روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الرابع والأربعون 44 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الرابع والأربعون 44 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الرابع والأربعون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الرابع والأربعون

غوى بعصيانه قلبي 2
غوى بعصيانه قلبي 2

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الرابعة والأربعون

الفصل الرابع و الأربعون
“الجزء الأول من الفصل ”
(14) ج 2
-خُلق القلب عصيـًا
” لو أنها ورقةً لمزقتها ، لو أنها زجاجةٍ لكسرتها
لو أنهُ جداراً لهدمته .. لكنهُ قلبي. ”
•••••••
أن يقف القلب داميًا بالحب والجرح في أنٍ واحد ، أن يقف الماضي بقسوته كالغصة في حلقك ، أن تتحول فراشاتك وأحلامك البكرية إلى طير ذبيح مع أول تجربة طيران له !! أي وسام سيُمنح ؟! الغفـران أم الإنتقام ؟! أي منهما سيشفي الروح المعتلة والمحتلة بجيوش الغدر ؟! أي منهما سيهدي النسيان للأبد ؟! أي منهما الصواب ؟!
كانت نظراتها ثابتـة ، تدرك هدفها جيدًا ، انسكب دلـو الأعوام السابقة فوق رأسهـا ، أخذت تتأمله مُكبلًا مقيدًا .. يعلو وجهه كدمات الإهانـة التي سبق ونثرها طمعـًا على جسدها متواريـًا خلف ستار الحُب المزيف .. بللت حلقهـا وتذكرت وعد سابق بينهم ..
#flash_back .
“-ماقولتليش ، أيه أول حاجة هتعملها لما يبقى معاك فلوس كتيـر ؟”
ليقترب منها ويطوق خصرها من الخلف ويسرح بخياله وأكاذيبه معها قائلًا :
“-هشتري يخت ، ونعيش عليـه أحنا الاتنين سوا ، نعيش بعيد عن دوشـة العالم .. عشان محدش يزعجنـا.”
فأجابته هائمة بسُكر خِداعه :
“-كده كده وأنا معاك مش بكون شايفة ولا سامعـة حد غيـرك .”
فاقت من شهد ذكرياتها على واقع حقيقتها المؤلمـة وهى تسقط كالطائر الذبيح بين يديـه وفي فخه الإجرامي ، أغمضت جفونها فاعتصر منها دموع القهر وهي تقترب منه شيئًا فشيئًا ، محاولة استجماع شتات نفسها وقوتها كرسيل المصري .
وقفت أمامه وهي ترمقه بسهام الخسـة والتحقيـر وقالت بعتب :
-أنا ازاي اتخدعت فيك ؟! أزاي ما شوفتش إنك بني آدم حقيـر ولا تسوى ، أزاي مصدقتش بابا !!
ثم صاحت بصرخة عالية :
-أنتَ أزاي تتجرأ و تعمل فيـا كده !!
برر قاسم قائلًا :
-رسيـل ، انسي اللي حصل .. أنا بعترف بغلطي ، أنا لسـه بحبك .. تعالي نبدأ من أول وجديد ..
-زال سحرك ياقاسـم بيـه ، أنا أول مرة أشوفك على حقيقتك ، حقيقة دنيـئة .
ثم ألقى نظرة ناحية عاصي يحتشد بها الخوف :
-بلاش يغريكي بفلوسـه !! محدش هيحبك أدي .. رسيل فوقي .
ابتلع بقيـة أكاذيبـه بصفعة قوية من كفها كانت من نصيب وجنته جعلته يجلس على ركبتيه من شدتها .. ونهرته قائلة :
-أنت أي ؟! لسـه هتكذب تاني !! مش كفاية كذب وخداع بقا ؟! يعني وصلت لي عشان توصل لقنديل المصـري وتكون دراعه اليمين .. مش كفاية قطعت الأيد اللي اتمدت لك !!
أخذ يترجاها:
-رسيل اسمعيني .. كانت ساعة شيطان ، أنا كنت شارب وقتها ومكنتش متخيل أن أبوكي يرفضني .. أنا عملت كده من حبي ليكي ، رسيل !
وبخته قائلة بمرارة وحرقـة :
-أنت عملت كده لانك بني آدم ناقص ، خسيس .. بس جيه الوقت اللي هخليك تدوق فيـه مر السنين اللي عشتها .
تدخل عاصي آنذاك وضمها برفق من الخلف كي يهدأ من روعها ، وقال بحدة:
-خلصي حسابك معاه ، لأن حسابه معايا لسه تقيـل ..
سحبت المسدس من خصر أحد الحرس وقالت بقوة :
-حسابـه معايا مش هيخلص غيـر بالدم .
صوبت فوهـة السلاح إليـه بيدها المرتعشة وهي ترمقه بخسة واحتقار ، سألته سؤالهـا الأخيـر :
-أنت عملت فيـا كده ليـه ؟! أنا أذيتك في أيه ؟! قول لي ؟
كاد أن يقف على قدميـه ويديه المنعقدة وراء ظهره ، فألجمـه أحد الحرس بعنف كي يبقي مكانه ، تفوه قاسم بـ شر :
-لانك رسيـل المصري بنت أكبر معلمين الغردقة ، مفيش راجل عينه وقعت عليك إلا وقال هي دي .. خليتك هدفي عشان أوصل وأحقق أحلامي ، بس اللي حصل.
صرخت بوجهه إثر صمته المفاجئ :
-أيه اللي حصل انطق !
أطرق بمكر ثعالب :
-حبيتك يا رسيـل ، حبيتك وكنت عايزك تكوني ليـا ، بس أبوكي قل مني قدام كل الناس، قل مني وطردني .. بقيت بين نارين ، نار حبك ونار انتقامي ، لحد ما خدت القرار اللي اكسر بيه قنديل المصري باقي عمره .
ردت بصوتها المختنق وهي تعيد السلاح إلى رأسه :
-أنت حيـوان .. أنت مستحيل تكون بشـر .
وقف عاصي بجوارها يريد أن يقتله بيديه ولكنه ترك لها الساحة كي يشفي قلبها العليـل ، تفوه بثبات :
-ده خسيس يا حياة ، ومايستاهلش ألا الموت ..
ثار قاسم بوجهه :
-أنت السبب في كل ده ، رسيل بتحبني أنا ، أوعي تفكر أنها ممكن تحبك في يـوم .. لو فاكر بكدة هتكسب قلبها تبقى غلطان ولعبتك خسرانة يا عاصي بيـه !! بس عايزك تفتكر حاجة واحدة كل ما تبص في عينيها .. أنها كانت في حضني قبلك .. أنـا مش هسيبكم تتهنوا ببعض مهما حصل .
خطف السلاح منها بذعـر بعد ما رفسه بقدمه فارتمى ارضًا ، ثم صوب السلاح بوجهه :
-حلال فيك إني اقتلك بأيدي …
فوجئ برد فعل حياة وهي تقف أمامه معترضة ، وتضع كفها المرتعش فوق يده التي تحمل السلاح ، تلاقت أعينهم لبرهـة ثم قالت راجيـة :
-بلاش تلوث أيدك بدم حيوان زي ده ..
اتسعت عينيه مشدوهًا :
-حياة أنتِ نسيتي عمل فيكي أيه ، ده يستاهل الموت !!
-الموت رحمة له يا عاصي .. عشان خاطري بلاش ، سيبه يروح في ستين داهيـة بعيـد عننا ..
رفض بعينيه حديثها الغير مقنع ، ولكنه فكر للحظات ثم رمى السلاح للحراس وأمسك بياقـة قاسم وسدد إليـه الكثير من الضربات حتى سالت الدماء من أنفـه .. فـ أشار لأحد رجاله بإشارة فهم مغزاها .. ابعد عاصي يده عنه وتعمد ضم رسيل إلى صدره كي يعلن أمتلاكها أمامه ويبث وميض الهزيمة بعقله المريض ..
شرع رجاله بتقيده وتكبيله بالحبال وتصلبه على حافـة المركبـة ، اقترب عاصي منه بفظاظـة ثم قال :
-أنا دلوقتِ هاخد روحك بالبطيء ، هعرفك يعني أيه روحك تتسحب منك وأنت متكتف ومش قادر تقاوم وتلحق نفسك ..
ثم ركله بكل قوته ليسقط قاسم بالماء الذي تناثر هنا وهناك ، ركضت حياة إلى عاصي تترجاه ببكاء لعدم قدرتها على تحمل المزيد :
-بلاش ، خليهم يطلعوه .. حسابه عند ربنا ..
مرت الدقيقتين على قاسم بمذاق أمر من مرارة أعوامه الماضيـة ، تسحب الماء جسده وروحه وأنفاسه لأسفل ، تقلبه يمينًا ويسارًا كيفما تشاء .. بات صراخه منقطعًا ، اخذ يصارح الموت والحياة وهو يتذكر فعلته الأخيرة وجريمته الكبرى وهو ينهش ضحيته ، ذاق مرارة ما عانتـه ..
أخرجوه رجاله من الماء عندما سُحب بواسطة الحبـل المُكبل به حتى لفظ قاسم انفاسه صارخًا بالنجدة :
-الحقـوني …..
جذبوه الرجال إلى سطح المركبـة تحت قدمي عاصي وهو يلهـث ويسعل بقوة ، انحنى عاصي لمستواه وقبض على عنقــه بشراسة :
-عرفت يعني أيه تتعلق روحك بين الحياة والموت !!
قهقه قاسم متعمدًا استفزازه وهو يسعل بقوة :
-بس كانت ليـا قبل ما تكون ليـك ، خليك فاكر ده كويس أوي …
بنيران غضبه ألقاه مرة ثانيـة بالماء كي يتجرع أقسى أنواع العقاب ، أخذ يقرر فعلتـه أكثر من مرة حتى أوشكت روح قاسم على الانتهاء .. في المرة الأخيرة التي أخرجوه فيه الرجال وبين توسلات حياه المتعلقه بساعده كالطفلة ، رمقـه بنظراته الساخطـة حتى نادى على رجاله قائلًا :
-سلموه لآندرو .. وهو هيخلص عليـه بمعرفـته …
••••••••
” بالقـصر ”
-يا صبـاح العسل على الهانم .. تصدقي عبلة المحلاوي اتولدت علشان تبقى هانـم وبس .
وضعت ساق فوق الأخرى وهي تستقبل مغازلـة كريـم الخفيفة وقالت :
-طول عمرك بكاش .. مش هتبطل بكش …؟
جذب الكرسي نحوها وجلس فوقـه برشاقة :
-أنتِ مش مقدرة ولا أيه ؟! تعرفي امبارح لسه كنت في سيرتك أنا وواحد صاحبي بيفكر يخطبك لباباه ، يعني لسه شابة وحلوة ويتقدم لها عرسـان !!
قهقهت عبلة بصوت مرتفع إثـر سماعها للكلام المحبب لقلبها ، دائمًا تسعى لسماع كلمات الحُب والغزل والمدح ، تنجذب للحديث الذي تكون محوره ، فردت قائلة :
-وبابا صاحبك ده أمور وغني وعارف هو هيتجوز مين ولا داخل على طمع ؟!
نطق كريم بتلقائية :
-منا طفشـته خلاص !!
انكمشت ملامح عبلة :
-ليـه بس ؟!
-عشان حسيتهم فعلا داخلين على طمع …
ضحكت عبلة بصوتها الأنثوي الرقيع الذي دوى صداه بالقصـر حتى وصل لأذان نوران التي تراقب مسرحيـة كريم من أعلى وهي تقول بتعجب :
-نصاب أوي يا ابن جيهان ؟! اللي يخلي البومة دي تضحك يبقى فعلًا مش سهل وحلنجى !!
غير كريم مجرى الحوار قائلًا :
-أي رأيك نشرب فنجان قهوة سوى واحكي لك على البنت اللي مطيرة النوم من عيني !!
ردت بإعجاب :
-يا سلام !! كمان حب جديد .. احكي لي يلا ومن بكرة اروح اخطبهالك .. بنت مين وباباها بيشتغل أيه ؟
رفع كريم نظراته لأعلى وهو يتأمل الفراشـة الجميلة التي تتراقبهم من الشرفـة وقال مغازلًا :
-عارفـة لما تبصي على السمـا بالليل وتتوهي وسط النجوم وفجأة يظهر القمر فـ تنسي كل ده وتقولي هي دي !!
ثم تنهد بشوق :
-هي في جمالها زي القمـر ، بس عليها لسان يستاهل قصه يا خالتي ..
ضربته على ركبته بغضب حتى استرد أعينه الهائمة وهي توبخه :
-جاك خلع ضروسك … اي خالتي دي ؟! قاعدين في عزبة أحنا !!
تأوه كريم وهو يفرك ركبته مكان الألم :
-عندك حق في دي ، معلش سرحت شوية ، أول مابفتكرها بنسى نفسي …
-اامم المهم باباها بيشتغل أيه ؟!
تململ كريم في جلسته وقال بمكر :
-مدير أمن وعلى أعتاب وزيـر .. حلو ده ؟!
شردت عبلة بدلال وقالت :
-طيب لما يبقى وزيـر ابقى اشوف موضوع بنتـه ..
تحمحم كريم بخفوت وهو يهمس لنفسـه :
-ده أيه الوقعـة المهببـة دي ..
ثم جهر :
-هما ماجابوش القهوة ليـه لحد دلوقتي ؟!!!
••••••
-تعالي عايـز أوريكي كذا تصميـم واختاري اللي يعجبك ..
أردف تميم جملته الأخيـرة خاصـة بعد ما لاحظ تحاشي شمس له ، وتعمدها في الابتعاد عنه .. فرغت من لف حجابها ودنت منه بتوجس حتى جلست بجواره تتفقد ما يُشيـر إليه .. بدأت تدريجيـًا تتناسى أسباب بعدها عنه وانغمست في اختيـار التصاميـم وشرعت في إبداء رأيهـا وإضـافـة لمستها الأخيـرة على كل تصميـم حتى استقر الثنائي أخيـرًا على الشكل النهائي .. كادت أن ترحل فأوقفها متسائلًا :
-أنت متغيـرة ليـه ؟!
ردت بارتباك :
-أنا ؟! لا أبدًا .. مفيش .
-متأكدة ؟!
-ااه متأكدة هكذب ليـه!! أصلًا ما بحبش الكذب .
تغير لون وجهـه وشرد ذهنه في أكبـر حقيقـة كذب فيها وقال :
-يعني أيه ؟!
-عادي ، يعني أنا أصلا بقرف من الشخص اللي بيكذب ، هكذب أنا ازاي ..
-بس ساعات اللي بيكذب بيكون له أسبابه ومبرراته ..
ردت بحسـم :
-مفيش مبرر للكذب يا تميـم غير أن اللي بيكذب ده كذاب فعلًا وضعيف ، ومعندهوش الجرأة أنه يواجه ..
رمقها بنظرة توحي بعدم اتفاقه معها وقال ليجس نبضها :
-يعني لو كذبت عليكي في حاجـة ، هتعملي أيه !!
ردت بسـرعة وبدون تفكيـر :
-همشي وتبقى نهايـة مشوارنا !! لان بعد الكذبة الأولى كل الحقايق شكوك ..
-يعني مش هتديني فرصـة تسمعيني ؟!
فكرت للحظة ثم قالت :
-فرصـة الكذاب يعني كذبة جديدة .. وأنا مش شخص فاضي عشان اسمع مبررات للكذب بكذب جديد ، لاني هكون فقدت الثقـة في الشخص اللي قُدامي ..
ثم رمقته بنظرة استكشافية:
-تميـم أنت مخبي عليـا حاجة …؟
-هاااه ؟! لا أبدًا ، كُنت عايـز أقول لك بس جهزي نفسك هنسافر يومين دهب نغيـر جو ، ابقي قولي لعاليـة ونوران يجهزوا همـا كمان ..
عقدت حاجبيه بشك ثم قالت :
-تمـام ….
فغيرت مجرى الحديث :
-ااه ، نسيت أقول لك الدكتور الألماني بعت رده على التقاريـر و حابب يشـوفك في أسرع وقت .. قُلت أيه ؟!
بدت الحيرة تتنقل على ملامحـه ثم قال ليهرب من ذلك المأزق :
-خليها بعد ما نرجع من السفـر ..
أومأت بالإيجاب :
-تمـام ..
كادت أن تغادر ولكنه أوقفها قائلًا بدون تفكيـر :
-استني ..
ألقت نظرة على كفه المثلج فوق كفها وقالت :
-في حاجـة ؟!
رد بتردد :
-لا ولا حاجـة .. كنت حابب لو خرجنا نفطر سوا بره ، أيه رأيك ؟
•••••••
” بسيارة عاصي ”
‏أعرف بأنه سَيمر وأن كل ما مررت به مجرد سحابـة صيف ، و لكن ما الذي سَيتركهُ بداخلي ؟!
تسند رأسها على صدره بعد ما أصاب رأسها دوار الذكريات ، فبحثت عن أكثر مكانًا أمانًا يمكنها أن تستريح فـوق ، بعد قضائها لفتـرة طويلة في البحر تلقي به نفايات ماضيها ..
غلغل أصابعـه بفراغات كفها صاحب الأصابع الطويلة والرفيعة الأشبه بيدي الأميرات ، ربت برفق على كتفها وقال :
-هتفضلي طول الطريق ساكتـه !
ردت بكلل :
-أقول أيه ؟
-أي حاجة متسكتيش .. لو تعبانة من حاجة نروح لدكتور .
-لا ، أنا كويسـة .
-بس البنات مش هينفع يشوفوكي في الحالة دي ؟!
ردت بتثاقل :
-هبقى كويسـة ..
قرر ألا يحملها عبئًا أضافيًا ويصمت هو الأخر مستلذ باستسلامها بين يديه واتخاذها من حضنه مأوى لأحزانها .. أخذت يداه تتنقل بحرية من فوق رأسها لكتفها كي يشعرها بوجوده معها دائمًا ..
وصل الثنائي إلى الفندق فكان يسـري بانتظارهم .. نزل عاصي أولًا وأخذ يحاوره بهمس بمواضيع مختلفة حتى انتقل إلى أمر صغاره وقال :
-لسـه نايميـن ؟!
-فوق في جناح معاليـك ..
هز رأسه متفهمًا ثم عاد إلى حياة وفتح لها الباب بنفسه ومد يده كي يساعدها ، أعطته يدها بدون تردد وهبطت من السيارة ووقفت بجواره فسألها :
-متأكدة أنك كويسة ؟!
أومأت بخفـوت حتى سارا الاثنين معـًا ناحيـة الاستقبال بالفندق ، أخذ مفتاح جناحه الفاخر المكون من غرفتين ، غُرفـة بها سرير ملكي بطراز حديث ، والأخرى تحوي سريرين صغيرين لبناتـه شاملة الحمام والشُرفـة الخاصـة بالمكان .. بينهم مسافـة يوجد بها ” انتريـة ” وتلفاز تربط بين الغُرفتين .
وصلت حياة إلى الغـرفـة فسألتـه :
-البنات فين ؟!
أشار إلى الغرفـة الخاصه بهم :
-هنـا ، تحبي نطمن عليهم !
هزت رأسها بالموافقـة وسبقت خُطاه ، فتحت الباب بهدوء ثم دلفت إليهم فاتبع خُطاها ، بدأت في شد الغطاء فوق داليـا بحب بعد ما طبعت قُبلة طويلة على جبينها ، وهو الأخر فعل مثلها مع تاليـا ، ثم حرص على تشغيل التكييف على الوضع الساخن للتدفئة .. أشار إليـه كأنه يُتمم على ما فعلـه حتى تلقى منها نظرة القبـول والرحب ..
غادر الثنائي وقفل باب الغـرفة بحذر وسألها :
-تحبي تاخدي شـاور ؟! هيفيدك أوي ..
-تمـام ..
دخلت الحمام لتترك للماء مهمة ذوبان أحزانها ، أما عنـه طلب لها وجبـة الغداء خاصـة طبق ” الباستـا بالجمبري ” الذي تحبذه ..
مرت قرابة النصف ساعـة على حياة تحت الماء حتى استطاعت استجماع نفسهـا حتى خرجت بحالـة أفضـل ، في نفس الوقت وصل الطعام وأخذه عاصي من النادل الطاولة .. ثم عاد إليـها فوجدها تصفف شعرها الثقيـل أمام المرآة ويبدو عليهـا المعاناة الشديدة في ذلك ..
وقف وراءها وتلاقت أعينهم بالمـرآة :
-اساعدك ؟
أخذت وقتـًا طويلًا حتى حسمت قرارها بصمت وهي تمنحه الفرشاة ، استقبـل هدوئها واستسلامهـا بابتسامة خفيفـة وشرع في تصفيف جدائل شعرها الكثيفـة بحب .. ترك الفرشاة من يده ثم أخذ يبحث بالأدراج تحت أنظارها الفضوليـة حتى وجد مصفف الشعـر الكهربائي، وبعد ما وصله بالكهرباء قال :
-هتبردي لو سبتي شعرك كده ، لازم ينشف ..
سالته باستغـراب :
-أنت عرفت الحاجات دي أزاي ؟!
اكتفى بابتسـامة خفيفـة أرسلها إليـها عن طريق المرآة ثم شغل مصفف الشعـر وبدأ في تجفيف شعرها بمهارة فائقـة اثارت إعجابها ودهشـتها ، كيف لرجل فظ غليظ مثله يقف على رأسها مهتمًا بما يجعلها أكثر راحةً ويفعل كل ما بوسعـه لينال رضاها ..
مر الوقت سريعًا حتى أنهى شعرها وجففه بعنايـة حتى أطفأ الجهاز وقال :
-افتكر كده تمام !! ناكل بقا لأني على لحم بطني من إمبارح ..
رفعت عيونها بامتنان لتلتقي بعيناه المتعلقة بالمرآة وقالت بعرفانٍ :
-شكـرًا …
-على أيـه ؟!
-عشان حليت مشكلة شعري … أنا كنت هقصه أصلًا
رد بحماس :
-لا تقصي أيه بس ؟! استهدي بالله ، ولو على شعرك أنا مستعد أحل المشكلة دي كل يوم .. بس بلاش حوار تقصيـه ده ..
-اشمعنـا !!
-بعدين هابقى أقول لك .. يلا تعالى ناكل الأكل برد ..
وثبت مرتدية ” بيجامـة ” بيضـاء فضفاضة واتبعت خُطاه بعد ما شبك يداه بيدها .. وصل الاثنان إلى الطاولة وقال بحماس :
-طلبت لك باستا بالجمبـري ، عارف أنك بتحبيها !!
شكرته بنظرة من عينيها الزرقاء وجلست مقابله على الطاولـة ، بدأت بأكل السلطة الخضراء وما أن رفعت الغطاء عن طبق المكرونـة وتسللت الرائحـة لفمهـا ، أمسكت ببطنها ورقدت إلى المرحاض كي تتقيأ ماء جوفها ، ركض خلفها بلهفـة منتظرها حتى فرغت من تلك اللحظات القاسيـة … ثم عادت إليه بحالتهـا الضعيفـة فسألها :
-حصل أيـه ؟!
-واضح أني أخدت برد .. لو سمحت خرج الأكل من الاوضـة مش مستحملة ريحته ..
-برد أيه !! أنتِ كنتِ كويسـة !! حياة أنا قلقان من حالتك دي ؟! نكلم دكتور !!
ردت بوهن :
-متكبرش الموضوع أنا كـو …
لم تُكمل جملتـها فعادت حالة الغثيان إليها ، رجعت إلى المرحاض وهي تفرغ أحشائها التي لم ينزل بها شيئا من ليلة أمس .. فوجئت بيده تحاوط خصـرها ويقفل بيده الأخرى صنبور المياه ويجفف فمها بالمنشفـة ويقول :
-على أقل من مهلك ..
عندما صافح خصرها زهر قلبـها بنوع جديـد من الورد لم يسبق لها نثره في تربتها .. لأول مرة تراه عن قُرب بهذا الكم الهائل من الحنان الذي يجر قلبها إليه جرًا .. رفعت عيونها المشدوهـة إليه وقالت له بخفوت :
-أنا بقيت أحسن .. مجرد برد ..
ترك المنشفة جنبًا ثم حملها بدون مقدمات بين يديه فتعلقت بجدار عنقـه باستسلام تام تستمع لتعليماته :
-طيب نامي شوية ولـو صحيتي تعبانة هنشوف دكتور ، اتفقنـا ..
أومأت بطاعـة وهي تتأمل ملامحه عن قُربـه ، وكفها الذي غدر بها ورسى فوق قلبـه النابض بعشقٍ لم يعهده من قبل ، يشعره وكأنه يعتني بطفلته الصغيـرة بجسد إمراة مثيـرة للغايـة ، وضعهـا على السـرير برفق وشد الغطاء فوقها وأوصاها:
-اتغطي كويس مش عايز شقاوة .. !
لبت طلبـه بهدوء وأغلقت جفونها على الفور كي تنفرد بجملة الأحاسيس التي ولدت بجوفها وأنستها قسوة ما عانته صباحًا .. ضحك عاصي على تصرفها الذي يبدو طفوليـة بالنسبة له ولكنـه لو يعلم حقيقتـه لتولدت له جناحين يحلق بهما في سماء عينيها بحُريـة تامـة وبدون حواجز …
••••••
” بسيـارة عبلة ”
-بس أيه. سبب الزيارة دي يا مامي ؟!
أردفت عاليـة جملتهـا الأخيـرة بعدما حاصرتها عبلة بالجامعـة عندما انهت يومها الدراسي بحجة تناولهمـا للغداء معـًا .. ردت عبلة بخبث :
-لينـا كتيـر مش بنتكلم ، قلت فرصـة نخرج سـوا .. مستغربـة ليـه ؟!
-لازم استغرب !! دي أول مرة نخرج فيهـا سوا .. بس تعرفي ، أنا مبسوطة اوي .. مامي ممكن اسألك سؤال ؟
قفلت عبلة هاتفها بعد ما قرأت الرسالـة النصية المرسلة وقالت :
-طبعا اتفضلي ؟!
سألتها بتردد :
-حضرتك ليـه بعيد ؟! ليـه أحنا مش صحاب ؟! ليه عمرك ما حاولتي تعرفي أيه مزعلني وأيه يفرحني !! ليـه حياتنا كلها أوامر وتعليمـات ؟!
مر الشريط المُظلم على ذهنها كضوء البرق وهي تتذكر جملتها المؤلمة وهي تدس الخنجر بقلب الام التي لم تفق بعد من عناء الولادة وهي تستفسر بشوق عن حال ابنتها ” أنا مش عارفة أقولك أيه بس للأسف البنت نزلت ميتـة يا سوزان ” .. ثم عادت إلي عاليـة وهي وجهها ابتسامـة خبيثـة :
-معاكي حق ، أحنا فعلا بعيد وده غلطي .. بس لازم تعرفي يا عاليـة إني عشت حياة صعبة أوي ، أنا عانيت مع شهاب دويدار ، عشت سنين بحاول اتعافى من الاذية اللي كانت بسببه ، باباكي وبابايا قتلوني كل ليلة ، أنا بحاول اتعافي لحد النهاردة ، ويمكن ده سبب بعدي عنك ..
نظرت لهـا بأسى :
-أزاي يا مامي فهميني ؟!
غيرت مجرى الحديث :
-مش مهم ، بالليل نرغي سوا ، دلوقتِ قوليلي أنتِ أيه يبسطك وأنا أنفذه !!
فكرت عاليـة طويلًا متعمدة وضع أمها في امتحان صعب كهذا ربما لو نجحت فيـه ، تكسر الحاجز القائم بينهم طول العمر .. أخذت تقضم في أظافرها بتردد حتى قالت بشكٍ :
-ساعديني أرجع لمراد .. مامي أنا بحبه .
كان ردها على الجملة أشبه بصدى رصاصة عندما ضغطت على فرامل السيارة بقوة وهي تصرخ بوجهها :
-أنتِ آكيـد اتجننتي ؟!!!!!!! مراد مين !! أنت تنسي مراد ده نهائيًا وده بمزاجك أو غصب عنك يا عاليـة …
•••••••

“الجزء الثاني من الفصل ”
“وَحدها الزُهور التي تَتغاضى عن ماضي الفَراشات ”
هجمت الكوابيس على رأس حياة التي تتقلب في مرقدها كالسمكة الذي فارقت النهـر للتو .. تتمتمت بكلمـات غيـر مفهومة .. مشاهد قاسم تطاردها هنا وهناك وتغتال ما تبقى من جمال أيامها ، صورتها وهي تحمل السلاح بوجهه ، أكاذيبه التي سودت حياتها ، كل ذلك بات كالأشباح تركض ورائها حتى انقطعت أنفاسهـا .. فزعت من نومهـا صارخـة بصرخة الرفض والاستغاثـة ، نهض عاصي النائم بجوارها بلهفـة وهو يمسح على رأسها :
-حياة ..!!! في أيه مالك .. اهدي طيب ، أهدي أنتِ كويسـة ؟
أشاحت بعيونها إليـه طويلًا حتى ارتمت بحضنـه لترمم جسدها المرتجف ، الهارب من أشباح الماضي ، استقبلتها يداه بدفء وأخذ يمسح على شعرها ويهمس في أذانها :
-أنتِ هنا بأمان متخافيش أنا جمبك ..
قبضت يدها المرتجفـة على ملابسـه وقالت برعشـة :
-كان كابوس صعب أوي .. أنا ، أنا خايفـة أوي ..
ضمها إلى صدره أكثـر :
-متخافيش ، أنا معاكِ ومش هسيبك ، أهدي أنتِ ، مجرد حلم ، أنتِ هنا جمبي وبخيـر ..
ثم جذبها إليه وتراجع للوراء متخذه من صدره مسكن لخوفها ، ثنى رأسه تجاهها حتى برزت ثنايا عنقه وقال لها :
-أحكي لي شوفتي أيه .
قفلت جفونها وأخذت تسرد أهوال ما هاجم نومها :
-كان بيجري ورايا في كل مكان !! هو ليـه ظهر في حياتي طالما هو شخص مؤذي كده !! ليه الناس بقيت وحشة أوي كده …!! عاصي أنا مكنتش كده !! أنا عايزة أرجع رسيل البنت القوية اللي كلمتها كانت تمشي على الكبيـر قبل الصغيـر .. حتى لما الحيوان ده ووو يعني حصل واستغلني انا قررت مستسلمش ، و عشت مرفوعة الرأس ، محدش قدر يهزمني ..
ثم بللت حلقهـا وأكملت :
-دورت عليـه كتير .. سنين وانا ادور عشان أخد حقي منه ، ولما شوفته حسيت بالنفور ، لا أنا مش هلوث ايدي بدم حيوان زي ده !!
ثم ارتعشت بشدة بين يديه وقالت راجيـة :
-ما تقولش حاجـة ، احضني بس ،أحضني أوي ، عايـزة اقتل الخوف اللي بيجري في دمي .
سأُخبركَ حين أُعانُقك كيفَ أحبك .. منحته وسام الأمان كي يدسها بين ضلوعـه ، أن يُخفيهـا عن البشـر ، حاوطها بكلتـا يديه ودفنت رأسها بجدار عنقه بعد ما طبع فوق جبينها قبلة اعتذار :
-انسي يا حياة عشان تقدري تكملي .. كل ده اتبخر من الواقع ، لازم تحرقيه أنت من جواكي ، ارمي الماضي ورا ضهرك .
أحس بارتخاء يدها المتشبثة به وتباعدها عنه تدريجيـًا سألها بتوجس :
-بقيتِ أحسن دلوقتِ؟
فولت أنفاسها بعيدًا عنه :
-لو سمحت متقربش مني !!
-نعم !! أيه اللي حصل فجأة ؟!
ردت بضيق :
-مش مستحملة ريحة البرفيوم بتاعك .. قلت لك متحطش منه تاني .
‏امرأة لا تملك أجابات لڪنها تُثير فيك مجموعة من الأسئلة .. رفع حاجبـه مندهشًا :
-ماله البرفيوم بتاعي بس !! أنا مش فاهم حاجة ؟ أحنا في أيه ولا أيـه !
تركت الفراش بأكمله وذهبت ناحية الشرفة ركضًا كي تستنشق هواءً نقيًا متحررة من رائحة عطره ، ضرب كف على الأخر متعجبًا :
-ده أيه الجنان ده !!!!!
آنذاك سمع صوت طرق الباب فدخلت منه تاليـا وداليـا وهن يركضان نحو والدهن ، قالت داليـا :
-بابي هنخرج أمتى ؟!!!!
-حالًا .. عشان حياة محتاجة تخرج هي كمان قبل ما تجنني معاها !!
••••••••••
” بالنادي ”
-إفردي وشك ده ؟!
قالت عبلة جملتها بصيغـة آمرة خاصـة بعد رؤيتها لوليد ووالدته يقتربان منهمـا .. تجاهلتها عاليـة ونظرت للهاتف مرة أخرى تُقلب بحساب مراد الفارغ .. اقتربت منهم تلك السيدة الأنيقة بصُحبة ابنها الوسيم الذي يبدو عليه الوقار ، وثبت عبلة لاستقبالهم وقبلتها ، وصافحت وليد :
-ماشاء الله ، أنتِ القمر ده كنتِ مخبياه عننا فين بس ..
فردت أمه :
-متحفظين عليه في السفارة ..
قالت عبلة :
-أنتـوا واقفين ليـه ؟! تعالوا اتغدوا معانا .. ااه أعرفك يا وليد ، دي المهندسـة عاليـة بنتي .. سلمي على طنط ووليد يا لولي ..
طالعتهم عاليـة بضيق بعدما أدركت الفخ الذي سقطت فيه بواسطة أمها التي حملقت بها كي ترحب بهم .. وثبت عالية ورحبت بلطف مصطنع ، وجاءت عند وليد الذي مد يده ليصافحها فاعتذرت :
-سوري ، ما بسلمش ..
أحمر وجهه بخجل ثم طوى يده الممدودة وقال :
-ده شيء يُحترم يا بشمهندسة .
ردت بجحود :
-مرسي ..
جلسوا جميعهم وشرعوا في تبادل الأحاديث المملة والرسميات الثقيلة ، لاحظت عاليـة بنظرات إعجاب شديدة من وليـد فتعمدت تجاهلها .. تدخلت عبلة مقترحة :
-وليد أي رأيك خد عاليـة وروحوا هاتولنا غدا من بره .. اكل النادي مش حلو ..
-من عينيا يا طنط ، اتفضلي يا عاليـة ..!
جزت على أسنانها بضيق ثم رسمت ابتسامة سخيفـة :
-تمام .. يالا .
شرع وليد وعاليـة بالتمشية وحاول أن يخلق معها الكثيـر من الأحاديث التي لم تفتح له طريقًا للتحاور معها حتى قال :
-طيب أنا مبحبش اللف والدوران ، آكيد عارفة أنهم رتبوا للصدفـة دي عشان نتعرف على بعض ويكون في مابينا حاجة رسمي .
هزت رأسها متفهمة :
-ااه واخدة بالي ، أنت كام سنـة يا وليد ؟!
-٣٣ ..
أصدرت إيماءة خافتـة :
-متجوزتش ليه لحد دلوقت !
-أنا كنت خاطب قبل كدة ومحصلش نصيب ومن وقتها وانا مركز في الشغل .. بس افتكر كفاية بقا والواحد يبدأ يستقر ..
-واشمعنـا أنا !! يعني أيه يجبرك تتجوز واحدة مُطلقـة !
فكر للحظة ثم قال :
-أنا مش بتفرق معايا المسميات دي أهم حاجة الشخصية .. وغير كده يعني اللي عرفته أنك جوازك كان له ظروف خاصـة ، ولا أيه !
-يعني بردو أيه يجبرك تتجوز واحدة مطلقة وبعد كام شهر هيكون معاها طفل وأنت لسه شاب وفي بدايـة حياتك ؟!
تسمر وليـد بمكانه محاولًا استيعاب ما قالتـه ، فسألها متحيـرًا :
-أنتِ قصدك أيه ؟! بس والدتي ما قالتش كده !! اللي أعرفه أنك …..
قاطعته عاليـة بثقة وثبات :
-إني أيه ؟! أنا لسه عارفـة حوار الحمل ده ، وأكيد مامتي ملحقتش تقول لمامتك ، عموما أنا حبيت بس أوضح لك الصورة .. مالك انصدمت ليه كده !! مش كانت المسميات ما تفرقش معاك !!
بدت الحيرة على وليد وهو يبرر :
-بس مش لدرجة طفل !! عاليـة أنا متأسف جدًا بس ..
قاطعته بفرحة :
-لا عادي ، حقك .. وأنا فاهمـة ده كويسـة ..
ثم نظرت بساعة يدها :
-معلش مضطرة استأذن عشان عندي ميعاد مع الدكتور …
••••••••
بعد تردد وتفكيـر طويل حسمت ” حيـاة ” قرارها وقبلت مصاحبتهم والتسوق معهم ، أحست أن الجلوس بمفردها سيجن عقلهـا .. وقفت السيارة أمام أحد “المولات” الضخمة والعملاقـة فدلف عاصي الجالس بجوار السائق ثم تابعته حياة برفقـة بناته .. ألقى عليهـا نظرة سريعة ثم عاد إلى السيارة وأحضـر المعطف القطني ووضعه على كتفيـها حرصًا عليها ألا تبرد ، فشكرته بعينيه وسبقت خُطاه إلى داخل المتجـر التجاري ..
بدأت باختيار الكثير من الملابس الأنيقـة للفتيات وحرصت على تناسق الشكل والألوان في أجواء جميلة خيم عليها الضحك والمرح ، شدت تاليـا الفستان وركضت ناحيـة والدها لتستشيره :
-بابي .. حلو ده !!
سارت حياة خلفها وبيدها الفستان الأخر وقالت بإصرار :
-بس ده أحلى ..قول حاجة !!
ردت تاليا بحماس طفولي وقالت باستعجال :
-اختار بقا يا بابي ..
تفحص الاثنين بعنايـة ثم قال ليهرب من ذلك المأزق الذي وقع فيه من نظرات حياة المتحدية ونظرات ابنته المتحمسة لتشجيعها وقال بدهاء :
-هيحصل حاجة لو اخدتى الاتنين !!
تبادلت النظرات بين الاثنين بخيبة أمل ، فعادت تاليـا لتندس بين الملابس مرة أخرى بإحباط ، أما عن حياة دنت منه وسألته :
-على فكرة ده أحلى ومناسب لسنها أكتر .. أنت ليه ماقولتش كده ؟!
بدت ابتسامـة المراوغة ترتسم على شدقه ودنى منهـا قائلًا متحيرًا :
-لاني مركزتش غير مع جمالك وبس ..
تراجعت خطوة للخلف وأخذت تفحص الملابس بعشوائيـة كي تهرب من سطو نظراته المُربكـة ، وتخفي وجهها المُلطخ بحُمرة الخجل ، سقطت أحدى القطع من بين يدها بتوتر فـ فرت من جواره كي تتحاشى النظر إليـه ..
خرجوا من قسم الأطفال وهو يحمل العديـد من الحقائب والمشتريات بيده ويخيم المرح على وجوههم الضاحكة .. أشار إلى أحد المحلات الحريمي وقال :
-خليكم هنا ، هودي الشنط العربيـة وأرجع لكم ..
خرج عاصي و دخلت حياة إلى أحد المتجرات العالميـة في الأزياء النسائيـة ، أخذت تراقب الفساتين كأنها بعالم ” ديزني ” .. كل قطعة أجمل مما تسبقها ، كان الانبهار يتدفق من عيونها خاصة عندما وقفت أمام فستان رأته كثيرًا بالأفلام وتمنت أن ترتديـه يومًا ما .. اقتربت منهـا الموظفـة وسألتها بالفرنسيـة :
-هل تُريدين المساعدة ؟!
أجابتها بتردد وبنفس لغتهـا :
-لا .. شُكرًا ..
ما كادت أن ترحل فـ جاء عاصي من خلفها يتأمل معها الفستان الذي سلب ذهنها وشغلها للحد الذي لم تلتف فيه لرائحته .. همس بحب :
-جميـل ، وهيجنن عليكِ .
رجها صوته المفاجئ وهي تبرر بارتباك:
-لا أبدًا ، مش عايزة .. أنا بتفرج بس ..
جاءت تاليـا حاملة فستانًا قصيرًا للغايـة باللون الذهبي وعرضته أمام والدها :
-بابي ، ده جميل على حياة .. أيه رأيك !!
تفحص الفستان العارٍ بنفور وقال متعجبًا وهو يقلبه على وجهيه:
-ده بيغطي أيـه !!
قرأت بعينيه عدم تقبله للفستان ، فشدته من يده وأبدت إعجابها :
-واو !! يجنن يا تاليـا .. اااممم أنا ممكن اشتري ده ..
ثم رفعت جفونها بخجل :
-ده لو مصمم يعني إني لازم اشتري حاجة !
عقد حاجبيـه باستنكار :
-ااه ، هتروحي بيه فين بقا !
هزت كتفيها بخفة معتمدة إثارة غضبـه :
-بارتي أو أي فرح .. حقيقي يجنن .
شد الفستان من يدها بضيق :
-روحي رجعيه مكانه يا تاليا بلا مسخرة ..
طالعته باستغراب وهي تكتم الضحك بداخلها :
-بس عاجبني ..
-ومش عاجبني ..
-أنا اللي هلبسـه مش أنت .. الله ! دا انت غريب أوي .. كُنت مفكرة أنك سبور وفري عن كده .
جز على فكيـه قائلًا :
-هو أنا نسيت أقول لك إني من الشرقيـة ، يعني فلاح ودماغي دي جزمة قديمـة !
ثم طالع الفستان الذي عجبها من قبل ذو أكمام طويلة ، وبخامة من ” القطيفة ” باللون الأسود ، ذو فتحة طويلة من الخلف .. نادى على العاملة وطلب منها أن تحضر الفستان فسألته عن المقاس فـ رد بعد ما ألقى نظرة سريعـة عليها :
-هاتي L .
عارضتـه حياة :
-بس أنا بلبس XL .
كرر بثقـة وقال :
-قلت L ..
أخذت الفستان من الفتاة وذهبت لتقيسه بتحدٍ ، كي تخيب أمله في تقديره للمقاس .. عدت دقائق قليلة حتى خرجت الموظفـة وأخبرته بإعجاب :
-إنه لطيف للغايـة ..
امتدت أنظاره إليـها وهو يدقق النظر في جمالها الذي برز بواسطـة الفستان والذي أضافت إليـه رونقًا خاصـًا ، أطلق صفيرة هادئة وهو يرمقها من الكاحل لرأسهـا وشعرها الذي تكوم على كتفها .. فسألتـه بخجل :
-حلو !
أطلق تنهيدة عاليـة وقال في سره :
-يخربيت كده !!
ثم عاد إلى وقاره وقال بفظاظـة :
-ااه .. بس ناقصـه حاجة ..
ثم وقف أمام قسم ” الفرو ” الفاخر واختار واحد باللون ” الرمادي ” القاتم وعاد إليـها ، وضع الوشاح على كتفيها حتى باتت أكثر جاذبيـة وأنوثـة .. ثم دارها ناحيـة المرآة ووقف خلفهـا لتتأمل صورتها الأخيـرة للفستان الذي فُصل خصيصًا ليكون لها .. باغتها بحركة عفويـة وهو يجذبها من خصرها النحيـل إليه وقال منتصـراً :
-المقاس ولا غلطـة !! عيب لما تشككي في نظرتي لحاجة مهمـة زي دي .
تملصت من حصاره المُربك وفرت هاربـة من غرفـة المعاينـة وخرجت بسـرعة لتهرب منه وقالت لتاليـا:
-أيه رأيك ؟!
رمقتها تاليـا بإعجاب شديد وصفقت مبديـة إعجابها :
-ذوقك يجنن يا بابي ..
ثمّ نظرت لداليـا :
-وانتِ أيه رأيك يا دودو ..؟
-very nice 👌.
مر وقت طويل في المتجر الذي أصر عاصي أن يشتري لها المزيد والمزيد من الماركات العالميـة التي تليق بزوجة عاصي دويدار، تحت نظرات الشوق الذي جذبه من ياقتـه إليها واستكشافه للمزيد والمزيد من جمالها المدفون .. خرجوا أخيرًا من المحل .. فجاءت تاليـا بفكرة :
-وأنت يا بابي !!
رد بعدم اهتمام :
-أنا أيه ؟!
-لازم تشتري زينا ..
-لا أنا عندي كتيـر ، المهم تكونوا اتبسطوا أنتوا ..
اجتمعت أعينهم المدججة بالحُب وقالت بدلال :
-وده ينفع .. على فكرة استايل لبسـك كله عايز يتغيـر ، ده يعني لو سمحت لي ..
رفع حاجبـه بخبث :
-لو استايلي بس اللي مش عاجبك ، سهله نغيره ..
جذبوه الصغار من يده إلى المتجر الرجالي بشغب وحماس ، وشرعت كل واحدة منهما في اختيار الأفضل له ، حتى شتتن رأسه من كثرة مقترحاتهم ، وكل واحدة تجلب له المزيد والمزيد من الموديلات الغربيـة ولم يمنحونه الفرصـة للاعتراض .. دخل عاصي ليرتدي الملابس واقعًا في فخهم النسائي .. فشردت حيـاة إلى قسم ” البرفيوم ” حتى سقطت عينيها على النوع المحبب إليـه .. نثرت نفحة خفيفـة على يدها و استنشقتها بغرام حتى خرج مرتديًا قميصًا باللون الأسود وبنطال حديث بنفس اللون وفوقـه معطفًا باللون الرمادي مما عكس مظهرًا أصغر سنًا وجاذبيـة ..
لمعت نظرات الإعجاب من مقلتيها وتحت انبهار صغاره وهن يمدحان صورته قال ممازحًا :
-وزعيـم العصابـة بتاعكم ممكن أعرف رأيـه !!
ضحكت بجاذبيـة واقتربت منه بخفـة وقالت :
-وهو في رأي بعد رأي القمرات دول !!
ثم وضعت الوشاح الشتوي على رقبته وقالت برقـة :
-أي رأيك كده ..
أخذ يهندل ” اللاسـة ” على كتفيه بشموخ حتى أصدر ابتسامة إعجاب .. ثم نفثت القليل من عطره على رقبته وقالت :
-البرفيـوم بتاعك أهو ..
في تلك اللحظة تدلى سِتار الغرفة التي جمعتهم بالمتجر ، وأصيبت بسُكر عطره من جديد ، فتعلقت كفوفها بشاله وأخذت تُجر إليـه جرًا حتى دفنت أنفهـا بجدار عنقـه .. كور قبضـة يده كي يتمالك أعصابه التي بعثرتها بحركة جنونيـة منها وقالت بانتشاء يرتد صداه حرارة بجدار عنقه :
-ريحتـه تجنن .
تحولت معالم وجهه لعلامات استفهام وقال :
-مش ده اللي كنتي مش طايقـه ريحته من كام ساعـة !!
استوعب أنه أمام امراة متقلبـة كالطقس ، كل ساعة بحالة عجيبة لما يتوقعها ، فتحمحم محذرًا :
-أنا بقول كفايـة كده لأن نتيجة الجنان ده مش هتعجبك ..
افترقت عنه بعناء وهي تشعر بالخجل مما فعلتـه وقالت مبررة :
-اسفـة ، بس ريحته قويـة وقصدي أقول انه مميز ولايق عليك .. أمممم مجرد رأي .. أنا هخرج أشوف البنات .
•••••••••
-وليـد !! اتأخرتوا ليـه وفين عاليـة ؟
أردفت عبلة بجملتها الأخيرة عندمـا عاد إليها وليد بعد غيابـه قرابة الساعة ، كان الغضب يُقاسم ملامحه فلاحظته أمه فوقفت متسائلة :
-مالك ياحبيبي ..؟
رد بضيق :
-ولا حاجة ، يلا نمشي ..
عبلة بفضـول :
-تمشـوا أيه ؟! هي عاليـة زعلتك ؟! وهي فين !
تأفف وليد باختناق :
-ولا حاجة حضرتك ، بس الذوق إني أعرف أنها حامل قبل مااجي، مش اتفاجئ بحاجة زي دي..
اتسعت عيني عبلة من هول ما سمعته :
-مين دي اللي حامل !! أنتَ بتقول أيه !!
وعلى حدى وصلت عاليـة لمنزل سوزان تستغيث بها وقالت بخوف :
-طنط ، مفيش غيرك هيخرجني من الورطة دي ..
-اتفضلي يا حبيبتي مالك .. ووشك مخطوف كدة ليـة ؟
-هحكي لك كل حاجة ، بس من فضلك كلمي مامي وقوليلها أني هقعد عندك يومين ….
•••••••••
مر يومان بسـرعة و برقـة النسيم على عاصي وحيـاة ، تحت أجواء أسريـة يملأها الحب والمشاركة والضحك واللعب ، مزيج من المشاعر المفقودة بقلب كل منهما عاشوها الجميع سويـاً ، فكان كل طرف يسد الفراغ الموجود بقلب الأخر ..
أدت حياة دور الأم ببراعـة لكل من تاليـا وداليـا ، والمسرحيات اللطيفة والاتفاقيات التي كان يقع عاصي ضحيتها .. أحيت بقلبـه دور الأبوة والانتماء إلى اسرته وشق طريق الحياة من جديد بصدره .. كانت له أنيسـة ليلـه ، ورفيقـة خطواته وحافظـة أسراره التي عهد على حملها بمفرده .. كانت تترجم ما يُريد بنظرة واحدة بعينيه ..
كان جدارها الصلب الذي تتكئ عليـه وتلقي حمولها فوقه ، تخلصت من عبء تحمل الهموم والمسئوليـة والقيادة ، مارست عليـه أخطر مظاهر الأنوثة والدلال .. كان لها بمثابـة كل الأشخاص التي تحتاجهم ..
جاء المساء وبعد ما غرق الفتيات في نومهم بعد يوم شاق من التنزه ، اقترب منها وهي أمام الشُرفة ترتشف مشروبها الدافئ.. جذب الكوب من يدها وأكمل شُربـه ، وسألها :
-هتنامي !!
ردت بتوجس:
-مش عارفـة ، بس ماليش مزاج أنام ..
-تحبي نخرج !
ردت ساخرة :
-هنروح فين !! افتكر اننا روحنـا كل الأماكن اللي هنـا ..
ترك الكوب من يده وقال ناكرًا :
-مين قال كده !! لسـه في أماكن حلوة كتيـر ، بس ماينفعش البنات يكونوا معانا .. خاصـة الفتـرة دي ، واحتفالات أخر السنـة ..
ثم أسبل عينيه بتردد :
-تجربي !!
-الوقت مش متأخر !!
-وأيه يعني ؟! ده هو ده وقت السهر التمام .. يالا اجهزي .
ما كادت أن تخطو خطوة فتراجعت :
-ألبس كاجول !!
-بقول سهر واحتفالات .. ممكن تلبسي الفستان اللي جبناه من المول ..
ابتسمت بحماس وركضت كي تعيش معـه تجربة جديدة مما عاشتهم بين سطور كلماتها ، لا تدرك سبب استسلامها التام إليـه ألا أنه الوحيد الذي تمسك بها في ظل حروبها الكثيرة ..
فرغ الثنائي من ارتداء ملابسهم واستعدا للرحيـل تحت نظرات الهيام والانبهار برقتها التي طاحت برأسـه .. وصل الاثنان إلى مكان خاص بالسهـر فنزعت ” حيـاة ” وشاحها ” الفرو” من فوق كتفيهـا وطلبت مشروبًا خاليـًا من الكحول وأصرت أنه يشرب مثلهـا ، فحاول أن يقنعها بالعكس ولكنه بالنهاية استسلم لرغبتها ..
كانت الأجواء يملأها المرح والرقص والسعادة ، حتى جاء صوت الرجل المختص بالمسابقـة الاسبوعيـة لأفضل ثنائي ويدعو الجميـع للاستعداد فوق السـاحة ، فهمس عاصي بعدم فهم :
-الجدع ده بيبرطم بيقول أيه ..؟
ترجمت له حياة:
-بيقول أنها مسابقـة أحلى كوبل ، من خلال رقصـة هيقدموها ، والفائز له جائزة ورحلة بحرية على حساب المكان ..
رفع حاجبـه بإعجاب وكأن الفكرة راقت له :
-تحبي نجرب !!
ردت بجفاء مصطنع :
-وأحنـا مالنا ، دي مسابقـة لأكتر اتنين بيحبوا بعض ، وحبهم هو اللي هينجح الرقصـة آكيد ..؟
-طيب وفين المشكلة ، أنتِ كاتبـة موهوبـة وأحساسك جميل ، وأنا بعرف أمثل كويس ..
رمقته بخبث :
-أنت عايـز أيه ؟!
رد على الفور :
-عايز اكسب كل الجوايز دي .. أصلي متعودتش أخسر ..
ضحكت بسخريـة :
-بالتزوير !!
-المهم اكسب …
تمنعت بدلال :
-وتاخد حاجة من حق حد تاني ؟!
-دي مسابقـة !! فين المشكلة
-ولو! بس في حد يستحقها بجد ، وأنت عايـز تاخد مكانـه .. !
عارضهـا قائلًا :
-ويمكن استحقها بجد !! أنتِ بتعقديها ليـه .. واحد ومراته ، والرقص اللي هيعكس حقيقة المشاعر جواهم .. أنت خايفة ولا أيه !!
-هخاف ليـه ؟
-تضعفي مثلًا !!
تعمدت أن تثير غضبـه وتذكره بحقيقـة مسرحيتهم :
-أنت أكتر حد عارف أن وجودي في حياتك وجود مؤقت ، يعني مش هنخدع بعض ..؟
فارق مقعده ووقف ملاصقًا بها بعد ما طوق خصرها وقال :
-ما تسيبي الرقص يقول رأيه ؟! ويحكم ما بينـا ؟
-ازاي ؟!
-يعني ممكن نكسب وممكن نخسر ، لو خسرنا يبقى متفقين ، أما لو كسبنـا يبقى في حاجة مهمة ما بينا لازم ناخد بالنـا منها ..
ثم مد يده ليستقبل موافقتها ، راقت لها الفكرة ولبت طلبـه بأناقة ووثبت قائلة بتحدٍ :
-حتى لو حسمت قراري !!
-اللـ هو ؟!
-هرجع الغـردقة أول ما ننزل مصـر ..
ضمها من خصرها وحملها بيمينه فألتف ذراعيها حول عنقه بتلقائيـة وهو يجيبها بحسـم وثبات :
-ده في أحلامك ….!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى