روايات

رواية غوثهم الفصل الحادي والثمانون 81 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الحادي والثمانون 81 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الحادي والثمانون

رواية غوثهم البارت الحادي والثمانون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الحادية والثمانون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الواحد والثمانون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_______________________
أنت في الموضع البعيد
قريب من منيب إلى رضاك يؤوب
يا إلهي ومؤلي
ورجائي بك يا سيدي تزول الكروب
يارب غفرانك
يارب رضاك
يارب يارب يارب
أنت رب العباد ما لك في الملك شريك
ولا عليك رقيب يارب أخلصنا إليك
دعائنا ولدعوة الداعين أنت مُجيب
_”محمد الطوخي”
__________________________________
كنتُ رحالًا وهَاويت التنقل في شتى البلدان،
وكنتُ غريبًا عن نفسي في كل الأوطان؛
فلا وجدت الأُلفة ولا راقني الزمان بل غدوت بين الناس تائهًا والطريق بدون عنوان، لكن ها أنا هنا عُدت من جديد لوطنٍ وجدته في العيون، وطنٌ ضم غريبًا وأحتواه بين الجفون، فأعذريني وأعذري قلبي الغريب، فيبدو أنه في وطنه قد وجد الحبيب..
وها أنا هُنا معكِ تحتضِني جفونك
وتحتويني عيونِك وإذا تطلب الأمر أن يُعاد التاريخ؛
سأقتضي بـ مجنون “ليلى” وأغدو مجنونك، لكن لي منكِ سؤالًا وهو ألا تحرمي القلب من وصالك ولا تُفرقينا أنا وعيني عن عناق جفونك..
إليك الحديث ولقلبك السلام وإن أردتي..
لقبيني بـ “مـجـنونك”.
<“أنا والخيل أعزاء النفوس، أقوياء العزيمة”>
ابتسم “إيـهاب” بثقةٍ ثم دفعه على الأريكة بعدما جرح عنقه عن عمدٍ كذكرى للآخر حتى لا ينساه وخاصةً أن هو الذي تهجم على “مُـنذر” ليلًا، من جديد الخيوط تتشابك مع بعضها لتزداد حيرة “مُـنذر” في أمر ابن عمه وكأن مسألة الحياة أو الموت وحينما غرق أكثر في شروده خرج على صوت “ميكي” الذي وصل إليهم وفي يده إمراة كبيرة وهتف بزهوٍ في نفسه:
_الست أهيه يا “عـمهم” في نفس المكان اللي أنتَ قولت عليه، وهتقولك كل حاجة أهيه.
من جديد ابتسم “إيـهاب” ثم حرك عينيه نحو البقية وهو يقول بثباتٍ لم يلق بغيره:
_عرفتوا أنا عمهم ليه؟.
من جديد ثقته تعود وجرأته تظهر لتعلن عن دوره الذي لم يقل ولم يتخل عنه أحدٌ، كان ولازال هو مصدر القوة في هذه العائلة التي اجتمعت بروابط القلوب وليست روابط الدم، بالرغم من غرابته إلا أنه ماسك الخيوط ومحرك الجميع تحت رغبته وبناءًا على أوامرهِ، ذُهل حينها “مُـنذر” وفرغ فاهه بصدمةٍ فيما وقف “أيـهم” حائرًا وقد أقترب منه “إيـاد” الذي تمسك به بخوفٍ جعله يضمه بذراعيه وكأنه يُطمئنه بذلك أو ربما يحميه لانه لأول مرة يرى مشاجرة بهذه الحدة.
وقفت المرأة توزع نظراتها بخوفٍ وهي تقبض على حاوية نقودها وقد أتت عيناها لتتعلق بعيني زوجها وحينها كان “إيـهاب” يراقبهما وهتف ساخرًا بنبرةٍ جامدة أفزعت الجميع:
_لأ جو همسة عتاب دا مش هنا، خلصي خليني أسحب منك الكلمتين، الواد فين بالظبط؟ وقبل ما تعملي زي البغل دا أنا هفكرك إني مش صبور خالص، بالعكس أنا خلقي ضيق وأيدي سابقة لساني، الواد اللي “سامي السيد” سلمه ليكوا راح فين؟.
ازدردت لُعابها بخوفٍ وهتفت بنبرةٍ مُتلجلجة وضائعة بعدما انكمشت في نفسها منه ومن نبرته العالية التي يهدر بها:
_هقول والله، بص يابني ساعتها الواد دا كان عليه مشاكل كتير أوي، شوية حد يطلبه، وشوية “سامي” قال أخلصوا منه وشوية بعدها قال رجعوه لأبوه، بعدها آخر حاجة الواد تعب أوي وبقى خلاص بيخلص في الروح وساعتها وديته مستوطف يرعوه هناك وقابلت واحدة معرفة قالتلي لو مش قد رعايته هي هتاخده لأن مطلوب منها تجيب عيل لواحدة عيلة جوزها مبهدلينها وهتترمي في الشارع لو مجابتش حتة عيل ليهم، ساعتها قولت تاخده وأنا آخد قرشين وخلاص، بعدها بقى حصل كذا حاجة وكنت هتمسك بس والله ما بكدب أنا أديتها الواد وخدت نص الفلوس منها وبعدها بطلت وقولت أهدا شوية علشان عيون الحكومة تِكن من علينا.
رفع “مُـنذر” كفه يضرب وجهه به بيأسٍ لو تمكن منه سيقتله ويفتك به لا شك في ذلك، كلما ظن المسافة تقترب تفاجأ بها تبتعد أكثر وهو كاد أن يلفظ أنفاسه وحينها تحرك “أيـهم” يجاور “إيـهاب” وهتف بلهجةٍ حادة آمرة:
_وإحنا فيها هاتي عنوان الست أو أي حاجة توصل الطريق ليها، دا لو عاوزة تكفري عن جزء صغير من عمايلك، روحي ربنا يحرق قلبك زي ما حرقتي قلب الناس على عيالها، أعوذ بالله منك ومن أمثالك.
تدخل “إيـهاب” يهتف بنبرةٍ جامدة هو الأخر يهددها بكل صراحةٍ بعدما رمق زوجها بنفورٍ وكراهيةٍ:
_هي الأحسن ليها تعمل كدا علشان لو فكرت في حاجة تانية أنا مش هخرجها حية من هنا، تجيب عنوان الست وتجيب اسمها وبعد كدا نبقى نشوف هنعمل إيه، أظن كدا عداني العيب وبعمل بأصلي معاكِ، فين بقى عنوانها واسمها؟.
طالعت وجه زوجها الذي هتف بنبرةٍ عالية كعادته يزجرها ويعنفها على غبائها قائلًا بغضبٍ مكتومٍ:
_استني يا ولية، هتاخدي كام الأول؟.
حركت عينيها بصدمةٍ نحوه قبل أن تنطق فيما أقترب منه “إيـهاب” ثم أمسك عنقه يُضيق عليه الخِناق بأحد كفيه وهتف من بين أسنانه التي أطبقها على بعضها في محاولة التمسك بالهدوء:
_وربنا المعبود أنا عندي استعداد أقتلك ومش هيرف ليا جفن واحد، فلوس إيه يا **** اللي عاوزها؟ ليك عين تطلب وتبجح كمان !! نخلص بس من موضوع الواد دا وساعتها هتاخد نصيبك مني.
فعلته هذه ماهي إلا إنذارًا للمرأة قبل أن تلعب بهم أو حتى يقترح عقلها أن تتلاعب عليهم وحينها لطمت وجهها ثم اقتربت من “إيـهاب” تُدلي بكافة التفاصيل والبيانات الخاصة بالمرأة الأخرى وقد دونها “مُـنذر” في عقله عن ظهر قلب يتمسك بكل حرفٍ يُدلى أمامه وكأنه يتسمك بسبل الخلاص من قتلٍ غير رحيم فتك به..
أما “إيـهاب” فكعادته لم يأمن لأي فردٍ عدا نفسه لذا حرك عينيه نحو “ميـكي” الذي أومأ موافقًا دون كلمةٍ واحدة وكأنه اكتفى بهذه النظرة وبعد مرور دقيقة صعد الرجل الذي تم تعيينه لأجل مرافقة “مُـنذر” وحينها أمسك الرجل الذي كان “إيـهاب” يحاوطه بجسدهِ وسحب “ميكي” المرأة من ذراعها لكنها ظلت تُنوح وتعترض وتحتج حتى أقترب “إيـهاب” منها وهتف بنبرةٍ قاتمة يحذرها من التمادي بقولهِ:
_أنا لحد دلوقتي بتعامل معاكِ بأصلي، بس عادي أنا ممكن أسحلك من شعرك لحد تحت ومش هيفرق معايا إنك واحدة ست، وكدا كدا اللي زيك ميستاهلش الرحمة، فتروحي بكرامتك ولا أجرجرك من غيرها؟.
أطرقت رأسها للأسفل بخضوعٍ كردٍ على حديثه ثم ذهبت مع “مـيكي” دون أن تُكثر من الحديث وقد راقبهم هو بنظراتهِ حتى فرغ المكان عليهم فهتفت مُعتذرًا لـ “أيـهم” بقولهِ:
_أنا أسف على اللي حصل بس أنا من الصبح والراجل ابن الهِرمة دا تعبني ودوخني، تسلم على وقفتك مع “مُـنذر” بس دي مش جديد عليك يا عمنا، أنتَ تربية الحج “عبدالقادر” وأخوك “أيـوب” يعني أصلكم معروف.
ضحك له “أيـهم” وهتف بنبرةٍ مرحة يعبر عن فخرهِ بالآخر وبما فعله لأجل استرداد الحق من سالبيه:
_أنا اللي عمنا !! دا أنتَ يا ريس، ربنا يعتركم فيه وتلاقوه وميطولش عليكم في الغياب، لو محتاجين أي مساعدة أنا معاكم هنا، أظن دا كلام مفروغ منه مش محتاج أقوله تاني، عن إذنكم ولو عاوزين حاجة بخصوص الموضوع دا تحت أمركم.
تحدث “إيـاد” بنبرةٍ ضاحكة وهو يطالع وجه “إيـهاب”:
_أنا عاوز أبقى جامد زي عمو “إيـهاب” كدا.
ضحك له “إيـهاب” وركع أمامه حتى يصبح في نفس مستواه وهتف بنبرةٍ هادئة وكأنه تبدل عن الرجل الذي دلف مثل الإعصار عليهم يزيل في طريقهِ الأخضر واليابس:
_طب ما أنتَ جامد مش محتاج يعني، قبل كدا قعدنا سوا وفضلت تتكلم معايا وطلعت راجل من صغرك، كل واحد جامد في سنه، وأنتَ في سنك راجل ويعتمد عليك وعمدة، أهم حاجة ركز مع نفسك وذاكر وخلص تعليمك وساعتها كل الناس هتعرف إنك جامد وأولهم أنتَ.
ابتسم له “إيـاد” ثم مد كفه يودعه وقد ابتسم له “إيـهاب” ورغمًا عنه رأى نفسه في هذا الصغير، أخر ما تبقت له من علاقة الطفولة كانت صورته في مثل هذا العمر لذا احتواه بنظراته ثم ضمه وودعه وكأنه يودع نفسه في هذا العمر، أما “أيـهم” فعرض كافة المساعدات وكافة المقترحات ثم تركهما معًا حينما لاحظ حالة “مُـنذر” وفضوله.
__________________________________
<“لا داعي للخصومة أيها العالم فقد عفونا”>
أن نبقى سويًا بالجوار معًا،
كفانا يعانق كلاهما الأخر وكأنه وجد الخاص به، أن نأمن بجوار بعضنا ونهرب من غوغاء العالم وضجيج الرؤوس لنستمتع بلحظات صمتٍ تتحدث فيها القلوب، فيا أنا هل تسمع قلبي وما أتلاه عليَّ؟ أم أنك حتى الآن لم تكن أنا؟..
كان “يـوسف” يستند على الحائط و”عـهد” تستند بظهرها عليه وهو يحاوطها بكلا ذراعيه ويسند رأسه على كتفها وكأن قلبها مدَّ كفه لداخل عقله يُرتب الفوضى المنثورة في كل أركانه، لحظات صامتة تمامًا إلا من صوت أنفاسهما وهي تتابع عينيها المرسومة أمامها وبيت الشعر الذي كتبه أسفلها لتعلم أن حبه لعينيها وصل لمرحلة الهوس..
زفرت بقوةٍ وشعر هو بها فرفع رأسه يهتف بنبرةٍ هادئة بعدما حرك رأسه للأمام كي يتسنى له أسر عينيها كما يفضل دومًا بالرغم أنه هو الأسير فيهما:
_أنا آسف على كل حاجة، وأسف إني خليتك تلفي ورايا زي اللي بتلف على عيل صغير تايه منها، بس أنا خوفت آذيكم إمبارح، أنتِ أول واحدة لو كانت قالت كلمة واحدة بس كان زماني بفرقع فيكِ، وشكرًا إنك هنا لحد دلوقتي.
ابتسمت له ثم التفتت بكامل جسدها لكي تواجهه وهتفت بنبرةٍ هادئة ظهرت بها لمحة سعادة أو ربما حماسٍ نتيجة حديثه وهدوئه الذي يتنافى مع الأمس:
_فاكر يوم لما جيت البيت عند بابا ساعة لما ضربوني؟ ولما جيت لقيتني بعيط على سجادة الصلاة وساعتها أول مرة أكون عاجزة كدا من ساعة وفاته، ساعتها ملحقتش أحس بالعجز دا، جيت أنتَ وخليتني أحس إني ورايا جيش كامل في ضهري، وساعتها قولتلك أنتَ داويت جروح كتير أوي النهاردة، فاكر كان ردك إيـه؟.
استطاعت بحديثها أن تجعله مُنصتًا لها بكامل تركيزه وقد أومأ لها موافقًا وهتف تحت أثر شروده فيها:
_ساعتها قولتلك “الأبنودي” قال
“أصل المَحبة مش بالقول يا تداوي جروحي يا بلاش”.
هزت رأسها مومئةً وأضافت على حديثهِ:
_بالظبط كدا، مش بالقول، أنتَ داويت جروحي وجه دوري أداوي أنا كمان، إمبارح أنا كنت متغاظة منك وهموت وأطلع غيظي فيك، بس لما عقلي هدي وقلبي بدأ يسمعلك وقدر موقفك ساعتها أنا حطيت نفسي مكانك، وعرفت إن اللي أنتَ فيه مش سهل عليك، علشان كدا جيت.
ابتسم بعينيهِ لها وحرك رأسه وطبع قُبلة هادئة على وجنتها وكعادتها أغمضت هي عينيها وانفرجت شفتاها ببسمةٍ حالمة جعلته يبتعد عنها وهتف بنبرةٍ هادئة:
_تتجوزيني؟.
فتحت عينيها على وسعيهما تستمع له بحيرةٍ فوجدته يبتسم لها ثم أضاف مُردفًا مقصد طلبه ومغزى كلماته:
_أنا مش قصدي الجواز دا اللي إحنا فيه، أنا عاوز أعمل فرح وأشوفك بالفستان الأبيض وأخدك من إيدك على بيتي، بس معلش أنا عاوزها برضاكِ، من غير ضغط من أمـك أو كلام الحج “عبدالقادر” أو حتى إقناع “أيـوب”، عارف إني سألتك قبل كدا بس أنا وهما عاوزين الإجابة منك تاني.
ابتسمت له وسألته بنبرةٍ هادئة تحاول من خلالها سبر أغوار حصون عقله:
_طب قبل ما تاخد مني الإجابة، أنا مش هرد عليك غير لما تديني الثقة الكافية إنك تعرفني كل حاجة عنك، من غير كدب ومن غير ما تخبي، بما إن هييجي يوم ونكون فيه شخص واحد تحت سقف واحد فتقولي اللي حصل، ولا مش واثق فيا لسه؟.
تبدلت تعابير وجهه فورًا وكأنها صدمته بقولها فلم يتوقع أن يكون هذا هو جوابها، وظل يمعن النظر في وجهها وهي تطالعه بترقبٍ حتى وجدته يغمض جفونه لوهلةٍ ثم فتحهما بتروٍ وهتف بنبرةٍ مبحوحة نتيجة المشاجرة الحادة بداخل رأسه:
_طب ينفع لما أكون جاهز أقولك؟ على الأقل مش دلوقتي.
تعلقت حينها عيناها بعينيه ترى فيهما الصدق أو ربما الخوف من شيءٍ مجهولٍ جعلها ترأف به وأومأت موافقةً بعدما أجبرت شفتيها على التبسم وكأنها أدركت لتوها حجم المخاطرة وهي تلقي بحياتها في طريقهِ ليكونا سويًا فردًا واحدًا، أما هو فأعاد رأسه على كتفها لعلها تَكُف عن المشاجرة وقد وقع بصرها هي على دراجتين هوائيتين بالمكان فسألته بحيرةٍ:
_هو العَجَل دا بتاع مين؟ أنتَ؟.
رفع رأسه عن كتفها وحركها نحو موضع إشارتها وهتف مؤكدًا بوجهٍ مبتسمٍ:
_أيوة، بتاعي أنا و “إسـماعيل”.
حركت رأسها موافقةً فيما وزع هو عينيه نحوها ونحو الدراجتين ليجد أن خاصتها تعلقت بهما فأعتدل واقفًا وسحب كفها حتى أصبحت تقابله فوجدته يضيف بنبرةٍ حماسية غريبة عليها وكأنها ترى طفلًا صغيرًا أمامها:
_هعمل كوبايتين شاي بالنعناع وأجيلك، خليكِ.
سرعته وعُجالته في الحديث جعلتها تقف جامدة محلها فيما دلف هو المطبخ وتركها مكانها تراقب المكان بعينيها، إذا كان السِحر ماديًا فهي وقعت ببراثنه هُنا، مكان يغلب عليه اللون البُني، إضاءته برتقالية، كتبه قديمة أو ربما عتيقة، صور الكثير من الممثلات المصريات وغيرهن، عبارات رومانسية أو سوداوية كُتِبت على الحوائط، المقاعد الخشبية القديمة بطاولاتها وعلى نقيضها الأخرى من البلاستيك الشفاف، رائحة العطر المميزة، وأخيرًا وقع بصرها على عبارة كتبها على الجدار بجوار صورة “شيريهان” الفنانة المصرية القديمة:
_جتلوني عيونا السود.
ابتسمت مُجددًا وحركت عينيها لتجد صورة “داليدا” وكتب أسفلها عبارة من أغنيتها الشهيرة:
_كُنا بنقول إن الفراق دا مستحيل.
تلاشت بمستها تشفق عليه حينما وجدت بجوار هذه العبارة صورته مع والده “مصطفى” وصورته مع أسرتهِ كاملةً، أدركت حينها أن وجعه أكبر من قدرة تحمل البشر وأقصى من تخيل عقلها البريء الذي لم يتخيل أن تصل قسوة العالم إلى هذه الدرجة، رغمًا عنها ابتسمت حينما طالعت صورتها التي رسمها بالخيوط البُنية والزرع الأخضر وتذكرت يوم إعترافه الأول بحبها حينما شهد عليه هذا المكان، فسحبت نفسًا عميقًا أخرجته على مهلٍ ثم جلست على المقعد أمام الحائط تُدندن بهدوء ثم أغمضت عينيها ورفعت صوتها أكثر تغني لكي يصله الصوت وهي تقول:
_الدقيقة الحلوة بتسوى سنة..
والكلام الحلو سمعته هنا..
دي الدقيقة الحلوة بتسوى سنة
والكلام الحلو سمعته هنا..
والليالي الدافية بنار قلبنا؛
تسقى كل الدنيا دفا وهنا..
خرج هو من الداخل يحمل كوبي الشاي ثم جلس بجوارها فوجدها تبتسم له بعينيها وأضافت بنفس منوال الغِناء حينما جاورها هو ووضع ما يمسكه وقد أغمض عينيه سامحًا لصوتها أن يتوغل بداخلهِ:
_خدني قلبي لقيتني بطير في السما..
ويوميها يعيني نسيت مين أنا..
خدني قلبي لقيتني بطير في السما..
ويوميها يعيني نسيت مين أنا..
ولقيتني دايبة في بحر الهوا، والليالي
أحلوت تاني ليا..
وأنا يا اللي كنت بخاف من الهوا
ولغيري ياما وصفت الدوا..
من نظرة لقيتني بدوب في الهوا..
من نظرة لقيتني بدوب في الهوا
يــا..يـا بـاي.
فتح عينيه بعدما سحب نفسًا عميقًا لداخل رئتيه وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما أسرته هي ببراءة عينيها حينما بدت كفتاةٍ مراهقة تنتظر رأي حبيبها على فعلٍ قامت به خِلسةً فوجدته يمسك كفها ثم أوقفها معه وذهب تجاه الدراجات الهوائية وهتف بنبرةٍ هادئة:
_هنركب عجل شوية وبعدها نروح علشان متتأخريش عن كدا، أنا مش ناسي إني اتجوزت السندريلا.
لكزته في كتفه فضحك عليها أكثر وهتف بنبرةٍ ناعمة يُقلد طريقة التحدث الخاصة بالفتيات بقولهِ:
_يا خبر !! الساعة جت ١٢ أنا لازم أروح، الوداع
كان يستفزها بحديثه حتى عاندته بقولها دون أن تنتبه لما تقول أو تفعل ردًا على حديثه الذي أثار غيظها:
_كدا !! طب والله العظيم ما هروح دلوقتي، بس.
غمز لها بخبثٍ جعلها تشهق ما إن أدركت فعله حتى وجدته يقترب منها هامسًا في أذنها بقولهِ:
_طب ما إحنا حلوين أهو.
تلاقت من جديد عيناها بعينيه تعاتبه بصمتٍ وحينها هتف بنبرةٍ هادئة تمامًا وكأنها تقابل نسخة أخرى منه لم تعهدها من قبل حينما غدق الدفء صوته قائلًا:
_مش هأخرك كفاية إنك هنا معايا وعلشاني.
مرت دقائق أخرى احتسيا بها الشاي معًا ثم بدأت جولتهما بالدراجات الهوائية، وبالرغم من خبرتها الضئيلة في ركوبها إلا أنه أصر على تعليمها بنفسه حتى ضمن سلامتها وخرج بها من البيت خلفها بدراجتهِ يدورا سويًا حول البيت في الأرض الخلاء الفارغة وقلبه يقفز من محله بسعادةٍ بالغة ورأسه أيضًا كفت عن الثرثرة في حالة كرمٍ منها عليه لكي يستمتع معها بما يفعل..
أما هي فهذه اللحظات والذكريات التي تصنعها معه تكفيها برهانًا لها أنه يحبها بل ويعشقها، دومًا ت
يراها الاستثناء الوحيد في كل العالم وإن لم يكن يراها هو بكل العالم، لا بأس فهي تحبه مهما كانت حالته حتى وإن كان حُطامًا أو مجرد اسمٍ فقط بهذا العالم، الآن ترتفع صوت ضحكاته عاليًا باستمتاعٍ وهي يرتفع صوت صرخاتها الممتزجة بضحكاتها نتيجة اختلال الدراجة بها عدة مرات وهو يضحك عليها ثم يعاندها بكلماتهِ حتى ترد عليه هي عنادًا وجدالًا معه لينتهي الأمر أخيرًا بكلٍ منهما أمام الأخر وحينها ضمها بين ذراعيه بعدما ترك دراجته ووضع رأسها على صدرهِ وهتف بامتنانٍ لها:
_أنا عاوز أقولك شكرًا، علشان كل حاجة بعجز أعملها مع نفسي بس وجودك بيخليني أقدر أتحرك، شكرًا إنك جنبي وإنك أصيلة وبنت أصول.
ابتسمت بعينيها ومازحته بقولها حتى تهرب من تأثرها قبل أن تبكي أمامه:
_طب أدعي لبابا لو سمحت علشان هو السبب.
ابتسم رغمًا عنه وحرك كفه يمسح على رأسها ثم أخرج زفيرًا قويًا تبعه بقولهِ:
_أبوكِ دا حبيبي..
كفاية إنه جابك ليا وبقيتي حبيب عيوني.
من جديد تظل بين ذراعيه وتلك المرة أغمضت هي عينيها ولو تطلب الأمر رأيها من المؤكد هي تود البقاء هنا بذلك الوضع بجوار قلبه تمسح عليه وهو لو عليه لكان ظل محله يحتمي فيها هي، هذا الذي لم يقبل إعتذار العالم من قبل وأصر على الخصومة، الآن تقبل الاعتذار وعفا عن العالم وصفا لها هي، هي وفقط.
__________________________________
<“قد يعود لكَ الصغير مُجددًا، فاحترس منه”>
في بيت “الرواي”..
كانت “فاتن” تجلس باكيةً في حديقة البيت بسبب موقف “يـوسف” معها أمسًا، كلما ظنت أن الجمود الذي حاوط علاقتها به كاد أن يتلاشى تتفاجأ به يزداد بروة ويغلفه الصقيع ليكون برهانًا لها على استحالة حدوث هذا الشيء، وقد دلفت “مادلين” البيت بعد عودتها من العمل ووقفت أمامها بتعجبٍ تسألها عن سبب دموعها:
_بتعيطي ليه يا “فـاتن”؟.
أخرجها الصوت من قوقعة تذكرها وكفكفت عبراتها المُنسابة بظهري كفيها معًا وكادت أن تنطق كاذبةً تنفي حدوث مثل هذا الشيء لكن عيناها أبت ذلك وذرفت العبرات مُجددًا باكيةً جعل “مادلين” تجاورها وهي تقول بلهفةٍ قلقة عليها:
_ياستي مالك ؟ دا إيه النكد بتاعك دا؟ قولي مالك لسه جوزك مش راجع دلوقتي و “عاصم” عنده حاجات مهمة في المصنع وراح بنفسه، مالك و “نـادر” ماله هو كمان؟ أنا روحت الشركة ومعرفتش اسأل إمبارح.
أخرجت الأخرى زفيرًا قويًا وهتفت بنبرةٍ مختنقة من البكاء الذي خيم على حلقها وخنق صوتها وهي تسرد لها ماحدث أمسًا وكيف تسببت في جرح “يـوسف” أمام الجميع وأمام زوجته خاصةً، كانت تسرد وهي تلوم نفسها وما إن أنهت قص الموقف أضافت من جديد:
_بس أنا الغلطانة مش هي، سمعت كلامها لما قالتلي إن صاحبهم دا قالها إن “يـوسف” راح خد “نـادر” من هناك وقالتلي إنه لو شافني هيسيبه، ساعتها قلقي على ابني وعلى “يـوسف” حركني، خوفت يعملوا في بعض حاجة وأنتِ عارفة إنهم بيكرهوا بعض أوي، معرفش إنها هتعمل كدا وتستغلني علشان تروح تنتقم منه قدام الكل.
طالعتها “مادلين” بأسفٍ وهتفت تعاتبها بقولها:
_طول عمرك سلبية وتصرفاتك غلط والكل بيدفع تمنها، حد يثق في “شـهد” !! ما الكل عارف إنها زي الحية بتبخ سم، أبسط حل كنتي كلمتي “يـوسف” وهو يقولك واستحالة كان هيخبي عنك، بس بعملتك دي خليتيه مكسوف وسطهم، أمه ومراته وأخته مش بالسهل عليه يعرفهم حاجة زي دي، غلطانة يا “فاتن” وغلطك كبير أوي في حقه وحق قلبه، وإذا كان على الحرباية اللي هنا، فدي أقل واجب إنها تتأدب، بس خليها مسيرها تتربى، إذا كان أبوها مرباهاش.
بكت “فـاتن” مُجددًا وهي تقول بكراهيةٍ شديدة تحملها في قلبها للأخرى:
_بكرهها، كل ما أجي أصفالها أكرهها أكتر، واحدة زي دي حرباية ومش سهلة ومش طبيعية، اتربت على الأنانية، عملها إيه لكل دا؟ أومال لو مش هي اللي سايباه؟ أومال لو هو اللي أتخلى عنها بقى؟.
ردت عليها “مادلين” بقولها لائمةً تفكيرها:
_أديكِ أهو أنتِ بتقولي لو هو !! يعني هي كانت عاوزة تعيش دور الضحية وخلاص وتبقى البت اللي ضحت علشان حبيبها وإنه هيعيش على ذكراها ويفضل مخلص لذكرياتهم، بس لما قرر يعيش هي متقبلتش دا، عاوزة تبقى محور اهتمامه، كانت عاوزاه يحاول ويحارب ويثبت إن مفيش منها عنده، بس مش دا “يـوسف” علشان هو راجل بجد، مش عيل واحدة ست توديه وتجيبه، بكرة ابنك يعقل ويعرف إنه خسارة فيها هو كمان، وساعتها هتعرف إن الله حق.
زفرت “فـاتن” بقوةٍ وغلبٍ على أمرها وقد لفت نظرها نزول “شـهد” من على الدرج لتسألها “مادلين” بتعجبٍ لكن نبرتها صبغها الجمود وهي تقول:
_رايحة فين دلوقتي؟ أنتِ مش واخدة بالك إن الساعة داخلة على ٨ وأكتر، أظن يعني محدش هنا يخرجك في الوقت دا.
قلبت الأخرى عينيها بمللٍ ثم هتفت بفتورٍ:
_زهقت ورايحة النادي، خير بقى؟.
نظرت “فاتن” للأخرى التي طالعتها بغير تصديق وكأنها تُصدق على ذهولها بتبجح هذه الفتاة التي خرجت من البيت دون أن تكترث بأهلهِ أو حتى بزوجها الذي خرج ولم تعرف مكانه حتى الآن ولا يهمها من الأساس أن تعرف ما به، لم يعد يهمها ولم تعد تُبالي به، هي فقط تود أن تنتقم من عائلتهِ بعدما تسببوا في تدمير حياتها، وكأن الأمر لم يكن برغبتها هي، بل أُرغمت عليه
__________________________________
<“أنا بخير إن كنت تعرف، وموجوع إن كنت لا تعرف”>
كل فرد يملك نقطة ضعفٍ تجعله يتصرف رغمًا عنه،
وهذا الزاهد الفقير نقطة ضعفه هي الأم التي تتألم لأجل صغارها وقد حارب المسافة لأجل الإطمئنان الذي حمله على كفيه حتى يغرسه في قلبها لينبت من بعدها زهورًا يافعة يراها هو في ضحكة أمٍ، وقد وصل “أيـوب” إلى حماتهِ وزوجته وأخبرها بالعثور على ابنها وحينها تبدل حالها وتيقنت من حديثهِ حينما تأكدت أن “عـهد” لم تَعد للبيت بل ظلت معه وعلى إثر ذلك تحركت نحو الداخل تقوم بإعداد الطعام لأجلهِ بعدما أكلها الشوق انتظارًا وقلقًا عليه…
حينها كانت “قـمر” معه وبجواره تمتن له بنظراتها وأنه لم يخذلها، وها هو ينفذ وعده لها ويُطمئنها على شقيقها وقد وجدته يجاورها ثم التفت لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_عاوزك لما ييجي متتكلميش معاه في أي حاجة، خلاص اللي حصل راح وهو هيرجع دورك إنك تخليه ينسى اللي مزعله يا “قـمر” لا تفكريه بحاجة حصلت ولا تسأليه عن الكلام اللي اتقال، تمام كدا؟.
حركت رأسها موافقةً ثم سألته بقلقٍ ساورها:
_طب وهو مش كويس؟ أنتِ مخبي عليا حاجة طيب؟.
حرك رأسه نفيًا وهتف بثباتٍ يزيل به شكوكها تجاه الأمر:
_كل الحكاية بس إنه هيرجع وحاسس إنه مضغوط بسبب الموقف والكلام اللي اتقال قصادكم، عاوزك تضحكي وتهزري عادي معاه وعاوزك متقلقيش خالص، وهو كمان لما يرجع بلاش يحس بالحزازية بينكم وأنكم شاغلين نفسكم بالكلام اللي إتقال، ممكن؟ حتى لو غصب عنك بس أنتِ فيكِ ميزة حلوة أوي تقدري تستغليها يا “قـمر”.
طالعته بعينيها تستفسر منه عن مقصد كلمته فوجدته يبتسم لها ثم رفع كفه يشير نحو قلبها وهو يقول بنبرةٍ هادئة وصادقة حملت الدفء معها حينما هتفت:
_إن دا طيب مش طماع ولا أناني، يقدر يخرج الحب ويوزعه على كل اللي حواليه وعنده عزة نفس كبيرة، دا لو شاور لأخوكِ وخلاه يتطمن إنك مش فارق معاكِ حاجة غيره ساعتها أخوكِ هيأمن من خوفه، وبدل ما يخاف على شكله في عيونكم، هتبقى نظرتكم كدا أمان بالنسبة ليه، ممكن؟.
هزت رأسها موافقةً وهي توميء له فوجدته أقترب منها ولثم جبينها كأنه يحثها على ذلك ثم هتف بنبرةٍ هادئة من جديد:
_ربنا يسلم قلبك من كل شر وتعب.
سحبت “قـمر” نفسًا عميقًا وهتفت تعتذر له بقولها:
_أنا آسفة إن كل شوية مدوخينك أنا وهو، من أول مرة وأنتَ التعب مش سايبك، حتى أول مقابلة كسرتلك فيها الزير، ومن بعدها وأنتَ مش سالم من الشحططة والتعب ورايا أنا وأخويا يا “أيـوب” بس أرجع وأقولك استحمل، أنا ماليش غيرك أرمي عليه وواثقة إنه في ضهري.
حرك رأسه نفيًا ثم عدل على حديثها قائلًا:
_فيه ربنا سبحانه وتعالى، خلي حب ربنا في قلبك رقم واحد ثم باقي العباد، ثقي في ربنا علشان ربنا معانا ومُطلع على حالنا، أنا في نهاية الأمر عبد، ممكن أمشي وأغيب وأموت، بس ربنا حي لا يموت، فثقي في ربك وأدعيه بيقين علشان ربنا يكرمك باللي نفسك فيه، وأبقي أدعيلي معاكِ.
لم تجاوبه ولم ترد عليه بل وضعت رأسها على كتفهِ وأغمضت عينيها تنعم ببعض السلام منه، وكأنه راية بيضاء وُجدَت في ساحة قتالٍ لتنهي سفك الدماء، أما هو فزفر مُطولًا ثم رفع ذراعه يمسح على ظهرها وقد شعر بانتظام أنفاسها وعلم أنها نامت بقربه وقد شعر بالمسئولية تجاهها فلم يتحرك قيد أنملة حتى وجد “غالية” تقترب منه وهي تقول بأسفٍ:
_فضلت تعيط طول الليل ومعرفتش تنام.
رفع “أيـوب” عينيه نحوها وشعر بالحرج من موقفه أمام والدتها التي سحبت مقعدًا جلست عليه بقربه وهتفت بنبرةٍ هادئة وهي تمسح على ظهر ابنتها:
_طول عمرها زعلانة، عمري ما شوفتها فرحانة ولا مرة، كل مرة كانت بتسأل ألف سؤال، عن أبوها وأخوها وعن عيلتها وليه ملناش حد، كانت بتحس علطول إنها تقيلة على الكل، لما بشوفها معاك بفرح أوي، بتفكرني بنفسي وأنا فرحانة مع “مصطفى”، ميغركش ضحكها وهزارها دي حياتها كل حزن وبؤس لو سمعته هتخليك تعيط، بس أرجع وأقول الحمدلله ربنا بيرزق ويعوض، وعوضها كان بيك أنتَ يا ابني.
ابتسم لها ورغمًا عنه أغرورقت عيناه بسبب نبرتها وحديثها وتلك الكلمة فيما ربتت على ظهره ثم تركته ودلفت للداخل مُجددًا وتركت “أيـوب” يمسح على ظهرها وهو يقرأ آيات القرآن الكريم بنبرةٍ هادئة خاشعة لله وكأنه بفعله جعل “غالية” تطمئن هي الأخرى بصوتهِ الدافيء الخاشع…
في الطابق الأعلى وقفت “عـهد” بجواره أمام باب شقتها فيما فتحت لها والدتها التي رفعت حاجبها وهي تقول بتهكمٍ:
_مابدري !! كنتي فين كل دا يا ست “عـهد”؟.
توترت الأخرى أمامها فيما رفع “يـوسف” حاجبيه مستنكرًا نبرتها فوجدها ترفع إصبعها في وجهه تحذره بقولها الحاد:
_اسمع !! بنتي مش هتجري وراك تاني تدور عليك، ولو فيه حاجة مزعلاك أفتكر إن فيه ناس هتموت من القلق عليك وأولهم أمـك اللي يا حبة عيني مش مبطلة عياط، سامع !! ولأخر مرة تتأخر كدا وهي تجري وراك.
وزعت “عـهد” نظراتها بينهما فوجدته يضيف بخضوعٍ غريبٍ عليه وعلى عاداته حينما صبغ نبرته بالهدوء:
_عندك حق، ودي عندي أنا أوعدك مش هيحصل تاني.
طالعته “مــي” بشكٍ جعله يجذب “عـهد” نحوه أكثر حينما وضع كفه في خصرها والتصقت فيه لتتسع عيناها على إثر فعلتهِ، أما هو فلم يكتفي بذلك بل مال على وجنتها يُلثمها أمام عيني والدتها التي رفرفت بأهدابها نتيجة ذهولها فيما رفع رأسه وهتف بنفس الهدوء بعدما ألبس حديثه وشاح البراءة:
_أوعدك إني أنا اللي هجري وراها بعد كدا.
وقفت “مـي” أمامه بصمتٍ فيما حدث ابنتها هو بنبرةٍ خافتة قائلًا:
_أشوفك بكرة بقى، علشان لو حضنت “غالية” هنام.
_أبقى قابلني لو شوفت وشي.
ردت عليه هي بذلك مما جعله يؤكدها بعينيه ثم أبتعد عنها وطالع وجه الأخرى قائلًا بنبرةٍ مرحة وكأن شيئًا لم يكن أو يقم من الأساس:
_تصبحي على خير يا حماتي.
حينها ضربت كفيها ببعضهما بغيظٍ لكن صوت ضحكة ابنتها جعلها تصمت وتبتلع غيظها بداخلها فيما أقتربت منها “عـهد” وهي تقول بنبرةٍ هادئة وصادقة:
_والله طيب أوي وغلبان ومحتاج بس حد يمد أيده ليه، وعلى فكرة مرضاش يخليني أتأخر وقالي ماروحش هناك تاني لوحدي، بس مكانش ينفع أقل بأصلي معاه يا ماما، اللي عمله مش شوية علشاني، دا ضحى بنفسه وفلوسه وكل مرة علشاني أنا.
ضمتها “مـي” بذراعها ثم لثمت قمة رأسها وهي تتضرع بقلبها أن يُتمم الله أمور ابنتها بخيرٍ ثم دلفت بها الشقة وأغلقت بابها فيما وقف “يـوسف” على الدرج يستمع لهذا الحديث بعدما خشى أن تعنفها أمها بسبب تواجدها معه، لكن يبدو أنها حكيمة لدرجةٍ كُبرى تجعلها على دراية كافية بكل فعلٍ تقم به لأجل الأخرين …
نزل شقته وفتح الباب وولجها مُباشرةً وحينها وجد صوت “أيـوب” في الشقة وهو يتلو آيات القرآن الكريم لتغمره لحظة غريبة لم يفهمها، لحظة جعلته يتوقف عن الحِراك وبقى محله جامدًا حينما وصلته الآيات وكأنها تقصده هو:
“وَقالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَستَجِب لَكُم إِنَّ الَّذينَ يَستَكبِرونَ عَن عِبادَتي سَيَدخُلونَ جَهَنَّمَ داخِرينَ”
أقشعر جسد “يـوسف” من رهبتهِ وقلبه الذي أهتز لوهلةٍ فيما خرجت “غالية” من الرواق وما إن وقع بصرها عليه نادته بلهفةٍ جعلته يحرك عينيه نحوها وما كان عليه سوى الركض يلقي بنفسه بين ذراعيها وقد أغمض عينيه عن العالم بأكملهِ وعاد صغيرًا بين ذراعي أمـه، وقد حاوطته هي بذراعيها وقالت بنبرةٍ باكية:
_جالك قلب تمشي تاني وتسيبني؟ وحشتني.
أبتعد عنها يطالع وجهها وهو يقول بأسفٍ:
_أنا آسف بس مقدرتش أفضل هنا، خوفت تزعلي مني، وأنا مقدرش إنك تزعلي مني والله، أنا مقدرش أشوفها في عينيكِ إنك بتلوميني على حاجة مش بأيدي، حقك عليا.
ضمته من جديد وهي تقول بنبرةٍ مرحة بعض الشيء:
_هزعل من حبيب عيوني برضه؟ الحمد لله إنك رجعلتي.
حينها ترك “أيـوب” زوجته وأسندها على وسادة الأريكة ثم أقترب من “يـوسف” الذي طالعه بنظرة غريبة لن ينساها الأخر وكأنه يخبره بنظرةٍ مستترة أنه يحتاج إليه أو هكذا خُيل له، وقد أقترب منه يمد كفه وهو يرحب به قائلًا:
_نورت بيتك، الحمد لله إنك جيت بالسلامة.
ابتسم له “يـوسف” ثم مد كفه يرد عليه تحيته فيما استأذنت “غالية” منهما ودلفت للداخل مُجددًا تجهيزًا للترحيب بابنها، بينما ابنها نفسه ترك الأخر وأقترب من “قـمر” يجثو على رُكبتيهِ بشوقٍ خالطه الأسف ثم رفع ذراعهِ يمسح على وجهها، لازال أثرها كما هي عليه، وهو في أشد الحاجة لها، لكن بنفس اللحظة سعد لكونها نائمة وبالتأكيد لن يرى نظرة عينيها مُجددًا، من الأساس فخرها به وفرحتها بتواجده تجعله سعيدًا لكن ما يخشاه حقًا أن تصبح نظرتها مشفقة عليه وحزينة وهو أكثر ما يكرهه نظرات الشفقة.
راقبهما “أيـوب” بعينيهِ ثم أقترب منه وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أشبع منها براحتك بس أنا عاوزك ضروري بخصوص “مُـنذر” بما إنك مسئول عنه هنا، ممكن ؟.
انتبه له “يـوسف” وأومأ موافقًا بقلقٍ سيطر عليه لكن الأخر طمئنه ثم جلسا سويًا ليسرد “أيـوب” له ما حدث في هذه الليلة وكيف أنقض عليه الأخر وحاول أن يقتله، حينها تأجج الغضب بداخل “يـوسف” وهو يفكر بجدية هل كره العالم له سيستمر له كثيرًا أم أن المُصالحة لم تكن في قاموسه من الأساس.
__________________________________
<“الفرح شارف على القدوم، استعد له”>
كانت “ضُـحى” صامتة على غير عادتها،
لم تتشاجر معهم ولم ترفع صوتها كعادتها ولم تطلب أي شيءٍ، بل التزمت الصمت خوفًا من حالة حبها، وليس لذلك السبب فقط بل لأجل موقف والديها، لازالت على موقفها في عدم معرفتهما بحياتهِ الخاصة، والسبب تحديدًا لم تعلمه هي، أو تعلمه لكنها تواريه خلف شيءٍ أخر حتى لا تجرحه، وقد طرق “عُـدي” باب غرفتها مما جعلها تسمح له أن يدخل لها وقد وقف يطالعها من عِليته بعدما وضع كفيه في جيبي بنطالهِ قائلًا بثباتٍ:
_أنا روحت قابلت “رومـيو” بتاعك دا، هكلم أبوكِ ويوم الجمعة الجاية ييجي يتقدم رسمي، أفرحي يا عروسة.
تركت فراشها وفي لمح البصر كانت أمامه تمسك ذراعيه بكلا كفيها وهي تسأله بلهفةٍ قلقة للغاية وكأنها لا تصدقه:
_دا بجد !! يعني أنتَ خلاص موافق عليه؟ “عُـدي” أنتَ بتعمل حاجة من ورايا؟ أوعى تكون روحت عملت زي الأفلام الهندي وتخليه هو يرفضني علشان خايف عليا والحوار الهابط دا !! ولا تكون جايبه تحرجه، وتطلع السم اللي جواك.
ابتسم لها بقلة حيلة وكأن البسمة أرغمته على الإعلان عن نفسها في ملامحهِ ثم رفع ذراعه يضعه خلف عنقها وهتف بنبرةٍ هادئة تتنافى مع كلماتهِ معها:
_أنا اللي ياخدك من وشي أشيله العمر كله فوق راسي، صدقيني لو عليا أرميكي هناك من دلوقتي، بس ملحوقة بكرة تمشي وأوضتك دي تبقى مخزن للكراكيب، دا أولًا يعني..
توقف عن الحديث وهو يرى السخط على ملامحها ثم قبض بكفهِ على عنقها حتى صرخت متأوهة بعنفٍ لتجده يتحدث من بين أسنانه بغيظٍ منها قائلًا بغضبٍ مكتومٍ:
_بعدين شايفاني سفاح قصادك ياللي تتشكي؟ ناقص تقوليلي هرمي في وشه مية نار، يخربيت الدبش اللي بيترمي منك، فكري يا “ضُـحى” في الكلام متبقيش جاموسة كدا، ربنا يعينه على ما بلاه فيكِ.
ابتسمت رغمًا عنها وهتفت بأسفٍ له حينما أدركت أنها أساءت فهمه وجرحته دون أن تقصد:
_مش قصدي والله أزعلك مني، أنا كنت بهزر وبرمي الكلام عادي وأنتَ عارف دا، بس أنا متوترة أوي ومش فاهمة إزاي مرة واحدة كدا وافقت !! وكلامك ليا؟ “عُـدي” علشان خاطري فهمني إيه اللي حصل، أكيد أنتَ مجرحتهوش صح؟.
أغلق عينيه بنفاذ صبرٍ منها ثم هتف بنبرةٍ جامدة خالية من أي مشاعر وهو يحاول التماسك أمامها قبل أن يسير مُنصاعًا خلف غضبه منها:
_أكيد مش هروح أزعله وأجرحه يعني، أنا روحت لما حسبتها حِسبة تانية وهي إني فكرت بعواطفي شوية، بس دا مش هيمنع إن فيه شوية حرص وحذر، وفيه فترة خطوبة الأول، ساعتها بقى نعرف أخلاقه ورجولته ومدى تحمله ليكِ ولطولة لسانك اللي قد القطر، أظن أنا ابن أصول أهو، وسرك في بير محدش هيعرف بيه، بس بشرط تقوليلي مش عاوزة حد يعرف ليه؟.
زفرت بقوةٍ رغمًا عنها ثم رفعت رأسها للأعلى تفكر لوهلةٍ ثم أضافت أخيرًا بعد صمتٍ طال منها وترقب ازداد من شقيقها:
_طب أنا هركن عواطفي وقلبي وهفكر معاك بطريقة عملية، دلوقتي أنتَ كراجل لما تلاقي كل شوية نظرات الناس ليك كأنها بِتعريك وبتحاول تقراك هيبقى شكلك إيه؟ أنا مش حابة كدا، مبحبش الضعف ومبحبش حد يشفق عليا وماحبش إن جوزي كل شوية حد يتدخل في خصوصياتنا مع بعض ويسألوا عن حياتي معاه وإزاي بنتصرف مع بعض، أنا مش حابة كدا يا “عُـدي” اللي بيننا أنا هتصرف فيه، لكن على الملأ مش هينفع، وأظن مشاعره أهم من إن حد يعرف حاجات زي دي مش هتفرق معايا ولا تغير وجهة نظري في “إسـماعيل” تمام كدا ؟!.
حرك رأسه موافقًا وقد جال حديث “رهـف” بعقلهِ من جديد وتذكر حكمتها في الأمور والتصرف، لأول مرة يرى تفكير شقيقته بهذه العملية لذا ابتسم لها ثم هتف بنبرةٍ هادئة وهو يستعد لمغادرة الغُرفة:
_مبروك، ربنا يتمم فرحتك على خير.
ابتسمت له بخجلٍ سرعان ما تلاشى بنفس سرعة ظهوره حينما هتف بسخريةٍ عليها:
_أنتِ وش كسوف !! هتشتغلي مين أنتِ؟.
تلاشت بمستها واندفعت تفتح باب غرفتها وصرخت فيه تطرده منها حتى وصلها الرد بدفعة قوية منه وأغلق الضوء عليها ثم تركها محلها تصرخ فيه وهي تُنادي والديها حتى يخلصها أحدهما من سخافة شقيقها الذي ظل يُغمغم بعدة كلمات يُهينها بها حتى قامت هي بصفع الباب بعنفٍ وسرعان ما ابتسمت مُجددًا ثم ركضت نحو فراشها تمسك هاتفها لتجده دون عبر صفحته منذ نصف ساعة فقط أحد أبيات الشعر العامي للكاتب “فؤاد حداد”:
_”مكتوب لكل الحبايب وعد يتقابلوا
في يوم حَنين أَحَنّ من اللي كان قبلُه”
ابتسمت مُجددًا بحماسٍ أكبر ثم حركت كتفيها وهي تُدندن بسعادةٍ بالغة دون أن تنتبه لنفسها وللفرحة التي أغدقتها:
_النهاردة هكلم أبوكِ،
قالها وروحي راحت ياني..
ظلت محلها تغني وتدندن ثم تذكرت أمر “قـمر” وحينها سحبت الحجاب تضعه على رأسها تحسبًا إذا مر أحد الجيران كما حدث سابقًا وركضت إلى هناك فوجدت عمتها فقط بينما الأخرى نامت منذ أن كان “أيـوب” بقربها وحينها خمد حماسها وعادت إلى غرفتها لكن الفرحة كما هي سكنت الفؤاد واتخذته مقرًا لها.
__________________________________
<“مجلس الرجال، تملأه الهيبة، تحاوطه العِزة”>
أنتقل “يـوسف” مع “أيـوب” إلى شقة “مُـنذر” يطمئن عليه فوجد معه “إيـهاب” الذي لم يتركه بل ظل معه يهتم به ويتابع حالته وكذلك فعل “أيـوب” الذي علم أن والده قام بالدور مكانه ولم يُقصر بل فعل أكثر مما توقع، وحينها تحدث “مُـنذر” بثباتٍ بعدما استمر الحديث بينهم:
_الست مكانها مش هنا، لسه هسافر ليها، إن شاء الله تطلع أخر سفرية وأخر مكان أروحه قبل ما روحي تروح، لو عليا أموت مش فارقة، بس اللي فارق معايا هو عمي وابنه اللي بقيت متأكد إنه عايش خلاص، طالما كل الخيوط دي موجودة يبقى الواد عايش، أسلمه لأبوه وبعدها عادي بقى.
تدخل “أيـوب” يهتف بنبرةٍ هادئة هو الأخر:
_ربنا يكتبلك فرحة اللُقا بيه، صدقني هتوصله قريب واحنا كلنا معاك محدش فينا هيسيبك أو يخلىٰ بيك، أهم حاجة بس إنك تثق فينا وتعرفنا محتاج إيه، أنتَ فيه حاجة عاوزها؟.
حرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_حاليًا أنا عاوز أشتغل، مش بتاع قعدة ولا راقدة كدا، وعاوز شغل في مجالي مش شغل تجارة، حد فيكم يعرف يساعدني ولا أدور هنا في مصر؟ بس ورقي وحاجتي لسه باسم “الموجي” مش “الحُصري” فحد فيكم يعرف حد في مجال الطب النفسي ؟.
كرر”يـوسف” خلفه مستنكرًا بشدة:
_طب نفسي !! أنتَ بتاع طب نفسي؟.
حرك رأسه رغم الذهول البادي في عينيه فيما ابتسم “يـوسف” رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ ضاحكة رغمًا عنه:
_أتفضلوا، بيقولك طب نفسي، يا بني أنتَ أكتر واحد محتاج للعلاج النفسي بعد اللي حصلك، هتعالج الناس إزاي أنتَ؟ طب أقنعني طيب.
تدخل “إيـهاب” يهتف بسخريةٍ عليه:
_زي ما أنتَ واخد على قفاك وماشي تحمي في قفا الناس، دي زي دي يا عمنا، بس الفكرة إنك بتكابر إنما هو بيحاول، ورَيـح شوية كدا لحد ما نشوف هنعمل إيه في البلوة دي.
سكت “يـوسف” عن الحديث وزفر مُطولًا ثم هتف بثباتٍ من جديد يقترح عليهم بقولهِ:
_لو محتاج فيه واحد صاحبي عنده مستشفى استثماري خاصة بالأمراض النفسية والعقلية والمخ والأعصاب، لو حاجة زي دي ممكن تنزل معاه؟.
اندفع “مُـنذر” يخبره بلهفةٍ حماسية بعدما استمع لمرادهِ الذي كان يبحث عنه هو:
_ياريت، تقدر تساعدني في حاجة زي دي؟ ورقي معايا وشهادتي كمان وورق من الجامعة البريطانية لو دا هيفيدك في حاجة، بس بسرعة علشان بدأت أزهق وأمل وأنا لما بتخنق مبعرفش أحسب أفعالي بعد كدا، بعدين أكيد هييجي يوم حياتي تكون طبيعية شوية، فأكيد هكون محتاج للشغل دا وأسس حياتي، مش كدا يا “أيـوب” !!
ابتسم له “أيـوب” وهتف بنبرةٍ هادئة وهو يربت على كتفه مؤيدًا له قولًا وفعلًا وهو يدعمه:
_كدا يا “مُـنذر” ربنا يوفقك ويزيدك قرب منه، أنا معاك في اللي تحتاجه ورقبتي سدادة ليك.
وزع “يـوسف” نظراته بينهما وحالة هدوء “أيـوب” مع الأخر ولم يعلم لما شعر أنه يود السخرية على الأخر أو ربما الغيظ منه !! الأبله يغار على رفيقه؟ ما هذا يا “يـوسف” ؟ هل جُننت أنتَ؟ تغار من اهتمامه بغيرك؟ لم يكف عقله عن التفكير وكأن “أيـوب” أحد ممتلكاته الخاصة فهتف بنبرةٍ تهكمية دون وعيٍ منه:
_بركاتك يا شيخنا !!.
طالعه “أيـوب” بتعجبٍ فابتسم له “يـوسف” باستفزازٍ جعل “مُـنذر” يضحك عليهما فيما وقف “إيـهاب” بعدما طالع ساعة معصمه وهتف بنبرةٍ هادئة:
_طب أنا ورايا مشوار مهم يدوبك ألحقه، زي ما أتفقنا محدش هيعرف حاجة علشان عمك ميخافش ومش هقوله على حوار الست دا لحد ما نشوف أخرتها، والناس اللي “ميكي” خدهم هرميهم في بيتكوا القديم علشان محدش يعرف، لو عاوز حاجة كلمني، مع إن الحج “عبدالقادر” قايم بالواجب وزيادة، ربنا يباركله..
رحل بعد حديثه بعدما ودع الشباب وقصد وجهته نحو بيته لكنه ما إن ولج سيارته أخرج هاتفه يطلب رقم زوجته التي جاوبته بعقلٍ منشغلٍ بسبب غيابه طوال اليوم عنها منذ أن خرج صباحًا:
_إيه يا سـي “إيـهاب” أنتَ فين يا أخويا كل دا، قلقتني.
أبتسم هو على قلقها المُبالغ فيه وهتف بنبرةٍ هادئة:
_يا ستي بخير متقلقيش، كنت في حارة “العطار” عند الواد “مُـنذر” كان محتاجني ضروري، المهم بس ألبسي الطقم اللي قولتلك عليه ولما أوصل هرن عليكِ تنزلي، بسرعة علشان قبل الساعة ١١:٣٠ نتحرك، تمام يا عمنا؟.
أغلق معها الهاتف ثم شق الطريق نحو منطقته بسرعةٍ كبرى وهو يُصارع الزمن والوقت في تحدٍ أن يصل قبل الوقت المُحدد وهو يتحرك بحماسٍ غريبٍ كأنه مراهقٌ يستعد لرؤية حبيبته في اليوم الدراسي خلسةً، فتح الهاتف ووضعه أمام عينيه يراقب الوقت وصورتها بالثياب البدوية، وحينها هتف بنبرةٍ ضاحكة وعيناها مثبتة عليه في الصورة كأنها تضحك له بجوار الخيل:
_يخربيت دلال أمـك.
مرت دقائق وصل فيها إلى فناء البيت وحينها وجد “إسماعيل” بجوار “سـراج” ومعهما “مُـحي” وكأنهم أقاموا إحتفالًا بدونه وهم يتناولون الطعام سويًا وبجوراهم السماعات الكُبرى وكأنه حقًا إحتفالٍ !!
خرج من سيارته ليصله صوت الكلمات العالية:
_دا كان لي فين ومين كان يقول
أنا أعيش لحد طول حياته مقابلنيش
ولسه عارفه من مفيش..
أوام أوام لقيت نفسي يومها
جريت عليه وليه يوميها روحت
حكيت كلام كتير ميتحكيش…
وصل عندهم وهم يتناولون الطعام ويضحكون سويًا فيما ابتسم هو ساخرًا وهتف بتهكمٍ على عدم دعوته معهم:
_شوف إزاي؟ في الفرح منسيين وفي الهم مدعوكين، يا عِـرة منك ليه بتاكلوا ورايقين من غيري؟ ولما يحصل مصيبة لجاموسة فيكم، يجري عليا ألحقه، وإيه اللي مشغلينه دا !!
من جديد علا صوت الأغاني ليلًا دون مراعاة لمشاعر النائمين أو إهتمامٍ بمن حولهم، ليصدح صوت الكلمات:
_أنا اللي قولت ياما أنا وأنا وأنا…
نسيت في يوم اللي قولته كام سنة..
وأنا اللي يعرفني من بعيد شافني
يومها معرفنيش…
تحدث “سـراج” بنبرةٍ ضاحكة يرد عليه بعدما أبتلع طعامه:
_ياعم ما طول عمرنا غارسين في الهم مع بعض، أيتام وصيع وملناش حد، حبكت يعني على ساعتين الروقان دول؟ بعدين أخوك فرحان، بصله في فرحته بقى خليه ينتكس تاني.
أمعن “إيـهاب” النظر في وجه شقيقه فوجده يبتسم له وقبل أن يسأله نزلت “سمارة” من بنايتها وأقتربت منه تبتسم له وحينها تعلقت بها عينا “إيـهاب” الذي ابتسم بعينيه حيث كانت ترتدي بنطالًا باللون الأسود من خامة القماش الفضفاض، وفوقه سترة قطنية بيضاء اللون وفوقها سترة شتوية باللون الأخضر القاتم، والحجاب مزركش بعدة ألوان مزجت بين الأخضر والأبيض والأسود.
أقتربت منهم تلقي عليهم التحية وسألت عن “جـودي” التي خلدت للنوم منذ ساعتين تقريبًا حتى تذهب إلى مدرستها صباحًا، وبعد مرور دقائق أخرى رحل “إيـهاب” بزوجتهِ من المكان فيما صدح صوت هاتف “سراج” برقم “نـور” التي كتبت له:
_”شـهد” جاتلي وللأسف معرفتش أكلمك، لما تمشي هكلمك أنا، وياريت متتعصبش لما أكلمك دا أحسنلك يعني.
زفر بقوةٍ ثم أغلق الهاتف يهتف بسخريةٍ:
_بركاتك يا عمهم، أهيه خناقة جاية في السكة.
تدخل “مُـحي” يهتف بنبرةٍ ضاحكة متشفيًا به:
_تصدق صح !! تستاهل علشان مش راضي تظبطني في اللي قولتلك عليه، الراجل صاحبك وأنتِ بخلان، عيل واطي.
تجاهله “سراج” وتناول ملعقة طعام بداخل فمه وما إن ابتلعها هتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا ما صدقت أبوك يرضى عني، مش عاوز أزعله مني تاني أصبر نفوق وأنا هظبطلك الحوار أجمد من اللي أنتَ عاوزه، بس متاكلش دماغي، وكل اللي قدامك بدل ما آكله أنا..
في مكانٍ أخرٍ أوقف “إيـهاب” سيارتهِ ثم أنزل زوجته بعدما ترجل من السيارة لترى هي المكان الذي أوقفها عنده وحينها رمشت ببلاهةٍ:
_متقولش إنك جايبني هنا علشان ناكل !! “إيـهاب” أنتَ بتهزر يا أخويا؟ هناكل كبدة الساعة ١٢ بليل؟.
حرك رأسه موافقًا ثم أمسك كفها وسحبها خلفه نحو الداخل وولج بها المكان ثم جلس وجلست هي مقابلةً لها بعلامات استنكارية كست وجهها بأكملهِ وكذلك علامات استفهام ظهرت عليها لكنه أزاحها حينما وُضع الطعام أمامهما معًا فنظر للساعة في يده وابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة قلما يتحدث بها:
_دلوقتي أنتِ عندك ٢٨ سنة بالظبط، كل سنة وأنتَ طيب يا عمنا، عقبال ١٠٠ كلهم في بيتي وحضني.
شهقت بتلقائيةٍ وفرغ فاهها وهي تطالعه بذهولٍ فوجدته مال عليها يهتف بثقةٍ كبرى:
_كنت متأكد إنك ناسياه ومش عارفة عيد ميلادك، بس أنا مش ناسيه وعمري ما هنساه يا “سمارة” المكان دا أول مكان ناكل مع بعض فيه بعد الخطوبة وأول مكان كلنا فيه يوم كتب كتابنا الصبح، كل سنة وأنتِ طيبة يا كُل الحبايب.
نزلت دموعها أمامه ورفعت كفها تزيلها عن عينيها فوجدته يمد يده لها بالمحارم الورقية وهتف بنبرةٍ رخيمة دافئة:
_أنا مش جايبك أنكد عليكِ، أنا جايبك أفرحك ولسه هديتك في البيت جاهزة ومستنية، كلي الأول بس، دي الكبدة اللي بتحبيها أهيه، يلا يا “سـمارة”.
رفعت عينيها نحوه وهتفت بنبرةٍ مختنقة:
_عرفت بقى ليه لما بقول ماليش غيرك بيكون معايا حق؟ علشان وربنا أنا ما أعرف أصلًا مولودة إمتى ولا أعرف أنا عندي كام سنة، بس إن جينا للحق، أنا عندي ١٠ سنين لسه علشان أول مرة أشوفك فيها كانت من ١٠ سنين ومن ساعتها بقى أتولدت من جديد على إيدك يا عمهم.
حرك كفه لكي يمسك كفها وحينما وصل إليه عانقه ثم ابتسم لها بقلة حيلة وشفقة ومازحها بقولهِ ثابتًا بعدما رسم الشك على وجههِ:
_يعني كدا بتدبسيني في عيد ميلاد تاني؟ مش لاعب ياعم.
ضحكت رغمًا عنها على مزاحهِ وسخطه الزائف فيما حرك رأسه نفيًا بيأسٍ ثم دفع الطبق لها بخفة وبدأ هو في تناول الطعام بعدما بدأت هي أولًا، كانت تأكل وهي تعلق عينيها بخاصتهِ ورغم أنها لم تتحدث إلا أنها صرخت بعينيها له تتلو عليه كلمات العشق والغزل وتسرد آلاف الروايات عن حبها له دون أي كلمةٍ واحدة ينطقها لسانها، لكن في هذه الحالة الصمت أبلغ من كل الكلام.
__________________________________
<“رابطة الدم لا تجمعنا، يكفينا رابطة القلوب”>
في صباح اليوم التالي…
كانت تجلس في غرفة المُعلمين تقوم بتحضير نفسها للمحاضرة القادمة بعدما أنهت مع الصف الرابع، وقد صدح صوت هاتفها فابتسمت “نِـهال” وأمسكت هاتفها تجاوب على المكالمة بحماسٍ وهي تقول:
_يا رب تكون رفعت راسي ومتشمتش بابا فيا، عملت إيه في الامتحان أول حاجة؟ طمني؟.
ابتسم هو بدوره وقد وصلتها ابتسامته عن طريق بهجة كلماته وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_الحمدلله أولًا يعني، بعدين اللي بكره الدراسات أوي، بس أنا قولت أطمنك الحمد لله حليت حلو بس ممكن يكون فيه غلطة صغيرة، بس مش متأكد منها، المهم أنا عاوز آكل فراخ النهاردة.
ضيقت جفونها وصبغت نبرتها التهكن المرح وهي تقول:
_والله؟ بتشتغلني يعني؟ على العموم البيت فيه أكل كتير من ساعة كتب الكتاب والنهاردة هناكل مع جدو كلنا، بكرة هعملك كل اللي نفسك فيه من عيوني يا حبيب ماما، روح يلا كمل حصصك وأنا هعدي آخدك وهجيبلك حاجة حلوة، حاجة تاني؟.
نفى هو ذلك ثم هتف بنبرةٍ هادئة قبل أن يغلق معها بهذه الجملة التي لم تفشل في النبش داخل عواطفها وإثارة مشاعرها وهو يقول:
_أنا عاوز أقولك إني بحبك يا ماما.
تردد هو أيضًا قبل أن ينطق هذه الجملة، فهذه مرته الأولى التي يجمع فيها الكلمتين معًا، الحب والأم في جملة واحدة له؟ أبعد مما كان يتخيله لكنها أتت لتعطي قلبه فرصة أخرى يقوم من خلالها بتجربة فريدة من نوعها، أما هي فأغلقت الهاتف معه بعينين ترقرق بهما الدمع وقد لفت نظرها همسات زميلاتها فرفعت عينيها نحوهن لتجد واحدة منهن تَلوي شفتيها بتهكمٍ ثم هتفت بميوعةٍ:
_حِـكم، عمرك يا مرات الأب ما هتبقي أم.
_أفــندم !!.
كلمة استنكارية تفوهت بها “نِـهال” حينما وصلتها جملة المرأة ونظرات البقية وكأنها مُجرمة تجلس وسطهن وقد سألت بنبرةٍ جامدة دون قصدٍ منها أو ربما قصدت ذلك:
_حضرتك قصدك إيه؟ بعدين بتوجهي الكلام لمين؟.
هتفت الأخرى بسخريةٍ وهي تتجاهلها عمدًا بعدما أحادت بعينيها للجهة الأخرى:
_والله يا حبيبتي اللي على راسه بطحة، بعدين أنا أفتكرت واحدة يعيني كانت معرفة دخلت واحدة تانية خربت بيتها وخدت منها بيتها وابنها، وكانت متخلفش، حكم والله، الناس دي عليها طباع غريبة، ربنا يهدي الناس.
وزعت “نِـهال” نظراتها في وجوههن ثم هتفت بلهجةٍ حادة بعدما تفاقم الغضب بداخلها عن السابق:
_حضرتك لو عندك جرأة وجهي الكلام اللي بترميه للشخص كويس، بعدين ماظنش يعني حضرتك ليكِ دخل بالناس وحياتهم، كل إنسان ليه ظروفه وحياته ومحدش شايل هم حد، ثم إن حياتي الشخصية مش فيلم تقعدي تتسايري فيه، عيب كدا، حضرتك مدرسة والمفروض تكوني قدوة، إذا كان على الجواز التاني اللي كل شوية ترمي عليه دا، أظن مفيش حاجة حرام في الموضوع، لا ربنا ولا الدين حرمها، فأنا آسفة يعني اللي متضايق، ياكل من تحت رجليه.
تركت الأخرى القلم وقبل أن تهم بالرد عليها تدخلت أخرى تفصل بينهما وهي تقول بنبرةٍ معاتبة:
_عيب يا جماعة وحدوا الله، أنتوا مش صغيرين، خلاص وحدوا الله وأنتِ يا أبلة “نِـهال” أتفضلي عندك حصة، ربنا يكرمك ويسعدك، وأنتِ يا أبلة “سـعاد” شوفي شغلك مالكيش دعوة بحد.
سحبت “نِـهال” أشيائها وخرجت من الغرفة لكنها أولًا مرت على المرحاض وجلست بداخلهِ تزرف العبرات المكتومة بداخلها، لازالت محط الأنظار من الجميع ولازالت تُلام على شيءٍ لم تقترفه يداها، ولازال المجتمع يضعها في صورة المرأة التي شابهت طير “البومة” أو بما يُعرف باللغة الدارجة “خرابة بيوت” وهي أبعد ما يكون عن ذلك،
هي كانت ولا زالت مظلومة بل أنها قُتلت وفقدت أنفاسها الأخيرة، وما تفعله الآن هي محاولة العيش من جديد، لكنها لم تضع في الحسبان أن تكون مجرد علكة تلوك بداخل الفم بين همسات الشفقة ولمزات السم الموضوع بداخل كلمات المواساة أو ربما المعاتبة مثل موقفها السابق لتوهِ…
ازداد صوت بكائها أكثر وأكثر بداخل المرحاض وهي تحاول إمساك أعصابها أو التحكم في نفسها، لكن كلما فكرت في ذلك تذكرت أن هذه نظرة المجتمع بأكملهِ وليست مجرد شخصٍ فقط.
__________________________________
<” مجرد زيارة بريئة لا تقلق عزيزي الغاضب”>
نزل صباحًا قبل أن يرى قمره النائم،
لا بأس في ذلك بالطبع سيعود للبيت ويجلس معها ويرى نفسه بداخل عينيها كما هو بصورة صغيرته وحينها سيقوم بتمشيط خصلاتها كما يحب كلاهما، وها هو هُنا منذ ما يقرب الأربع ساعات فعل فيهم الكثير والكثير، فلم يكن مجيئهِ إلى شركة “الراوي” عبثًا بل هو من خطط لكل ذلك وأول من لاقت ذلك كانت “شـهد”…
وقف أمام زجاج الشركة يطالع النيل بعينيهِ بحالة إرتخاءٍ انتهت حينما طُرق باب مكتبه وطلت منه “رهـف” بجوار “عُـدي” وقد نطقت هي باندفاعٍ تسأله عن تهوره فيما فعل:
_أنتَ متأكد إنك اللي عملته دا كان صح؟ جزا وخصم قدام الشركة كلها؟ يابني هي بتنكشك علشان تهتم بيها، لو منك كنت فكتني خالص من الحوار دا يا “يـوسف”.
زفر مُطولًا ثم التفت لهما وقال بتلذذٍ بما فعل:
_وهو أنا السبب ؟ دي رئاسة مجلس الإدارة المكونة من “عـاصم” و “مادلين” وهي السبب لأنها أهملت شغلها، أنا ماليش دعوة، بعدين خليها تمشي كدا تلاقي اسمها منور، شوية وهتيجي هنا وأوريها شغل الجنان على حق.
في هذه اللحظة طُرقَ الباب من جديد لكنه تعجب من الطرق فإذا كانت هي من المؤكد ستدلف مثل الحِمم البركانية دون سابق إنذار، لكن سكرتيرته الشخصية دلفت وهي تقول بأدبٍ:
_باشمهندس “يـوسف” مرات حضرتك برة.
تأهبت حواسه وظن نفسه في لحظة خيالية حتى عجز عن الرد لكن “عُـدي” تولى المهمة عنه وسمح بدخولها، وقد دلفت “عـهد” على استحياءٍ وهي تبتسم لهم ثم هتفت بتوترٍ من رهبة المكان بنفس لحظة خروج السكرتيرة:
_صباح الخير، جيت في وقت مش مناسب؟.
أهي هنا حقًا أم أنه يتخيلها؟ حسنًا عقله لم يمرض لهذه الدرجة حتى يراها أمامه بهذه الطريقة، بينما هي ردت على ترحيب “رهـف” وسلام “عُـدي” وركزت ببصرها عليه حتى سألها هو بحيرةٍ من تواجدها هنا:
_بتعملي إيه هنا؟ وجيتي إزاي يا “عـهد”.
ضحكت له رغمًا عنها وسألته بمزاحٍ حينما تكرر سؤاله:
_تاني !! مش حافظ غيرهم ولا إيه؟ عمومًا أنا هنا علشاني أنا مش علشانك أنتَ وجيت بـ “أوبـر” مش قضية يعني، هترحبوا بيا ولا أمشي طيب؟.
ترك موضعه وأشار لها أن تجلس على مقعد المكتب لكنها رفعت حاجبيها بسخريةٍ ثم جلست على المقعد الملتصق بالمكتب لتقول بنبرةٍ ضاحكة من صدمتهم في تواجدها:
_هو أنا معطلاكم عن حاجة طيب؟ أمشي؟.
جلس “يـوسف” محله وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_إطلاقًا، هي بس مفاجأة مش أكتر، قوليلي إيه جابك هنا لوحدك، ما كنتي جيتي معايا الصبح وخلاص أحسن ولا أنتِ غاوية بهدلة وخلاص يعني؟ تموتي في الشحططة؟.
همت أن ترد عليه وتُرضي فضوله لكن الباب فُتِحَ مثل الإعصار هذه المرة لتظهر من خلفه “شـهد” التي رفعت صوتها دون أن تنبته لمن معه:
_أنتَ مش هتبطل شغل الجنان بقى؟ إيه العبط دا؟.
تحركت الرؤوس نحوها لتصبح هي محط أنظارهم وقد تبدلت ملامح “عـهد” فور رؤيتها أمامها مُجددًا من بعد المقابلة الأخيرة وحينها ابتسمت “شـهد” وهي تقول بسخريةٍ بعدما رأت هذا التجمع الصغير:
_أيوة، قول بقى إنك عامل تشكيل عصابي، حضرتك بتهزر؟ طابع اسمي علشان واخدة جزا وخصم؟ أكيد قرار متخلف زيك بالظبط، تعالى شيل الهبل دا.
هتف “يـوسف” بثباتٍ بعدما أحاد بصره عن عيني “عـهد” التي ظلت تسأله بعينيها دون أن تتوقف وكأنها تنتظر راحتها وحيرة فضولها منه هو:
_والله إحنا شركة ديموقراطية معندناش خيار وكوسة هنا، حضرتك غلطتي وأهملتي وبتاخدي جزاتك، عارف إنك نفسك تكوني قدوة، بس معلش أديكِ بقيتي عبرة.
رفعت “شـهد” أحد حاجبيها ثم هتفت من بين أسنانها بغيظٍ لم تقوْ على احتوائهِ حينما قالت:
_مش قولتلك دا شغل جنان !! أهو بدأ يطلع على الكل أهو، خلي بالك يا مدام أحسن يطلع عليكِ بعد كدا، مع أني متأكدة إنك أكيد شوفتي جزء منه، ربنا يصبرك.
حسنًا هي من وجهت الحديث لها لذا تركت “عـهد” مقعدها ثم وقفت مقابلةً لها تنطق لها بثباتٍ أمام الثلاثة الأخرين الذين وقفوا يتابعوا الموقف بذهولٍ وعلى رأسهم “يـوسف”:
_طول عمري كنت بدعي ربنا آخد واحد أنا أول بخته وميكونش شاف واحدة غيري ولا عرف واحدة قبلي لسبب عمري ما عرفته، بس سبحان الله ربنا أراد يفهمني بطريقة تانية، وهي إني أقابل “يـوسف” اللي للأسف أنتِ أول بخته، علشان كدا أنا مش زعلانة خالص، بالعكس أنا مبسوطة أوي بيه وبنفسي معاه، وأنه يوم ما ربنا عوضه، عوضه بيا أنا، دا أولًا، ثانيًا بقى….
بترت حديثها وتركته مفتوحًا ثم قبضت على خصلات “شـهد” في قبضتها بحركةٍ خاطفة مباغتة للجميع دون أن تكون متوقعة بينما الأخرى تأوهت فجأةً وهي تضربها برمفقها تزامنًا مع صراخها بقولها:
_سيبي شعري، طلعتي مجنونة أنتِ كمان وســعي.
صرخت وهي تحاول أن تبتعد عنها بينما “عـهد” ازدادت قوة قبضتها أكثر على خصلات الأخرى وهتفت بغيظٍ منها بعدما تفاقم بداخلها أكثر من هذه الساقطة التي لم تعرف الأدب طوال حياتها:
_استني أخلص كلامي الأول، ثانيًا بقى لو جيبتي سيرته على لسانك دا تاني أقسم بالله هقطعه، أوعي تكوني فاكرة إني ساكتة أدبًا مني، لأ خالص أنا برقدلك، خافي مني بقى علشان شغل الجنان لو طلع من واحدة ست لست زيها، ههبلك بيه، سمعتي يا حلوة؟ يلا بقى.
دفعتها من يدها بعنفٍ جعلها تصرخ متأوهة على باب المكتب بنفس اللحظة التي حضر فيها “عـاصم” ومعه “سـامي” الذي أمسك زوجة ابنه فورًا قبل أن ترتطم بالأرض وكأن الغرفة أصبحت ساحة قتالٍ تضم كل أطراف الحرب ونحن في إنتظار دق الطبول وقرع الأجراس حتى تقوم الحرب..
______________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى