روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل السادس عشر 16 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل السادس عشر 16 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء السادس عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت السادس عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي الحلقة السادسة عشر

أحست ” حياة ” بالملل الشديد من التقلب بالتلفاز تارة ، والتجول بعشوائية بين مواقع الإنترنت حتى تعثرت على أحد الكتب الالكترونية وقامت بتحميله وقراءته حتى مر نهارها ببطء شديد .
تركت الحاسوب ووقفت بصعوبة متحمله على ساقها التي تؤلمها ولكن فشلت في الوقوف عليها ، فعادت مُجبرة إلى الرقود بالفراش لشدة الوجع ، وهى تتساءل لنفسها :
-راح فين دا كمان ؟! ومنين يقول لي مش محبوسة وهو قافل عليا زي المجرمين كده ؟!
نظرت يسارها فوجدت صورته الفوتوغرافية ، طالعته بضيق وهي تتساءل لنفسها : ‏وكيف أهرب منهُ إنهُ قدري
هل يملك النهر تغييرًا لمجراهُ؟
قلبت الصورة على وجهها كي لا تراه أمامها وقالت معترضة :
-حتى في الصور مكشر ! عليه بوز يقفل نفس الواحد من الحياة ، وقال أيه اتعصب لما قولتله يشوف له دكتور؟!
ظلت تأكل في أظافرها بملل حتى تسربت إلى أنفها رائحة حريق ، تجولت عيونها في المكان باحثة عن مصدر الرائحة ولكنها لم تجد ، تجاهلت الأمر مفكرة بأن أحد الرجال يقومون بحرق نفايات القصر ، ولكن مع مرور اللحظات الرائحة تشتد أكثر وأكثر ، تحملت على ساقها السليمة وهي تسعل بقوة وفتحت أحد النوافذ ففوجئت بالنيران تحاصرها من كل الجهات !
كانت كـ زهرة جميلة يحاوطها جيش من الدبابير أيهما سيفتك بجمالها أولًا ؟!
أخذت تصرخ وتستغيث بصوتٍ عالٍ ولكن بدون فائدة بسبب التعليمات الحاسمة وابتعاد الجناح الخاص به عن القصر ، أغلقت النافذة بقوة وهي تبحث عن مهربٍ من تلك الأزمة ولكنها لم تجد ، تحملت على ساقها السليمة وفتحت جميع صنابير المياة الموجودة بالمكان ، وشدت المنشفة المُعلقة و بللتها بالماء ووضعتها فوق شعرها كي لا يكن مصدر اشعال النيران بها ، تضاعفت النيران أكثر وأكثر واشتدت رائحة الدخان حتى أحست بالاختناق القاتل ، لم تساعدها ساقها أن تخطو خطوة أخرى ، بل تزحلقت ساقها وسقطت على حين غُرة مصطدمة رأسها بحوض الاستحمام ،مما ادى إلى فقدانها للوعي .
عقدت النيران حلقتها حول المبنى ، وتكونت أثرها سحابة ضخمة من الدخان والأبخرة ، احتشد الرجال بالخارج ، منهم من شرع في محاولات إطفاء النيران ، ركض الجنايني بخرطوم المياه وأخذ يرش الجدران ، وهناك رجل أخر ركض متصلًا بالمطافي ، خرج جميع من في القصر بعد ما فصلوا الكهرباء عن البيت ، هرول الجميع لمشاهدة الحريق ومنهم من يصرخ ويستغيث ومنهم من يذكر الله بصوت مرتفع ، أما عن تميم ركض نحو شرفة غُرفته ليشاهد سبب تلك الفوضى متواريًا خلف الستائر كي لا يراه أحد ، عندما رأت داليا النيران والدخان الحارقة فمن شدة الذعر لما تجد ملجئًا هي واختها للاحتماء من تلك النيران سوى الاختباء أسفل السرير ظنًا منه بأن ذلك المكان لا يمكن أن تناله براثن النيران ، أما عن عبلة تقف في شرفة غُرفتها بنصر وهي تراقب نيران حقدها تشتعل أكثر وأكثر وتنتقم ممن حاولت التعدي على مجدها الشامخ وتقول لنفسها بشماتة :
-الله يرحمك يا ست حياة !
ركض مدير الحرس مُهاتفًا عاصي ، صارخًا باستغاثة :
-عاصي بيه ! الحقنا في حريق كبير أوي في جناح معاليك !
أول كلمة قالها عاصي بصوت مسموع ، واندفعت من صدره كالسيل :
-حياه !
ثم صرخ بالسائق ويسري الجالس بجواره :
-ارجع البيت حالًا .
ثم عاد صارخًا في الهاتف بدون وعيٍ :
-خرجوا الهانم من جوه ، لو حصلها حاجة هقتــتلكم كلكم ، فاهمين !
••••••••
“لم تكن امرأة مرتبة كما يُشاع عنها ،وإنما كان لديها منهج خاص ويائس لتبدو كذلك ،إنها تخفي فوضاها ببراعة كي لا يلحظها أحد ”
دخلت نوران غُرفة شمس بعد ما تأكدت من نوم جدتها ، هتفت أول جملة لها وهي تقول :
-زي ما توقعت ، لسه صاحية !
ألقت شمس من يدها الهاتف الذي ” تميم ” في منتصف الفراش ، وشرعت في لم شعرها الناعم جنبًا وقالت بفتور :
-تعالي يا نوران ، أيه فى حاجة واقفة معاكِ في المذاكرة .
جلست بالقُرب من أختها وقالت بعتب ملحوظ :
-سيبك مني يا شمس ، أنا جاية اتكلم معاكِ أنتِ .
قاطعتها شمي بحسمٍ :
-لو جاية تتكلمي في موضوع تميم ، أنا خلاص قفلته .
أصرت نوران على المناقشة وقالت بحدة :
-هو متفتحش عشان يتقفل يا شمس ! أنا جاية هنا عشان يا اقنعك أو تقنعيني ، مينفعش تاخدي قرار من نفسك كده .
زفرت شمس بضيق يعكس تحيرها من الأمر ، فاختارت أسهل السُبل ، وهو الانسحاب بصمت ، ثم أجابت أختها مبررة :
-أنتِ متعرفيش حاجة يا نوران ، البيت ده كله رعب ، ناس غريبة وأفكار غريبة ، كل واحد فيهم عايش جوه حرب في دماغه مع نفس الشخص اللي بيفطر معاه الصبح .
ثم تنهدت بأسف :
-أقولك أيه بس ، مهما قلت مش هتفهمي !
تشدقت نوران بقناعة وسألتها بتحير :
-غريبة مسمعتش منك عيب واحد في شخص تميم زي ما كنت مستنية!
ضغطت نوران على عواطفها الباكية إثر تجاهل شمس لتلك العاصفة الناشبة بداخلها ، تنهدت بصوت عالٍ :
-تميم ! حتى هو كمان ، شخص غامض ، الهدوء اللي هو فيه دا حاسه وراه كارثة ، دماغي مشتتة ، عشان كده أسلم حل هو قفل الموضوع ده خالص .
رمقتها أختها بعدم تصديق :
-كل دي أفكار ملهاش اساس من الصحة ، بتبرري بيها موقفك مش أكتر عشان ترتاحي من عذاب الضمير ، لكن يا شمس …
قاطعتها شمس بنفاذ صبر :
-خلاص يا نوران ، مش حابة اتكلم .
-يبقي تسمعيني يا شمس ، أنا مش عارفة دماغك بتفكر في أيه ، ويمكن حقك تُرفضي ، خاصة أنه معاه مشاكل صحية ، بس أنا هسألك سؤال واحد بس وهمشي ، والاجابة مش عايزة اعرفها ، كفاية تعترفي بيها لنفسك .
التفت شمس لحديث أختها باهتمام وشغف في سماع سؤال ، بللت نوران شفتيها بعد لحظات من التفكير ثم قالت بنبرة خفيضة :
-خلال الكام يوم اللي قضتيهم معاه ، حسيتي أيه ناحيته ! أحنا بنات وفاهمين بعض ، يعني مثلًا مفيش لحظة كده قلب رق ولا دق فيها ! شوفي قلبك عايز أيه واعمليه ياشمس ، أنا مش بجبرك ، بس بساعدك تاخدي القرار الصح .
انصرفت نوران بعد ما ألقت جمر الحيرة في قلب ورأس أختها ، تعرقلت شمس على عتبة سؤالها الأخير وهي تتذكر شعورها عند لمسة يدها الأولى ، وكيف كان قلبها يتراقص حينها حتى هربت من أمامه كي لا ينكشف أمرها ، شعرت بالاشتهاء للمبارزة الفكرية التي تدور بين الاثنين وكل منهما يحاول أن يقنع الأخر بوجهة نظره المغايرة تمامًا عن الطرف الأخر .
استسلمت تلك المرة للنوم في حضن وسادتها وهي لا تعلم من يمكن أن تلومه عن حيرتها التي أطاحت برأسها وقلبها ، تنهدت بكلل وتشتت :
-يا ترى أيه حكايتك يا تميم !
••••••••
خرجت ” عالية” من غُرفتها كالخيل البائس وهي تجر عربات الماضي الحزينة وهي تتلفت حولها باحثة عن أثره حتى وصلت للصالة إلى مصدر الصوت الصاخب ووجدته منشغلًا لدرجة لا توصف مع المباراة وهو يشجع فريقه بانفعال شديد ويتشاجر مع الشاشة كأنهم أشخاص حقيقيين أمامه .
تسمرت في مكانها مذهولة لاهتمامه الشديد ولأول مرة كانت ترى مشجع كروي متعصب مثله ، شردت حائرة في انفعالاته وانشغاله بالتلفاز وبين الجوع الذي يتضور بجوفها ، ظلت متحيرة للحظات حتى أخذت قرارها وهي أن تتسلل بهدوء إلى المطبخ وهو حتمًا لم يلحظ وجودها .
بدأت في التحرك بخفة كي لا تحدث صوتًا ملفتًا حتى فزعت على صوت صرخته العالية وهو يصيح ويطيح بيديه بعشوائية :
-جووووول ! أيوه بقا يا واد يا لعيب !
أغمضت جفونها من إثر الرجفة التي هجمت على جسدها وهي تأخذ أنفاسها بصعوبة ، لاحظ مُراد وجودها خاصة بعد تصفير الحكم بانتهاء الجولة ، اخفض صوت التلفاز تحولت مخاوفها إلى حقيقة مؤكدة ، تحمحمت بخوف وهي تحشد قوتها الداخلية كي لا يرى الضعف منها ، وتجاهلت وجوده تمامًا وسارت بثقة نحو الثلاجة وأخذت تفتش عن أي طعام بها .
مالت كي تأخذ عُلبة الجبن وأخر ثمرة من الطماطم ، وظلت تبحث عن الخبز فلم تجد ، لقد كانت ثلاجته فقير للغاية ، زفرت بضيق وهي تسب بسرها وما أن دارت فوجدته أمامها مرتديًا قميصه الصيفي المفتوح الذي يبرز معالم صدره وبطنه الرياضية ، والشعر الكثيف الذي يغمرهم ، انتفض قلبها بحياء وتدلت أنظارها بخجل وهي تتحاشى النظر إليه حتى وجه إليها سؤاله :
-لسه صاحية يعني !
قفلت باب الثلاجة مُتسلحة بالقوة المزيفة :
-و أنت كمان لسه صاحي ! فين المشكلة !
دنى منها خطوة سُلحفية وهو يطالعها بنظرات خبيثة :
-مستنيكي ! أيه أنتِ كمان مستنياني !
رمقته باستحقار متجنبة الحديث معه وهي تبحث عن الخبز ، اقترب منها حتى أصبحت تحت سيطرته وحصاره وقال :
-اظن مش ممانعة !
لم يملأها قُربه إلا رُعبًا ، ظل يتأمل ملامحها المنتفضة والمكدسة بالرعب والضعف في آنٍ واحد ، سقطت ثمرة الخُضار من يدها من شدة الخوف وهي تبلل حلقها الذي جف إثر أنفاسه الحارقة .
اتسعت ابتسامة مُراد بمكرٍ وهو يعلن اشتهائه لتلك الملامح البريئة تحت غيمة انتقامه التي تبرر له سبب فعله هذا ، ظل يقترب ويقترب منها حتى لامست أنفاسه جدار عنقها الأشبه بعود من الريحان وما أن أحست بشوك ذقنه و شفته يخربش على جدار عنقها الرقيق ، انفجر بركان الذعر منها على هيئة بكاءً غزيرا شلالات منهمرة من جسدها المُتصلب تحت خيمته منتظرًا مصيره الهالك .
صوت بكائها كان كـ سن خنجر انغرز في قلبه لا يعلم من أين تحول انتقامه فجأة إلى عطف ، أحس برعشة جسدها المنكمش من قُربه كأنها في قلبه الذي أخذ يضخ دماء اللوم بشراينه ، غير مسار نيته وارتفع شدقه إلى مسامعها هامسًا بصوتٍ يخفي رقة قلبه وشهيته في آن واحد ، وقال بنبرة مبحوحة :
-جعان ! عندك أيه ممكن يتاكل !
قفلت جفونها بشدة وهي تحاول استيعاب تلك العاصفة التي اجتاحت جسدها وسرعان ما سُكب فوقها دلو من الثلج بجملة باردة وغير متوقعة ، ابتعد عنها قليلًا رافعًا حاجبه وكرر سؤاله بنفس ذات النبرة :
-بقولك جعان ، هناكل أيه ؟!
بصوت مفعم بالبكاء والانتفاضة ورعشة جوفها أجابته بصوت خفيض :
-مفيش غير جبنة .
عقد حاجبيه كأنه أحب أن يستمع لنبرة صوتها مرة أخرى :
-بتقولي أيه ؟!
جففت دموعها الغزيرة وهي تجهش بالبكاء وتأخذ أنفاسها بصعوبة وردت بعد انتظاره لدقيقتين بصوت مسموع :
-مفيش غير جبنة .
-طيب والعمل ؟!
طالعته بعيونها الذابلة وأهدابها المُلاصقة ببعضهم من كثرة البكاء وسألته :
-يعني أيه !
ذهب نحو الثلاجة وأخذ يتفحصها بأسف حتى قفلها مرة آخرى وقال لها :
-فعلا فاضية ، مفهاش حاجة !
أجابته بوهن :
-منا قولتلك !
فكر للحظات وهو يحك ذقنه حتى طالعها بمكر :
-خالتك كانت متعودة تملي التلاجة بنفسها ، وأنا بصراحة مش بفهم في الحاجات دي ، لو حابة السوبر ماركت آخر الشارع ، ممكن تنزلي تجيب مستلزمات البيت .
تابعت تفاصيله برعب ، حتى أجابها :
-لو لسة تعبانة خلاص ، مفيش مشكلة ، نتصرف ونجيب أكل من بره وخلاص .
أومأت بخفوت :
-أنا تمام ، بس نروح بالعربية عشان مش هقدر امشي كتير .
لم يعلم لماذا تسرب شعور السعادة لقلبه ولكنه برر ذلك بسبب فوز فريقه في المباراة ، وقرر الاحتفال بهذا اليوم بدون أن يعكر صفواها ، تقبل قرارها بملامح ثابتة ثم قال :
-هغير هدومي وننزل .
•••••••••
وصلت المطافي في أسرع وقت ممكن ، وسيطر الجميع على الحريق بدون حدوث خسائر تذكر ، ولكن النيران لا تعرف وقت ، نجحت في التسلل إلى داخل المنزل الصغير والتمسك بأثاثه ، وفي اللحظة التي خمدت فيها النيران وصل عاصي راكضًا بسرعة البرق وهو يجهر محدجًا لرجاله :
-فين ! هي فين ؟!
طأطأ الرجال رأسهم بخجل ، فقرأ العجز وقلة الحيلة المنقوشة على ملامحهم ، أطلق سباته في وجههم ثم ركض هائمًا على وجهه وركل الباب بقدمه بكل قوته ، فملأ الدخان صدره ، تراجع للخلف وهو يسعل بقوة ولكنة لم يستسلم ، دلف إلى الداخل بعد ما غطى أنفه بسترته وأخذ يفتش عنها كالمجنون ، أحس كأن شيء من مسئوليته فشل في حمايته ، تفقد الأماكن بعشوائية وهو ينادي عليها ، اتجه سريعًا إلى مصدر اندفاع الماء من المرحاض ، اندفع نحوه بلهفة عندما رأها غارقة في المياه نائمة على الأرض لا حول لها ولا قوة ، رمقها بنظرة ثم انخرط في زحام مهامه لانقاذها بدون تفكير حملها بين ذراعيه وهرول بها إلى الخارج فورًا .
جلس على ركبتيه وسند رأسها على فخذه وحاول إفاقتها ، تجمع الرجال حوله حتى اقترح أحدهم :
-نتصل بـ الإسعاف يا عاصي بيه ؟!
لم ينتظر قدوم الإسعاف خاصة بعد ما غمرت الدماء أصابعه ، وعلى عجلٍ حملها ونصب قامته وهو يأمر رجاله بصراخ :
-هاتوا العربية بسرعة !
••••••••••
وصل مُراد وعالية إلى السوبر ماركت ، فوقت عالية أمام الباب وقالت له بهدوء وهي تُشير على عربات التسوق :
-مش المفروض ناخد عربة من دول !
كأنها ذكرته بشيء لم يخطر على ذهنه ، هز رأسه بموافقة وقال :
-معاكي حق !
تعجبت من شخصيته المُتقلبة ، التي تتقلب كالطبيعة ، فجأة تعصف برياح عاتية وتارة يتحول جنونها لهدوء ونسيم لطيف ، انتظرته حتى أحضر العربة ودخلت أمامه متقدمة بخطوتين ، فأول ما مر عليه كان قسم الخضروات والفواكه ، وقف مكانه يراقبها وهى تطلب من العامل أن يزن لها من الأنواع المختلفة ما تحتاجه ، حتى أشارت له على الباذنجان وقالت :
-ممكن كيلو كفاية ؟!
رغم صمته الدائم إلا أنه خرج عن سكوته معترضًا :
-استني ، مش بحبه ، و بيعصبني لما أشوفه فـ البيت ؟!
رمقته بدهشة من غرابة جملته ، وهي تؤكد عليه بعدم تصديق :
-كل دا من البيتنجان ؟! خلاص بلاش .
وقفت أمام قسم الفواكه وتناولت حقيبة بلاستيكية وشرعت في وضع ثمرات التين ، فوجئت به يشد الحقيبة من يدها ويبدي اعتراضه :
-ما بحبش أي حاجة لونها أسود أشوفها فـ التلاجة ، قدامك فاكهة كتير .. اختاري منها
رفعت حاجبها غير مصدقة بما تسمعه ، وقالت بنبرة ابتزاز :
-التين كمان بيعصبك ؟!
زفر باختناق لسخريتها منه التي لمسها بحديثها :
-والعنب الأسود كمان .
حاولت أن تقاوم ضحكتها وهي تستمع لحديثه بغرابة شديدة ، أحست كأنه طفل صغير يتدلل على أمه ، تراجعت للوراء وهي تتحداه :
-تمام ، اتفضل نقي أنت بقا .. عشان واضح الفاكهة اللي بتعصبك كتير !
قبل تحديها بعناد وفتح الحقيبة وامتدت يده لتتناول ثمرة من الكاكا ، ولكنها عارضته بإصرار :
-مش بحبها ، وبتبوظ التلاجة ، لو سمحت بلاش كاكا .
رفع حاجبه مداعبًا :
-الكاكا بتعصبك ؟!
زفر بضيق :
-ده لو مش هيضايقك ؟!
هز كتفيه بلا مبالاة:
-مضايقني جدًا .
ثم حمل قفص كامل من الكاكا ووضعه في العربة وقال بعناد :
-بحبها أوي .
اتسعت جفونها من هول عناده وعدم احترامها لرغبتها كما فعلت معه ،تفصد الغضب في عيونها وهي تزفر بضيق وتتبع خُطاه مجبرة ، شرعت في شراء كل ما يقابلها ، تشاور عليه ويحمله ويضعه في العربة حتى امتلأت واحضروا غيرها ، لم تترك قسم إلا وابتاعت منه كل شيء ، لحوم واسماك ، تسالي ومقرمشات ، قسم المنظفات وغيرها من مستلزمات المطبخ الفارغ من كل شيء ، حتى قسم الأدوات المنزلية لم ينج منها ، بل احضرت العديد من الأطباق والصوانٍ والكاسات حتى فاض صبر مُراد منها وجلس على اقرب مقعد يُراقبها باستسلام تام ولكن كل هذا لا يُنكر استمتاعه في تلصص النظرات منها وهي تتحمل على وجعها وتفتش بأعين المرأة الفضولية في شراء كل ما ينقصها .
بعد جولة طويلة من التسوق وصل الثنائي أخيرًا ” للكاشير ” ، استأذنت عالية منه :
-استناك في العربية ، مش قادرة أقف !
أومأ بالموافقة :
-تمام .
كادت أن تخطو خطوتين ولكنها تراجعت ومدت كفها الرقيق :
-المفتاح !
-ااه المفتاح …
كانت جملته تائهة حائرة وهو يخرج لها المفتاح من جيبه ويضعه في كفها الذي لامسه بأنامله فلم يعهد في نعومته من قبل ، لم شرار التلامس بينهما قلبهما فضمت يدها سريعا وهي تهرب من جلادها الذي سلكت معه مسلك من الرأفة واللين ربنا يحمل لها سبيل للنجاة من تلك المتاهة التي سقطت فيها .
••••••••••
عدت الساعة الواحدة بعد مُنتصف الليل ، جاء فيها ” كريم “إلى شقتهم القديمة وهو يهتف :
-يعني أنام في قصر دويدار اصحى القى نفسي في شقتنا القديمة ، يرضي مين ده ؟!
لكزته جيهان بعتب :
-ما تسكت بقى ! وتشوف لنا حل في الورطة دي ؟!
ربع ساقيه بخفة وقال :
-وانا مالي ! هو طردكم أنتو ! أنا ككريم دخلي أيه ؟!
زفرت هدير باختناق وعاتبته :
-أنت مفيش دم خالص !
ثم وجهت الحديث إلى أمها :
-ماما خلى الولد دا يختفي من قدامي ، أنا على أخري !
تجاهلت جيهان شجارهم الطفولي ، وقالت له باهتمام :
-خد هنا ، أنت تعرف بيت اللي اسمها شمس دي ؟!
تناول ثمرة من التفاح وأخذ منها قطعة وضعها في فمه :
-الدكتورة شمس ، اااه أعرف .
التفت إليه هدير بغرابة :
-وأنت تعرف منين ؟!
سبقته جيهان في الرد وقالت بسخرية :
-البيه كان بيرسم على اختها !
انكمشت ملامح كريم بيأس :
-وأهي ما بقتش تعبرني ولا ترد على مكالماتي ! ارتحتي ؟!
ضرٰبته جيهان على ركبته بنفاذ صبر :
-بطل كلام فارغ وركز معايا ، خالتك عايزاك توصلها بكرة .
كريم بغرابة :
-أوصلها فين ؟!
-أف ! هيكون فين يا ذكي! ما تفتح دماغك دي شوية ! هتوصلها عند اللي ما تتسمى شمس .
كريم بعدم لهم :
-ليه ؟!
جزعت جيهان من غباوته واسئلته العبثية :
-من غير ليه ، نفذ وأنت ساكت .
•••••••••
“صباحًا”
لم تنم شمس ، بل قضت ليلتها تتقلب في لهب الحيرة والفكر ، صلت الفجر وظلت تناجي ربها بأن يدلها ويهدي قلبها إلى القرار السليم حتى غفت على سجادة الصلاة ، وعندما داعب شعاع الشمس جفونها في تمام الساعة التاسعة صباحًا ، فتحت عيونها البنية التي تغازلها الشمس بتثاقل ، نهضت من مكانها مسرعة نحو الهاتف الذي تركه ليكن وسيلة اتصال بينهم ، وفتحته باحثة عن رقمه شرعت في كتابة رسالتها وقرارها الأخير المُحمل بالرفض .
فتحت شاشة الرسائل وأخذت تنسق في كلماتها وتحذفها ثم تعاود كتابتها مرة آخرى حتى يأست وتركت الهاتف من يدها وسوفت الأمر ، ولكن ترددها كان يجبرها على التخبط ، مسكت الهاتف مرة أخرى وهي تحدث نفسها :
-خلاص ياشمس ، انتِ تعتذري بشياكة ومفيش نصيب .. أوف بس دي إهانة وممكن يضايق ! طيب أكلمه فون أحسن ! بس أنا عارفة نفسي هعك الدنيا ومش هعرف أقول جملتين على بعضهم ! خلاص خلاص ، أنا هكتب له وأمري لله .
عادت لتُنمق حروفها مرة أخرى بأنامل مُرتعشة وقلب مُضطر حتى فزعت على صوت طرق الباب بفوضوية ، رمت الهاتف من يدها وهرولت نحو الباب ، وعلى المُقابل خرجت نوران من غُرفتها ، وفارقت فادية المطبخ إثر صوت الصخب والضجيج على الباب ، فتحت شمس بغضبٍ حتى وجدت أمامها عبلة ، ذهول يتبعه دهشة عن سبب قدومها ، تراجعت خطوة للوراء وقالت :
-عبلة هانم ! اتفضلي ؟!
دفعت الباب بقوة ودخلت بدون احترام للمكان ، أخذت تطالع المنزل القديم بنظرات استحقار وقالت بتفاخر :
-أنا مش جاية اتفضل واضايف يا حلوة .
وصلت إلى منتصف الصالة ودار نحوها بعد ما تفقدت نوران والحاجة فادية وقالت بتهديد :
-أنتِ مفكرة هتهربي بعملتك دي تبقي غلطانة ، ولو كان عاصي طردك من البيت وفاكر إني مش هعرف أوصلك تبقي بردو غلطانة ومتعرفيش مين هي عبلة المحلاوي !
تقدمت فادية بعد ما شدت أكمام جلبابها القطني وقالت موبخة :
-وهي عبلة هانم المحلاوي متعرفش أن دخول بيت الناس له أوصول !
ضحكت بصوت ساخر وقالت :
-مش باقي غيرك يا حجة تعلميني الأوصول !
-استني أنتِ يا تيتا ..
تقدمت شمس ببسالة ووقفت أمامها عاقدة ذراعيها :
-أما نشوف عبلة هانم هتقول أيه ؟!
مسكتها عبلة من مرفقها بقوة ورجتها بعنفوان :
-بقي أنت يا بت تبلغي عني أنا ؟! وفاكرة نفسك هتهربي بعملتك ! أيه مفكرة أني ممكن أبات في السجن ؟!
رسمت شمس على وجهها ابتسامة شريرة وقالت :
-والله السجن هو المكان المُناسب لقتــٰالين القُتلى ! واللي بيتهجموا على بيوت الناس بالشكل ده ؟!
أحمر وجه عبلة من شدة الغضب وتطاولها عليها ، وصرخت بوجهها :
-اسمعي يا بنت انتِ ، اللي حصل مش هيعدي ، ولازم تدفعي تمنه ، وأنا جاية هنا عشان أحذرك ، لو شوفتك في سكتي مرة تانيه ، تبقي أنتِ اللي اخترتي مش أنا .. ماشي يا حلوة !
ثم نادت على رجالها وقالت بصيغة آمرة :
-تعالو ارموا الزبالة دي بره ، خلاص الشقة اتأجرت يا عسل !
••••••••••
استيقظ مُراد من نومه بعد ليلة طويلة قضاها بصحبة عالية ، وعزمها على العشاء من أحد الأماكن التي تُحبها ، نهض بحماس والضحكة لم تفارق وجهه لم يعلم مصدرها ، للحظة تذكر قُربها اللذيذ ، ورائحتها الهادئة كطباعها ، رجفتها وانتفاضة قلبها تحت قبضته ، وخوفها الذي حاول أن يبدله باطمئنان ! فكيف لعدو يطمئن خصمه قبل خوض الحرب .
نهض من مخدعه وأجرى العديد من المُكالمات التي تخص الشغل ، ووثب قائمًا ليبدل ملابسه ويستعد للذهاب ، لملم أشياءه وغادر الغُرفة ثم خرج متجهًا ناحية المطبخ ليشرب قهوته ، لكنه فوجئ بفطار كامل في انتظاره ، وكوب القهوة جاهز بمحتوياته لم ينقصه سوى سكب الماء الساخن به ، أخذ يُطالع المائدة بإعجاب شديد مشتهيًا أن يأكل كل ما أحضرته .
شرع في سكب الماء ولكنه توقف إثر هاتف أمه ، ترك ما بيده وقال بهدوء :
-صباح الخير .
زفرت جيهان بضيق وهي تخرج الملابس بعشوائية من حقيبتها وتقول :
-خير أيه بس يا مُراد ، عاصي طردنا مش القصر !
ضحك بسخرية وهو يجلس على مقعد البار بالمطبخ و أجاب :
-طيب تمام ! صدقتوا كلامي ! خلي عبلة هانم ترجعكم بقا !
صرخت بالهاتف غاضبة :
-لا بقولك أيه ؟! أنا بكلمك عشان نشوف حل ، مش عشان تشمت فينا !
أخذ رشفة من كوب القهوة وقال ببرود :
-والمطلوب !
جلست جيهان على طرف الفراش بنفاذ صبر :
-أنا مش قادرة أقعد هنا ، أنا وهدير هنيجي نقعد عندك لحد ما نشوف حل !
انكمشت ملامح مُراد برفض قاطع :
-ما تروحوا شقة الرحاب !
تحولت نبرة جيهان من الغضب إلى الاسف :
-منا بعتها من ست شهور !
جهر مراد بغضب :
-بعتيها ؟! أنت عارفة الشقة دي أنا جبتهالكم ليه ؟! عشان يوم زي دا ، وفين فلوسها طيب ؟!
صاحت جيهان معاتبة :
-وأنا بكلمك عشان تبكت فيا ؟! ولا مش عايزني أجي عندك ! وبعدين تعالى هنا ، البت اللي ما تتسمى دي ، مضت ولا لسه !
زفر بضيق وقال :
-كله بوقته .
همست جيهان بتحذر :
-بقول لك أيه ، اسمعني ، البت عالية دي مالهاش في الغصب ، كُل بعقلها حلاوة وهتكسبها لحد ما ناخد اللي عايزينه يا حبيبي .
اختصر الحديث مع أمه حول هذا الموضوع وقال بحزم :
-إن شاء الله ، ربنا يسهل .
-ومتنساش تشكر هدير أختك على حركة موضوع العلمين ، دي خدمتك خدمة العُمر ، متنساش بقا أمك وأخدك !
نفذ صبر مُراد من مُخططات أمه وأخته الخبيثة وقال :
-ربنا يكرم ! أي خدمات ؟!
نهي مُراد المكالمة الهاتفية مع أمه ورمي المحمول بجيب سترته الرمادية ، وهو يزفر بضيق حول دائرة الشر الذي سقطها بداخلها ، وعلى حدة دخلت هدير على أمها وهي ترتدي ملابسها متأهبة للخروج :
-أنا رايحة الشغل !
-الشغل عند عاصي ؟!
هدير ببرود :
-أيوة يا مامي ، مال الشغل باللي حصل بينا !
رمقتها جيهان بعيون ضيقة :
-مش مطمنالك ، بس اعملي اللي يريحك ، المهم .
ألقت نظرة سريعة على ساعتها وقالت بعجلٍ :
-خير يامامي !
-هترجعي من الشغل على شقة مُراد أخوكي ، هنقعد هناك الكام يوم دول !
اتسعت عيون هدير من هول الصدمة وصاحت :
-what!!
-اللي سمعتيه يا قلب أمك ، عشان قلبي مش مستريح لأخوكي!
حاولت هدير استيعاب مخطط أمها الجديد وقالت بدهشة :
-طيب وعالية !
وضعت جيهان ساق فوق الأخرى وقالت بمكرٍ :
-أنا رايحة عشان عالية دي بالذات !!!!
•••••••••
‏وأعرف أنكِ ما عدتِ الأولى، وأن قلبك ما عاد قلبك، وأن الأيّام التي لم تكن تتحرّك من دوني باتت الآن تمضي وكأنها لم تتوقف لأجلي، والأهم أني أعرف أنكِ الآن واحدة أخرى لا أعرفها ولا تسعى لأن تعرفني ..!
تلك الكلمات التي قرأتها “رسيل” وهي تتصفح أحد مواقع الانترنت في صندوق الرسائل الأخرى ، فتحت الرسالة رغم علمها بهوية المُرسل ، وأخذت تُكرر قراءتها محاولة تقليد نبرة صوته ، ذلك الشخص الذي لم تكتب إلا إليه ، ولم يكتب إلا إليها ، والآن بات الثنائي يكتبان على جدران النسيان ..
بعد تفكير عميق حسمت ” رسيل ” قرارها بأن تتجاهل الرسالة ، وتتجاهل ما أرسله قاسم يكي يستعطف قلبها ، ولكنه لم يكف عن الإرسال ، ليتبعه برسالة جديدة :
-كنت على عِلم أن العشق الذي وصلت له معكِ لا يحدث في حياة المـرء إلا مرّة واحدة ..!
تلك المرة لم تستطع منع نفسها كي تكتب له ، استجمعت عباراتها وعبراتها وكتبت :
-الطيور لديها أجنحة ونحن لدينا قلوب .. كلاهما اسمى معاني الحرية، وقلبي مثلما تجرع الحُب بقربك ، تمتع بأسمى معاني الحُرية في بُعدك ، في الحالتين ، أنا لم أخسر شيئًا .
لم يتوقف عن إرسال المزيد حيث كرر رسالته عدة مرات :
-رسيل ..
رسيل …
أنا أحبك يا رسيل …
فزعت من نومها صارخة ، فاندفع عاصي الذي قضى ليلته بجوارها في المشفى ، وهو يربت على جسدها المرتعش الذي يتصبب عرقًا ويهدأ من روعها :
-أنتِ كويسة !
تفقدت أركان الغرفة بعيونها اللامعة حتى استقرت أمام عيونه ونطقت بصوت خفيض :
-رسيل !

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

‫7 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى