روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الرابع عشر 14 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الرابع عشر 14 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الرابع عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الرابع عشر

رواية غوى بعصيانه قلبي الحلقة الرابعة عشر

“رسائل لن تصل لـ صاحبها ”
-لماذا لا تَكتُب لي ؟! لماذا لا تأتي ؟! هل مـٰات ساعي البريد أم مـٰات حنينك لـ قلبي ؟!
كنت أنتظر منك حتى رسالة فارغة، يكفي أنها تحمل حنّينك، واعتراف صغير بأنك بأن هواي لا زال يداعب ذاكرتك ، يكفي أن أطمئن، لأنني منذ عدة أيام أحاول ان أكتب لك، أن أخبرك عن هذه العواصف لكنني لا أجد ما أقوله، لقد بدأت أشعر أن الحديث معك باتَ صرخةً في الفراغ، وأن أمري لم يعد يهمك، وهذا ما يجعلني أختنق بكلماتي، أختنق وأعجز عن الحديث تمامًا، حتى هذه الرسالة لم أكتبها، لقد نزفتها نزفًا من دمي .. لم أكن أعلم أن صمتك جارح إلى هذا الحدّ، لو كنت أعلم لما اتخذت من حَديثك ضمادة لرُوحي!
••••••••
“‏أشد ما أصابني مؤخرًا هو أني لم أعد أحمل في داخلي أية إعتراضات أو موافقة، لا مُسيرة ولا مُخيرة ، كأن كل شيء يُشبه اللاشيء، لا فرق بين التوقف أو الإستمرار، الشعور واللاشعور، خاوية من كل مظاهر الحياة وكأنها لا تعنيني .”
تجلس ” شمس ” أمام النافذة ليلًا بعد ما أدت صلاة العشاء وهي تتأمل المارة ، تُقارن بين قصر عملاق يحوي خلف أسواره أعدادًا بسعة حيهم ، تصل إليها رائحة الفول والقُرص والخبز الطازج ، فـيغمرها شعور التحرر من كل شيء مثلما انطلقت هذه الروائح في الفضاء وأخذت تتـحرشٰ بقلوب الجِياع من الطعام والحُب معًا .. على عكس ذلك القصر غريب العادات ، يتخلصون من رائحة الطعام كأنه شيء ناشز عن الطبيعة ، ويتفاخرون برائحة الخمر كأنه أريج من المسك !

 

فارقت شُرفة منزلها وتحركت ناحية ” الراديو ” و أخذت تُقلب بمحطاته اللاسلكية حتى أوقفها صوت أم كلثوم
-“خلينى جنبك فى حضن قلبك ، وسيبنى أحلم ياريت زمانى يا ريت زمانى ما يصحنيش”
راقت لها كلمات الأغنية رغم أنها ليست من هواة الطرب الحديث ولكن القديم يُداعب كنزًا دفينًا بقلبها لا تدرك حقيقة وجوده .
اتكأت على وسادتها للخلف تاركة آذانها لصبابة أم كلثوم ، تلك السيدة الواعظة بألحان أم لقلوب الفتيات اللاتي يُتخبطن في دروب المشاعر ، وأطلقت زمام ذاكرتها إلى أعتاب الصُدف القليلة التي جمعت بينهم والحوارات الطويلة التي لم يتفقا على محورها ، تذكرت السلام النفسي الذي ينعقد فوق سقف غُرفته ، خدعتها ذاكرتها لأول لمسة من يده وكيف فُزعت إثرها كـ فتاة مراهقة .. سبحت الذاكرة فوق موج الخيال و تبسم الثغر لمداعباته .
اقتحمت ” نوران ” الغرفة بفوضويتها المعهودة وهي تتغزل بصفاء ذهن اختها الذي يبطن عكس ذلك تمامًا :
-الله الله ! أم كلثوم كمان ؟! يا سيدي يا سيدي !
ثم قفزت فوق السرير بخفة ، وأكملت سخريتها :
-حُب جديد ده !
خفضت الصوت بجوارها وهي تعتدل متأففة:
-هنبتدي في اللماضة !
هللت نوران بفرح :
-يبقى صح ، قوليلي مين ها ! الجدع الأمور دا اللي دخل علينا دخلة الأفلام ولا مين ؟! بصراحة من أول ما شفته كده وأنا شميت ريحة دخان على طول ، أمممممم طلع هو دا دخان الحُب !
ضَـٰربتها ” شمس ” بغيظٍ كي تكُف عن سخافتها موبخة :
-التركي اللي بتشوفيه أنتِ وجدتك بوظ دماغك دي !

 

تلقت صفعتها بضحك ، ثم غمزت لها :
-الأيام بيننا ، متنسيش بس تظبطي لي حد من معارفه !
-بردو مصممة على اللي في دماغك !
تدللت نوران بمزاح وهي تخرج لها لسانها بإغتياظ :
-آه ، وقومي عشان تيتا طابخة فراخ بحلم بيها من الضهر .
استندت ” شمس ” على كتفها وهي تضم رأس أختها إلى صدرها :
-مفجوعة ودايمًا همك على بطنك . يلا يا ستي .
•••••••••
أشعلت سارة سيجارتها وأكملت :
-وبدأ يفوق فيها لحد يا حرام ما كلنا فقدنا الأمل ، وطبعا خاف يتورط في مصيبة ، راح أمر رجالته يرجعوها البحر تاني !
شهق الجميع باهتمام شديد لمعرفة نهاية القصة ولكن صدمهم موقف فريد وهو يشد سارة من معصمها قائلًا :
-الكلام دا حصل من امتى ؟!
صرخت سارة بوجهه وهي تُبكته :
-أنت سَكران ولا مجنون ! أبعد أيدك دي !
تدخلت الفتاة الأخرى صديقته الذي تُدعى بميس :
-فريد ! أنت بتعمل أيه ؟!
توبخها سارة بعتب :
-ما تشوفي مجايبك يا ميس !
-معلش فريد بس أعصابه تعبانة شوية .
أصر فريد على موقفه ، وبنبرة أشد :
-اخلصي وقولي الكلام دا حصل أمتى !
تدخل بعض رفاق ” سارة ” كي يبعدوه عنها ولكن بدون جدوى ، أجابته بتأوهٍ :
-من أسبوع كده !

 

أشارة واحدة كانت تكفي ليداوي بها كل هذا التشتت الذي يهيمن بقلبه وأيامه ، رُدت الحياة إلى لُعابه للحظة وهو يضع احتمالية وجودها على قيد قلبه :
-رسيل ! انطقي قولي لي ، عملتوا فيها أيه !
دفعته سارة بقوة بمساعدة أحد رفاقها وهي تصرخ بوجهه معاندة :
-طبعًا رماها للسمك ! دي واحدة مَيــٰتة ! هيورط نفسه معاها ليه !
لم تعلم لما أخبرته بوهمٍ هكذا ، رُبما انتقامًا لتطاوله عليها ! أو خوفًا من تورطها مع عاصي الذي أخذت من أفعاله أسطورة للملاهي الليلية ! أو رُبما اختصارًا للحديث مع شخص مفزع مثله ! أحيانًا يكن الكذب نجاة من مخالف المجهول .. تسمر ” فريد ” بمكانه محاولًا إدراك ما سقط كالصاعقة على مسامعه ، أخذ يراقبها وهي تهرب من أمامه راكضة ولكن صدمته كانت أقوى من اتباعها ، فجأة ثار جنونه ، وطاحت يده بجميع زجاجات النبيذ والمنكرات الموجودة على الطاولة أمامها بصرخة أسد سُجن في قفص الواقع الذي حاول رفضه كثيرًا وأخذ يهذي كالمجنون :
-قتـٰلها ! أزاي جاله قلب يعمل فيها كده ! أنا قلت البحر مستحيل يُغدر بيكي ! تارك لازم يرجع يا رسيل .. لازم !
•••••••••
‏” فهمت أن وحدي من يتعذب هنا، ولا أحد غيري يقف على الأحداث المؤلمة ويتساءل متى حدث كل هذا ولماذا، وأني أنا فقط من تحمل مسؤولية إصلاح الأمور في كل مرة، وتحاول حتى تنقطع بها السبل، و ينتهي كل شيء وتبقى في نفس المكان بينما هم يعبرون من جانبها غير مكترثين ولا يعرفون الالتفاتة نحوها.”
بخط مرتعش دونت ” حياة ” كلماتها الأخيرة التي وانست وحشتها ووحدتها طيلة نهارها ، يتخبط عقلها هنا وهناك ، تركها في أحد الفنادق وغادر دون ما يوضح عاقبة فعلته ، انتابها الملل ، أخذت تتجول بعشوائية فـ الغرفة ، وقفت أمام المرآة، تشتم هذا التعب، و هذه الملامح، وتلوم على الزمن.. كيف تمكنت روح واحدة، تبلغ فقط العشرين.. أن تمتص هذا اليأس كله؟
فتحت الثلاجة عدة مرات حتى يأست من تكرار أفعالها العبثية ، تناولت عُلبة مُغلفة من العصير وشرعت في ارتشافها بسأمٍ .
لم تفرغ من شُرب عصيرها فالتفتت إلى الباب الذي يُفتح بدون إذن مسبق ، تركت ما بيدها جنبًا منتظرة مصيرها حتى ظهر سجانها وخلفه أحد الموظفات وبيدها العديد من الحقائب الفاخرة ، أذن للموظفة بترك ما تحمله ثم قفل الباب خلفه ودنى من ثورتها العارمة التي تُرمقه بها وقال :
-يأرب تكوني عقلتي !

 

بجمود نهرته :
-أنت مفكر لما تحبسني هعقل !
ثم دارت ساخرةً وهي تلملم شعرها الكثيف جنبًا بتلقائية ، حركة عشوائية منها زادتها جاذبية وسحرًا ، أتبعت بضحكة ساخرة :
-أنا مش عارفة أنت بتفكر ازاي !
دنت منه خطوة ثم رفعت رأسها بشموخ وتحدٍ :
-أنت مين وعايز مني أيه ! عايز تقــتلني ! اتفضل أنا قدامك أهو خلصني يا اخي .
‏فتاة تتخبط روحها في كل الإتجاهات، في محاولة لأن تجد مستقرًا تأوى إليه حتى ولو كان قبرًا .. صرخت أمامه بجزعٍ :
-المٰوت أهون من الذل ده الف مرة !
تجاهل ثورتها المُتقدة وهمس إليها :
-عشر دقايق وقت كفاية تجهزي فيه !
-مش فاهمة ؟! أنت ما بتعرفش تتكلم طبيعي كده زينا يعني ؟! هيجرالك حاجة مثلًا لو كملت جُملة مفيدة ؟!
نصب قامته بشموخ وهو يطالع ساعته باهظة الثمن :
-باختصار ؛ عندنا معاد مع المأذون كمان ساعة !
تنهدت بارتياح :
-أيه قررت تتجوز وتحل عن دماغي !
تحمحم بثقة وفظاظة وهي يطالعها بوقاحته :
-اه ، قررت اتجوزك أنتِ !

 

‏أحيانًا لا تشعر من شدّة ما تشعُر ، فـ أي صاعقة من السماء حلت على جسدها الواهن ، صدمة ثم ذهول ختمتهم بضحكة ساخرة وهي تجهل كل شيء ، توقفت عن الضحك للحظات وهي تشير بسبابتها أمام عقلها كأزميل يخرم الحائط وسألته تحت تأثير دهشتها:
-أنت صاحي ! ولا بتحلم وجاي تحقق أحلامك عندي !
وقف أمام المرآة ينهدم ملابسه ويقول بـتبختر :
-الضحك علامة للرضا !
يأست من وقاحته :
-أنت مش طبيعي ، بص لازم تروح تحجز في مستشفى أو تشوف لك دكتور ، بجد حالتك كل يوم بتسوء عن اليوم اللي قبله !
تجولت حائرة حتى استقرت في منتصف الغرفة تتهمه :
-وبعدين أنت جايب الثقة دي كلها منين !
اقترب منها بخطواته السُلحفية حتى أصبحت تحت مظلة أهدابه قائلًا بـ عنجهة :
-مني ! عشان عاصي دويدار عريس ميترفضش .
حياة بنظرات تصغير من شأنه :
-مين فهمك ؟ آه آكيد عبلة هانم ! بس الكلام دا عندها مش عندي ، وأنا للمرة الألف بقولهالك ، لا يا عاصي بيه دويدار .
‏صوت الزجاج المُتكّسر، إنها ماتبقى من أنفاسها ، دنت منه تلك المرة بل بات قُربها لا يخيفها ، وقالت بشموخ إمراة:
-ونفترض إن عندي حبيب مستني رجوعي ! أو متجوزة مثلًا .. منا فاقدة الذاكرة بقا!
تجولت أنظاره في الغرفة بتأني حتى رسيت فوق عرش قلبها وقال بثقة عارمة :
– لنفترض أن عندك حبيب ! ذاكرة القلب مستحيل تنساه حتى ولو فقدتي عقلك كله !

 

ثم دنى منها عدة خطوات ثعلبية استقبلتهم بالتراجع للوراء حتى تصادم ظهرها مع الحائط وباتت تحت حصاره ، وبنظرات وقحة خلاعة قال :
-وحوار إنك مثلا متجوزة دا مفيش أسهل منه ، أنا معنديش مانع نتأكد منه سوا !
لا تدرك كم كان الأمر مُخيف ، كيف تتحوّل ردود فعل المرء تجاه ذات الأمر من ثورة إلى هزّة رأس .. ولكن صدمتها من جراءته كانت كافية أن تخرسها عمرها كله ، تكدست أنفاسها بداخلها لم تستطع أن تُحررها إلا عندما ابتعد عنها ، وضعت كفها على صدرها الذي أخذ يعلو ويهبط كالكرة المطاطية محاول استجماع شتاتها التي بعثرها رجل فظ مثله .
لاحظ رعبها منه ، فلم يقصد اخافتها بل كان يريد مُعاقبتها على عصيان أوامره ، سكب لها كوب من الماء ووضعه بقُربها وقال ببرود :
-مش مستاهلة الرُعب دا كله ، أنا كُنت بفكر معاكِ بصوت عالي بس .
تناول كفها المُرتعش كوب الماء وارتشفته مرة واحدة ثم وضعت الكاس على المنضدة بقوة وهي تلملم شتات قوتها أمامه لتواجه أمواجه العاتية ، طالعته بعيونها الذابلة وسألته :
-وهتستفيد أيه لما تتجوزني !
-أنتِ المستفيدة مش أنا ، يكفي أنك هتكوني مراة عاصي دويدار ! نسب يشرف أي حد .. كمان عبلة المحلاوي مش هتسيبك في حالك بعد النهاردة ! أنا بحميكي .
استقبلت جملته بسخرية وقالت بسخرية :
-الواضح أني الوحيدة اللي مش وش نعمة .
دنت منه خطوة ورفعت رأسها ودموع العجز تغمر جفونها ، لا تعلم على من تلقى اللوم ، على قوتها التي لم تعد كافية لمواجهة رجل كالتيار مثله ! أم على الزمان الذي ألقى على عتقها أسفارًا لا تدرك ما تحمله !

 

‏هدأت وهنا بدأ انتقامها .. عقدت ذراعيها أمام صدرها وقالت :
-وليه مزورتش ورقة ! افتكر مكنتش هتغلب !
-والله أنا معنديش أي مانع ! بس يا ترى أنتِ هتوافقي تعيشي معايا بورقة جواز مزورة ؟!
-يابني آدم افهم في كلتا الحالتين جوازنا باطل وماينفعش ، ممكن مضيعش وقتك الثمين معايـا أكتر من كده !
رفع حاجبه متعجبًا :
-وليه باطل ! أحنا ممكن نستشير شيخ فـ الأزهر ويقولنا ! أظن أن جوازنا الباطل أهون الحلول من وجودك معايا بدون جواز أو أرميكي في الشارع وتتشردي !
ثم دنى منها حتى داعبت أنفاسه الحارقة وجهها :
-مش بقول لك كله لمصحلتك !
تعلم أن التبرير معه جُهد ضائع ، اكتفت بـ نظرات الشفقة والتقليل من شأنه حتى قطع كل هذا صوت رنين هاتفه ، رد على الفور ، ولم يكمل كلمته الأولى حتى تبدلت نبرته للصراخ :
-أزاي دا حصل ؟! أنا جاي حالًا .
•••••••••
‏اتمنى لو أن أضع رأسي فوق صَدر أمي ، لعل الأثقال التِي أحملها فوق كتفِي تسُقط والدمُوع المتحجرة في جوف عيني تنوي التحُرر والخروج ويتحرر معها الإنسان الكئيب الذي أحمله .
يُطالع ” تميـم ” صورة أمه ويشكو لها مآسي أيامه بدونها ، مرارة وحدته التي لا يتحملها عقل بشري ، يروي لها حقيقة قلبه

 

المُتماسك بدونها ، وانه يجتاح لمن يلامسه كي يسمع منه صرخات الاستغاثة .
تحرك بمقعده الخشبي نحو الباب واحكم غلقه جيدًا كي لا يقتحم أحد خلوته مع أسراره ، بمجرد ما قفل الباب ، تحرر من مقعده وحرر أحزانه في أرجاء الغُرفة ، نصب قامته الطويلة وجسده المُتناسق وأخذ يتجول براحة ويفتش في صندوق الخاص ..
توقف أمام الكتاب الذي كانت تحمله بيدها وتمرر أهدابها فوق كلماته لتمنحها نورًا مستمدًا من اسمها ، فتش في صفحات الكتاب بعشوائيه وهو يتذكر جُملتها التي قالتها وأشعة الشمس تداعب ملامحها كما فعلت أشعة وجودها بقلبه :
-الحُب هو مـٰوت القلوب الحية !
قفل الكتاب ورماه بكلل وهو ينفث دخان أيامه :
-واضح أن معاكِ حق يا شمس ، حُبي لأمي هو اللي موت جوايا حاجات كتير وأولهم قلبي ! بس من أول ما شفتك وأنا حاسس إنك هدية أمي ليا ، عشان كدا لازم ترجعي ، شخص زيك مش هلقاه كل يوم ، لازم ترجعي يا شمس حتى ولو كُنتِ الطُعم اللي عاصي دويدار بيخطط له عشان يصطادني بيه !
•••••••••
لا يقترب النوم من جفون إمرأة ألا عندما تنتقم لقلبها ، ارتسمت السعادة على وجه ” هدير ” وهي تهتف بفرحٍ :
-ولسه ياما تشوف يا عاصي !
دخلت جيهان الغُرفة على ابنتها وبيدها طبق الفواكه :
-آخيرًا وشك اتفرد ! أيه حصل فرحيني ؟
وضعت ساق فوق الأخرى بعد ما تناولت ثمرة من التفاح وقالت :
-أخدت حقي ، ولسه ! مش هرتاح إلا ما أحسر ابن اختك على كل عمله فيا !
جلست جيهان بجوارها بلهفة لمعرفة بقية القصة وسألتها
-أنتِ عملتِ أيه من وراء ؟!
قطمت ثمرة التفاح بسعادة وقالت :
-مشروع العلمين الجديد بتاع عاصي ، وأنت آكيد عارفة المشروع دا صرف عليه أد أيه ونازل فيه بكل تُقله !
جيهان باهتمام :
-أيوه عارفة ، ماله ؟!
-ولع ! أو بمعنى الأصح أنا اللي عملت كدا .
اتسعت عيون جيهان بدهشة وهي تسقط السكين من يدها :
-يخرب عقلك ! أنتِ ازاي عملتي كده .
تمايلت بتفاخر :

 

-خلي مراد ابنك يشكرني بقا ، بقدم له خدمات على الجاهز !
شردت جيهان في ملامحها ابنتها المشتعلة بنيران الانتقام :
-دا أنت مش سهلة خالص .
-تربيتك يا جي جي .. هو كريم فين ، الولد ده بحس أنه بايعنا كده ولا بيفكر حتى يسأل علينا .
ألتوى ثغر جيهان بيأس :
-دا أن خد باله أننا مش موجودين في البيت أصلًا ، استني أما اكلمه .
•••••••••
تحولت وسادتها من القماش المحشو بالقطن إلى قماش مُبلل بملوحة حزنها إلى ينافس حجم البحر ، جففت دموعها سريعًا إثر صوت طرقه الخافت على الباب ليدخل ، اعتدلت بسرعة وهي تسمح له :
-اتفضل .
دخل ” مُراد ” بمعالم وجهه الثابتة التي لا تترجم منها حالته وما يشعر به ، كل من يراها لا يمكنه قراءة ملامحه ، شخص جاد ، صلب ، ذو ملامح حادة أن وقفت فراشات الفرحة عليها يوميًا لسالت دمائها ، مد لها يده الحاملة بالطعام :
-طلبت لنا أكل .
أخذت منه الحقيبة وشكرته بخفوت ثم أكمل :
-الدواء جمبك لازم يتاخد في مواعيده .
لأول مرة تطالع وجهه عن قُرب ظنًا منها بأن الدنوء يكشفه لها ولكن لم يوصلها القرب إلا على نواصي التيه ، اكتفت بإصدار إيماءة خافتة بهدوء ، أخذت منه الطعام ولكنها فوجئت بوجوده ، رفعت جفونها إليه وسألته :
-عايز تقول حاجة !
كان سؤالها برقة النسيم على قلبه ، شعور لم يتناسب قط مع نواياه الخفية نحوها ، أغمض جفونه وهز رأسه بالموافقة ثم ذهب نحو الخزانة وأخرج منها ملفًا ، شد أحد المقاعد وجلس بجوار فراشها ، تحركت جفونها بغرابة مبطنة بالفضول حول الموضوع الذي سيفتحه معها .
ألقى الملف بجانبه ثم تعمد قتل نبضة حائرة بقلبه وقال بجفاء :
-أنتِ وافقتي تتجوزيني ليه !
ظلت تتذكر حروبها الخاسرة مع الزمن وقالت بعيون دامعة :
-المفروض أنا اللي أسال سؤال زي دا ، أيه ممكن يجبر رجل زيك يتجوز واحدة بالطريقة دي ، على الأقل أنا بنت وليها نقاط ضعف كتير !
سبق لسانه عقله وسألها :
-أيه هي نقاط ضعف واحدة زيك ؟!
شردت في خيباتها وقسوة الأيام عليها حتى فرت دمعة الخزى من طرف عينيها وقالت ببسمة مزيفة يغمرها القهر:
-ياااه كتير ، بس مش موضوعنا ، ليه اتجوزتني !
رق قلبه لها للحظة قتلتها سنوات طويلة من الحروب الناشبة بين العائلتين وقال بجمود مُفتعل :
-اسمعيني يا عالية ، واضح أنك مالكيش في البهدلة ولا ليكي دخل في الحرب الدايرة بيني وبين عاصي ، وواضح أني غلطت لما فكرتك الطُعم اللي هصطاد بيه أخوكي .

 

خرط على قلبها جمرات متتالية من الإهانات انعكست على دموع عينيها الأشبه بالسيل على وجنتيها وقالت بحسرة :
-جبت الخُلاصة ، قصدك جوازة مصلحة .
-وأنا جاي اديكي مفتاح القفص ده وتعيشي حُرة بقيت حياتك !
تذكرت أنها لا تملك حياة من الأصل لتعيشها ، بلعت جمر قسوته وسألته :
-مُقابل ! قصدي فين مصلحتك !
تردد كثيرًا قبل ما يعرض عليها صك شراء حُريتها ، مسك الملف وقدمه لها وقال برتابة :
-هتمضي هنا وبعدها هديكي ورقة حريتك ونبقى خالصين .
أخذت الملف منه وشرعت في قراءته بملامحها المتأرجحة على أوتار الدهشة ، ظل يراقبها بعيون مضطربة منتظرًا ردها ، أحس بحيرتها للحظات قرر منحها مُهلة من الزمن فقال:
-ممكن استنى ردك الصبح ، فكري .
ضحكت بأسف :
-عقود بيع وشرا عن نصيبي في شركات دويدار مُقابل ورقة طلاقي ! عرض يستحق التفكير فعلًا .
تلقى كلماتها سريعًا ثم وثب قائلًا :
-تمام ، فكري وهستنى ردك ، مع أنه مش مستاهل تفكير يعني .
أيدت جُملته :
-عندك حق ، مش محتاج تفكير !
ثم أزاحت الغطاء من فوقها ، ولامست أقدامها الحافية الأرض واستندت على الكمود لتقفد في مواجهة العاصفة وقالت بثباتٍ :
-غلطان جاي تساوم واحدة معندهاش اللي تخسره !
انكمشت ملامح وجهه لجُرأتها خاصة بعد ما مزقت الملف لنصفين أمامه ورمته بالأرض قائلة :
-صدقني مابقاش عندي حياة عشان أحارب إني ارجع لها ، يعني المبلغ كبير أوي مقابل اللاشيء اللي مش عايزاه .
صُدم من ردها الغير متوقع ، ولكنها لم تمنحه الفرصة ليجيبها بل أكملت :
-أسف إني هبلغك بفشل مُخططك ، بس لعبتها غلط المرة دي يا مراد بيه .. ممكن تشوف طريقة تانية تكسر بيها عاصي لكن مش أنا !
••••••••••••

 

في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل ، صفت سيارة ” سارة ” أمام أحد المناطق السكينة الراقية ، قفلت صوت الغناء الصاخب ولملمت أغراضها وكانت يبدو عليها شخصًا ثملًا إثر ما تجرعته من خمرٍ تلك الليلة .
هبطت من سيارتها تتأرجح وتبحث عن مفتاح السيارة الذي لم تأخذه من الأساس ، عادت إلى المقعدة وأخذت تهذي بكلمات مبهمة وهي تخرج المفتاح إلى أن فارقت سيارتها واتجهت نحو باب منزلها وهي تتمايل وتدندن تارة بالغناء وأخرى بالضحك .
بصعوبة أدخلت المفتاح بالباب حتى ظهر أمامها ذلك الشخص العبثي الذي خرب عليها ليلتها ، وقف فريد بوجهها وقال :
-اسف على اللي حصل بس ….
تفحصته سارة بعيونها المشوشة وهي تشير له :
-أنت ! انا فكراك ! انت جاي ورايا تعمل أيه ؟
أوشكت على السقوط حتى انقذها فريد في اللحظة المناسبة وهي تتمايل بين يده ، تبدلت نظراته الماكرة إلى أخرى وقحة لم تستحي على إعلان ما تريده ، همس لها بتخابث :
-نكمل كلامنا جوه !
•••••••••••
استيقظت ” عبلة ” من نومها بعد ليلة طويلة قتلت حقدها وغليلها بالعديد من الحبوب المهدئة ، بمجرد ما فاقت أخذت حمامها الدافئ ثم قهوتها وأخذت تُعد مُخططها الانتقامي من تلك الفتاة التي تجرأت وتطاولت علي مجدها الشامخ .
أمسكت جوالها وهاتفت اختها التي استيقظت على صوت رنينها وأجابت :
-صباح الخير يا عبلة !
عبلة بقهرٍ :
-وهيجي منين الخير طول ما البنت دي في حياتنا ، أنتِ فين يا جيهان !
اعتدلت جيهان من نومتها مُجيبة :
-رجعت شقتي القديمة يا عبلة ، مش ابنك طردني !
-سيبك من الهبل دا دلوقتِ ، هرجعك ، المهم عايزاكي في حاجة أهم .
جيهان باهتمام :
-حاجة أيه !
بنبرة الانتقام أردفت عبلة :
-عايزين نخلص من البنت دي ! عندك حد يخلص ولا اتصرف أنا !
••••••••

 

شرعت شمس في إعداد وجبة الإفطار مع جدتها وهي تروي على أذانها الاحداث التي مرت بها خلال الأيام الماضية ، ظلت تسرد لها عن تميم وحالته المثيرة للحزن ، عن تلك الفتاة التي حطموا عظامها ظلمًا ، عن اخته التي لم يسمعها أحد بل حكموا عليها جميعًا بحكم الإعٰدام بدون وجهة دفاع ..
ظلت تسرد بتأثر شديد حتى ختمت حديثها الطويل :
-أنا حاسة إني سافرت بالزمن والله يا فوفا ، مش روحت كام يوم ورجعت .
سكبت فادية الشاي بالكاسات ثم قالت بعرفان :
-ربنا نجاكي يا حبيبتي ! أنا لحد دلوقتي مش مصدقة اللي بسمعه ، معقولة الناس دي جواها السواد دا كله ! احمينا يا رب .
-عارفة يا فوفا يتشاف من بره بيت عادي ، لكن كل ركن جوه حدوتة .. يلا عشان الحق ارجع له فلوسه !
حملت مائدة الشاي وتوجهت للجارج ووضعتها على الطاولة ثم هتفت :
-يا نوران كفاية نوم واصحى بقا !
أخذت شمس كُتبها ووضعتهم بجوار الباب كي لا تنسي شيئًا قبل ذهابها ، ولكن تركت ما بيدها متوجهه نحوه إثر صوت رنين الجرس ، وعندما فتحت الباب وجدت ” تميم ” جالسًا على مقعده المتحرك أمامها ، اتسعت عيونها من هول الصدمة وهي تردد :
-تميم ! أنت هنا بتعمل أيه ؟! وعرفت مكاني ازاي !
ابتسم بهدوء :
-هجاوب على كل الأسئلة دي على الباب كدا !
أحمرت وجنتيها بخجل :
-يا خبر ! لا طبعًا اتفضل دا كلام ؟!
شرعت في فتح الباب على مصرعيه ليدخل منه ، وفي تلك اللحظة أشار للرجل وراء أن يذهب وينتظره في السيارة ، جاءت فادية متسائلة :
-مين يا شمس !
•••••••••••
سلب طمأنينة قلبها حتى بات كُل شيءٍ يُرعبها ، حتى طرقُ طرق الباب ، فزعت ” حياة ” من نومها بقلق وهي تقترب من صوت الدق متسائلة :
-مين ؟!
اتاها صوت موظفة الفندق :
-الفطار يا فندم !

 

تردد ” حياة ” في فتح الباب ، فـ كيف تفتحه وهو أحكم غلقه ليلة أمس ، تحيرت للحظات ولكن شعور ما بداخلها جعلها تحاول فلم يتبقى لها ما تخسره بعد ، ولحسن حظها فُتح الباب بسهولة جعلتها تشهق بأوكسجين التحرر ، فتحته على مصرعه وهي تسمح للفتاة بالدخول بسعادة عارمة كانت مثيرة لفضول العاملة .
نقلت الطعام على الطاولة الخاصة ثم عادت إليه باحترام :
-أي أوامر تانية يا فندم !
تلبست الفرحة بصوتها فأعجزتها عن تكملة جملة واحدة :
-لا … شكرًا .
انصرفت الفتاة ثم أخذت حياة تتابع خُطاها حتى اختفت من أمامها ، اشاحت بأنظارها بعيدًا تبحث عن الرجال المعينين بحراستها فلم تجد أحدًا ، بات التحرر لها وجبة سائغة ومُمهدة ، قفلت باب الغرفة ثم انطلقت هاربة كطائر قضى أعوام طويلة في قفصٍ مُقيدة حريته وبمجرد ما فُتح بابه هاجر بدون ذرة حنين واحدة للعودة .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!