روايات

رواية غوثهم الفصل الرابع والخمسون 54 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الرابع والخمسون 54 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الرابع والخمسون

رواية غوثهم البارت الرابع والخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الرابعة والخمسون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع والخمسون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
إلهي إنَّ قلبي في البُعدِ عَنكَ كان عليلًا
وبدون رحمتك يقسو قلبي ليكون بعدها
على أبوابك ذليلًا.
أرجوك ان لا تتركني لنفسي
وأن تسعني برحمتك فلطفك في الكونِ دارٍ
وعطفك كان دليلًا.
ربي أرجوك أن تُحبني فالحب فيكَ أملًا
ومعكَ أراني جميلًا.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
“الله لا يُقدر بين قلوبنا بالغُربةِ،
ولا على مُلتقانا بالغياب”.
_مُنذُ الالتقاء بِكِ وأنا أرددها ولقلبي أُكررها حتى بات قلبي
يحفظها، أنا من أتيتُ إليكِ وكنتُ عنكِ غريبًا ومقطوعًا عن الوصلِ مع كل الأحباب ومثلي أنا أكثر ما يخشاه هو الغياب، لذا اسمعي لي واسمعي قلبي حين يُخبركِ:
“أن غياب الأحباب للروح عذاب،
وأن الوصل بين الطُرقات لم يوصد يومًا
في وجه القلوب الباب،
فحتى وإن عنكِ تغربت، ومن نفسي ضِعت
فحتمًا سيكتب لنا من جديد اللقاء من بعدِ الفراق،
مثل أول مرةٍ تلاقت بِنا السُبل وكان المُلتقىٰ هُنا..
حيث أتيتُ وبقيتُ بجوارك أنا.
<“بارعٌ في صيد من أراد صيدي”>
_ها !! مين بقى سلطك تخطفني فقومت أنا اللي خطفتك؟؟ أبقى قوله لما تشوفه إن الشيخ “أيـوب” متربي في حارة، وقوله برضه فيه مثل حلو اسمه تيجي تصيده يصيدك، و ابن “العطار” صياد شاطر، شوفت إزاي بينقلب السحر على الساحر؟.
“انقلب السحر على الساحر”
أتوا ليقومون بخطفه فقام هو بخطفهم، “أيوب” الذي لم تنتهي جبعته مما يحمل بداخلها، وقف بشموخٍ يتابع المخطوف ومن يجاوره، لازال جراب الحاوي يحمل بداخله الكثير والكثير وأولها حينما استطاع أن يقلب السحر على الساحر ويفرض شباكه عليهم، عاد بجسده للخلف ثم خلع سترته الخارجية وظل بالقميص فقط وقد شمر ساعديه حتى اتضح الخوف على ملامح الرجل المُكبل وقرأ “أيـوب” خوفه فنطق ببراءةٍ زائفة:
_متخافش والله، أنا بشمر علشان هقعد.
رفع جسده بعد جملته يجلس على مقدمة السيارة ثم ابتسم ببسمةٍ تتنافىٰ مع الموقف برمتهِ ومع الحوار بأكملهِ، وزاد من غرابة الموقف حين هتف بهدوءٍ عجيب:
_ها !! مين برضه اللي قالكم؟ أكيد مش حُبًا فيا يعني ؟.
تحدث الرجل بخوفٍ من “أيـوب” الذي خالف ظنونه وظنون مخدومه الذي أرسله إلى هُنا:
_محدش قالنا، إحنا كنا هناخد العربية واعتبرنا غلطنا.
رفع “أيـوب” حاجبيه بسخريةٍ وهتف مُرددًا كلمته بمزاحٍ تهكمي على حديث الرجل:
_أعتبرنا غلطنا ؟؟! طب ومشاعري؟؟ طالع تخوفني بليل كدا وتقطع عليا الطريق وتثبتني بسلاح ؟؟ ليه محسسني إنك دوست على رجلي؟؟ انطق يابني مين اللي بعتك ورايا مسجد لازم أفتحه.
بدا الخوف على الرجل أكثر ونظر للملقىٰ أرضًا بجواره يبدو أنه لفظ أنفاسه الأخيرة، بينما “أيـوب” فترك محله واقترب من الرجل يحدثه بنبرةٍ هادئة لكن حملت التهديد بين طياتها حين هتف:
_بص يا ابن الناس أنا مش راجل مؤذي بس برضه مش هسكت لحد عاوز ييجي عليا، ومبعرفش أسكت عن حقي، أديك شايف أهو اللي جنبك حصله إيـه، الله أعلم فيه الروح ولا لأ، تحب تحصله ولا تقول مين؟؟.
توسعت عينا الرجل بخوفٍ من التهديد الغير مباشر ومن نظرات “أيـوب” التي نطقت تعبر له عن تهديدٍ أوشك على تنفيذه حقًا.
في مكانٍ أخر تحديدًا
“جنة الراوي” أصابتهم حالة تخبط بعد علمهم بخبر اختطاف “أيـوب” وأرادوا أن يفهموا كيف حدثت الأمور وكيف تم اختطافه، على عكس “يوسف” الذي خشى كثيرًا عليه، خشى على شقيقته ورأى أنه المتسبب الوحيد في هذا، لذا ألقى سيجارته أرضًا وسأل “مُـنذر” بنبرةٍ جامدة:
_شوف كدا الزفت بتاعك دا !! مفيش طريقة نوصل بيها؟ هفضل حاطط أيدي على راسي وبفكر الواد حصله إيه ؟؟ اتصرف يا أستاذ.
أخرج “مُـنذر” هاتفه من جديد بعدما زفر بضيقٍ بسبب حديث “يوسف” وطريقته معه وقبل أن يُخرج الرقم وجد هاتفه يصدح برقمٍ أخرٍ وأرسل له الموقع الذي من المُفترض يتم أخذ “أيـوب” إلى هُناك عليه، حينها تحدث بلهفةٍ:
_ المكان أهو، دا المكان اللي المفروض يروحوا فيه على هناك بـ “أيـوب” يلا بسرعة قبل ما حد فيهم يعمله حاجة.
سحب “إيـهاب” الهاتف منه وقال بنبرةٍ بلهفةٍ:
_الحتة دي قرب السمان وليها طريقين روح أنتَ من طريق علشان لو حد ماشي وراك أنا و “يوسف” من طريق، “مُـنذر” أنا مش عاوز تهور، لو وصلت قبلنا عرفني.
ركض “مُـنذر” من الأرض يركب دراجته النارية السوداء، ثم تحرك من المكان بينما “إيـهاب” ركب سيارته وخلفه ركب “يوسف” سيارته وبداخله تفاقم القلق عن سابقه، يخشى على “أيـوب” كثيرًا، من الأساس لقد عانى الأخر وتلقى في دنياه عذابًا والآن تُضاف كارثة أخرى إلى حياته.
حينها كان “أيـوب” يحاول أن يتوصل لأية معلومات من الرجل حتى هدده وضغط على فكه بقبضته القوية مما جعل الأخر يقول بخوفٍ أن يُلاحقه نفس مصير رفيقه لذا قال بصوتٍ مكتومٍ حينما اشتدت قبضة “أيـوب” على فكهِ:
_والله واحد غريب بيتعامل معانا من بعيد بعتلنا صورتك واسمك وطلب نراقبك وأول ما تيجي فرصة ناخدك لحد عنده والفرصة حضرت فجينا، بس هو مقالش إنك حويط ومفتح كدا.
دفع “أيوب” رأس الرجل وسأله بنفاذ صبرٍ:
_طب واسمه إيه ؟؟ وياترى بقى دافعلك ولا عملتوها علشان خاطر عيوني ؟؟ على العموم أنا مش فارق معايا علشان زي ما قولت أنا حويط ومفتح يعني مش هتخيل عليا الحوارات دي، فالأحسن تخفى من طريقي وتقوله لما يسألك “أيوب” راجل واللي يتعامل معاه يبقى راجل وش لوش.
في مكانٍ أخرٍ تحديدًا المكان الذي أُفْتُرِضَ أنَّ يتم أخذ “أيـوب” إليه وصل “مُـنذر” في وقتٍ قياسي بعدما أخذ الدراجة النارية وطار بها على الطريق بنفس سرعة الهواء، أراد أن يلحق “أيـوب” قبل أن يَمسه الضُر وأراد أن ينقذ ما يُمكن إنقاذه بعدما تسبب في الضرر لـ “أيـوب” دون أن ينتبه لذلك، لكنه تعجب ما إن وجد المكان فارغًا كما هو على حالتهِ، يبدو أنهم لم يأتوا به إلى هُنا، لذا تخبأ في المكان ينتظر قدومهم حتى يتوخى الحَذرِ قبل أن يحدث ما لم يُحمد عقباه.
على الطريق الأخر لاحظ “إيهاب” صفوف السيارتين على الطريق في وضعٍ مُعاكسٍ مما دفعه للاقتراب بسيارته نحوهما وخَلفَهُ “يـوسف” بسيارته وقد لاحظ وقوف السيارتين هو الأخر وتعرف على سيارة “أيـوب” صاحبة اللون الكُحلي القاتم وماركتها الشهيرة “Kia” وهنا تحرك يسبق “إيهاب” خشيةً أن تكون السيارة فارغةً منه.
نزل “يوسف” أولًا و معه “إيـهاب” الذي حمد ربه كثيرًا أنه أختار هذا الطريق قبل أن يذهب من الأخر، لكنه تعجب أكثر حينما رأى الرَجُليْن متكومين على الطريق بجوار السيارة أرضًا و “أيـوب” يجلس بداخل سيارته في الظلام منتظرًا لمن أراد اختطافه، وكذلك اندهش “يـوسف” من الوضع ووقف مصدومًا بجوار “إيـهاب” الذي قال بسخريةٍ حينما لاحظ جلوس “أيـوب” بداخل السيارة:
_جوز أختك طلع حملة !! هو دا الشيخ “أيـوب”؟.
نزل حينها “أيـوب” من السيارة يسأل بدهشةٍ وقد فهم الأمر بصورةٍ خاطئة:
_انتوا بتعملوا إيه هنا !! هو انتو اللي كنتوا هتخطفوني؟.
ذُهِلَ “يوسف” من حديث “أيوب” وسأله بتهكمٍ:
_نخطفك ؟؟ ليه إحنا جايين نلحقك، بس الله أكبر مش محتاج يعني قومت بالواجب وزيادة، طلعت قارح يا “أيـوب”، أنتَ اللي كومتهم في بعض كدا ؟؟ طب وإيه اللي موقفك كدا ؟؟ مستني إيه ما تهرب.
تحدث “أيـوب” بنبرةٍ جامدة يرفع صوته:
_أنا مبهربش، ناس عاوزة تتعدى عليا وعلى طريقي، قولت استنى لحد ما يظهروا بقى وأعرف هما مين، لقيتكم ظهرتوا، دا معناه إيه ؟؟ يبقوا انتوا أكيد عارفين هو مين صح؟؟.
تحدث “إيـهاب” بثباتٍ بعدما تفحص الرجليْنِ وتأكد أنهما لازالا على قيد الحياة لم يفارقها أيًا منهما:
_آه عارفين وجايين علشانك، بس متوقعناش نيجي نشوف المنظر دا، بس ليك عليا إنها متحصلش تاني وزي ما بدافع عن أخويا و عن كل اللي مني، هدافع عنك وآسف ليك، بس هو ممكن أعرف حصل إيه ؟؟.
تنهد “أيوب” بعمقٍ ثم بدأ في سرد ما حدث قبل سويعات قليلة من محاولة للاعتداء عليه حتى يتم اختطافه على يد مجهولي الهوية يتم استئجارهم في هذه الحالات.
[ منذ ساعات قليلة]
كان “أيوب” يقود سيارته بعدما خرج من شارع المشفى ليتوجه إلى طريق عودتهِ نحو بيته وحينها لاحظ سيارة أخرى تسير خلفه من كل شارعٍ يقطعه أو يمر به تتخذ نفس الممر لها، نحى ظنونه المُسيئة جانبًا وتحرك كما هو في سيره من شارعٍ جانبي يخلو من المارة تمامًا فوجد السيارة تقترب منه أكثر مما أزاد الشكوك بداخلهِ وقبل أن يُبدل طريقه قامت السيارة القديمة التي اتضح له من خلال خبرته في هندسة السيارات إنها سيارة متهالكة قديمة تم خلع لوحة الأرقام منها وتأكد من هذا حينما تم قطع الطريق عليه.
أوقف سيارته دون أي ذرة خوفٍ وبكل ثباتٍ بادر هو بفتح الباب حينما وجد الرجل يقترب منه، رجلٌ تبدو عليه الخطورة ملامحه مقتضبة رأسه حليقة صلعاء، جسده قوي البِنية وما إن وجد “أيـوب” مُستسلمًا له ظنه فريسة يسهل السيطرة عليها وقد نزل له “أيـوب” وتفادى ضربته حينما أخفض جسده للأسفل ببراعة مقاتلٍ في ساحة القتال.
تعجب الرجل منه وأراد أن يحقق نصرًا عليهِ لذا أخرج من ظهره عصا سوداء اللون خاصة بالضرب في المشاجرات العنيفة وحينها في ثوانٍ أو لربما في طرفة عينٍ ما إن اقترب من “أيـوب” يضربه وجده تفادى الضربة وخطف العصا منه وضربه فوق رأسه بها، بنيما الأخر ترك السيارة ونزل ليضرب “أيـوب” لكنه تراجع لثانيةٍ وأراد الهرب، خاصةً حينما رأى رئيسه مُلقىٰ أرضًا، لكن “أيـوب” هتف بأنفاسٍ متطعة:
_إيه يا أبو الرجالة ؟! هتكِش !! مفتكرش.
حرك رأسه نفيًا ثم هجم هو على الشاب الأخر يكبل حركته وقد نجح في ذلك وكام بتكبيل كفيه خلف ظهره وقام بعقد الحبل فيهما ثم وضع القماشة فوق عينيه ثم وقف يُهدي نفسه وينظم أنفاسه وهو يحاول التفكير في هوية خاطفه أو من أراد خطفه قبل أن ينقلب السِحر على الساحر.
[عودة لهذه اللحظة]
قام بسرد الموقف عليهما وسط نظرات الدهشة والذهول من فعلهِ، الجميع يظنه مُسالمًا هادئًا وربما طيبًا، لكنه كما البحر يكون دومًا عميقًا يخفي بداخله شخصًا يتنافى كُليًا مع طبعهِ الهاديء، تدرب على القتال واتقن الدفاع عن نفسهِ، فعل كل شيءٍ لأجل حماية نفسه وكأن مُثله وجد فقط ليكون نتاج محاولة الأخرين في التعدي عليه.
أقترب “يوسف” منه وهتف بثباتٍ يستفسر منه عن حالته:
_سيبك من كل دا، حد فيهم قرب منك؟.
ابتسم “أيـوب” بسخريةٍ وهتف يستفسر بتهكمٍ:
_طب لو حد فيهم قرب مني؟ هتعمله إيه؟
بدون أي تردد جاوبه بنبرةٍ قوية يخبره بصدقٍ عما يمكن أن يفعله لأجلهِ:
_مش هنسمي عليهم، أنا مش هفأ علشان حد يقرب من اللي يخصني، والعيال دي مش هترجع تاني، دول ضيوفنا في السمان، ياخدوا واجب الضيافة الأول بعدها يرجعوا مطرح ما هما عاوزين.
تدخل “إيـهاب” يخبره بثباتٍ بالغٍ:
_دول سيبهملي أنا، تعالوا بس حطوهم في العربية معايا.
توجه كلاهما نحو الرجلين يقوما بحملهما لداخل سيارة “إيهاب” الذي توعد لهما ولمخدومهما كما يَدعونه “الرجل الملون” حينها سيقوم “إيـهاب” بطبع اللون الأسود على حياته مدى الحياة.
__________________________________
<“أين صاحب الونس، خليل القلب؟”>
السهر بدون من اعتادنا حزين، والحياة بدون من أعطونا القوة ضعفٌ، والطرقات بدون أصحابنا لو بها كل العالم فارغة، والقلب بدون من أحب خالي وبالعالم لا يُبالي، هكذا فكرت “عـهد” وهي تجلس في شُرفتها بجوار الزرع الأخضر الذي قامت هي بزراعتهِ، انتظرت قدومه لكنه تأخر، الهاتف لم يُجب عليه، منذ أن قام بتحديث قصته عبر تطبيق “الواتساب” وهو أختفى تمامًا، هل يُعقل أن حديثها صباحًا معه جعله يشعر بالضيق لذا ترك المكان ورحل ؟.
قامت بفرك وجهها بقوةٍ وهناك هزة اصابت قلبها وكأنها تستثقل نفسها عليه، لم تعلم كيف نطقتها وأخبرته أن يبقى ؟؟ حينها هي أسكتت كل شيءٍ ولم تستمع سوى لصوت قلبها، أخبرها بمشاعرها تجاهه التي تنكرها وتبخل على نفسها بها، أرادت أن تخرج كل الأصوات بداخلها لذا أخرجت الدفتر الخاص بها ثم فتحته على صفحة جديدة تكتب بها:
_”مرحبًا أيها المدعو بالـ “غريب”
دعني اليوم أخبركَ أنك لم تكن يومًا غريبًا
بل منذ قدومك لأرضنا أصبحت فيها عزيزًا
لا تخبرني أنك غريبٌ عن وطنكَ في حين أن وطنك يحتاجك وبشدة، لم تكن يومًا عني غريبًا بل أصبحت جناحييِّ وأنا كنتُ طيرًا بدون جناحيهِ، فكيف أكون وطنكَ وأنتَ الغريب؟
ألم يكن من المفترض أن يغدو الوطن هو الحبيب ؟”.
أغلقت دفترها وزفرت بعمقٍ من المشاعر الغريبة التي أصحبت هي تشعر بها، تحديدًا منذ أن وجدته يدافع عنها ببيت العائلة، ليس هذه المرة تحديدًا لكن المرة الأولى التي ذهب فيها إلى عمها في سكون الليل لكي يضربه، تحديدًا من يومها وهي تشعر به، وكأنها من بعد سيرٍ طويلٍ وشتاتٍ وتيهٍ كان هو عنوان الطريق، هي لم تعرفه ولم تعلم لماذا التقت بهِ من المؤكد ليس صُدفةً بل هناك ماهو أكبر من هذه الصدفة، قوة أتت إليها لكي تجعل قلبها يدق لأجلهِ هو ؟؟ أصبحت تحب قربه وتستأنس بهِ، هذا الغريب بدل خوفها أمنًا.
انتبهت لصوت سيارته وهي تصف أسفل البناية فانتفضت كما مراهقة تراقب حبيبها خلسةً أرادت أن تراه وتطمئن عليهِ، أرادت أن تعلم لما تأخر هذا اليوم عليها حتى أنها خشيت النوم وكأنها أصبحت تنام فقط لأجل رؤيته، ابتسمت حينما خرج من السيارة بخيرٍ وانتبهت لحالها، غيرها كثيرًا وكأنه يعيدها لأيام صغرها.
دلف البناية أولًا ثم توجه للمصعد وولجَ داخله يتجه لشقتهِ بينما هي تنفست بعمقٍ ودلفت من الشرفة تغلقها بعدما اطمئنت عليه وشرعت في الدخول لغرفتها لكنها تفاجئت بجرس باب الشقة يصدح عاليًا وحينها تركت محلها وعادت لأول الرواق تفتح الباب فوجدته أمامها، رمشت ببلاهةٍ فيما تحدث هو بنبرةٍ هادئة يقول:
_معلش أني خبطت عليكِ دلوقتي بس موبايلي قفلته وبعدها لقيته فصل شحن، أنتِ كويسة ؟؟.
أيها الكاذب !! أتيتَ إلى هنا فقط لكي تخبرها أنك أغلقت هاتفك ؟؟ حجة غير مقنعة واتهام جديد يُلقيه عليهِ قلبه بعدما كذب وكذبه وكأنه يرد عنه الإتهام بعيدًا، بينما هي لم تنكر سعادتها باطمئنانه عليها لذا قالت بوجهٍ مُبتسمٍ:
_أنا بخير الحمد لله وحمدًا لله على سلامتك.
حرك رأسه موافقًا وكاد أن يتركها ويتجه إلى شقتهم فأوقفته هي بتوترٍ:
_”يـوسف” ؟؟.
التفت لها يسأل بعينيه فوجدها تتحدث بترددٍ تسأل عن أحوالهِ:
_أنتَ كويس ؟؟ أتمنى تكون بخير.
اليوم كان طويلًا وشاقًا للغاية، حدث به الكثير والكثير وواجه ماضيه المؤلم الذي أحيا جروحه لكن سؤالها واهتمامها به جعله يبتسم بصفاءٍ وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_لو كل يوم هينتهي بسؤالك كدا فأنا بخير كل يوم، تصبحي على خير يا “عـهد” ومعلش لو قلقتك.
تركها قبل أن ترد عليهِ بينما هي ارتفعت ضربات قلبها بحركةٍ تختبرها معه هو لأول مرةٍ، لقد سمعت كثيرًا عن مذاق الفراشات لكن الآن الفراشات تلعب بداخل قلبها، قلبها الذي كان يشبه الصندوق المغلق أتى الغريب يفتح هذا الصندوق لتحلق منه الفراشات بداخلها.
أما هو فوقف على أعتاب شقته وتردد في ذهنهِ حديث “جَـواد” حين هتف يحثه على التقدم بقوله:
_طاقة الانتقام اللي خرجت منك خليتك طلعت موهبة مدفونة محدش يتخيل إنها عندك، بترسم بأي حاجة على أي حاجة وبتستغل أي خامات في أيديك تطلع بيها حاجة جديدة، دا كان انتقام ومشاعر سلبية، تخيل طاقة حب ممكن تعمل إيه ؟؟ جرب كدا تخرج شخابيطك على شكل جديد ورسمك في حاجة تانية، بقى عندك كل اللي طلبته، عيلة بتحبك وواحدة أنتَ بتحبها وهي محتاجالك، يبقى الأحسن إنك تستمع باللي بقى معاك بدل ما يفوت الوقت زي اللي فات قبل كدا.
فتح باب الشقة وعبر منه ليجد والدته في انتظاره تجلس على الأريكة حينها فقط ابتسم بحماسٍ شديد وأغلق الباب واقترب منه بدون كلام فقط ارتمى في عناقها، أراد أن ينسى كل ما هاجمه اليوم ولم يجد أفضل من عناقِ الأم، فورًا رفعت ذراعيها تعانقه وسألته بقلقٍ بالغٍ:
_مالك يا حبيب عيوني ؟؟ فيك إيه.
رفع رأسه يضعها عند موضع قلبها وهتف مُستطردًا حديثه بتيهٍ أو لربما براحةٍ بعدما وصل إلى مستقرهِ هُنا:
_مش عارف بس تايه وضايع من نفسي، متخبط ومتكتف وفي نفس الوقت فرحات وحاسس إني مبسوط، أنا جوايا كتير مش عارف حد منهم.
مسحت على رأسهِ ثم لثمت جبينه وهتفت بصدقٍ:
_بس أنا عارفاهم كلهم، كل “يوسف” فيهم حتة من قلبي، وعارفة إن فيهم واحد نور عيني كلها وروح قلبي، لما تحس إنهم كتروا عليك تعالى حضني هتلاقيه مفتوح ليك في أي وقت، وهتلاقيهم كلهم عندي واحد.
حرك رأسه موافقًا وأغمض جفونه وسأل بنبرةٍ رخيمة:
_كنتِ فين من زمان؟ كان زمان كل حاجة مكركبة جوايا اترتبت وكل حاجة مكسورة اتصلحت.
مسحت بكفيها على ظهرهِ وهتفت تجاوبه بأسىٰ:
_كنت مستنياك علشان نصلح اللي فات مع بعض.
بحث بعينيهِ في المكان وهتف متعجبًا يسأل عن شقيقته:
_هي “قـمر” فين ؟؟.
جاوبته بنبرةٍ هادئة تخبره بقولها:
_نامت، فضلت مستنياك كتير وقالتلي إن أنتَ و “أيـوب” مع بعض بتزوروا واحد تبعك، ورتني صورتكم مع بعض وفضلت ترغي لحد ما نامت زيك كدا وقومتها وفضلت مستنياك أنا بقى، مكتوب عليا استناك يا ابن “مصطفى”.
قالت جملتها الأخيرة بنبرةٍ ضاحكة فيما رد عليها هو بقوله يوافقها الحديث حين هتف:
_وأنا مكتوب عليا أني أجيلك مهما طال الزمن.
قال جملته بين اليقظة والنوم فيما شددت هي مسكتها له تود الاحتماء به كما هو يحتمي بها، لم تكن عودته عودة الابن فحسب، بل هي عودة الروح للجسدِ من جيد.
__________________________________
<“فَرِح غيرك لتفرح أنتَ”>
أشرقت الشمس بإذن ربها بعد صلاة الفجر وقبلها ذهب “أيـوب” إلى بيتهِ بدل ثيابه وتوضأ وذهب للمسجد مباشرةً يرتاح هناك من عبء هذه الليلة، استودع ربه نفسه وماله وصحيته واحبته وتوكل على الخالق بقلبٍ يلمئه الصبر ويسكنه الإيمان ويتوكل على خالقٍ كريمٍ لن يضيعه مادام يسير في طريقه.
أنهى الصلاة بالمسجد وذهب مع أخيه وأسرته إلى البيت وقد شكل ذهابه إلى المسجد فارقًا كبيرًا في يومهِ، استعاد ثباته من جديد واستطاع التغلب على هذه الليلة الغريبة وعلى من أرادوا السوء له، لاحظ “عبدالقادر” ملامحه المشدودة وشروده بين حينٍ وآخر وفور وصولهم للبيت سأله باهتمامٍ:
_مالك ؟؟ شكلك تعبان وأنا عارفك لما بتسرح كتير.
ابتسم له ثم لثم جبينه وهتف بنبرةٍ هادئة يُطمئنه ويزيل عن عاتقهِ القلق الذي دومًا يساوره تجاهه:
_والله بخير الحمد لله بفضل ربنا ثم دعواتك، متقلقش عليا.
حرك رأسه موافقًا وقبل أن يتركه تذكر أمرًا هامًا لذا عاد الخطوة التي تحركها وهو يقول ببسمةٍ هادئة:
_بليل هنروح نقابل الحج “شلبي” كلنا علشان أخوك هيتقدم ليها، أنا كلمته وهو قالي نروح النهاردة علشان كدا هتيجي معانا ومراتك هتيجي معانا.
عقد “أيـوب” مابين حاجبيه بتعجبٍ وبدا أمام والده مُستنكرًا فيما قال الأخر بسخريةٍ حينما ضحك على حيرة ابنه:
_يا واد !! الأصول إننا نروح كلنا، وهي مراتك يعني مننا وتيجي تتعرف على سلفتها الكبيرة، أنا مش عاوز اللي كان هيحصل قبل كدا يتكرر تاني وواحدة تفرق بين الاخوات، علشان كدا هما لازم يحبوا بعض ومراتك طيبة والتانية أنا واثق إنها طيبة.
ابتسم له “أيـوب” وهو يوميء موافقًا له فيما تنهد “عبدالقادر” وهو يتمنى أن يتحقق ما أراده، أراد أن يأخذ “قـمر” تحديدًا لكي يرى معاملة الأخرى معها، أراد أن يطمئن على بيتهِ مع ساكنيه الجُدد قبل أن يقع في خطأ المرة السابقة، وقد لاحظ “أيـوب” شروده فسأله بتعجبٍ:
_سرحان في إيه ؟؟ هو “أيـهم” عرف ابنه؟.
انتبه والده لصوته والتقط آخر حديثه ورد عليه بقولهِ:
_ها !! آه هيكلمه دلوقتي أهو، علشان كدا طلعوا سوى.
بالأعلى دلف “أيـهم” الشقة مع ابنهِ الذي كاد أن يلج داخل غرفته لكن والده أوقفه حينما حمله على ذراعهِ وقال بنبرةٍ هادئة يحاول بها فتح الحديث معه:
_بقولك إيه أنا عاوز أتكلم معاك شوية، ما تيجي تنام في حضني كدا علشان أعرف أتكلم معاك.
هز رأسه مومئًا له وتحرك معه نحو غرفتهِ فيما حاول الأخر برمجة الحديث على طرفه، يحاول التوصل لإيجاد طريقة يوصل له الخبر وما إن رفع الأخر جسده فوق الفراش اقترب منه “أيـهم” يُلثم جبينه ثم احتواه بين ذراعيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا عاوز أعرفك حاجة مهمة أوي، بس الأول هسألك، دلوقتي أنا وأنتَ وضعنا هنا مش أحسن حاجة، نازلين طالعين زي المشردين، والشقة فاضية علينا، “آيـات” هتتجوز وتمشي، و “أيـوب” هيتجوز ويبقى في شقته، ساعتها هنحس إننا لوحدنا بجد، علشان كدا هجيب حد تاني يعيش معانا.
انتبه له “إيـاد” وطَلَّ الترقب من نظراتهِ فيما أضاف والده بنبرةٍ هادئة بعدما مسح على رأسه ووجههِ:
_إيه رأيك نجيب “نِـهال” تعيش معانا هنا ؟ وتبقى مراتي أحسن ما بنشوفها سرقة كدا ويحصل زي المرة اللي فاتت؟؟.
فرغ فاه الصغير وارتسمت البسمة على ملامحهِ رويدًا رويدًا بينما انعكس حال والده وانتظر جوابه حتى وجده يقفز معتدلًا ليواجهه مما جعل والده يرفع صوته متأوهًا بألمٍ من ضربة الأخر لبطنه فيما سأله “إيـاد” بلهفةٍ:
_دا بجد والله ؟؟ قول والله كدا ؟؟.
اعتدل “أيـهم” على ركبتيهِ ليواجه صغيره ثم هتف بنبرةٍ حماسية اقتبسها من الحماس المُصدر له من قِبل صغيره:
_والله، أنتَ موافق الأول؟؟ لازم تكون موافق.
ارتمى عليه يحتضنه وهو يقول بسعادةٍ بالغة:
_أنا مش موافق بس أنا فرحان أوي أوي.
ضمه “أيـهم” بذراعيهِ وهو يقول بنبرةٍ فرحة بعدما احتضن صغيره وشعر بضربات قلبه الصغير الذي يشكل جزءًا من قلبهِ الكبير:
_وأنا فرحان علشان أنتَ فرحان ووعد مني فرحتك أنتَ تبقى قبل أي حاجة عندي، دا أنتَ حتة مني يا حبيبي.
ابتسم “إيـاد” بسعادةٍ وقال بنبرةٍ خافتة:
_الحمد لله يا رب، الحمد لله، أنا بحبك أوي.
هتفها بصدقٍ وهو يتحدث مع خالقه كما أعتاد على يد “أيـوب” الذي أخبره ذات مرةٍ حينما كان يجلس معه يدرس له تعاليم الدين الإسلامي:
_أدعي وأطلب من ربنا كل اللي نفسك فيه، أدعي بيقين إن ربنا هيستجيب لك، خليك متأكد إن الدعاء بيغير الأقدار، ولو طلبك مجاش يبقى ربنا رحمك من الإجابة لأنها ممكن تكون فيها أذى ليك، ولو ربنا رايد في الإجابة إنها تكون سبب الخير ليك مش هيبخل بيك عليها، أدعي باللي نفسك فيه مهما كان غريب بالنسبة ليك، لأن اللي يبان ليك مستحيل، عند ربنا بيترتب وبيجهز ليك.
أغمض جفونه براحةٍ وتذكر كيف ألح في كل صلاةٍ وفي كل جلسةٍ يكون فيها بمفرده وفي كل مرةٍ يسير بها في الطرقات، ألح كثيرًا أن تعيش معه طوال العمر دون أن يعرف كيف، أراد أن تتخطى مرحلة صداقتها معه لتصبح كما أمه، حصل على الجواب وهاهي شارفت على القدوم إلى هنا لتبدأ حياته الجديدة التي رغبها بشدة ورغب أن يكون بيته طبيعيًا كما بيوت زملائه يتكون من أسرة طبيعية، وهو أصبح أكثر من محظوظٍ لكونه أختار من أرادها أمه.
__________________________________
<“صيدٌ ثمينٌ في أرضنا هل نتركه”>
بعد مرور عدة ساعات تحديدًا قبل الظهر كان “إيهاب” في الجزء المُخصص لمنطقة الخيول بعدما ألقى بها الرجلين وانتظر “ميكي” حتى أتى له بالمعلومات الكافية عنهما، وللحظ العسير الذي يمتلكه كلاهما يرجع أصلهما إلى هذه المنطقة وقد خرجا من السجن منذ فترةٍ قليلة.
أومأ بشرودٍ ثم هتف بنبرةٍ جامدة خَشِنة:
_طب وعرفت عنهم إيه تاني؟.
أخبره مساعده بقوله بزهوٍ في نفسه:
_جيبت عنهم كل حاجة، الاتنين كانوا من المحكوم عليهم في الخنقة بتاعة الجبل، اللي راح فيها اتنين من العيلتين دي، وساعتها اتحكم على الـ ١٥ راجل بسبع سنين كل واحد، قضوهم وخرجوا من سنتين، بيتأجروا للحالات اللي زي دي، واحد عاوزينه يتخطف، واحد عاوزين يأدبوه، شنطة يهبشوها من حد، المهم الملون بتاعنا بقى عارف ناس من دي كتير، بس هو مش بيتعامل معاهم، مخلي واحد زي “سراج” كدا يتعامل مع الناس دي، بس الشهادة لله “سراج” مكانش كدا، العمل إيه يا “عـمهم” ؟.
زفر “إيـهاب” مطولًا وهتف بلامبالاةٍ وكأنه لا يكترث بهما:
_ولا أي حاجة خالص، فكك خالص منهم، مش كان معاك صحابك نفسهم يدخلوا طب ؟؟ دخلهم يتدربوا على التشريح في الرجالة، بس بالراحة دي جثث ناس برضه.
ضحك “مـيكي” ورحل من أمامه فيما نظر “إيـهاب” في أثره بشرودٍ حتى وجد “نَـعيم” يأتي من خلفه وهو يسأله بنبرةٍ جامدة:
_ها !! مش عاوز تقولي مين اللي جيبتهم هنا دول؟.
انتبه له “إيـهاب” والتفت يقول بسخريةٍ:
_قال يعني معرفتش ؟؟ التقرير موصلكش قبلي؟.
حدثه بثباتٍ ينفي حدوث هذا الشيء من خلال قوله:
_والله أبدًا أنا اتفاجئت برجلين جوة واتقالي إنهم تبعك، المهم بقى مين دول وعملوا فيك إيه علشان تجيبهم على هنا كدا ؟؟ أوعى حد فيهم يكون عملك حاجة؟.
حاول “إيـهاب” شرح الموقف له ببساطةٍ دون أن يفزعه أو يُقلقه وقد اختار أنسب الكلمات من وجهة نظرهِ حين هتف:
_الفكرة إن دول كانوا متسلطين على واحد حبيبنا، تحديدًا يعني “أيـوب العطار” علشان وأنا اتصرفت وشحنتهم على هنا، وقبل ما تسأل فأحب أقولك إن “ماكسيم” اللي عمل كدا.
ذُهِلَ الأخر وبَهُتَتْ ملامحهُ حين استمع لاسم “أيـوب” يُذكر من فمِ “إيـهاب” وضرب الأرض بعصاهِ وهو يقول بنبرةٍ عالية تَنم عن جَمَّ غضبه الذي تأجج بداخلهِ:
_الراجل دا كدا زاد وبجح أوي، هو فاكر إن “أيـوب” زي الشيخ “مسـعود” ؟؟ هيقدر ينزله يقرأله القرآن في المقبرة ويحصنهم يعني؟؟ دا أنا أخليه يقرأ المُصحف كامل على روحه، قسمًا بجلالة الله لو فكر يقرب تاني لأكون شايله من على وش الدنيا.
هتف “إيـهاب” بقلة حيلة وغلبٍ على أمره:
_المثل بيقولك البلد اللي مالكش فيها، أمشي وأقلع فيها، ودا عمال يقلع من الجذور، واحد معاه حصانة دولية، القانون الدولي بيحميه في أرض مش أرضه، قاعد هنا بصفته عضو في هيئة ترميم الآثار وغير كدا ماشي بكارت أخضر يحميه من أي حاجة اسمه السفارة، دا غير حبايبنا اللي بيساعدوه، الناس بقت مسروعة على أي فلوس وخلاص، علشان كدا مش فارق معاهم، ومتزعلش مني؟ حكومتنا لامؤاخذة مكبراها أوي.
نظر “نَـعيم” أمامه بشرودٍ وهو يحاول التوصل لفكرةٍ يوقف بها هذا المُتبجح الذي طغى في أرضٍ لم تكن أرضه ينهب في خيراتها وينسبها لنفسهِ وبلاده في حين أن هناك ماهو أقدم وأحق وهو بنفسهِ صاحب الحق.
في الداخل استيقظت “سـمارة” مُبكرًا وكعادتها نزلت تعاون “تـحية” في أعمال المطبخ وتحضير الفطور للرجال قبل رحيلهم على العمل، خاصةً بعدما رحلت “جـودي” عن البيتِ صباحًا، حينها جلس “إسـماعيل” يتصفح هاتفه وهو يحتسي مشروب القهوة باللبن “نيسكافيه” وصُدفةً ظهر أمامه منشورًا لها بعدما قام بمتابعتها عن دونِ قصدٍ أو لربما قصدها، كان المنشور يَنم على النضجِ مما جعله يسخر بملامحهِ وهو يرسم تعبيرًا ساخرًا حين وجدها كتبت:
_ساعات الناس بتظهر في حياتنا مش بس معرفة، بس بيكونوا دروس لينا تعملنا، أيًا كان اللي هنتعمله إيه بس أكيد هينفعنا، ممكن نتعلم قيمة نفسنا أو نتعلم إزاي نحبنا، يمكن نتعلم إزاي نحب بعد كدا، فشكرًا ليهم أنهم مروا في حياتنا، علمونا ببلاش.
حديثها مسه من الداخل رأى فيه شيئًا من الحقيقة، لذا لم يتردد قبل أن يضع قلبًا على المنشور يوضح به إعجابه بما كتبت، ابتسم من جديد وشعر أنه مستأنس هنا في صفحتها، شخصيتها متنوعة أثارت فضوله، تارة يجدها ناضجة وحكيمة وتارة أخرى ممازحة لمن حولها، وتارة تشارك لحظاتها مع من حولها، بريئة وجميلة، أسرته ببراعةٍ ليصبح مشغولًا بها، وقد رآت “سمارة” ذلك وهي تضع الطعام على الطاولةِ بينما دلف “إيـهاب” ومعه “نَـعيم” الذي أتضح عليه الضيق بسبب فعلة صاحب الجنسية الإنجليزية.
جلسوا حول الطاولةِ حتى تم وضع الطعام فوزع “نَـعيم” نظراته بين “مُـحي” و “إسماعيل” وهتف بنبرةٍ جامدة حينما لاحظ امساكهما للهاتف:
_سيب الزفت اللي في إيدك منك ليه، يلا علشان تفطروا.
انتبه له “مُـحي” وأغلق هاتفه فورًا بينما “إسـماعيل” شرد في هذا الحساب المختلف الذي تتباين الحالة العقلية لصاحبهِ بين كل المشاعر المتناقضة وغالبًا في نفس التوقيت، رفع “نَـعيم” حاجبيه فيما انتبهوا البقية لهذا الوضع وحينها ترك “إيـهاب” محله واقترب من مقعد “إسماعيل” ثم مال عليه يتابع ما يفعله في الهاتف وقد انتبه الأخر له فرفع رأسه بفزعٍ جعل “إيـهاب” يبتسم له بسخريةٍ فيما تنحنح “إسماعيل” يُجلي حنجرته وخاصةً حينما رأى النظرات متوجهة نحوه أغلق الهاتف مُسرعًا ثم لثم وجنة “إيـهاب” بسخريةٍ وهتف بعدها يمازحه:
_نورتنا يا حبيب أخوك.
لثم “إيـهاب” وجنته هو الأخر ورد عليه التحية بقوله وكأنهما يتقابلا لتوهما حالًا:
_حبيبي يا غالي، لازم يعني تغيب عننا كدا؟.
ضحك “إيـهاب” وعاد لمقعده وقد ضحكوا البقية أيضًا على سخريتهما حتى تحدث “مُـحي” يوجه حديثه لـ “إيـهاب” بعدما أوقف الضحكات:
_بس أنا عاتب عليك على فكرة.
استحوذ على انتباههم بحديثه وسأله “إيهاب” مستنكرًا:
_أنا ليه يعني؟.
جاوبه الأخر مفسرًا بجديةٍ تتنافىٰ مع هزل حديثه وكلماته:
_يعني تروح تزوره هو وأنا لأ؟؟ موحشتكش يعني؟.
أول من ضحك بينهما كان “نَـعيم” ثم البقية من بعده على مزاح “مُـحي” وعتابه لرفيقه، صباحهم الجديد ملئته الضحكات والمزاح معًا لترافقهم في لحظات نصرٍ على الدنيا التي تفننت في هزيمتهم على الرغم من قوتهم.
__________________________________
<“وجدنا النور ملأ حديقتنا، ففرحنا بزهورنا”>
في المساء خرج “عـادل” من المشفىٰ بعد رحيل “يوسف” و “أيوب” من المكان وقام “سـراج” بمعاونتهم في كافة الشئون وخاصةً إنتقال “عـادل”، كل الأمور بدونه لم تسير وبه يمر كل شيءٍ، وبعدما قام بنقلهم قرر أن يأتي بابنة شقيقته وذهب إلى بيت “نَـعيم” مع بزوغ الفجر وقام بنقل صغيرته إلى بيتهِ بجوار بيت حبيبته.
وقف في حديقته صباحًا يُنفث هواء سيجارته بها حتى خرجت “جـودي” من باب الحديقة تعاتبه بقولها مندفعة:
_اتأخرت ليه يا خالو؟ جعانة.
ألقى سيجارته أرضًا وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_ما أنا جعان أنا كمان، بس استني الفطار بيتحضر.
حدثته بسخريةٍ تشابه طريقة يعرفها جيدًا حين تتحدث بهذه الطريقة خاصة ً وهي تحرك كفيها تلوح بهما كتعبيرٍ عن ضجرها:
_اسم الله عليك يا أخويا ، الفطار جهز جوة من بدري.
ردد خلفها مستنكرًا هذه الكلمة الغريبة على سمعهِ واتضح هذا حين هتف بتعجبٍ واضحٍ بحروفه:
_اسم الله عليك يا أخويا !! الكلام مش ماشي مع الشكل، حاسس كأني بتفرج على فيلم حلو بس على قناة “حبيشة” أنتِ حصلك إيه ؟؟.
حركت كتفيها بحيرةٍ وهي تضحك ببراءةٍ ثم ضيقت جفونها تتبين هوية الواقفة في الحديقة المجاورة التي سبق وقام هو بضمها لحديقة بيته حينما كان يحلم بهذا البيت، فيما شهقت “جـودي” وقالت بلهفةٍ:
_”نــور” !!!
زفر بقوةٍ فيما ركضت هي من مكانها تقترب من هذه التي تتحدث في الهاتف وقالت بحماسٍ كبيرٍ بلغ أشده وهتفت بلهفةٍ:
_”نـور”، وحشتيني.
التفتت “نـور” لصاحبة الصوت الصغير ودق قلبها بشوقٍ لأجلها، هذه تحديدًا التي تعتبر واحدة من نقاط ضعفها، أمعنت النظر في وجهها ثم فتحت الباب الصغير الفاصل بين الحديقتين وهتفت بعينين لمعت ترقرق بهما الدمع:
_”جــودي”.
هتفتها بلوعةٍ وهي تركض نحو الصغيرة تحتضنها بينما الأخرى عانقتها بشوقٍ بالغ الأثر هي لم تنساها ولن تتساها، وقد تحدثت بما فتت قلب الأخرى وآلمها حين هتفت ببكاءٍ:
_أنتِ ليه مشيتي زي ماما يا “نـور”؟.
ابتعدت عنها “نـور” تهتف ببكاءٍ وهي تعتذر لها عن فعلها وتوضح لها الأمر بصورةٍ زائفة غير الأصل:
_بس أنا والله كان غصب عني، كان عندي امتحانات ولازم أسافر بعيد علشان أكون خلصت الجامعة، يرضيكي يعني أكون كبيرة ومش بعرف أذاكر؟؟ بس أنا والله بحبك وأنتِ وحشتيني أوي.
هتفت “جـودي” تسألها بقلقٍ من تفكيرها:
_طب مش هتمشي تاني صح؟ صح يا “نـور”؟.
وقف “سراج” يتابع هذا الحديث بقلبٍ مُتألمٍ مما تسبب فيه، عتاب الصغيرة وبكاؤها جعله يقف متخبطًا في حالهِ بعدما فهم ما تسبب فيه بسبب فعله، بينما “نـور” رفعت عينيها الباكيتين نحوه لتتصل نظراتهما ببعضهما هي تلومه وكأنها تحدثه بنظراتها حديثًا لم ينقطه لسانها تُلقي عليه الأسباب وهو يعتذر بعينيه وكأنه يخبره أنه فقد كل الحِيل حينها وكاد أن يفقد نفسه أهون عليه من فقدها وفقد الصغيرة، وكعادتها كانت الأقوى حينما أبعدت نظراتها عن نظراته وحدثت الصغيرة بنبرةٍ مُحشرجة:
_لو بطلتي عياط وعد أني مش همشي، بس لو فضلتي تعيطي كدا وأنا أعيط معاكِ يبقى همشي علشان معيطش تاني، تمام ؟؟!..
حركت رأسها موافقةً عدة جعلت “نـور” تحتضنها وهي تتمسك بعناقها بينما “سـراج” شعر بالسَكينة لتوهِ حينما استمع لوعدها بالبقاء وهذا يُعني أنه امتلك الكثير من الفرصِ لكي يعوض ما فاته من حياته ويلحق التمسك بحياتهِ.
__________________________________
<“لم تكن غريبًا بل كنت جناحييِّ وأنا طيرٌ بدون جناحيه”>
قرر أن يبقى هذا اليوم في بيتهِ دون أن يذهب إلى أي عملٍ يخصه، لم يذهب لشركته أو حتى الكافيه الخاص به، ناهيك عن عمله الأصلي الذي لازال في إجازةٍ مفتوحة منه ينتظر استقرار حياته حتى يعود له من جديد، وقد قرر أن يبقى اليوم بجوار أمه وشقيقته الحبيبة.
فرحت “قـمر” بتواجده معهما اليوم بأكملهِ وقررت أن تشاركه كل الأشياء التي تخفيها عنه ومما يبدو أنه سيتعرض لألمٍ في رأسه بسبب كثرة أحاديثها لكن كما يُقال حتى صوتها مثل مذاق العسل، لذا قرر أن يستمع لها لكن كان شرطه عليها:
_نفطر الأول بعدين ترغي براحتك أنا معاكِ.
حينها صدح صوت هاتفها برقم “أيـوب” مما جعلها تتركه وتنزوي جانبًا تجاوب على المكالمةِ ليصلها صوته يقول بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فاضية النهاردة ؟
لاحظت هي أنه لم يكن على عادته أو على ما يُرام، صوته أوضح لها ذلك، نبرته الهادئة التي تخلو من المرحِ حينما يُهاتفها كعادته دومًا جعلتها تسأله باهتمامٍ:
_مالك يا “أيـوب” ؟؟ أنتَ كويس؟.
ماذا يخبرها؟؟ هل يخبرها بما حدث أمسًا أو يخبرها بماضٍ مؤلمٍ عاشه بمفردهِ يتصنع فيه القوة والثبات، أم يخبرها بمخاوفه التي عادت من جديد رغمًا عنه، هو لم يكن ضعيف الإيمان ولم يكن مهتمًا بهذه الدُنيا لكن اختباراتها أقوى عليه منه ومن ثباتهِ لذا جاوبها بدون تردد:
_”قـمر” ينفع أجي أشوفك النهاردة؟!.
طريقته أكدت لها أنه حقًا به شيءٌ وحاله ليس على ما يُرام، لذا رحبت به قائلةً بنبرةٍ هادئة لكن أتضح بها الحزن لأجلهِ:
_تيجي تنور يا “أيـوب” هستناك.
أغلق معها الهاتف ثم مسح وجهه بكلا كفيهِ ثم استمر في الاستغفار بنبرةٍ خافتة مذكرًا نفسه بحديث سيدنا محمد ﷺ في حديثه الشريف:
قال رسول الله ﷺ:
﴿من قال: أستغفرُ الله العظيمَ الذي لا إلهَ إلَّا هو الحيَّ القيومَ وأتوبُ إليه غُفِرَ له وإنْ كان فرَّ من الزحفِ﴾
صدق رسول الله ﷺ
ثم تذكر قول “على بن أبي طالب” حين تحدث عن فضل الاستغفار:
ﻗﺎﻝ ﻋﻠﻲ ﺑﻦ ﺃﺑﻲ ﻃﺎﻟﺐ _ﺭﺿﻲ ﺍﻟﻠﻪ ﻋﻨﻪ_ :
” ﻋَﺠِﺒﺖُ ﻟﻤﻦ ﻳﻬﻠﻚ ﻭﺍﻟﻨﺠﺎﺓ ﻣﻌﻪ !
ﻗﻴﻞ ﻟﻪ : ﻣﺎ ﻫﻲ ﻳﺎ ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ؟
ﻗﺎﻝ: “الاﺳﺘﻐﻔﺎﺭ”
حينها تذكر الاستغفار الذي يحفظه عن ظهر قلب وردده لنفسه يُؤمنها من خوفها، أراد أن يبث نفسه تطمئنة القلوب ولن يتم ذلك بدون ذِكر الله، فهتف بنبرةٍ هادئة
“سيد الاستغفار” بصوتٍ مسموعٍ:
“اللَّهُمَّ أنْتَ رَبِّي لا إلَهَ إلَّا أنْتَ، خَلَقْتَنِي وأنا عَبْدُكَ، وأنا علَى عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما اسْتَطَعْتُ، أعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعْتُ، أبُوءُ لكَ بنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وأَبُوءُ لكَ بذَنْبِي فاغْفِرْ لِي، فإنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنْتَ”
تذكر أمر صفحته الالكترونية وقام بتسجيل الحديث الشريف وكلام سيدنا “علي بن أبي طالب” وسيد الاستغفار أيضًا، وكعادته أضاف أسفلها الجُملتين المُعتادتين:
“اللهم أهدنا وأهدي بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد ﷺ”.
أطلق زفيرًا قويًا يُخرج به أنفاسه المكتومة بداخله تتنافى مع طبعه الحُر على الرغم من عملهِ أن الدُنيا هي سجن المؤمن، لكن بالتقرب من المولى عز وجل تصبح أوسع نطاقٍ لمن حصل على الطريق.
عادت “قـمر” تجاور شقيقها لكن بصمتٍ على عكس مرحها الذي كان قبل المُكالمة وكأنها تلقت خبرًا صاعقًا، بينما هو لاحظ تغيرها فاقترب منها يسألها باهتمامٍ:
_مالك يا “قـمر” ؟؟ فيه حاجة مضيقاكي؟
حركت رأسها نفيًا وأجبرت شفتيها على الابتسام مما جعله يُلثم جبينها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_لو فيه حاجة مزعلاكي عرفيني وأنا أوعدك مش هتكون موجودة تاني في طريقك، كله إلا زعلك عندي، تمام ؟؟ عن إذنك بقى هطلع السطح وأجي تاني.
تحرك من جوارها نحو الأعلى وكأن قلبه ينبئه بتواجدها هُناك، أو لربما من الأساس منذ البداية وهو عن عمدٍ ترك قلبه هُناك، كل الأشياء غريبة عنه بدونها، كل الطُرقات أصبحت تقوده لها، كل أفعاله أصبحت تصدر فقط لأجلها.
تحرك نحو الأعلى ليجدها كعادتها تقضي صباحها فوق السطح وقد رفعت صوتها تُغني بقولها لمطربته المُفضلة:
_سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا،
بيعز عليِّ غني يا حبيبي لأول مرة
ما بنكون سوى.
_سألوني الناس عنك يا حبيبي
كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا،
بيعز عليِّ غني يا حبيبي لأول مرة
ما بنكون سوى.
_سألوني الناس عنك سألوني
قلتلن راجع وعاتبوني
سألوني الناس عنك سألوني
قلتلن راجع وعاتبوني
غمضت عيوني خوفي للناس
يشوفوك مخبا بعيوني.
وهب الهوا بكاني الهوا
لأول مرة ما بنكون ســوىٰ.
استمع لغنائها الذي جعله مُنتشيًا لذا دلف هو في هذه اللحظة يهتف بثباتٍ حاول إظهاره وعدم إبداء تأثره بالغناء حين هتف:
_بس أنا هنا، وإحنا سوى.
انتبهت له والتفتت تطالعه بعينيها التي بدتا له مُبتسمتين برؤيته حتى أنه ظن نفسه يتوهم هذا !! هل حقًا ابتسمت عيناها لأجل رؤيته؟ أقترب منها يشير برأسهِ نحو عينيها وهتف مستفسرًا باهتمامٍ مع إشارته:
_هما ضحكوا لما شافوني؟.
تحرك بؤبؤاها بتوترٍ ملحوظٍ من قِبَلهِ فيما سحبت نفسًا عميقًا تُحد به من توترها بينما هو أنتظر جوابها _المعلوم من الأساس_ بسبب انفعالات ملامحها فيما تحدثت هي تُبدل الحديث بقولها:
_كويس إنك جيت، مروحتش شغلك النهاردة ؟.
حرك رأسه نفيًا وهتف يرد عليها بقوله:
_بصراحة مقدرتش، أو اتلككت يعني علشان أقعد مع الحبايب كلهم، حاسس إن غيابي فارق مع الكل.
ابتسمت له ثم توجهت ببصرها نحو اللوح الخشبي تطالعه وقد توجه هو ببصره حيث موضع نظرها فوجدها شاردة حيث بقى نظرها وحينها سألها باهتمامٍ:
_عاوزة تقولي إيه يا “عـهد” ؟.
حركت رأسها نحوه بدهشةٍ تتعجب من كيفية التقاطه رغبتها في التحدث، بينما هو بنظراته أكد لها أنه أصبح يعلم كافة تفاصيلها حتى أصغر وأدق التحركات التي تصدر عنها أصبح يعلم سببها وهذه الحركة تخبره برغبتها في التحدث بينما هي طالعته بصمتٍ جعله يَحثُها بقولهِ:
_متنسيش إننا صحاب قبل أي حاجة، قوليلي.
حثها حقًا، واستطاع بدهاء كلماته التي برع في انتقائها أن يخبرها بما يتوجب عليها فعلهِ حتى قالت هي بترددٍ:
_أنا بس كنت بفكر…إن إزاي أنتَ جيت هنا ؟؟ إزاي بتيجي في ميعادك ؟ أول مرة برضه جيت في وقتك، وتاني برضه بتيجي في وقتك، وكل مرة بتقول إنك هنا، بيكون دا وقتك الصح، أنتَ مش فاهمني صح؟؟.
توترت وتخبطت في حديثها وكلماتها حتى بات الكلام مُبهمًا بعض الشيء وكأنها تكتب ألغازًا، لذا رفعت كفيها تضعهما على وجهها تُخفيه عنه حينما ضاعت منها الأحرف ثم زفرت بقوةٍ فأمسك كفها يسألها باهتمامٍ:
_ها !! عاوزة تقولي إيه مخليكِ تتوتري كدا؟.
زفرت بقوةٍ ثم طالعت اللوح الخشبي ومن بعدها تحركت وتركته محله فيما أمسكت هي القلم ثم أغمضت عينيها تفكر فيما يتوجب عليها كتابته حتى استطاعت التوصل في الأخر لما تريد وهو يتابعها بعينيه:
_أردتُ أن أسألكَ كيف في اليوم الذي بهِ عَانيْت وجدتكَ أنتَ لِعندي من بين سائر الناسِ أتيتؤ وألَحَ السؤال على قلبي وسكن في عقلي، كيف لِدربي من بين شتى السُبلِ استهديت؟.
كتبت ما أرادت السؤال عنه وقد ترك هو محله واقترب يقرأ ما عبرت عنه كتابةً وعجزت عن النطق بهِ، ففي بعض الأحيان يملك القلم الفصاحة للتعبير عما نعجز نحن عن نطقه بألسنتنا، وقف “يوسف” يقرأ ما كتبته هي وفورًا تذكر الجواب من كلمات أغنتيه المُفضلة وحرك رأسه يطالعها فوجدها تطالعه بقلة حيلة وكأنها فعلت ما أُرغِمَتْ عليهِ ليأخذ هو القلم منها ويكبت أسفل سؤالها الجواب الذي لم تتوقعه هي منه:
_ولا تسأليني كيف استهديت، كان قلبي لعندي دليلي.
توسعت عينا “عـهد” بذهولٍ من جُملته التي كتبها ردًا على سؤالها وحركت رأسها تطالعه بعينين لامعتين بفرحةٍ لم تقو على إحجامها فيما قال هو بنبرةٍ هادئة يُضيف حديثًا صادقًا أملاه عليه قلبه فوق جوابه بعد صُلحهما معًا:
_معنديش رد غير دا، علشان دي كانت أول مرة أسمع فيها كلام قلبي بعدما ما كُنت عايش في خصومة معاه، سمعت كلامه اللي قالهولي إن هنا فيه حد تاني محتاجنا معاه، والحد دا كان أنتِ.
ارتفعت ضربات قلبها بصخبٍ واختلط لون بشرتها باللون الأحمر وكأن الدماء ركضت نحو رأسها فورًا، وقبل أن ينطق من جديد أرادت هي الهرب، نعم الحل الأمثل هو الهرب وفور تحركها من أمامه رفع صوتهِ يهتف بصدقٍ:
_شكله عملها ووقع فيكِ يا بنت “مَـحفوظ”.
توقفت محلها أو لربما تسمرت مكانها وحينما كاد أن يقترب منها ركضت من المكان فورًا، هربت حقًا مما جعله يضحك رغمًا عنه بسبب فرارها بهذه الطريقة المُضحكة، استمع لقلبه وفرح بهذا، تصالح معه وصدق حديثه وحينها رفع كفه يضعه موضع قلبه وهتف يعتذر له بقولهِ:
_أنا أسف، أسف علشان ماكنتش مصدقك.
في الأسفل وصل “أيـوب” الذي استعاد ثباته من جديد ونحى خوفهِ الذي يزوره بثقلٍ منذ ليلة الأمس حتى نهار اليوم وقد شارف الوقت على صلاة العصر، فتحت له “قـمر” الباب فيما ابتسم هو لها وقال بنبرةٍ هادئة:
_أسف إني جيت فجأة من غير ما أقولكم، بس أنا كنت محتاج أشوفك.
ابتسمت هي له ثم هتفت بنبرةٍ هادئة تذكره بحديثه حينما أخبرها به سابقًا ذات مرةٍ:
_وأنا موجودة، مش برضه قولتلي إني كل ناسك؟
أكدت له أنها سكنه وأنها مستقره وأنها هي تحديدًا من يُحق له أن يأتي ويخبره بضياعه لذا دلف معها لداخل الشقة وجلس مع والدتها التي تركتهما بمفردهما وتحركت من المكان وقد جلست “قـمر” بجوارهِ فوجدته يتنهد بعمقٍ وقال بنبرةٍ هادئة:
_بصي قبل ما تسألي مالي، أنا قبل ما أجيلك هنا كنت مضروب فوق راسي ومش عارف مالي، بس لما افتكرت إنك معايا كل حاجة راحت لحالها، وعلشان كدا جايلك تشاركي فرحتنا وتيجي معانا علشان “أيـهم” هيروح يتقدم لعروسته، وبصراحة أنا عاوزك تكوني معايا اليوم دا.
ابتسمت له بحماسٍ شديد ظهر على ملامحها فيما أضاف هو ما يُفرح قلبها بقولهِ:
_هتيجي معانا بصفتك مرات “أيـوب” وبصفتك فرد من أفراد العيلة يعني مش غريبة عننا، هعدي عليكِ بعد صلاة المغرب تمام ؟؟.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بنفس الحماس:
_تمام جدًا، تمام خالص.
ضحك رغمًا عنه ثم هم بالتحرك لكنها أوقفته وردعت تحركه بقولها مُتلهفًا:
_أنتَ مقولتليش إيه اللي كان مزعلك ؟؟
ابتسم لها وهتف بنبرةٍ هادئة يجاوبها بصدقٍ ما أخبره به قلبه هو الأخر وكأن سُلطة المرء بأكملها تسكن في قلبهِ:
_والله العظيم نسيت اللي مزعلني لما شوفتك.
كان قوله صادقًا بحقٍ وخاصةً حينما أخبره أن يأتي إليها وحينها فقط سينسى حزنه، وهذا ما حدث حقًا، يبدو أن القلب وجد الدواء في مُحياها فسبحانه الخالق الذي سَواها لينبض القلب مرة واحدة لها دونًا عن سِواها، تحرك يُلثم جبينها قبل رحيله ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_السلام عليكم يا “قـمر”، استودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه، ربنا يبارك فيكِ يا كل ناس الأسطى “أيـوب”.
لمعت عيناها بعبراتٍ صادقة وهي تراه يتحرك من المكان بعدما خدرها بكلماتهِ، أما هي فور خروجه من الشقة تنهدت بعمقٍ وقالت تتغزل فيه صراحةً:
_يا ربي على العسل !! أقسم بالله سكر….ثانية واحدة !! هو قال هروح معاهم ؟؟ هلبس إيه يا لــهــوي.
رفعت صوتها بعدما انتبهت لحديثه ثم ركضت نحو الهاتف تُخرج رقم أختها وما إن وصلها الرد من الأخرى قالت بلهفةٍ:
_بت بعد اذنك يعني هاخد فستانك الأسود، غوري بقى أنا مستعجلة سلام.
أغلقت الهاتف في وجه “ضُـحى” التي قالت بذهولٍ بعدما أُغلِقَ الهاتف في وجهها:
_يا مطرقعة !!.
انتبهت لما تفوهت به وما إن أدركت إنها كلمته ابتسمت بتعجبٍ وهتفتها من جديد باستنكارٍ لنفسها:
_مطرقعة !! هي لزقت ولا إيه ؟.
عادت تنكب على عملها من جديد بعدما أدركت حديثها وأدركت أنها تتعجب من هذا الشاب كثيرًا، هدوئه ورزانته دومًا تثير فضولها نحوه برغم عدم معرفتها به.
__________________________________
<“فرحت الديار بأهلها، وكأن الفرحة خُلقَت لأجلها”>
بيت “العطار” يشهد فرحة جديدة تعود لقلب ابنه الكبير، وكأن حوائط البيت نفسها تفرح لأجل ابن البيت وكذلك الشباب المقربين أيضًا حيث أتى كلًا من “بيشوي” و “تَـيام” يشاركا صديقهما هذه الفرحة.
تحدث “بيشوي” يحثه بقوله:
_عاوزك كدا تبقى وتد هناك، تثبت نفسك وترفع راسك لا تتوتر ولا تتهز، وزي ما اتفقنا، أسبوعين وكل حاجة تتم وتيجي بيتك هنا، ربنا معاك ويفرحك.
تدخل “تَـيام” في الحديث هو الأخر يقول بسخريةٍ:
_أهم حاجة إنك ترحرح علطول، أصل أنا هنا بجيب جاز بعيد عنك، أقسم بالله يوم ما تبقى مراتي أنا همضيكم على وصولات أمانة وسندات قانونية تمنع عنكم الرؤية.
ضحكَ الإثنان معًا على حديثهِ بينما نزل “أيـوب” يمسك كف “إيـاد” الذي كان أكثر الأفراد حماسًا بالبيت، وقد أقترب من والده وكأنه لا يطيق اللحظات المتبقية حتى يشهد على فرحة قلبه.
بداخل غرفة “آيـات” كانت تجلس “مهرائيل” ومعها “مارينا” ومعهن “قـمر” التي أتت إلى هنا بعدما جلبها “أيـوب”، كانت ضحكات الفتيات مرتفعة بحماسٍ حتى قالت “قـمر” بحزنٍ لأجلهما:
_يعني مش هتيجوا معانا !!.
قالت “مارينا” بأسفٍ تؤكد إيجاب حديثها:
_للأسف مش هنعرف، بس بعد كدا هتلاقينا طابين في كل حاجة، علشان كدا النهاردة تفاريحي بس، بص بقولك إيه يا “قـمر” تروحي ترفعي راسنا وتسجلي كل حاجة.
حركت رأسها موافقةً فيما قالت “آيات” بتحذيرٍ لها:
_احترمي نفسك، طب إحنا قادرين نتعايش مع قلة أدبك، بتسلطي الناس كمان، أهدي شوية، ها !! أهدي.
انسحبت “مهرائيل” من المكان وخرجت لردهة البيت تحاول رؤيته من بين الشباب، كانت تختلس النظر له حتى ظهر هو أمامها يقول بخبثٍ:
_طب اتقلي شوية.
حركت عينيها نحوه بتوترٍ وكادت أن تُنفي حديثه فوجدته يسألها بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها بملامحه:
_ها يا “هـيري”؟؟ كنتي عاوزة تشوفيني صح؟.
حركت رأسها موافقةً بخجلٍ جعل ابتسامته تتسع أكثر وهتف بنبرةٍ هادئة صادقة بدون مزاحٍ أو مراوغة كما يفعل دومًا:
_وأنا مش عاوز أكتر من كدا، إن عيونك تدور عليا وتشوفني، هو حد لاقي أشجار زيتون دلوقتي؟؟.
كتمت ضحكتها ببراعةٍ كُبرى وقالت بنبرةٍ هادئة:
_طب أنا هدخل تاني بقى، عن إذنك.
أومأ موافقًا يُعطيها إذن التحرك وهو يبتسم ببشاشةٍ، اللحظات الحلوة شارفت ليكون معها رغمًا عن أنف والدها وعائلته بأكملها، ستبقى معه وتكون دومًا وأبدًا له ليقف هنا بفرحٍ شهدت عليه جدران هذا البيت.
خرجوا أهل البيت منه يتجهون لبيت عائلة “نِـهال” كي تتم خطبتها اليوم، وقد ملأ الحماس قلوبهم جميعًا، الفرحة اتضحت عليهم وكأنها هذه هي اللحظة الفارقة.
وصلوا إلى هناك مع بعضهم يلجون داخل البيت الذي وقف أهله في انتظارهم على أُهبة الحماس وأوجٍ من الاستعداد لهذه الزيارة الكريمة، وقد تم التعارف بين الجميع حينما تولى “عبدالقادر” المهمة في التعريف عن أبنائه وأبناء رفيقيه “تَـيام” بصفتهِ خطيب ابنته، و “بيشوي” ابن رفيقه.
خرجت “نِـهال” من الداخل تحمل في يدها حامل التقديم المعدني وفوقه العصائر وقد سرقت أنظار “أيـهم” الذي تعلقت عيناه بها على الفور، كانت ترتدي فستانًا باللون البُني وفوقه الحجاب باللون البيج يُلائم بشرتها البيضاء وملامحها المنحوتة بشكلٍ هاديءٍ.
جلست بجوار والدتها في جهة جلوس النساء وقد أقترب منها “إيـاد” الذي ترك محلهِ وجاورها في الجلوس، وما إن جاورها ابتسمت هي بسعادةٍ بالغة ثم لثمت جبينه واحتضنت وجهه بين كفيها حتى ابتسم “أيـهم” وتوجه ببصره إلى والده يحثه على رؤية هذا المشهد مما جعل الأخر يقول بثباتٍ أمام الجميع:
_طبعًا يا حج إحنا مش غُرب وأكيد عارفني بحكم العِشرة اللي كانت بيننا، علشان كدا إحنا بنطلب أيد عروستنا “نـهال” لابني الكبير “أيـهم” بس عندي طلب منكم، كلها أسبوعين بالكتير وتيجي تنور بيتها قبل ما يكون بيتنا، واللي تؤمر بيه هيتنفذ وكل طلباتها مُجابة، قولتوا إيه ؟؟.
الصدمة وقعت فوق رؤوس الجميع، كان من المتوقع أن يتم عقد القران خلال أسبوعين لكن الزيجة بأكملها !! هذا لم يتوقعه أحدهم لذا نظروا لبعضهم بترقبٍ وخاصةً لوالد العروس الذي لم تنم ملامحه على أي شيءٍ.
__________________________________
<“خُذ ما جلبه لكَ ضيفك حتى وإن لم يكن عزيزًا”>
وقف بشموخه يرى أشباهه الذي تربى وسطهم وورث الحياة معهم من أبيه رحمه الله، نفس العِزة والشموخ والمعاندة مع الحياة، الصبر في الابتلاء والعزم عند السير والقوة عند الفعل والحكمة عند رد الفعل، “نَـعيم الحُصري” الذي تربى هنا وترعرع وسط الخيول يقف أمام الإسطبل الخاص بهِ ينتظر قدوم ضيفه الغير مرحب به لكنه مجبورٌ على استقباله في أرضٍ تحمل أشباهه.
وصل “ماكسيم” لعنده ببروده المعتاد وهو يقول بمعاندةٍ وكأنه يعلن تبجحه وسط الوادي أمام أهله:
_خير يا حج ؟؟؟.
ابتسم “نَـعيم” بسخريةٍ والتفت له يقول بتهكمٍ:
_هو فيه خير ييجي على يدك؟ أنا جيبتك هنا تاخد اللي ليك علشان بصراحة أنتَ أقل من إنك ابعتلك حاجة، هتقولي إيه حاجتك دي هقولك ****** اللي بعتهم يخطفوا “أيـوب” وبحذرك يا جدع أنتَ، أقسم بالله لو فكرت تقرب من عيل من عيالي أنا هاكل رقبتك بأيدي.
حرك “ماكسيم” رأسه موافقًا بنفس البرود وهتف مؤكدًا حديثه:
_صح أنتَ صح، بس الأولى إنك تاكل رقبة اللي خطف ابنك وسلط أخوك يعمل اللي عمله فيه وعايش براحته، زي ما بتقولوا كدا عندكم هنا بيعمل اللي على كيفه صح !!، مش تيجي تاكل رقبتي أنا ؟؟ على الأقل أنا مخطفتش طفل رضيع من حضن أهله ودبحته في مقبرة علشان تخرجلي آثار، مش أخلاقي دي.
توسعت عينا “نَـعيم” وكأن السوط نزل على جلد ظهره في ليالي السقيع بدون سابق إنذارٍ ليلجمه محله، اليوم يتلقى صدمة جديدة بشأن فقيده الأول الذي لازال جرحه غائرًا بداخل القلب.
_____________________
لا تنسوا الدعاء لأهلنا في فلسطين والسودان وسوريا، أدعوا لكل الوطن العربي ومتنسوش إن كل اخواتكم في خطر، وإحنا والله منملكش غير الدعاء.
_______________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى