روايات

رواية غوثهم الفصل الخمسون 50 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الخمسون 50 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الخمسون

رواية غوثهم البارت الخمسون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الخمسون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الـفـصـل الخَـمـسـون”
“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
_لبيك من دمعي، لبيك من بصري،
لبيك من قلبي
لبيك من روحي، لبيك من وجداني،
لبيك من سمعي، لبيك من أدمعي
يا منعما، غافر الرجاء، ومعطيا قبل الدعاء
مواجد الإحسان
أنا لا أُضام وفي رحابك عزتي،
أنا لا أخاف وفي حماك أماني.
_”نصر الدين طوبار”
__________________________________
لكنني هُنا…
ربما تكون مجرد صدفة أراد بها القدر أن نجتمع سويًا وكانت النتيجة أن أكون هُنا؛
فلا تخشيني ولا تخشي قُربي، لطالما أراكِ دومًا تخشين الجميع لكنني أنافيهم، فقط ثقي بي، فأنا لا أملك فعلًا قويًا سوى أن أبقى ويعلنها قلبي لكِ صراحةً فقط ولأول مرةٍ أنه بعد كل المسارات التي سلكها والغُربة التي حُكمت عليه، أنه لأجلك أصبح هُنا، فاسمعي قلبي الصادق حين يقول:
“أنا هُنا….أنا لأجلك هُنا”.
<“أتانا من العدمِ غوثٌ، مثل المطر”>
حاولت “قـمر” بعدما تحركت لها “عـهد” لكي تحاول الأخرى لكن أيضًا نفس النتيجة المُحتم عليها بالفشل، مما جعل النيران تضرب بصدر “عـهد” وقد توقعت هذا الفعل لكنها كانت تحاول الهرب منه، مما جعلها تترك الأشياء ثم ركضت من البيت نحو الأسفل وخلفها “قـمر” أيضًا، فيما نزلت الأخرى نحو “وجـدي” تهتف بنبرةٍ عالية في وجهه:
_أنتَ غيرت الكالون !! ها !!.
سحب الهواء من النرجيلة الفحمية ثم أخرجه في وجهها وهو يقول بتبجحٍ دون أن يراعي روابط الدم بينهما:
_آه، أنا اللي غيرت الكالون وأنا اللي هبيع الشقة وأعلى ما في خيلك اركبيه يا بنت “محفوظ” وغوري بقى متطيريش الحجرين من نفوخي على الصبح.
شعرت بالقهر والغل يتفاقما بداخلها فاقتربت منه تمسك تلابيبه وهي تصرخ في وجهه بقهرٍ من قلبها المظلوم فتفاجئت به يدفعها بعيدًا عنه وهو يَسبها بأهلها فأسندتها “قـمر” قبل أن تسقط الأخري بينما “وجـدي” وجد الفرصة تأتي له على طبقٍ من فضة واقترب منها حتى يضربها وينتقم من زوجها فيها لكنه لم يضع في الحُسبان أن يجد كف “أيـوب” يمنعه ثم يقف أمامهما درعًا وهو يقول بتهكمٍ:
_ليك حظ تجرب كف “أيـوب”.
اندهشت “قـمر” من تواجده أمامها وكذلك “عـهد” التي تشبثت بها فيما نطق “وجـدي” بتبجحٍ بعدما ابتسم بسخريةٍ:
_آاه، البيه اللي عاملي فيها شيخ وساكت على الفاجرة دي أنتَ وأبوك !! يا ترى المحروس جوزها عارف بقى ؟؟.
لم يشعر “أيـوب” بنفسه إلا عندما أمسك “وجـدي” من تلابيبه يجره لجهته وهتف في وجهه بقوةٍ حتى أن نبرته خرجت هادرة من فرط غضبه:
_أقسم بربي لو لسانك جاب سيرتها بحلو قبل الوحش حتى لأكون مأدبك، ولاحظ أني لسه عامل إعتبار إنك راجل كبير في السن، بس لو تطلب الأمر أنا هنسى الاعتبار دا علشان شايف قصادي راجل معدوم النخوة بيعيب في بنت أخوه، تسكت خالص مسمعش صوتك تاني.
دفعه “أيوب” ثم التفت لـ “عـهد” يعاتبها بقوله:
_إيه اللي وقفك تسمعي كلامه ؟؟ مش المفروض إنك جاية شقة والدك؟؟.
قبل أن ترد هي عليه تدخلت “قـمر” تقول بلهفةٍ تُبرئها:
_ماهو طلع مغير الكالون يا “أيـوب” ومعرفناش ندخل ونزلت تكلمه غلط فيها وزقها زي ما شوفت بعينك، هي هتعمل إيه يعني ؟؟.
اتسعت عيناه بدهشةٍ وكأنه ذُهِلَ مما أُلقىٰ على سمعهِ ثم التفت لـ “وجدي” الذي قال بمعاندةٍ يَتبجح في الأخر:
_أطلع منها أنتَ إحنا عيلة في بعض.
ابتسم “أيوب” بسخريةٍ ثم وبحركةٍ لم يتوقعها الأخر شمله أسفل ذراعه يقبض عليه وقد ضغط على عنقه حتى كاد الأخر أن يلفظ أنفاسه الأخيرة بينما “أيـوب” رفع صوته وهو يقول بنبرةٍ عالية جذبت الأنظار نحوه:
_يمين بربي اللي ما هحلف بيه كدب المفتاح لو مخرجش دلوقتي لأكون واخدك زي ما أنتَ كدا لحد حارة العطار وهناك بقى هتخرجه بمنتهى قلة الأدب، هــات المُــفـتاح.
صرخ فيه بجملة الأخيرة بنبرةٍ قوية تدل على أنه صاحب الحق مما جعل الأخر يرتجف بخوفٍ من تحول “أيوب” الذي سمع عنه كثيرًا والآن يراه نُصب عينيه، أخرج المفاتيح دون أن يشعر بنفسه لكن سُلطة الخوف كانت أكبر من تبجحه وعنفوانه وأخذه لحق فتاة يتيمة دون أن يُراعي حُرمة أخيه الميت.
خطف “أيوب” المفاتيح منه ثم تركه بُغتةً حتى كان أن يسقط الأخر ولربما سقط فعلًا لكنه استند على المقعد الخشبي الذي وُجِدَ خلفه فيما أقترب “أيـوب” منهما يمد يده بالمفتاح لهما حتى أخذته “عـهد” التي امتنت له كثيرًا فرفع عمها صوته قائلًا بازدراءٍ:
_ماشي، لكل مقام مقال وأنا ساكت لحد دلوقتي.
كادت أن ترد “عـهد” عليه فأوقفها “أيوب” بنظراته ثم التفت له وهو يقول بقوةٍ لم يعهدها منه من قبل:
_وهو أنتَ إيه مقامك علشان يبقى ليك مقال ؟؟ كلنا عباد ربنا في أرضه فاتعظ شوية قبل ما تتكل علشان تلاقي حد يمشي في خارجتك ويصلي في جنازتك، ولا كمان هتجحد على ربنا !! اتقي الله دا الناس لسه بتفتح عينيها على يوم تتمنى فيه رضا الخالق وأنتَ صاحي تاخد في حقوق الناس على الصُبح !!.
رفع “وجـدي” حاجبيه بغيظٍ منه بينما الأخر تركه ثم التفت للاثنتين وأشار لهما أن يسبقوه على البيت وما إن حدث هذا واطمئن هو على صعودهما صعد خلفهما واطمئن على دخولهما الشقة وحينها نزل من جديد فوجد عامل المقهي يضع له مقعدًا وقدم له كوبًا من الشاي وهو يقول مُهللًا بتواجده:
_نورت يا أستاذ “أيـوب” الحارة كلها بترقص من فرحتها بيك، خليك بقى منورنا هنا وأنتَ متطمن على جماعتك فوق.
جلس “أيـوب” عنادًا في “وجدي” الذي تحداه بنظراته ثم دلف داخل محله يهرب من قوة نظرات الأخر الذي أعلن التحدي له هو الأخر.
في الأعلى دلفت “عـهد” الشقة بدموعٍ بدأت تظهر في عينيها بالتزامن مع دخولها الشقة، حالة حزن انتابتها على ذكرياتها وعلى فراق والدها وعلى المأساة التي تعيشها بسبب عائلته، لم يرأف العالم كونها أصبحت فتاة يتيمة بل ازدادت معاناتها أكثر ومن فُرِضَ عليهم حمايتها هم أول الناس اللذين نهشوا في لحمها دون أن يكبدوا لأنفسهم عناء سترها من الغُربة.
بكت بقهرٍ وهي ترى صورته المُعلقة على الحائط مع والدتها التي حملت شقيقتها الصغيرة في أيام عمرها الأولى وهي تجلس على قدميه تضحك بسعادةٍ وتكاد تجزم أن هذه أخر مرة ضحكت فيها هذه الضحكة السعيدة، اقتربت منها “قـمـر” تحتضنها فتشبثت بها وهي تقول من بين شهقاتها:
_وحشني أوي يا “قـمر” وحشني أوي ومقاليش إني هتداس كدا في الرجلين…أنا تعبت من غيره أوي.
مسحت الأخرى على ظهرها وبكت هي الأخرى وقالت من بين دموعها وهي تحاول تهدئتها بالحديث:
_أدعيله يا “عـهد” ربنا يرحمه ويغفر له ويسكنه فسيح جناته وربنا يجمعك بيه في الجنة، حرام عليكِ كدا نفسك، المفروض إنك جامدة وقد كل حاجة وهو عرف يربي.
طالعتها “عـهد” بضعفٍ وقالت بصوتٍ منكسرٍ وهي تفتقد للأمان في حياتها وكأنها عمياء تسير وسط المدينة المزدحمة والسيارات بأكملها تحاول دهسها ولم يفكر أحدهم في التوقف لأجلها، بل فقط يسعون للوصول إلى ما يُريدون لذا هتفت بهوانٍ:
_تعبت، أنا تعبت والله وخلاص مش قدهم.
قبل أن ترد الأخرى وصلت “نشوى” على أعتاب الشقة تُصفق بكفيها معًا وهي تتحدث بصوتٍ عالٍ وكلماتٍ سوقية لا تنبع سوى من إناءٍ ينضح بكل قبحٍ حين هتفت:
_صحيح اللي اختشوا ماتوا، بقى ليكِ عين يا بجحة !! صحيح هنقول إيه وأنتِ أمك مين يعني، يعني شاربة داء خبث النسوان على أبوه، اطلعي لو أنتِ من ضهر راجل ووريني نفسك يا *****.
شهقت “قـمر” بخوفٍ حينما وجدت “عـهد” تبتعد عنها فهرولت خلفها توقفها وهي تقول بقلقٍ ازداد عن السابق:
_مترديش عليها علشان خاطري سيبك منها، أوعي تعملي اللي هي عاوزاه وتخرجي ليها، شكلها ست مش محترمة أصلًا، علشان خاطري يا “عـهد” جوزك هييجي ويحل كل حاجة.
استمرت “نشوى” في الخارج تسبها بوالديها معًا دون أن تهتم بسمعة أخيها المتوفي الذي وارى جسده التُراب، ودون أن تراعي أنها تنتهك حُرمة نساءٍ بريئات مما تصفهم به، وهنا لم تتمالك الأخرى نفسها بل ركضت نحو الباب تفتحه وهي تقول بنبرةٍ جامدة:
_أهيه ****** فتحتلك تعالى بقى اوريكي بتعمل إيه.
هجمت عليها “عـهد” تحاول ضربها والأخرى تصرخ بصوتٍ عالٍ تستنجد بأي فردٍ لكن “عـهد” كانت الأكثر تمكنًا منها وهي تخنقها بيديها ثم دفعتها على الدرج المؤدي للطابق الأعلى وهي تقول بصراخٍ:
_من النهاردة أي حد فيكم هيفكر يقرب أنا هنهشه بسناني وفُجر بفُجر بقى، فاهمين !! طالما أنتم مش مراعيين حُرمة الميت أنا مش هراعي صلة الدم.
استمع “أيـوب” في الأسفل للصوت العالي الذي ارتفع ووصل صداه للحارةِ بأكملها ولم يكن أمامه سوى أن يصعد للأعلى فوجد “نشوى” تخلع نعالها وتحاول الإقتراب من “عـهد” حينها تقدم بجسده يردع حركتها ثم هتف فيها بنبرةٍ جامدة:
_لو فكرتي تقربي أنا هزعلك، ومش أنتِ بس أنتِ ورجالة عيلتك كلهم تليفون مني يجيب جوزك وابنك والرد ساعتها يكون عليهم هما، فأتمنى تراعوا أني لآخر لحظة براعي كل الاعتبارات بعد كدا أنا مش هراعي حد، اتفضلي على شقتك لحد ما رجالتك تيجي، يـــلا.
أجفل جسدها من صراخه وتعجبت “قـمر” من هذا الوجه فيه كثيرًا وكأنه لم تعهده من قبل، بينما “عـهد” فكانت تشعر أن أعصابها على وشك الفقدان تمامًا ومن بعدها من المؤكد ستموت ولن تبقى حية.
انسحبت المرأة من المكان تصعد لشقتها بينما “أيـوب” قال بقلة حيلة:
_أنا بقول تخلصوا اللي وراكم علشان أروحكم قبل ما يحصل حاجة أنا مش ضامن “يوسف” هييجي إمتى علشان كدا لازم نتحرك قبل ما يعملوا حاجة علشان أنا مش هعرف اتصرف وأنتم معايا لازم آمنكم بعدها أجي لوحدي هنا.
_________________________________
<“زيارة واجبة والحق فيها حق”>
تجهزت “آيـات” للرحيل من البيت حتى تعود قبل أن تأتي “نِـهال” إلى هُنا، لذا انتظرت “مهرائيل” التي أتت إليها في الحال وهي تقول بضجرٍ:
_هو أنا مكتوب عليا أصحى بدري ليه؟ جدو “ملاك” مصحيني من الصبح وجيت أنام اتصلتي عليا، دي حماتك أنتِ مش حماتي أنا، الله !!.
ابتسمت “آيـات” لها وقالت ببراءةٍ مصطنعة:
_يا “مُـهرة” يا حبيبتي هو أنا يعني ليا غيرك ؟؟ أنتِ صاحبتي الوحيدة وأختي اللي ماما مجابتهاش، يرضيكي أروح عند طنط “نجلاء” لوحدي !!.
هزت رأسها نفيًا لها وهي تجاهد لكتم ضحكتها ففهمت الأخرى عليها ثم احتضنتها وهي تقول بحماسٍ:
_بحبك يا أم عيون زي الكيوي.
كانت تمازحها بقولها حتى ضحكت الأخرى بيأسٍ عليها ثم قالت بعجالةٍ:
_يلا علشان منتأخرش ميس “نـهال” زمانها جاية كمان شوية أصلًا، يلا هتجيبي حاجة ولا هندخل بأيدينا فاضية؟
قالت بنبرةٍ هادئة بعدما ابتعدت عنها نسبيًا واقتربت من الحقائب البلاسيتيكة تمسكها:
_أنا خليت طنط “وداد” خرجت جابت فاكهة وعصير أجيب حاجة تاني ؟ خوفت أجيب حلويات تتعب علشان ضغطها بينزل جامد بصراحة.
رفعت “مهرائيل” صوتها وهي تقول بضجرٍ:
_خلاص !! هنجيبلها سوق العبور يعني كله ؟؟ بعدين أصلًا هي مش هتقدر تاكل حاجة من كل دا، يعني خطيبك هو اللي هياكل كل دا، ولا تكوني قاصدة تغزيه ؟؟.
ضحكت “آيـات” لها ثم هتفت بخجلٍ في الحال:
_يا ستي ألف هنا وشفا ليهم، عادي هما الاتنين واحد.
أغلقت “مهرائيل” عينًا وفتحت الأخرىٰ ترمقها بخبثٍ ثم هتفت بمراوغةٍ تُلهب خجلها أكثر من السابق:
_ماشي يا عم ربنا يكرمكم، علاقة فيتامين سي وكدا يعني، خلينا إحنا عندنا أنيميا في علاقتنا كدا.
ضحكت “آيات” رغمًا عنها وضحكت معها “مهرائيل” أيضًا وبعد مرور دقائق خرجتا من البيت سويًا نحو بيت “نجلاء”، ونظرًا لتقارب المسافات وصلتا في وقتٍ قليلٍ عند مقدمة شارعها وحينها وقف “بيشوي” في الأسفل ينتظر “تَـيام” ينزل له ودون أن ينتبه للقادمتين رفع صوته عاليًا يقول:
_ما تنزل بقى كل دا بتلبس الزفت !! الراجل مستنيني وأنا عاوز مفاتيح المخزن، أخلص يا “تَـيام” بدل ما أطلع أخلص عليك.
اقتربت “مهرائيل” وخلفها “آيات” فانتبه لهما “بيشوي” حينها ضيق جفنيه وما إن انتبه لهما قال بمرحٍ وضحكاتٍ ظهرت على صوته حين هتف:
_براحتك يا “تـيمو” على أقل من مهلك يا بيبي.
ضحكت الفتيات عليه فيما خرج “تَـيام” من الشرفة عاري الجذع وهو يقول بنبرةٍ عالية:
_بلبس ياض أهدا شوية، عارف إنك بتحبني بس مش قدام الناس كدا.
تلاشت بسمة “آيات” وكذلك “مهرائيل” فيما ضحك “بيشوي” على حديث الأخر وما إن انتبه “تَـيام” لوجود الفتاتين قال بإحراجٍ منهما:
_هو إيه دا !! إزاي يزيعوا حاجة زي دي هنا !!
رد عليه الأخر بنبرةٍ ضاحكة وهو يحاول التحكم في نفسه:
_دي فضيحة القرد في سوق الجُمعة ياض.
اقتربت “مهرائيل” تطالعه بازدراءٍ وهي تقول بضيقٍ منهما:
_أنا قولت مستحيل تكبروا برضه، مفيش فايدة.
ضحك “بيشوي” لها فيما وقفت “آيات” تحاول تجاهل هذا الموقف الغريب حتى وجدت “تَـيام” يخرج من بوابة البيت بوقارٍ لم يليق بموقفه السابق وهتف بنبرةٍ هادئة يقول:
_أهلًا وسهلًا يا آنسات، نورتونا والله، اتفضلوا.
تعجبت “آيـات” من طريقته وكذلك “مهرائيل” فيما أشار هو لهما بالدخول ثم ولج البيت خلفهما يقول بنبرةٍ هادئة:
_ماما فوق مستنياكي، فوق بجد والله مش كدا وكدا.
ضحكت له “آيـات” ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_عارفة، ربنا يتمم شفاها على خير، ويبارك في عمرها.
فتحت باب المصعد بعد جملتها ثم دلفت وخلفها “مهرائيل” فيما وقف هو ينظر في أثرها ثم قال بضيقٍ بعدما اختفت من المكانِ:
_مش كنت تعبت أنا وخلاص !! يا بختك يا “نوجة”
كان يتحدث مشيرًا بكلماته إلى والدته حتى وجد “بيشوي” يسحبه من مدخل البيت بنفاذ صبرٍ منه وكأن أعصابه فُقِدت تمامًا من هذا الأبله الذي يتغير كليًا أمامها وكأن هو المرء الوحيد الذي شارف على التقاط أحلامه بين يديه.
في الأعلى رحبت بهما “نـجلاء” كثيرًا وخاصةً بـ “آيـات” التي أتت إلى هنا منذ سنواتٍ كثيرة وتعتبر مرتها الأولى من بعد الخِطبة، فيما قالت الأخرى بخجلٍ منها:
_أنا متآسفة جدًا بس والله غصب عني أني مقدرتش أجي علطول بس إن شاء الله الدنيا تتظبط شوية وأنا أكيد مش هقصر مع حضرتك.
هتفت “نجلاء” بحبٍ بالغٍ لها:
_متقوليش كدا دا كان من عشمي، هو أنا يعني ليا غيرك ؟ في النهاية هتبقي بنتي برضه زي ما الواد دا ابني، وأكيد يعني الأيام هتجمع بيننا كتير، بس برضه انا فرحانة أوي إنك جيتي هنا، تيجي بالخير دايمًا.
ابتسمت لها “آيات” ثم قالت بأدبٍ:
_حضرتك والدتي وربنا يجمع بيني وبين “تَـيام” في الخير وأكيد هتعرفي أني لا يمكن أحوش نفسي عنك أو حتى أحوش “تَـيام” عنك، حضرتك الخير كله وأكيد “تَـيام” مهما حب ومهما أختار حضرتك برضه هتفضلي في قلبه حاجة تانية.
كانت “آيات” تتفهم مشاعرها وتفهم طريقة تفكير المرأة تجاهها خاصةً أنها زوجة ابنها الوحيد وحينها شعرت “نجلاء” بالحرج كون أمرها أصبح مكشوفًا للجميع وطريقة تفكيرها أصبحت معلومة فتجاهلت الحديث وقالت ترحب بهما:
_سيبك بس من الكلام دا من اليوم اللي هتكوني مرات ابني فيه انا مش هفرط فيكِ ومش هسيبك، هو أنا أطول يعني بعد العمر دا كله في الأخر تكوني أنتِ بنتي ؟؟ المهم تشربي عصير مانجا حلو زيك ولا عصير فراولة زي البت “مُهرة”.
قالت “آيات” بأدبٍ تمنعها عن الحركة:
_متتعبيش نفسك إحنا مش غرب وحضرتك تعبانة مرة تانية إن شاء الله نيجي كلنا نقضي اليوم معاكي بس دلوقتي ارتاحي.
ابتسمت لها “نجلاء” بحبٍ بالغٍ ترى زوجة صالحة وفتاة بارة بأهلها وابنة رائعة، هي لم تعلم كيف استسلمت للوساوس أن تهمس في أذنها ولم تصدق نفسها أنها ظلمت هذه الفتاة حينما ظنت أن نواياها تجاه علاقتها بابنها سيئة لذا ابتسمت وكأنها تعتذر بنظراتها عما بدر منها تجاه هذه التي تُشبه الملائكة في وصفهم وصدق ابنها حينما أخبرها انها “ملاكه” الذي يسحبه من طرق الظلام إلى نورٍ يتمنى أن يراه في دربه.
__________________________________
<“عاد ليثار لنفسه قبل الآخرين”>
استطاع أن يهرب من مواجهة عمته قبل أن يظهر ضعفه أكثر من ذلك، يكفيه الجروح الغائرة التي لازال نزيفها مُستمرًا بداخله وكأن عمق الجراح بداخل روحه قرر أن يُتمم عمله بعد إبرام عقد العمل مع العميل الجديد بعدما أبهر الجميع بقدراته ومهراته العالية رغم ابتعاده عن سوق العمل، لكن أُسس التجارة لازالت بذهنه بعدما تلعمها على يد “نَـعيم” ودربه عليها “إيـهاب” وأخبره بألاعيبها “سـراج”، كلٌ منهم شكل فارقًا كبيرًا في تعليمه المهن التجارية على عكس مهنته الرسمية وحلم أبيه اللذي حققه باستماتة مقاتلٍ.
قبل أن يخرج تصادم بـ “نادر” الذي أتى لتوهِ عند أبواب الشركة زفر “يوسف” مُطولًا وقرر أن يتجاهله فيما أتقن “نادر” تجاهله من الأساس وكأنهما غريبان عن بعضهما لم يربط بينهما الدم ذات يومٍ.
كانت “شـهد” حينها تتبع خروج “يوسف” فتفاجئت بزوجها أمامها حينها ارتبكت أمامه لوهلةٍ لكنها تجاهلت الأخر ثم اقتربت منه تسأله بابتسامةٍ لطيفة:
_مقولتش يعني إنك جاي هنا النهاردة، دي مفاجأة؟
رفع حاجبيه مُفكرًا ثم وضع كفه بخصرها المرسوم يقربها نحوه ثم هتف في أذنها بنبرةٍ أجادت التأثير عليها وهو يقول:
_فيه إنك وحشتيني اوي وأنا عاوز استغل الأجازة دي كلها معاكِ أنتِ جاهزة نروح بيتنا !! ولا لسه هتقوليلي الشغل ؟؟
رفعت رأسها له وحينما التقت نظراتهما قالت بنبرةٍ هادئة:
_لأ هاجي معاك بصراحة البيت توتر أوي وأنا عاوزة أكون وسط جو هادي شوية علشان أنتَ برضه وحشتني.
ابتسم لها وما إن انتبه لتواجدها هنا سألها بتعجبٍ:
_بس أنتِ هنا بتعملي إيه يعني ؟ مش المفروض تكوني فوق؟؟ ولا أنتِ بقيتي ماسكة الشغل هنا كمان ؟؟.
تجاهلت حديثه ثم طوقت عنقه بذراعيها وهي تقول بدلالٍ
أنثوي تبرع في رسمه خاصةً وهي تتلوى بالكلمات:
_ما تيجي تاخدلي إذن من انكل علشان نمشي مع بعض مش أنا وحشتك برضه، تعالى بس يلا.
سحبته معها حتى ضحك هو رغمًا عنه ولو سُئِلَ عما يُريده سيكون جوابه أن تحبه زوجته كما أحبها ه‍و وأن تكون معه حُرة دومًا وأن تقدر حبه لها، بالرغم أن الماضي يحول بينهما في بعض الأوقات لكنه يتناسى دومًا كل ما يزعجه فقط لأجلها هي.
فتح هاتفه بالسيارة أخيرًا بعد خروجه من عمله وقد شارف آذان العصر أن يُرفَع ولاذ هو بالفرار من هذا المُجمع البغيض رغم هيئة الصرح الشامخ التي تُطمئن النفوس وتبثها الثقة، لكن الراحة دومًا تُعرف بالأشخاص وليست الأماكن، وعلى ذكر الراحة تذكر أمر زوجته فأخرج هاتفه ليجد عدة محاولات للاتصال به لكنها باءت بالفشل من أخته ومن “أيـوب” ومن “عـهد” !!.
زفر مُطولًا ثم طلب رقم “أيـوب” أولًا والآخر جاوب مُسرعًا وهو يقول بضجرٍ من فشل التواصل معه:
_يابني حرام عليك، نشفت ريقي من الصبح، نوصلك إزاي بعد كدا ؟؟ أنتَ فين يا “يوسف” ؟؟.
هتف “يوسف” بتعجبٍ من اندفاع الأخر به على عكس عادته:
_هكون فين يعني ؟؟ أنا في الشركة ولسه مخلص، حصل حاجة ولا إيه ؟؟.
تنفس “أيـوب” بعمقٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة يحاول ترتيب الكلمات قبل أن يندفع ويرفع معدل تهور الأخر:
_تعالى على بيت أهل مراتك يا “يوسف”.
تعجب “يوسف” من الجملة لكن التعجب لم يدم طويلًا حينما أدرك أن هذه العائلة التي نُزِعت الرحمة من قلوبهم من المؤكد أنهم تعرضوا لزوجته لذا رفع صوته يسأله بنبرةٍ جامدة:
_حد قرب منها يا “أيـوب” !!.
هتف “أيـوب” بنبرةٍ هادئة وقلة حيلة وهو يتابع زوجته التي عاونت “عـهد” في ترتيب المخبوزات داخل الأكياس البلاستيكية:
_”قـمر” معاها من الصبح وأنا قلقت قولت هاجي أتطمن وأمشي تاني بس بصراحة منفعش أني أرجع واسيبهم لوحدهم علشان كدا بقولك تعالى يا “يوسف” وأنا مستنيك.
أغلق “أيـوب” الهاتف معه بينما الأخر تفاقم الغضب بداخله وازداد لهيب الانتقام من هذه العائلة، لكنه تمهل وترك غضبه لحين وصوله إلى هناك فإذا وجد بها شيئًا حينها سيثور ويغضب ثأرًا ممن تجرأ على لمس زوجته وحتى وإن لم يجد بها شيئًا سيثأر على كل حالٍ لذا أخرج هاتفه يطلب رقمًا ثم وضع الهاتف على أذنه بعدما أتخذ قراره.
في وقتٍ قياسي استطاع أن يصل إلى هُناك بعدما أوقف السيارة عند البناية حينها دب الرعب في أوصال عمها، لم يقو على الثبات أمامه، وحشيته التي رآها معه قبل سابق من الممكن أن يراها الآن بصورةٍ أبشع لذا ازدرد لُعابه فنزل “يوسف” من السيارة ثم اقترب منه يسحبه من تلابيبه حتى أوقفه أمامه وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_أقسم بالله أنا ما هعمل اعتبار لأي حاجة، وههينك قدام الصغير قبل الكبير ولو طلعت لقيت فيها خدش واحد أنا هنزل أروقك، العصر آذن لو فكرت تقل بعقلك أنا هخليهم يصلوا عليك المغرب وأنا ناويها إن شاء الله، واللي حصل في أوضة نومك على المتداري أنا هعمله هنا قدام الكل علشان تبقى فضيحة بجلاجل.
تركه ودلف البيت يصعد للأعلى فوجد نشوى” تجلس على الدرج وكأنها تنتظره في حين قرر هو أن يتجاهلها صاحت هي بملء صوتها تصفق بكفيها معًا وهي ترمي زوجته بحديثٍ كاذب جعله يتوقف عن سيره ثم التفت لها يضغط على مرفقها حتى نظرت له بعينين مُتسعتين فقال هو بنبرةٍ جامدة لا روح فيها وهو يهدر من بين أسنانه:
_ورايا، أقسم بالله لو ما طلعتي ورايا أنتِ والبغل اللي برة دا لأكون راميكم في الشارع، يلا، يـــلا بقولك.
هدر في وجهها منفعلًا حتى حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من محلها نحو الخارج بينما هو صعد من جديد بعدما استأنف تحركه للأعلىٰ نحو شقة زوجته يطرق بابها بطرقاتٍ جامدة وحينها فتحت له “قـمر” بينما “أيـوب” نزل المسجد يُصلي به.
عانقته شقيقته وهي تتنفس الصعداء خوفًا من تهوره لكن حينما وجدته أمامها قالت بنبرةٍ مختنقة:
_الحمد لله إنك جيت، أنا كنت خايفة عليك أوي.
مسح على ظهرها ثم ابتعد عنها يتفحصها بنظراته ثم سألها بنبرةٍ هادئة يحاول رسم الثبات على عكس ما يحمله بداخل صدره:
_”أيـوب” فين و “عـهد” فين؟؟
أخبرته هي بعدما أدخلته وهي تُغلق الباب:
_”أيـوب” نزل يصلي في المسجد و “عـهد” جوة بتصلي العصر وأنا كنت هصلي دلوقتي أهو.
هز رأسه مومئًا لها ثم طلب منها أن ترشده لمكان زوجته، وما إن رُشِدَ للغرفةِ دلفها ثم فتح الباب فوجدها تنام على سجادة الصلاة تبكي بعدما أنهت فرضها، يبدو أنها شكت للخالق كثيرًا لذا حزن هو لأجلها ثم ذكر اسمها يلفت نظرها نحوه بلهفةٍ قلقة:
_”عـهـد” !!
رفعت رأسها نحوه وما إن وجدته أمامها حينها تركت محلها واعتدلت في وقفتها بسرعةٍ كُبرى وهو يشملها بنظراته المتفحصة فوجدها تبكي أمامه من جديد وحينها فرق هو بين ذراعيه وهو يقول بنبرةٍ حملت كل الحزن لأجلها هي:
_تعالي يا “عـهد” تعالي أنا هنا.
لم تتوانى لو ثوانٍ بل ارتمت بين ذراعيه تبكي له وتشكو بصمتٍ من خلال رجفة جسدها بين ذراعيه، حالتها أخبرته بما عانته طوال اليوم من ألمٍ ومن معاناةٍ لم يفقه عنها شيئًا لكنه يعلم عن أثرها كل شيءٍ، وعد وأوفى حين قال أنا هُنا، لذا حدثته بنبرةٍ باكية وهي تتمسك بقميصه من الخلف:
_أنا تعبت يا “يوسف” هما مش عاوزين يسيبوني في حالي ولا عاوزيني أشوف حالي…حد يقولهم يمكن هما مش سامعني أنا، قولهم أني والله مش عاوزة حاجة غير اللي باقيلي من بابا بس…. والله بس.
مسح على ظهرها وكتفيها معًا ثم قال بنبرةٍ هادئة لكن الإصرار رفيقها والعزم مصاحبها حين قال:
_وأنا هنا علشانك قبل ما أكون علشان حد تاني، مش هخلي حد يزعلك حتى لو من غير قصد وحقك أنا هاخده منهم كلهم، بيت أبوكِ هيفضل مفتوح غصب عنهم كلهم.
رفعت عينيها تطالعه وتستشف الصدق من نظراته فلم تجد سوى الصدق فقط، غريب شعور الأمان الذي انغمست هي بداخله، كيف بمجرد قدومه أن يتبدل هذا الخوف إلى أمنٍ ؟؟ كيف من الأساس تشعر بتواجده هنا، يبدو أنه غير الجميع، فلو كان مثل غيره كانت شعرت بالأمان في وجود “أيـوب” رغم أنه طوال اليوم يحميها، لكن الأمان مع “يوسف” يشبه ذاك الذي كانت تشعر به مع والدها، هو غالبًا يعطيها نفس الشيء لكن الفارق هنا أنه دائمًا يخبرها أنه هُنا على عكس والدها.
التقت نظراتهما وتلاحمت مع بعضها في لحظةٍ توقف بها الزمن للتحدث القلوب وقد صدح صوت الباب في الخارج وبعده صوت “أيـوب” يعلن عن قدوم عمها وأفراد العائلة مع بعضهم، حينها ابتعدت عنه بخوفٍ لم تفهم سببه هي تفسها، لكن عند تواصل نظراتهما من جديدٍ صدح صوت القلوب التي تحدثت مع بعضها بواسطة النظرات، حينما هتف أحدهما للآخر يُطمئنه بقوله:
لكنني هُنا…
ربما تكون مجرد صدفة أراد بها القدر أن نجتمع سويًا وكانت النتيجة أن أكون هُنا، فلا تخشيني ولا تخشي قُربي، لطالما أراكِ دومًا تخشين الجميع لكنني أنافيهم، فقط ثقي بي، فأنا لا أملك فعلًا قويًا سوى أن أبقى ويعلنها قلبي لكِ صراحةً فقط ولأول مرةٍ أنه بعد كل المسارات التي سلكها والغُربة التي حُكمت له، أنه لأجلك أصبح هُنا، فاسمعي قلبي الصادق حين يقول:
“أنا هُنا….أنا لأجلك هُنا”.
هذا الحديث الذي نطقه بقلبه أراد أن يتلوه على سمعها أن يمحو تلك النظرة الغبية التي تشعره بالضعف، لما تخشاه ولما تخشى عليه؟ إن كان هو هنا، فلما هي تخاف ؟؟ لم يقف مطولًا عند هذا فقط اقترب خطوتين يمسك كفيها بيديه وهو ينطق بإصرارٍ وقد ثبت عينيه عليها:
_أنا هنا….
ازدردت لُعابها وتحرك بؤبؤاها هربًا منه فحرك هو رأسه يأسر عينيها هاتفًا بنبرةٍ رخيمة وهو يعلم ما تشعر به ويشعر هو به:
_مش عاوزك تخافي، صدقيني أنا طالما موجود مستحيل حد يقرب منك لو هضطر اسلمهم روحي بس آمنك، مش عاوز غير كلمة واحدة منك، واثقة فيك، قوليها.
ثبتت نظراتها عليه وقد بدت الدموع بغزو مقلتيها لتعلن احتلالها واستوطانها لهذه المدينة الذي رآها هو موطنًا له ومع نظراته التي آسرتها تنهدت بعمقٍ ورددت بصدقٍ نبع من ثنايا قلبٍ مكلومٍ يأمل في الشفاء:
_واثقة….واثقة فيك ومش خايفة علشان أنتَ هنا.
ابتسامة واسعة..راحة غريبة ظهرت في نظراته…قبضتان قويتان ضغط بهما على كفيها، تَنهد طويلٌ يخرج به أنفاسه المحبوسة ثم ردد معها وهي تقول معه:
_وطالما أنا هنا…. يبقى مفيش خوف.
نطقها كلاهما في آنٍ واحدٍ وكأنهما يبثان بعضهما آمانًا مفقودًا يحصل عليه كلاهما من الأخر ليفرح القلب مُهللًا بقول مثيله:
“أنا هُنا، وأنتَ هُنا، إذًا أنا والأمان هُنا”
ضمها من جديد في عناقه وهي مستسملة تمامًا لم تحاول البعد عنه أو حتى تشعر بالضيق، كانت ساكنة بين ذراعيه وهو يحاول تهدئتها وتهدئة أنفاسها المتوترة حتى قال بنبرةٍ قوية لا تقبل أي نقاشٍ:
_تعالي ورايا يلا، أوعي تخافي طول ما أنا معاكِ.
حركت رأسها موافقةً فراوغها بقوله قبل الخروج:
_طب اضحكي طيب.
ابتسمت له رغمًا عنها، ابتسامة مُطمئنة تُنافي سابق خوفها مما جعله يمسك وجنتيها يفعل حركة والدته له في صغره لها هي من جديد:
_حبيب عيوني.
ضحكت على هذا اللقب وطريقته التي بدت لها غريبة وكأنه يُعامل طفلة في العاشرة من عمرها أو ما شابه ذلك وعلى عكس طباعها الحادة كانت أكثر من ممتنة له ولتواجده ولحمايته التي فرضها هو بنفسه عليها، حتى وإن كانت تسرعت وأخبرته بمؤقتية هذه العلاقة لكنها لم تنكر أنها تتمنى دوامها طويلًا.
_________________________________
<“حرية الطير في السماء تزيل من القلب العناء”>
الطير في حياته يسعد لمرتين، أول مرة في طيره للمرةِ الأولى والمرة الثانية عند خروجه من محبسه في قفصٍ يُحكم عليه حصارًا يوقف حركة جناحيه، هي الآن تختبر المرة الثانية لفرحة الطير، دلفت البيت هُنا من جديد لتطمئن بداخله خاصةً حينما رحبت بها “آيـات” وهي تحتضنها وتقول بنبرةٍ حماسية:
_البيت نور من تاني بيكِ، يا رب الغيبة دي متكررش.
ابتعدت عنها “نـهال” تقول بوجهٍ بشوشٍ وهي ترد عليها تحيتها وترحيبها الحار ثم أضافت فوق حديثها بقلة حيلة:
_مكانتش بأيدي للأسف، بس وعد يعني على قد ما أقدر إن اللي حصل ميتكررش تاني، أنا أصلًا جاية أشم نفسي هنا، فين “إيـاد” بس والولاد ؟؟ جاهزين؟.
هزت رأسها وقالت بحماسٍ بلغ أشده:
_الأربعة جاهزين جوة من الصبح، تعالي بس دا “إيـاد” عمال يسمع فيهم الوصايا العشر علشان محدش يزعلك.
ابتسمت “نـهال” وقبل أن تسير معها وجدت “أيـهم” يلج داخل البيت باحثًا عن شقيقته ولم يتوقع أن يراها هُنا أمامه، يبدو أن توقيته كان ممتازًا حتى يصل إلى هنا في لحظتهِ هذه، أما هي فمنذ اللقاء الأخير وهي تحاول أن تهرب منه خاصةً بعدما حدثه والدها بطريقةٍ فظة، حاولت أن تُبكر مجيئها إلى هُنا حتى تذهب قبل مجيئه لكن اللقاء كان عليهما محتومًا.
أقترب منها يرحب بها بقوله الذي خرج منه بنبرةٍ جامدة مراعيًا لوضعهما وحتى لا يتسبب لها في أي أذى يشابه ذاك السابق:
_كويس إن حضرتك جيتي تاني، الولاد افتقدوكي ومرضيوش حد غيرك ييجي يديهم الدروس، وإحنا برضه مرضناش حد غير حضرتك ييجي، أتمنى إنك تستمري معاهم، عن إذنك.
تلاشت بسمتها وتعجبت من طريقته معها، كان يتعمد إصدار الجانب المرح منه ويتعمد أن يعاملها بلطفٍ على عكس هذه الطريقة الرسمية لكن يبدو أنه صدق حديث والدها بأمر خطبتها، لذا قرر أن يجافيها، وما توجب عليها أن تقضي عملها هنا وتعود حيث جاءت ويجب عليها أن تلتزم بهذه القواعد وتأخذها الروتين المعتاد منذ هذه اللحظة.
تحرك هو نحو الأعلى بثباتٍ أجاد رسمه لكنه ينافي حزنه على ما حدث بينهما، هي ستصبح لغيره وكرجلٍ يفهم في طباع الرجال جيدًا يتوجب عليه أن يُراعي كل الفروق وأنها ستصبح لآخرٍ غيره وهي هنا مثل الأمانة يجب عليه أن يُحافظ عليها، يخشى أن يتسبب في أي مشكلاتٍ لها من جديد ومن الأساس هي لم ينقصها مصائب فيكفيها أفراد عائلتها الذين يبدو عليهم القسوة بمن فيهم والدها ذات نفسه.
هي مثل الطير الذي زار شُرفته في الصباح يغرد مع نسمات الهواء الباردة وقطرات الندى العالقة على حواف الزهور وما إن كاد أن يلتقطها حلقت بحناحيها بعيدًا عنه، لكنه غفل أن الطيور في بعض الأحيان تجوب الشوارع بحثًا عن الوطن، في حين أن الطير سبق وأخبره:
“غريبٌ حتى عن نفسي لم يألفني مكانٌ،
ولا يحتوي أجنحتي وطنٌ”.
__________________________________
<“لقد فعلنا ما بوسعنا، وما بوسعنا فعل ما بوسعهِ”>
التعب حينما يبلغ أشده تقل أحلام المرء ليصبح أقصى ما يتمناه فقط أن يفرد عضلات جسده المُتيبسة، أن يرتشف الماء من مصدرٍ يأمنه، وأن يقوى على اغماض جفنيه، هذا هو شعور “سراج” الذي جلس في الرواق الرخامي يحاول تمالك نفسه قبل أن ينام هنا ومعه “إيهاب” الذي استمر على تناول القهوة والمُنبهات حتى يفيق تمامًا، وما إن بدأ النهار يعلن انتهاء ظهوره أخبره بنبرةٍ هادئة يقول:
_أنا هروح أتطمن على “سمارة” و “جودي” وأوديهم عند الحج، وهبعتلك “إسماعيل” أو “مُـحي” وأنا هنام شوية لو لسه هنا هجيلك، مع أني بقول تروح ترتاح خلاص ملناش لازمة هو بقى كويس والدكاترة شايفين شغلهم وأخته هنا، روح أرتاح علشان تقدر تسد تاني.
مسح “سراج” وجهه بكفيه وهتف بقلة حيلة:
_مش عارف يا “عـمهم” بس أنا هفضل علشان أخته كل شوية تتلغبط عاملة زي اللخمة زي ما أنتَ شايف كدا، المهم بالله عليك روح وخلي “جـودي” تكلمني فيديو علشان أتطمن شوية، وأنا بليل كدا هروح أغير وأنام شوية واجي على الفجر.
تحرك “إيهاب” بعدما ودعه وأطمئن على شئونه الظاهرية ثم توجه إلى من المشفى إلى بيت “سراج” مُباشرةً حتى يطمئن على حبيبته الكُبرى وحبيبته الصُغرى أيضًا، رغم تعبه وانفلات أعصابه إلا أنه ظل صامدًا بجوار رفيقه الذي دومًا يُلقيه بالمصائب رغمًا عنه.
وصل “إيـهاب” إلى هُناكَ وقد فتح له الحارس باب البيت وما إن دلف لردهة البيت وجد “سـمارة” تدور بالصغيرة وكلتاهما تُغني بصوتٍ عالٍ مع الأغنية المرتفع صوتها على شاشة التلفاز، وحينها صفق بكفيه ثم قال بسخريةٍ:
_يلا يا مُتخلفة منك ليها، بتعملوا إيه ؟؟
اقتربت منه “جـودي” تقول بتعجبٍ من تواجده بمفرده:
_فين “سـراج” يا “عمهم” أوعى تكون ضربته؟
أخفض جسده حتى أصبح في نفس مستواها ثم قال بسخريةٍ يُجاريها في الحديث:
_أقسم بالله نفسي، بس مش حايشني عليه غير الشديد القوي.
عقدت حاجبيها بحيرةٍ طفولية لم تفهم مقصد معظم الكلمات وسألته باستنكارٍ شديد:
_يعني إيـه ؟.
غمز لها وهو يقول بمراوغةٍ يقصد اخجالها:
_يعني أنتَ يا عمنا، مش هقدر أزعله علشانك، خدي بقى كلميه فيديو علشان هو عاوز يشوفك ويتطمن عليكِ.
أخرج هاتفه يطلب الاتصال معه عبر أحد مواقع التواصل المرئي وما إن فتح المكالمة ضحكت “جـودي” وهي تقول بعتابٍ له:
_أنا كنت زعلانة منك على فكرة، بس خلاص وحشتني.
ضحك لها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_والله ما وحشني غيرك أنتِ، أنا أقدر على زعلك يعني؟ المهم روحي مع “إيـهاب” وأنا لما أخلص هجيلك، بس اسمعي الكلام وبلاش تروحي عند الحصان لوحدك، مش هخلي حد فيهم يكلمك تاني.
حركت رأسها موافقةً وما إن رأت طبيبًا يمر خلفه سألته بخوفٍ عليه:
_”سراج” أنتَ تعبان !! الناس الوحشة اللي كانت عاوزة تعورك، عوروك ؟؟
ضحك رغمًا عنه وكذلك “إيهاب” وزوجته فيما أضاف خالها بيأسٍ من حديثها الغريب _الصادق من وجهة نظر طفلة بعمرها_ وتوقعه هو منها:
_لأ أنا محدش يقدر يعورني، دا أنا معور شارع الهرم كله، بس جارنا تعبان وهو مش معاه حد، لما يفوق أنا هاجي علطول، خلي بالك من نفسك.
أغلقت معه المكالمة فيما أقتربت منها “سـمارة” تقول بحنقٍ من الأجواء البائسة التي تم اضفائها على المكان:
_شوفتي بقى إن الرجالة دول غاويين نكد ؟ ما إحنا كنا بنرقص ونغني من الصبح ونلعب حد كان نكد علينا؟ إيه البلاوي دي يا ربي؟؟.
أمسك “إيـهاب” كف الصغيرة يستعد للرحيل ثم حادث زوجته بوقاحةٍ وهو يقول:
_بدل ما ترقصي لعيلة زي دي وتفسدي أخلاقها أرقصيلي أنا ياختي، أنا أولى.
تخصرت في وقفتها وشهقت بطريقةٍ تلقائية وسألته بتهكمٍ:
_ومش خايف على أخلاقك؟ أحسن أفسدها؟؟
غمز لها بوقاحةٍ وأضاف مراوغًا كعادته:
_كدا كدا فاسدة يا عمنا.
زاحمت الضحكة الخجلة وجهها فيما تحرك هو بالصغيرة التي سارت معه نحو الداخل بينما “سمارة” قالت بسعادةٍ غريبة لم تكن في محلها الصحيح:
_صحيح وغـد، بس “عـمهم”.
بعد مرور بعض الوقت الكثير وصل “إيـهاب” إلى منطقة نزلة السمان مع زوجته و الصغيرة ليأمن عليهما هُنا وقد دلف بهما البيت فوجد “نَـعيم” أتيًا لتوهِ من عند الخيول وبجواره “مُـحي” الذي اقترب منهم يسأل باهتمامٍ:
_ها الراجل عمل إيه ؟؟ لسه عايش ولا اتكل؟
قال “إيـهاب” بقلة حيلة:
_أدينا مستنيين، القلب شبه توقف تمامًا ومحطوط تحت الملاحظة، و “سراج” هناك شايل فوق طاقته بقولك إيه، خدله طقم حلو وأكل وروحله لحد ما أريح شوية وبعدها أبقى أشوف هنعمل إيه، “إسماعيل” في الشغل مجاش ؟
سأل بتعجبٍ حينما وجد أخيه مُختفيًا فيما هتف “نَـعيم” ردًا على استفساره بقوله:
_راح مشوار وهيتأخر شوية، يلا اطلعوا ريحوا وخدوا “جـودي” معاكم لحد ما أشوف كدا لو قدرت هروح أشوف الراجل اللي ملوش حد دا، أظن يعني كلام “أيـوب” كان صح أننا نزور المريض.
رد عليه “مُـحي” مؤيدًا حديثه:
_أصول يا حج ربنا يستر طريقك.
أبتسم له ابتسامة صفراء وهو يقول بخبثٍ:
_طريقنا يا حبيبي، علشان أنتَ جاي معايا.
تلاشت بسمة “مُـحي” فيما ضحكت عليه الصغيرة تتشفىٰ به حتى قلد هو طريقتها وضحك مثلها بسخريةٍ فحذرته هي بقولها:
_احترم نفسك، هخلي “عـمهم” يضربك.
أطاح بذراعيه معًا وهو يقول بضجرٍ:
_دي مبقيتش عيشة بقى، الكبيرة تقولي احترم نفسك والصغيرة تقولي احترم نفسك، جرى إيه يا جدعان.؟
سألته “سـمارة” بسخريةٍ من انفعاله:
_وأنتَ إيه اللي مزعلك بقى ؟؟
جاوبها بنبرةٍ أهدأ من السابق غالبًا تسببت في رفع ضغط والده حين هتف:
_إن أنا مش عاوز أحترم نفسي.
صدح صوت هاتفه المحمول فركض بعيدًا عن المكان حتى سألت “جـودي” بتعجبٍ من ركضه:
_إيـه دا !! راح فين العبيط دا ؟.
جاوبها “إيهاب” بسخريةٍ وهو يضحك حينما أشار برأسه نحو موضع ركض الأخر:
_راح يحترم نفسه، متشغليش بالك أنتِ.
ضحك “نَـعيم” وضحكت “سـمارة” أيضًا على هذا الوغد الصغير الذي اختفى في لمح البصر يجاوب على المكالمة الهاتفية التي تبدو في غاية الأهمية في حين أنه يجهل صاحبة الإتصال من الأساس.
__________________________________
<“بارعون في أخذ حق الغريب، فكيف إن كان حقنا”>
جلس “يوسف” بجوار “أيـوب” مقابل عائلة “عـابد” النظرات وحدها تحدثت بكل ما يكفي حتى وصل “عبدالقادر” لهم بصفته الكبير، وبعد دخوله لهم رحبوا به فيما نطق هو بعد جلوسه بجوار ابنه:
_أنا جاي من غير ما أعرف إيه اللي حصل، بس مش جاي بصفتي الحج اللي هيحكم بالحق، أنا جاي بصفتي أب لبناتي اللي كانوا هنا واتهانوا وبصفتي أب للراجلين دول اللي مراتاتهم اتقل بيهم، وجاي علشان أنا حكمت بالحق وانتوا محترمتوش الحق.
ترك مقعده ثم أقترب من “وجـدي” الذي حاول رسم الثقة على ملامحه لكنه فشل أمام قوة “عبدالقادر” الذي قبض على تلابيبه وهتف بنبرةٍ قوية أرعبته في محله:
_أنتَ راجل عايب وناقص، علشان معرفتش تراعي ربنا في بنات أخوك ولحمك، أول واحد نهشت فيهم، والحلوة أختك بتجيب سيرتها على كل لسان، رغم أني ساكت ومش عاوز أتكلم، بس معلش، أنا اللي استاهل، يرضيك إيه يا “يوسف” ؟؟ حق مراتك هييجي إزاي والمرة دي ما بدالك أعمله.
أبتسم “يوسف” بخبثٍ وأرجع ظهره للخلف ثم قال بنبرةٍ واثقة دون أن تتزعزع ثقته من محلها كعادة طبعه:
_عاوزه يستسمحها تسامحه وهي ترفض دا أول حاجة.
جاهد “أيـوب” لكتم ضحكته فيما أضاف “يوسف” بنفس الثقة من جديد مُتابعًا حديثه:
_ تاني حاجة بقى جاية في السِكة بس الصبر.
دفع “عبدالقادر” الأخر من يده حتى اصطدم بالأريكة وقد وصل في هذه اللحظة “إسـماعيل” في يده حقيبة سوداء خاصة بالأوراق المالية أو الأوارق العملية، وبعد وصوله والقاءه التحية جلس بجوار “يوسف” الذي سأل بنبرةٍ هادئة غريبة:
_أنا عاوز أسألك يا “وجـدي” الشقة دي عرضتها على كام؟
أخبره بنبرةٍ قوية لا تمت شخصه بصلةٍ:
_عرضتها على ٢٠٠,٠٠٠ جنيه مش هنزل منهم مليم واحد والبيه مخلفش ولاد يعني لينا في الورث.
حرك رأسه موافقًا ثم التفت لـ “أيـوب” يسأله بنفس الثبات:
_قولي يا “أيـوب” الـ ٢٠٠ ألف دول يتوزعوا إزاي في حالة عدم وجود ابن لحمايا الله يرحمه ؟؟.
هتف “أيـوب” يجاوبه بثباتٍ:
_الزوجة بتاخد التُمن، والبنتين هياخدوا التلت والأخوات هياخدوا الباقي تعصيبًا، الذكر مثل حظ الانثيين، اللي هيتبقى من التلتين ومن نصيب الزوجة، دا علشان فيه فرع وارث وهما البنات بدون أخ مذكر.
سحب “يوسف” الحقيبة من “إسماعيل” الذي سبق وأومأ له أن طلبه أصبح جاهزًا فقام هو بإخراج النقود منها ثم قال أمامهم بقوةٍ بعدما نظر لزوجته التي بدا القلق على نظراتها وكذلك شقيقته أيضًا لم تفهم ماذا يفعل أخوها حتى فسر هو بقوله:
_دول الـ ٢٠٠ ألف جنيه، نقسمهم بما يُرضي الله، حماتي ليها التُمن فيهم وهو دا قيمة التُمن.
قام بأخذ المبلغ يضعه في يد زوجته التي رفعت عينيها نحوه تسأله عما يفعل فيما عاد هو لمحله يتابع سيرة فعله السابقة بقوله من جديد:
كدا دا الباقي معانا، نشيل منه نصيب البنتين اللي هما مراتي و “وعـد” أختها تلتين يعني هنسحب تلتينه و الباقي هو دا نصيبك يا “وجدي” ونصيب أختك، أظن دا حق ربنا بشهادة الكل، مرضى بشوية الفكة دول ؟؟.
هتف بمعاندةٍ يَتبجح أمامه بعدما خطف منه المال:
_آه راضي، مش أحسن ما تلهفها هي كلها وتفضل موقفة حالها لا راضية تأجرها ولا عاوزة تبيعها لحد ؟؟ أهو قرشين يفكوا زنقة.
أخرج “يوسف” العقد من الحقيبة معه القلم الخاص به الذي يحمل اسمه ثم هتف بنبرةٍ جامدة يأمره أمام الجميع:
_طب أمضي يا حلو على عقد البيع.
نظرت له شقيقته تحرك رأسها نفيًا فوصله صوت “يوسف” يُسكتها تمامًا دون أن يلتفت لها حتى:
_احترمي نفسك بدل واحترمي جوزك اللي قاعد دا.
لوت فمها يمنةً ويسرى بتهكمٍ فيما مضى “وجـدي” على العقد وبعده مضت هي رغمًا عنها بالإجبار بعدما حدجها زوجها بعينيه يحثها على هذا الفعل، رغم أن المبلغ زهيدًا مقارنةً بالظروف المعيشية لكنه أفضل على كل حالٍ من شقةٍ مُغلقة داخل بيتهم يتم وصفا ببيت الوقف.
أخذ “يوسف” العقد ثم أقترب من زوجته يقول بنبرةٍ هادئة:
_امضي يا “عـهد” في خانة المُشتري.
فرغ فاهها واتسعت عيناها بغير تصديق فوجدته يضيف بثباتٍ:
_أنا مش ناقص شقق بس أنا بجيب حقك، من هنا ورايح مفيش كلب فيهم هيفكر يفتح بوقه وحجتهم إنك مش معاكِ عقد أهو العقد في إيدك اللي يكلمك بعد كدا هنا حطيه في عينيه، أمضي بس يلا.
شجعتها “قـمر” بقولها تحثها على هذا الفعل:
_يلا يا “عـهد” دا بيت باباكِ يلا أمضي.
تشجعت كثيرًا وقد ازداد الحماس لديها حينما هز “عبدالقادر” رأسه مومئًا لها مما جعلها تمضي باسمها في خانة المُشتري، حينها ابتسم “يوسف” وبدأ في أخذ خطواته الأولى لجر حقها من جديد بداخل ساحته كما يقوم الخيال الماهر بسحب المُهرة داخل ميدان المعركة.
نطقت “نشوى” بعدما تسرعت دون أن تحسب حساب حديثها أو حتى تفكر بعواقبه:
_بس العفش اللي في الشقة برة الحِسبة دي كلها، أخويا الله يرحمه كان جايبه من فلوسنا وشقانا اللي كان بيشغلهم يعني الكراكيب دي لامؤاخذة تخصنا برضه.
نظرت لها “عـهد” وهي تقول بغير تصديق ونفاذ صبرٍ:
_لأ بقى !! كدا كتير بجد أنا سكتالك من الصبح بس أنـ….
بترت حديثها وتوقفت عن التكملة حينما أشار لها “يوسف” ثم فتح الحقيبة يأخذ منها رُزمة أوراق مالية ثم وضعها أمام المرأة وهو يقول:
_دول ١٠٠٠٠ جنيه، حق الكراكيب اللي هنا، يعني أنتِ زيك زي النجفة المحروقة فوق راسي دي، مرضية كدا؟؟
رفعت أحد حاجبيها ثم خطفت الأموال تضعها في يدها فابتسم “يوسف” بثباتٍ ثم خطف الحقيبة من جوار “إسماعيل” وهو يقول بقوةٍ أصابتهم في مقتلٍ حين هتف:
_دي شنطة كانت فيها ٤٠٠ ألف، كنت هشتري بيهم الشقة بس انتوا طلبتوا المبلغ دا حقكم واتقسم بما يُرضي الله علشان الزنقة اللي أنتم فيها، وأنا فيا طبع طالما خرجت جنيه مدخلوش جيبي تاني، علشان كدا مراتي أولى بالباقي، مبروك عليكِ يا “عـهد”.
مد يده لها بالحقيبة بينما هي صُدِمت وكذلك البقية بأكملهم عدا “عبدالقادر” الذي أعجبه قدر دهاء “يوسف” في أخذ حق زوجته بحرافيةٍ شديدة خاصةً حينما ظهر التحسر على ملامح أفراد عائلتها، فيما ترك هو الحقيبة ثم جلس بجوار زوجته يضع قدمًا فوق الأخرى وهو يقول بثقةٍ وشموخٍ يليقا به كثيرًا ثم أضاف بأخر مفاجأته التي كانت بمثابة قنبلةٍ موقوتة:
_بما أني صاحب الشقة وجوز صاحبة الشقة فدلوقتي وجودكم مش مرحب بيه بصراحة عندنا، بس المرة دي مراتي بنفسها هتقوم تطردكم، العين بالعين، والسن بالسن والبادي أظلم، وانتوا ظلمتوا، جه الدور تتظلموا، يلا يا “عـهد”.
ضحك “إسماعيل” رغمًا عنه فمال عليه “أيـوب” يسأله بسخريةٍ:
_قولي يا باشا هو دا أوبشن نازل جديد..؟
جاوبه “إسماعيل” بسخريةٍ وهو يكتم ضحكته:
_لأ هو السيستم بتاعه كدا، متقلقش أنتَ بس حاسب علشان بيرفص مرة واحدة.
حينها هدر “يوسف” بنبرةٍ عالية لزوجته:
_يلا يا “عـهد” محدش هيطردهم غيرك.
تركت “عـهد” ما تمسكه بيدها ثم اقتربت من الباب تفتحه وأشارت خارجه وهي تقول بثباتٍ:
_اتفضلوا برة من غير مطرود ودي آخر مرة اشوفكم في شقة أبويا، وبالمناسبة أنا هكون هنا علطول، برة بقى علشان المكان متوسخ بوجود ****** اللي زيي، أظن انتوا عيلة شريفة أوي مينفعش تتوسخ بواحدة زيي.
خرجوا خلف بعضهم متقهقرين بهزيمةٍ ساحقة تسبب فيها “يوسف” للمرةِ الثانية فيما وقف هو خلفها مباشرةً بعدما أغلقت الباب ثم همس لها في أذنها بقوله:
_حبيب عيوني.
كادت أن تضحك على هذا اللقب لكنها تذكرت أمر الجالسين فتحركت من محلها تجاور “قـمر” وتهرب منه ومن نظراته التي تنطق بالفخر وكأنها حقًا فتاته التي ربحت إحدى المسابقات المدرسية ولم يكن فعلها تصرفًا وقحًا من وجهة نظره كما تشعر هي.
__________________________________
<“مفاجأة تلي الأخرى لما لا تأتي فُرادة؟”>
كان “مُـنذر” في شقته ينتظر مساعده الخاص هنا، هذا الرجل الذي يقوم بمساعدته وإنجاز أموره التي تتعلق ببيانات الأشخاص، هذا الشخص الماهر الذي يفعل كل شيءٍ لأجل الأموال ها قد أتاه إلى هُنا.
تحرك يفتح له الباب فيما دلف الأخر وجلس حيث إشارة “مُـنذر” الذي أخبره بمكان جلوسه، وقد جلس الرجل وهو بزهوٍ في نفسه:
_اتفضل، كل حاجة طلبتها عنه هنا من يوم ما اتولد لحد دلوقتي، بس خلي بالك هتتخدع فيه أوي.
أبتسم “مُـنذر” وقال بنبرةٍ ساخرة وهو يتفحص الورق الموضوع بين كفيه:
_يعني مش زي ما أنتَ فاهم، يبان راجل بتاع ربنا مكسور الجناح على قد حاله، دا طلع حوار كبير، ومش سهل زي ما باين عليه ولا على وشه اللي بيضحك دا، أبوه راجل تقيل بتاع مواد بُنا وعنده مصنع رخام كامل بتاعه وعماير وحارة نصها ملكه، ودا مهندس ميكانيكا سيارات كان فرويد، بس علشان ملتزم مكملش فيها، ورجع لشغله مع أبوه في الفخار خاف من سوق العربيات علشان حواراته كتيرة.
ابتسم “مُـنذر” بسخريةٍ ثم قال بتهكمٍ:
_طب والبيه بقى ليه نقطة ضعف ؟؟ يعني لما نحب نقرص ودنه نقرصه فين ؟؟.
ضحك الأخر له وهتف مؤكدًا بزهوٍ من معلوماته الثمينة التي تفيده كل الافادة التي يحتاجها:
_ودي تفوتني؟؟ عيلته، ومراته وأي حد يخصه عمومًا بس أكتر حاجة تبقى مراته حتى اسمها عندك أهو “قـمر مصطفى الراوي” لسه كاتبين كتاب بس.
عقد “مُـنذر” حاجبيه بتعجبٍ وهتف بتيهٍ وكأنه يحاول أن يتذكر أي شيءٍ:
_”مصطفى الراوي” !! حاسس أني سمعت الاسم دا قبل كدا، أوي يمكن اسم شبه، على العموم شكرًا يا درش، حسابك هيوصلك بليل، اتكل أنتَ ولو عرفت حاجة عرفني.
أشار الرجل على عينيه ثم تحرك من المكان بينما “مُـنذر” أخفض بصره نحو الملف الموضوع يحمل صورة “أيـوب” بكافة بياناته منذ ميلاده حتى لحظته هذه.
__________________________________
<“حل المساء وظهر الظلام، ماهذا النور”>
لم يقدر “سراج” على ترك المشفى والرحيل منها خاصةً أن “زيـزي” لم تفهم في التعامل بالمكان نظرًا لكثرة قضائها معظم سنوات عمرها في الخارج، لذا اعتمد على المنبهات حتى تم نقل “عـادل” لغرفةٍ أخرى طبيعية بعدما تحسن حال القلب وعضلاته.
أتى له “نَـعيم” برفقة ابنه وقد شعر حينها بالامتنان لهما خاصةً حينما أخبره “نَـعيم” بثباتٍ يقترح عليه:
_لو عاوز تروح ترتاح أتحرك وأنا و “مُـحي” هنا شوية، عليك بإيه لكل دا يعني ؟؟.
رد عليه “سراج” بقلة حيلة:
_مش هينفع غير لما أتطمن أن كل حاجة تمام، هو لسه منقول أوضة عادية وأخته معاه جوة، تسلم يا حج متتعبش نفسك وأنا هحاول كمان شوية أروح أرتاح في البيت.
هتف “مُـحي” يستفسر منه:
_طب ينفع ندخل نشوفه ؟؟ يعني علشان ميزعلش إننا جينا هنا ومدخلناش عنده.
حرك رأسه موافقًا ثم سبقهما يتفحص الوضع بداخل الغرفة وعاد من جديد يقول بهدوءٍ حينما أشار نحو الغرفة:
_اتفضل يا حج، تعالى يا “مُـحي”.
دلف الإثنان معًا للداخل وقد كان “عادل” جالسًا على الفراش وشقيقته تجلس على المقعد المجاور له وعندما لاحظت دخولهما اعتدلت في وقفتها ترحب بهما بينما “نَـعيم” حدثه بنبرةٍ هادئة يقول:
_ألف سلامة عليك يا “عـادل” بيه شدة وتزول، شد حيلك بقى كدا يا راجل شوية تعب ياخدوك مننا كدا؟؟.
ابتسم له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_الحمد لله على كل حال، يمكن حصل كدا علشان أشوفك، من بعد اللي حصل وأنتَ قطعت بينا خالص، كأن النسب هو اللي كان رابطنا ببعض.
ابتسم “نَـعيم” ونظر لـ “سراج” الذي بدا على وجهه التوتر من سيرة ماضيه، فلاحظ “عـادل” نظرته وتذكر فعله لأجل إنقاذ حياته لذا هتف بنبرةٍ هادئة:
_بس “سـراج” كتر خيره أنقذ حياتي، جه في وقته المناسب، ولولا وجوده كان زماني موت مكاني.
نظر له “سـراج” وهم أن يتحدث فقالت “زيـزي” بلهفةٍ:
_طب قبل ما الكلام ياخدنا، تشربوا إيه ؟؟.
رد عليها “سراج” وكأن حديثها نجدته للهروب من هنا قبل أن ينفتح أي حديثٍ يؤلمه:
_خليكِ أنا هروح أجيب، عن اذنكم.
لم يمهلهم الفرصة للقبول، بل خرج من الغرفة نحو الكافتيريا الموجودة في نهاية الرواق بجوار المِصعد يجلب العصير لمن بداخل الغرفة وحينما رفع عينيه نحو باب المصعد وجد أخر من توقع تواجدها هنا، وجد “نـور” تخرج من الباب وهي تبحث بعينيها عن الغرفة ورقمها، أما هو فترك محله واقترب من المصعد تزامنًا مع تحركها في المكان الموازي له لتتقابل نظراتهما من جديد بعد انقطاعٍ دام لأيامٍ طوال، أيامٌ استوحش بها دنيته بدون ونيس.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى