهر قليلة فعلت بها كل هذا؟ إذًا ماذا عن حديثها لذاتها بأنها ستنفصل عنه أبدًا!؟ هل ازداد جاذبية وجمالاً في تلك الأشهر أم عيناها المشتاقة هي من تصور لها هذا؟ هل سيحدث شئ إن رمت بنفسها بين أحضانه لثواني فقط.. فقط ثواني تستعيد فيها دِفأ أحضانه!
عادت لرشدها على حديثه لتتجاهله تمامًا وهي تدفع “يونس” برفق وتقول:
_ يلا يا حبيبي مع السلامة.
والسلامة لم تكن ليونس تحديدًا.. بل كان تنبيهاً لمن معه، خرج الصغير على دفعة والدته التي كادت تغلق الباب قبل أن يكتمل خروجه حتى، لترتد للوراء أثر دفع الباب دفعه خفيفة وبعدها دفع الصغير بنفس الرفق للداخل ودلف هو خلفه مغلقًا الباب، وما إن فعل حتى قال:
_ يونس حبيبي ادخل أوضتك شوية بس لحد ما أناديلك.
زفر الصغير بنزق وهو يغمغم بكلمات غير مفهومة تدل على سخطه من الوضع ودلف للداخل..
كادت تتحرك من أمامه لتحتمي بغرفتها لكنه أسرع بالوقوف أمامها وإمساك ذراعها بقوة طفيفة مرددًا بجدية بحتة:
_ مش هتتحركِ من هنا غير لما نتكلم.

 

فتحت باب الشقة على رنين جرسه لتبصره أمامها بعد أن جلب لها حقيبتها، حدقته بنظرات تلمع بشرار الغضب العاصف قبل أن تقول بنبرة كالفحيح:
_ دخلها جوه.
قطب حاجبيهِ ضيقًا من استعلائها الواضح ولكنه كظم غيظه وحمل الحقيبة دالفًا بها للداخل، وما إن فعل حتى استمع لصوت باب الشقة يُقفل بعنف، التف تجاهه بعدما وضع الحقيبة فوق الأرضية، ليراها تقف عند الباب مكتفة ذراعيها تنظر له بأعين متقدة وملامح متحفزة، وقف صامتًا ينتظر أن تباشر هي بما لديها ولم ينتظر طويلاً حتى اتجهت له بخطى ثابتة كنظراتها عليهِ، حتى وقفت أمامه تمامًا فهدرت بهِ:
_ اتجوزت ها.. للدرجادي مقدرتش تصبر، مقدرتش تعيش من غير واحدة في حياتك؟ بس لعلمك أنا متقارنش بحد.. ولا اي حد، ولا حتى العيلة الي متجوزها دي.
ابتسم ببرود وهو يقول:
_ عيلة! طب كويس إنك عارفة إنك كبرتِ، وعمومًا الراجل مننا بيحب الي يجدد معاها سنه، ولو هي صغيرة زي ما بتقولي يبقى أنا اخترت صح،مش هلاقي انسب منها اجدد معاه شبابي.
ضحكة عالية صدرت منها فجأة قبل أن تهدأ ضحكتها وهي تقول بابتسامة ملتوية:
_ طب كويس إنك عارف إن أنت كمان كبرت.. يعني احنا بنكبر سوا يا حبيبي، ولو أنتَ حسيت إنك محتاج حد يجددلك شبابك ده على اعتبار إني بقيت في الخمسين يعني.. المفروض أنا كمان احتاج حد يجدد شبابي!

 

احتدت نظرته وهو يقبض على ذراعها مرددًا بعنف:
_ أنتِ مفيش فايدة فيكِ، لسانك ده مش هيهدى وتفهمي الكلام قبل ماتقوليه!
أزاحت يده بقوة وهي تردد بهدوء:
_ مقولتش إني محتاجه ده.. بقولك المفروض يعني بناءً على كلامك.. ولا هو حلال ليك وحرام ليَّ! ولا مشاعرك أغلى من مشاعري؟
صمتت تلتقط أنفاسها الهادرة، وما إن هدأت قليلاً حتى حركت رأسها بعنف غير مصدقة الوضع الذي هم فيهِ، رفعت عيناها الناظرة أرضًا له ووجد كفها الطريق لياقة قميصه لتمسكه منها بعنف وهي تصرخ بهِ كأنها استوعبت الأمر للتو:
_وقعتك سودة.. أنتَ اتجوزت عليَّ أنا يا بدر.. اومال فين حبيبتي وقلبي وفشتي.. أنتَ كنت بتضحك عليَّ.. كنت بتسرح بيَّ! ده أنا كنت قربت اعملك تمثال من حبك ليَّ!
ربما كادت ضحكة أن تنفلت منه في إحدى مواضع حديثها لكنه اصطنع الجمود وما إن انتهت حتى هتف ساخرًا:
_ ده على أساس إنك قدرتِ حبي اوي!
أزالت يدها عن عنقه وقد هدأت ملامحها وقالت:
_ أنا عارفة إني كنت بغلط كتير، عارفة إني عصبية ووقت عصبيتي مبعرفش أنا بقول ايه.. بس تخيلت إن لو الناس كلها بعدت عني أنتَ الوحيد الي هتفضل جنبي وتتحملني يا بدر.

 

هز رأسه بعجز وهو يقول:
_ ونسيتِ إن بدر إنسان.. بيحس وله مشاعر، ومهما اتحمل له طاقة هتيجي يوم وتنفذ؟
اعتلت نظرات الألم واللوم عيناها وهي تقول:
_ فتقوم تتجوز عليَّ؟
تجاهل سؤالها وهو يسألها بنفس الطريقة:
_ خبيتِ ليه عليَّ حملك؟
أجابته بصدق:
_مكنش قصدي.. مقصدتش اخبي، أنا كنت متلغبطه، ومش مصدقة إننا وصلنا للمرحلة دي ومكتئبة، كان نفسي الاقيك راجع عشاني.. مش عشان عرفت بحملي.
كاد يعقب على حديثها حين قاطعه جرس الباب وبدون أن يفتح كان يعرف الطارق، كيف لا وهو من أخبرها بأن تصعد خلفه بعدة دقائق وبالتأكيد كان هذا خشيًة منهُ أن يضعف ويلين أمام من لها سلطان على قلبه.
فتح الباب لتظهر “زينب” من خلفه وهي تردد بثبات رغم توترها من الموقف:
_ يلا يا حبيبي الاكل جاهز.
عيناها لم تكن ثابتة وكفيها اللذان ضغطا على بعضهما كان خير دليل على توترها ووسيلة لجعل من أمامها يشك بها، ولكن “لليان” لم تفعل لأن غضبها الذي انبعث للتو عماها عن رؤية أي شئ آخر.

 

التف نصف التفاته لها يقول:
_ يلا عشان تاكلي.
ضغطت على أسنانها بغيظ قبل أن تجيبه ونظراتها مسلطة على غريمتها:
_ سوري مليش في الأكل بتاعكم ده، أنتَ عارف إن أكلي صحي.
لوى فمه ساخرًا:
_صحي! وحياة البيج ماك الي كنتِ بتاكليه الفجر!؟
حولت نظراتها له حين رأت ضحكت الأخيرة المكتومة لتشتعل بداخلها وهي تشير له برأسها:
_انزل كُل.
وكان تحذيرًا صريحًا له من التمادي، وقد فعل بهِ حين التف في هدوء وخرج مغلقًا الباب خلفه.
وكا إن فعل حتى دارت هي حول نفسها تشعر برغبة عارمة في تحطيم كل ما تطيله يدها، ولكنها لن تفعل ببساطة لإنها..
_اهدي.. اهدي متشمتيش فيكِ حد.. اهدي.
هكذا كانت تهدأ ذاتها وهي تأخذ شهيقًا وتطرد زفيرًا علّها تهدأ..
____________
_ هو في حاجة بينا لسه عشان نتكلم فيها؟

 

هذا أول ما قالته “صفية” وهي تقف في مواجهته بعدما سحبت ذراعها من قبضته، وبنظرات واثقة ومصرة كان يجيبها:
_ في يا صفية.. في كتير، في عِشرة، وفي بيت، في يونس، وفي حياة قررنا من سنين إننا نكملها سوا، ومش مسموحلك تنهي كل ده.
وبهدوء تام كانت تجيبه:
_ وأنتَ هديت كل ده بالي عملته.
هز رأسه نافيًا وهو يقول:
_ لا، لا يا صفية أنا حافظت على كل ده بالي عملته مش هديته.. وأنتِ الوحيدة الي شايفة العكس… معقول بعد كل الشهور دي معقلتيش وفكرتِ فيها صح؟!
احتدت نظراتها وهي تهتف:
_ أنا مش مجنونة عشان اعقل، أنتوا الي مش حاسين ولا عارفين الي حصل عمل فيَّ ايه.. وعارف مش فارق معايا تشوفوا ايه، انتوا اصلاً عمركوا ما شفتوني ولا فهمتوني، طول الوقت شايفين تفكيري تافهه، وبنكد على نفسي، وبجري ورا حاجات مش مهمة، ومبفكرش صح… تمام، فكروا الي تفكروه لان تفكيركم مش فارق معايا أصلاً…كلكوا شايفين إن الي حصل هو الصح، وأنا شايفة إن الي حصل قتلني.

 

أشاح بيده في وجهها وهو يهتف:
_ ولو مكنش حصل كنتِ هتعيشي؟ أنتِ بتضحكِ عليَّ ولا على نفسك؟ الدكتور قالك صراحةً كده لو منزلتيش الطفل في خلال أسبوع هيعملك نزيف حاد وممكن يعملك تسمم وفي كلتا الحالتين معرضة إنك تموتِ، حالتك كانت بتسوء وحصلك نزيف فعلاً وبرضو كنتِ بتقاوحي! كنتِ مستنياني أعمل ايه! اسيبك تمشي بدماغك لحد ما تروحي مني! أنتِ كنتِ بتقتلي نفسك وأنتِ مش حاسة.
هدرت بهِ هي الأخرى وقد تسابقت دموعها في الهبوط وأحمر وجهها انفعالاً:
_ وأنتَ قتلتني.. خلتني ناقصة في نظري قبل نظر أي حد.. حرمتني للأبد من إني اكون أم مرة تانية، كان ممكن لو حملت تاني يكون طبيعي.. كان ممك…
قاطعها بنزق من أحلامها الواهية:
_ ممكن.. احتمالات لا بتقدم ولا تأخر، احنا لينا بالواقع الي اضطر الدكتور يعمل كده. ولا كان هيسيبكِ تموتِ بعد ما نزفتِ كل الدم ده.
تفاجئ بها تردد بحزن:
_ يمكن كان هيبقى اهون عليَّ من الي حصل.
نظر لها بعدم استيعاب بأعين غير مصدقة، قبل أن يردف بقسوة:

 

_ أنتِ بجد طماعه للدرجادي؟ بجد يعني متعرفيش حاجة اسمها رضا؟شايفة الموت أهون من الي حصل؟ اومال لو مكنتيش خلفتِ خالص، لو كان ربنا حرمك من الخلفة أصلاً كنتِ عملتِ ايه؟ أنتِ مش شايفة إنك أوفر… مش شايفة إن الي بتعمليه ده فراغة عقل!
وبنفس الصدمة كانت تستمع لحديثه وهي تراه يسخف من مشاعرها، لتثور ثائرتها وهي تصرخ بهِ:
_ أوفر وفراغة عقل! بعد ما خدتني على عمايا لحد الدكتور واجبرتني انزل البيبي من غير حتى مايكون عندي علم، وخلتني اعيش اسود لحظات حياتي وانا بترجاك متعملش ده، متخليهاش تحصل غصب عني، وأنتَ حتى متهزتش.. بعد ما افوق والاقيك مش بس خدت ابني ده أنتَ كمان خدت أي أمل في إني اكون أم في يوم، كنت مصدومة أصلاً من إنك برضو عملتها ورجائي مخلكش تتراجع عن قرارك الاقي الصدمة التانية وإن الدكتور شال الرحم أصلاً.. أنتَ حسيت بالي حسيته وقتها؟ حسيت بوجعي وكسرتي؟ أنتَ أصلاً مش حاسس أنتَ عملت فيَّ ايه.
برزت عروق رقبته وهو يتحدث بانفعال:
_ كنت بحميكِ، عشان أنا مش غبي زيك.. مش هجري ورا سراب وأخسر حياتي بسببه، عشان أنا عندي قناعة وبحمد ربنا على يونس ومش فارق معايا يكون عندنا غيره ولا لأ.. بس ازاي.. لازم طبعًا الدراما كوين (ملكة الدراما) تحط الطتش بتاعها وتنغص علينا حياتنا عشان احلام في دماغها.

 

حين تشعر أن لا أحد يشعر بكَ، ولا أحد يقدركَ.. حين ترى بعيناك عدم تقديرهم لمشاعرك وآمانيكَ، تدرك حينها أن اختيارك لهم كان خاطئ وأنك أنتَ من جنيت على نفسك بإدخالهم لدائرة حياتك.
وهذا ما عبرت عنه وهي تقول بغصة:
_ كل مدى بتثبتلي إني كنت غبية فعلاً يوم ما اختارتك.. أنا ازاي عملت في نفسي كده! ازاي أصلاً وافقت أخوض الحرب الي مليش مكان فيها! ليه قبلت بعد ما قولتلي في وشي إنك كنت بتحب حد تاني ومعندكش حاجه تدهالي! ليه خوضت المغامرة دي وقبلت أكون مجرد زوجة يحل محلها ألف، مش حبيبة متتعوضش! أنا فعلاً لو غبية فأنا غبية عشان اختارت واحد مبيقدرش مشاعر الي قدامه زيك.. ولو رجع بيا الزمن هضرب نفسي بالجزمة قبل ما افكر أوافق عليك.
“والدين لابد له من رجوع”
ماشعرت هي بهِ يوم أن جلس أمامها يخبرها بأنه لن يكن لها حبًا، وما شعرت بهِ كل يوم مرَ عليها وهي تدرك أنها لا تملك مكانًا صغيرًا في قلبه، كل شعور سئ عاشته يومًا يعيشه هو الآن.. كلماتها كانت كالنصل الحاد الذي أصابه قلبه ومرَ تاركًا دماءه تنزف، لم يتخيل أن تقف في مواجهته وتفصح عن ندمها لاختياره زوجًا لها.. كيف لفظته فجأة هكذا من حياتها؟ كيف استطاع لسانها أن يرمي حممه البركانية عليهِ هكذا دون رأفة؟ ألم يتدخل قلبها ليمنعه أم أن قلبها هو الآخر قد قسى!
_يلا يا يونس.

 

انتفضت فزِعه على صوته الذي هدرَ فجأة بعلو وحدة، لكنها ادعت بعدها الصمود.
خرج الصغير ليقف خلف والدته في انتظار والده الذي قال وهو يتجه له:
_ هجيبه بكره بليل.
وكان هذا آخر ما قاله قبل أن يغلق الباب خلفه بعنف.
التفت تنظر لباب الشقة لثواني بصمت تام وكأن عقلها يسترجع كل ما حدث منذُ ثواني، لتجهش في بكاء مرير فجأة حين علمت لأين وصلت علاقتهما.. فيوسف لن ينسى أبدًا ما قالته، وللحقيقة هي لا تعرف كيف قالته أساسًا وكأن قوة خفية احكمت السيطرة على عقلها فأردفت بحديث لم تعقله..
جلست فوق أحد الكراسي تبكي بعنف وهي تشعر بالآلآم داخلية لا تنتهي، وخاصًة مع عودة ذاكرتها لقبل الآن… تحديدًا لقبل أربعة أشهر….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لولا التتيم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى