روايات

رواية غوثهم الفصل الثاني والثمانون 82 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثاني والثمانون 82 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثاني والثمانون

رواية غوثهم البارت الثاني والثمانون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثانية والثمانون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثاني والثمانون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
إلهي لا أراكَ لكنك تراني
فأرجوك أن تَمُن عليَّ
وترحم نفسي
الضعيفة فهي تُعاني..
لا لي ولقلبي سواكَ
ويسرني أنني برغم
بُعدي عن طريقك أنك تراني
ربي أعني على نفسي
فالظلام سكنني وعَداني..
_”غَـــوثْ”
__________________________________
رُبما يكون الكلام في عَيني مكتومًا..
لكنه لم يَكن عنكِ أنتِ أسرارًا، وأقسم لكِ أنني لم أبخل عليكِ بالكلامِ بل حاولت التحدث والبوح لكِ مرارًا، لكن توخي الحذر فمثلي سبق وتاه من نفسهِ وضاع عن دربهِ، وما إن وجدكِ أنتِ عاد من جديد لنفسهِ، وحينها خشى أن يفقدك ويخلو منكِ يومًا الدرب، أو ربما خشى تكونين أنتِ الهزيمة بالحرب، وأني لم أخشاكِ أنتِ بذاتك؛
بل دعيني أعبر بأبلغ الكلام
حينما وصف الإمام”عَلي” حبه لزوجته “فاطمة”
وقال بأدق المعاني وأفصح الكلام:
“لا خَيرَ بَعدكِ في الحيَاةِ
وَإنّمَا أَبكي مَخافةَ أن تطولَ حيَاتي.”
وها أنا أخبركِ أن العالم وإن خلا منكِ يومًا..
سوف أتأكد أنني فقدت العالم بنفسي حتمًا.
<“مُهرة أصيلة تربت وسط الخيل الشامخ”>
_سيبي شعري، طلعتي مجنونة أنتِ كمان وســعي.
صرخت بها “شـهد” وهي تحاول أن تبتعد عنها بينما “عـهد” ازدادت قوة قبضتها أكثر على خصلات الأخرى وهتفت بغيظٍ منها بعدما تفاقم بداخلها أكثر من هذه الساقطة التي لم تعرف الأدب طوال حياتها:
_استني أخلص كلامي الأول، ثانيًا بقى لو جيبتي سيرته على لسانك دا تاني أقسم بالله هقطعه، أوعي تكوني فاكرة إني ساكتة أدبًا مني، لأ خالص أنا برقدلك، خافي مني بقى علشان شغل الجنان لو طلع من واحدة ست لست زيها، ههبلك بيه، سمعتي يا حلوة؟ يلا بقى.
دفعتها من يدها بعنفٍ جعلها تصرخ متأوهة على باب المكتب بنفس اللحظة التي حضر فيها “عـاصم” ومعه “سـامي” الذي أمسك زوجة ابنه فورًا قبل أن ترتطم بالأرض وكأن الغرفة أصبحت ساحة قتالٍ تضم كل أطراف الحرب ونحن في إنتظار دق الطبول وقرع الأجراس حتى تقوم الحرب..
نظرات مُتباينة دارت في المكان بأكملهِ ما بين الاستنكار والحيرة والدهشة والنفور أو ربما البُغض وقد خرج صوت “عاصم” جامدًا يقطع هذه اللحظات بقولهِ جامدًا بعدما لاحظ بكاء “شـهد” الذي أخذ يزداد:
_إيـه اللي بيحصل هنا ؟ وفيه إيه يا “يـوسف”؟.
في هذه اللحظة أدركت “عـهد” فداحة موقفها وما فعلته باندفاعٍ غير محسوب وبتهورٍ بالغٍ تصرفت اندفاعًا خلف غيرتها على زوجها الذي لاحظ خوفها وترددها لذا قطع عليهم رؤيتها وحصنها بوقوفهِ أمامها يَردع اختراقهم لها بالنظر وهتف بنبرةٍ جامدة هو الأخر ردًا على عمهِ:
_محصلش حاجة، مالك أنتَ واللي معاك؟.
اعتدلت “شـهد” التي وقفت تستند على ذراع حماها وهتفت بنبرةٍ باكية بعدما لاحظت كذبه عليهم أو ربما أنه يخفي عنهم الحقيقة دفاعًا عن زوجته فهتفت بنبرةٍ باكية تعمدت إظهارها:
_فيه يا أنكل، مراته ضربتني ومسكتني من شعري قدامهم، لو إحنا بقى في شركة محترمة زي ما هو بيقول يبقى أكيد تصرفات الهمج دي متحصلش هنا.
أمسكت “عـهد” في قميصه تلقائيًا بخوفٍ منهم أو ربما تستمد منه العون حتى يُغيثها من هذا الموقف وكعادته رفع ذراعه يمده للخلف يدعمها فعلًا ثم تبعها قولًا حينما هتف بثباتٍ:
_أحترمي نفسك وأنتِ بتتكلمي عن مراتي، أنتِ اللي غلطتي الأول فيها ومش دلوقتي بس، لأ قبل كدا كمان لما جيتي بيتي ووقفتي قليتي أدبك قدام الكل، متحلليش لنفسك الغلط وتحرميه على غيرك، ودلوقتي برة بقى علشان دي لحظة عائلية.
تدخل “سـامي” يهتف بتهكمٍ وهو يسخر منه:
_والله !! يعني علشان “شـهد” اتكلمت ولا قالت حاجة يبقى مراتك تضربها؟ دي فعل ناس محترمة؟ وفي الشركة كمان؟ لم مراتك يا “يـوسف” وخف شوية على نفسك.
هُنا انفجر “يـوسف” فيه بغضبٍ تفاقم عن السابق وهو يصرخ بإنفعالٍ قائلًا:
_أحترم نفسك وأنتَ بتتكلم عن مراتي، ولأخر مرة تجيب سيرتها على لسانك الوسخ دا، وإذا كنت عاوز تعرف رد فعلي فأنا قولتلها اللي يبصلك بعين أفقعيله الاتنين، ها !! تحب تسمع كلامي تاني؟ برة بقى وخد مرات ابنك في إيدك.
تحركت “شـهد” حينها تفتح الباب بعنفٍ وهي تزفر الهواء خارج رئتيها إحتجاجًا على موقفه وتبعها “سـامي” بينما “عـاصم” وقف يطالعه بنظراتٍ جامدة أخترقته مثل السهام وطالع كفيها المُتشبثين بقميص زوجها الذي لفت نظره بقولهِ:
_برة وخُـد الباب في إيدك يا “عـاصم”.
تحرك حينها “عـاصم” نحو الخارج وأغلق الباب خلفه بصفعة قوية جعلت “عُـدي” يهتف بتعجبٍ من هذه العائلة:
_أنا مش فاهم فيه إيه، عيلة جاحدة والله وجبابرة، بس عاش يا “عـهد” تستاهل كل خير، من ساعة ما شوفتها وأنا مشوفتش حد بيطيقها أصلًا.
التفت لها “يـوسف” يطالعها فوجدها على مشارف البكاء وكأنها لتوها أدركت الخطأ لذا تحدث هو بنبرةٍ خَشِنة بعض الشيء:
_ معلش يا “رهـف” أنتِ و “عُـدي” عن إذنكم شوية.
فهمت الأخرى مقصده لذلك أشارت لزميلها وتركا المكتب سويًا بينما “يـوسف” أنتظر خروجهما ثم رفع كفه نحو وجنتها يتلمسها وهو يسألها باهتمامٍ جعل نبرته عميقة ودافئة:
_أنتِ كويسة؟ مالك يا “عـهد”.
ألقت نفسها عليه وبكت وهي تقول بأسفٍ بعدما حاولت الهرب منه ومن نظراتهِ وفشلت في ذلك:
_أنا ماكنش قصدي والله، بس بصراحة هي بتعصبني فوق الطاقة المعقولة، كل ما بشوفها وأفتكر إنك كنت بتحبها أو حتى في يوم من الأيام بتعاملها زي ما بتعاملني بتضايق وببقى عاوزة أموتها في أيدي وبعدها أقتلها في قلبك كأنك عمرك ما قابلتها قبل كدا يا “يـوسف”.
أبتسم رغمًا عنه ورفع ذراعيه يحاوطها بهما وهو يقول بنبرةٍ هادئة تخللها ضحكاته المرحة بسخريةٍ عليها:
_طب ماهي ماتت فعلًا، من ساعة ما شوفتك وقلبي انشغل بيكِ وعيوني حبوا عيونك وهي ماتت جوايا ومفيش غيرك يا “عـهد” لا بقى فيه حد قابلك ولا نافع يكون فيه بعدك، بس سيبك أنتِ، طلعتي مُذهلة.
زاحمت الضحكة ملامحها وأبتعدت عنه تطالع وجهه فوجدته حرك كفيه بعيدًا عنها ثم مررهما على وجها وهو يقول بنبرةٍ هادئة جعلتها تغمض جفونها بعدما أغدقها بالسلام:
_مش عاوزك تزعلي نفسك علشان اللي عملتيه رد فعل، ومش عاوزك تحسي بالذنب وأنتِ بتاخدي حقك يا “عـهد”، اتعودي يا إنك تتجاهلي يا تكوني قد الرد اللي هترديه، مينفعش تضعفي بعد ردك، فاهمة؟ دلوقتي روحي اسبقيني أنتِ على الكافتيريا وأنا هجيلك، بس صحيح جاية ليه؟.
توترت أمامه وهتفت بنبرةٍ مختنقة لازال بها أثر البكاء رغم محاولتها في صبغها بالمرح تمازحه:
_طب ممكن أقولك برة؟ ينفع؟.
ابتسم لها وأومأ موافقًا فيما ابتعدت عنه وخرجت من المكتب نحو الخارج وهو يقف يتابع أثرها بعينيهِ ثم عاد لحاسوبه أغلقه بعدما قام بحفظ ما يفعله أولًا وقد تعمد تركها بمفردها تتحرك نحو الخارج ثم تبعها نحو المكان الذي أخبرها عنه فوجدها تقف أمام النيل تتابع المكان بتعجبٍ حتى شعرت به يجاورها فابتسمت له وهتفت بنبرةٍ هادئة:
_بصراحة أنا كنت طالعة هنا أعيط، لقتني واقفة مش جايلي قلب أزعل حتى يا “يـوسف” المنظر حلو أوي، ياريت متبخلش عليا بيه لو سمحت.
حرك رأسه يسألها بصمتٍ عن مقصدها فوجدها تلتفت له وواجهته حينما رفعت ذراعيها تُهندم سترة حلته وهتفت بنبرةٍ رقيقة تمامًا كأنها تستغله أو ربما تلعب به بهذه الطريقة:
_جاية أشتغل هنا، ومن غير مرتب عادي، بس مش عاوزة أقعد، أنا مش بتاعة قعدة يا “يـوسف” بقالي ٦ سنين وأكتر كمان بشتغل وبفرك وفكرة أني أقعد مرة واحدة مرعبة، علشان خاطري خليني أشتغل، لو المكان هنا مش على مزاجك خليني أرجع العيادة هما لسه مجبوش حد غيري.
أرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه بمللٍ ثم أعادها لها من جديد يسألها بنبرةٍ جامدة بعدما شعر بالضيق من حديثها:
_ولو قولت لأ ؟؟ والأهم بقى إيه السبب؟ قولتلك خدي الفلوس اللي عاوزاها وأي حاجة تطلبيها تحضر عندك، تشتغلي ليه إذا كنتي مش في حاجة للشغل يا “عـهد”؟.
لم تيأس ولم تُبال بطريقتهِ بل ابتسمت له ومازحته بقولها بعدما استقرت بكفيها على كتفيهِ في حركةٍ جعلته يشك في أمرها:
_كل الحكاية إني عاوزة أرجع أشتغل علشان مش متقبلة قعدتي كدا، وفي نفس الوقت أنتَ رافض من خوفك عليا، فأنا قولت أجي هنا وأكون تحت عينك وبالمرة أفطرك بدل ما تيجي واحدة بجيبة قصيرة تفطرك هي، غلطت أنا يعني؟ بعدين حرام يعني تكون بتيجي هنا تشوف المنظر دا لوحدك.
ابتسم رغمًا عنه ومال على أذنها يهتف بسخريةٍ:
_مش محتاج حد يفطرني، أمي ربنا يباركلها بتقوم بالدور دا وزيادة كمان، وفري خدماتك يا عسولة، ويلا على بيتكوا.
تلاشت بسمتها وكادت أن تصرخ في وجههِ لكنه قطع عليها السبيل حينما لثم جبينها وأسكتها تمامًا ثم عاود النظر إليها داخل عينيها وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أوعدك هفكر ولو لقيت الموضوع مناسب مش هزعلك، والأول هسأل “رهـف” بس متحطيش أمل أوي يعني، أنا مش عاوز أزعلك وفي نفس الوقت مش عاوز أضحي وأخليكِ هنا، أنا لحد دلوقتي مبثقش في طرفة عين منهم.
ابتسمت له وهي تقول بإصرارٍ جعل عينيها تلمع ببريقٍ حاد وكأن الحماس سكنها أو ربما يكون ألهب حواسها:
_متقلقش، طالما هتفكر واثقة إنك مش هتزعلني، ويلا بقى نفطر مع بعض، ولا هي حماتي مزغطاك !!.
ضحك رغمًا عنه ثم أجلسها على الأرجوحة وتحرك نحو المطعم الصغير يطلب منه الطعام لها وله معها بالرغم من عدم حاجته لتناول الطعام لكن يكفيه مشاركتها في شيءٍ هكذا بكل تأكيدٍ سيقوم بفتح شهيته على وسعها وهو يشاركها طعامه وجلسته وربما عمله أيضًا.
__________________________________
<“من أرض الخيول، نشأ الرجال”>
في منطقة نزلة السمان…
كان العمل بخصوص تجارة الخيول قائمًا بإشراف “إيـهاب” الذي وقف مع المتاجرين يتابع عملية الاستيراد النهائية للخيول الصغيرة التي يعمل هو في ترويضها وتدريبها بنفسهِ وما إن تمم المقايضة ودفع النقود وأدخل الخيول مكانها، حينها وقف يراقب المكان بعينيهِ ثم عاد لداخل البيت مُجددًا فوجد “نَـعيم” في انتظاره وما إن مر أمامه سأله باهتمامٍ:
_ها !! طلعوا تمام؟.
حرك رأسه موافقًا ثم جلس مقابلًا له في ردهة البيت وهتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء يوضح له أمر الخيول بقولهِ:
_متقلقش تمام أوي كمان، وهريح شوية وأنزل بنفسي أشوفهم، بعدين قولتلك الحج “عـبود” عمره ما جاب حاجة وحشة، حاجته أصيلة متربية على الغالي، تعالى شوفهم بنفسك لو حابب كمان.
حرك رأسه نفيًا وهو يبتسم له فيما خرجت “سـمارة” تحمل الشاي بكفيها ثم وضعته أمامهما وهي تقول بنبرةٍ هادئة ووجهٍ مبتسمٍ ببشاشةٍ:
_الشاي أهو، ومعاه بسكوت حاجة كدا لحد الغدا ما يخلص حد فيكم عاوز حاجة تاني يا حج؟ تؤمر بحاجة يا سي “إيـهاب” ؟.
انتبه لها “نَـعيم” لوجهها المُشرق ولهدوء “إيـهاب” وهو يطالعها مُبتسمًا بعينيه وحينها هتف ساخرًا:
_يا سلام !! دا إيه الرضا دا كله؟ ربنا يسعدكم ويهديكم شوية وتبطلوا دوشة، وشك منور يعني يا “سمارة”.
خجلت هي من حديثه وهتفت بنبرةٍ مكتومة كأنها تُخرج الحديث رغمًا عنها من بين شفتيها:
_أصل النهاردة عيد ميلادي وأنا معرفش، بس سي “إيـهاب” مش ناسيه وطلع فاكره، علشان كدا تحسني منورة شوية.
حرك “نَـعيم” رأسه للأخر الذي أبتسم له وكأنه يُطمئنه وحينها أعاد التحدث يوجهه كلماته لها بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يسعدكم وعقبال ما أشيل عيالكم كمان، كل سنة وأنتِ طيبة يا “سـمارة” شوفي عاوزة هدية إيه وأطلبيها من أم “جنى” عليا أنا يلا، شوفي عاوزة إيه بس ليكِ مش للبيت، البيت جوزك يجيب هو، ألا هو جابلك إيه بصحيح؟.
ضحكت له وهتفت بنبرةٍ ودودة وصادقة ردًا عليه:
_جابلي الدنيا كلها لحد عندي وهو آويني ومضلل عليا في حضنه وبيته، بس الصراحة عزمني برة ولقيته جايبلي حاجة حلوة وجابلي خاتم دهب بس شيلته علشان ميضعش منه، هلبسه في المناسبات علشان شكله حلو.
حرك الأخر رأسه موافقًا ودعا لهما من جديد فيما ترك “إيـهاب” موضعه ثم جاور زوجته ووضع ذراعه على كتفها يقربها منه وهو يقول للأخر بمراوغةٍ قاصدًا بها مشاكسته:
_بقولك إيه؟ إمبارح الإحتفال كان على الضيق، عن إذنك ساعتين أحتفل وراجع تاني، لو طولت عن ساعتين أنساني النهاردة خالص يا عمنا، سلام عليكم يا كبير.
رحل بزوجتهِ التي ضحكت رغمًا عنها من المكان فيما تحدث “نَـعيم” بسخريةٍ بعدما ضرب كفيه ببعضهما:
_أنتَ مخلي فيها كبير؟! عيل عديم الرباية.
أنهى جملته وأبتسم مجددًا حينما تذكر زوجته وشرد رغمًا عنه في ذكرياته معها فهو أيضًا كان يحب ذات يومٍ وكان يتودد لزوجته كي يقترب منها ويظل معها وبعد شروده تقريبًا لمدة نصف ساعة خرج على صوت ضيفه العزيز الذي لم يكن سوى “مُـنذر” الذي هتف بشوقٍ له:
_وحشتني يا عمي.
رفع “نَـعيم” عينيه نحو مصدر الصوت وما إن رآه أمامه ترك محله فورًا وأقترب منه يضمه بين ذراعيه وهو يقول بنبرةٍ متلهفة حماسية فور رؤيته أمامه عينيه من جديد:
_وحشتني أنتَ أوي، قولتلك خليك معايا هنا، ليه تتغرب بعيد عني تاني؟ تيجي زيك زي الغريب كدا؟.
ابتسم له “مُـنذر” وهاتفه بنبرةٍ هادئة:
_صدقني مش دلوقتي بس هانت، هاجي لما ينفع أكون هنا معاك ومعايا اللي يخصك، علشان أصلح الغلط اللي حصل، أظن يعني لو أنا زي ما بتقول شبهك يبقى أكيد هتعرف إن نفسي عزيزة فوق ما تتخيل ومقبلش أبدًا إني أكون مجرد ضيف بياخد واجب مش من حقه، صح ولا إيه؟.
أبتسم له الأخر وربت على ذراعهِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة لم ينفك عنها الفخر أو الزهو بابن شقيقه الذي أخذ كل صفاته الكريمة وكأنه خيلٌ تربى على أيدي خيالهِ الأصيل:
_عارف، ويمكن اللي مخليني أتعلق بيك أكتر كل مرة إنك شبهي أوي، أكتر من الواد “مُـحي” اللي مخليني ألف حوالين نفسي، بس أرجع أقول ربنا يهديه ولسه عند وعدي هو معرفش إنك ابن عمه ولا “إسـماعيل” كمان، سايبك براحتك وبسمع كلامك أهو، عقبالك تسمع كلامي أنتَ كمان.
مال “مُـنذر” على كف عمه يُلثمه ثم هتف بصدقٍ وكأنه يتوسله أو ربما يرجوه:
_أنا مش عاوز منك غير الدعا بس، خصوصًا الأيام الجاية، وعاوزك تطمن إني مش هقصر في اللي يريحك ويفرحك، وجيت أقولك إني مسافر “بورسعيد” يومين وراجع تاني، مش عاوزك تقلق عليا، بس لسه هأكد معاد السفر.
تفرس “نَـعيم” ملامحه يقرأها وقد وجدها مُبرهنة له على تفكيره فسأله بثباتٍ يُقرر أكثر من كونه يستفسر:
_المشوار دا بخصوص ابني صح؟.
حرك رأسه موافقًا دون أن يكذب عليه وحينها تنهد “نَـعيم” وهو يقول بنبرةٍ محبطة كُليًا وكأنه تقبل الأمر الواقع:
_بلاش يابني تعب قلب على الفاضي، خلاص أنا والله رضيت وسلمت أمري لله، هيطلع عايش يعني بعد العمر دا كله؟ متتعبش نفسك خلاص، ربنا يجعل صبري على فراق الحبايب في ميزان حسناتي، بس خليك أنتَ معايا مش هبقى محروم من كله.
حرك رأسه نفيًا وهتف بإصرارٍ ردًا عليه:
_مش هتتحرم، صدقني كل دا هيتسني لما تضمه تاني في حضنك وأنا واثق إنه قريب أوي، وساعتها هقدر أرفع عيني في عينك إني حتى لو ابنه فأنا مش زيه، وحتى لو غلطت وكنت برة معاهم، فأنا مش شبههم، أنا شبهك أنتَ.
ابتسم “نَـعيم” له بعينين ترقرق بهما الدمع ثم ضمه مُجددًا يمسح على رأسه بحنوٍ جعل الأخر يشعر بالخوف لكونه مُجبرًا على فراق هذا العناق وعلى الشعور بالقسوة مُجددًا بعيدًا عنه، حسنًا لا عليك الأمر فقط عدة دقائق تمتع بها بين ذراعي عمك ثم عُـد غريبًا في أرجاء مدينتك كما تُحب أنتَ أو ربما كما اعتدت على الأمر.
__________________________________
<“كل الأماكن ترفضني، حتى مكاني نفسه”>
وصل مقر الشركة متأخرًا عن المعتاد..
بسبب سهره في الخارج طوال الليل مع أصدقائه القُدامى وما إن دلف غرفة والده وجد زوجته بها وحينها هتفت “شـهد” بسخريةٍ عليه تقصد التهكم والتقليل منه أمام والده:
_أهو لسه مشرف، الساعة داخلة على اتنين وهو جاي ولا حاسس بأي حاجة حواليه، كنت فين يا “نـادر” ؟.
قَلب عينيه بمللٍ وهتف بفتورٍ دون اكتراثٍ بها:
_كنت في داهية يا “شـهد” خير؟ عمالة تتصلي من الصبح، عاوزة إيه أنا مش فاهم بصراحة، بعدين أنا مالي ومال الشغل هنا؟ اسيبلكوا الدنيا كلها وأروح فين تاني؟.
تدخل “سـامي” يهتف بتهكمٍ ردًا عليه بنبرةٍ جامدة أو ربما صبغتها القسوة كعادة طباعه الحادة:
_أنتَ بارد يا “نـادر” وبرودك هيضيع الكُل، طب سيادتك تعرف إن مرات البيه مدت أيدها على مراتك ومسكتها من شعرها؟ أهي دي البداية أهـيه، بكرة هيمد أيده علينا كلنا وأبقى أقف ساكت برضه ساعتها ولا روح أسهر، ولا أقولك خد مركبك ولف العالم ونولع إحنا، طالما حاطط على قلبك مراوح.
رغم قسوة طريقته ورغم أن الحديث برمتهِ أثار حفيظته بسبب ضرب زوجته لكنه تجاهل والده تمامًا وحرك رأسه نحو زوجته يسألها بنبرةٍ جامدة كمن يُلقي الأمر وينتظر الطاعة:
_ضربتك ليه؟ أكيد حصل حاجة ماهي مش عبيطة تدخل تمد إيدها عليكِ كدا قدام الكل في الشركة، وبعدين أنا مش فاهم شاغلين بالكم ليه؟ هو وهدي خالص وكفاية وجوده مع عيلته، وشغله هنا تيتة اللي سابته ليه بعد موتها يعني لو كان عاوز يعمل حاجة كان عملها، لكن أنتوا اللي بتجروا ورا المشاكل، وأنا بصراحة مبقاش ليا خُلق للصداع دا كله، عاوز أعيش في هدوء شوية، تقدروا ولا صعب عليكم؟.
احتقن وجه زوجته والتفتت له بكامل جسدها لكي تواجدها أثناء جلستها مما أدى إلى وقوع الملف من جوارها نتيجة تحركها وهي تهتف فيه بصراخٍ أو هكذا بدا صوتها:
_يعني انا اللي طلعت مجنونة كمان في الأخر ؟! أنتَ مفيش عندك أي حاجة غير إنك عاوز تعيش اليوم بيومه وخلاص؟ وترجع تقولي بتتعصبي، بس مش شايف نفسك وبرودك يا “نـادر” وأنتَ مستهتر بكل حاجة، مش دا شغلكم؟ مش دي حياتك برضه؟ هتفوق إمتى؟.
حرك عينيه نحوها يطالعها بجمودٍ ثم التفت يوليهما ظهره ولازال يتجاهل والده وهو يقول بنبرةٍ جامدة يرمي بحديثه في الهدف البعيد ولا يعلم إن كان المقصد وصلها أم لا:
_بلاش أفوق علشان أنتِ أول واحدة هتزعلي، وتاني مرة اتكلمي عِدل بدل ما أعلمك تتكلمي إزاي يا “شـهد” وحاجة أخيرة كمان، بلاش تدخلي نفسك في حاجة متخصكيش، علشان مترجعيش تزعلي أنتِ، إذا كان دا شغل العيلة أو فلوسها حتى، أكيد مالكيش دخل بأي حاجة، مش هقول تاني.
فتح الباب بعد حديثه وخرج من المكتب بعدما صفع الباب بقوةٍ خلفهِ جعلت زوجته تنظر في أثره بذهولٍ، أما والده فعلم أنه على مشارف خسارة ابنه الوحيد وبالطبع المستفيد هو “يـوسف” فإذا كان عليه فعل أي شيءٍ فيتوجب عليه أن يعود لغرس الكراهية من جديد بينهما، هذا هو الحل الأمثل لكي يسترد ابنه من جديد قبل أن تنبت زهرة حبه للأخر.
__________________________________
<“لا تحزن من البشر فهم في نهاية الأمر بشر”>
كعادتها التي أصبحت تلتزم بها مؤخرًا مرت على المدرسة الخاصة بالصغير أخذته منها لكن تلك المرة عكس السابق، لم تضحك ولم تمازحه بل تحججت بألم رأسها وتعبها طوال اليوم منذ الصباح، هكذا بررت ظاهريًا لكن باطنيًا وما خفى كان مثل البركان، حتى أنها أصبحت تُشكك في نفسها وأفعالها تجاه الصغير لتشعر بالذنب يُغدقها كأنها أجرمت في حقهِ وحق أمه، من الأساس تكره الظلم والتعدي والقسوة وكل المشاعر التي تجردت منها الرحمة وتجلى عنها لين القلب، وقد لاحظ “إيـاد” حالتها وسكونها لذلك توقف عن السير معها يسألها بنبرةٍ حزينة لأجلها:
_هو أنتِ زعلانة ليه؟ حد زعلك؟.
التفتت له تطالعه بعينين دامعتين ثم حركت رأسها موافقةً رغمًا عنها فوجدته يُضيق جفونه وهو يسألها بشكِ:
_بابا !! هو اللي زعلك؟.
مسحت عينيها وسألته بصوتٍ مختنقٍ بسبب دموعها لكن التعجب صبغه حائرةً وهي تسأله عن سبب حديثه:
_ليه بتقول كدا؟ بابا ماله بزعلي؟.
حرك كتفيه بحيرةٍ جعلتها تستأنف السير معه وعاودت التحدث مُجددًا وهي تقول بنبرةٍ هادئة حتى لا تحزنه:
_لأ مش بابا وبابا مبيزعلش حد منه، بابا طيب أوي بس ناس زمايلي كل شوية يزعلوني في الشغل، وأنا مش بحب المشاكل ومش بحب كل شوية أفضل أتخانق مع حد، أنتَ لو عندك زميلك كل شوية يزعلك ويضايقك بكلامه هتعمل إيه؟.
فكر قليلًا ورفع عينيهِ للأعلى يطالعها هي وهتف بنبرةٍ هادئة صبغها بضحكة مرحة يمازحها بها:
_هقول لـ “أيـوب” هو علطول بيعرف يهديني، بس ممكن تقولي لمديرة المدرسة وهي تزعقلهم أو تعاقبهم، مش هما بيزعلوكي في الشغل؟ ولا أجي أنا أزعلهم طيب علشانك؟.
ضحكت رغمًا عنها ثم قالت بنبرةٍ هادئة بعدما تلبسها المرح:
_فكرة حلوة أبقى أعملها بس بعدما أضربهم الأول، المهم متزعلش نفسك أنتَ وكله هيكون كويس، وبعدين يعني عادي القافلة تسير والكلاب تنبح، هنوقف القافلة يعني وننزل في البرد دا؟.
برغم عدم فهمه لكلماتها إلا أنه هتف بنبرةٍ ضاحكة ردًا على حديثها المرح الذي مازحته به:
_طب يعني أنتِ بتقولي كلام حلو أهو، آه أنا مش فاهمه بصحيح بس حلو، بعدين البتاعة اللي بتسير دي لو وقفت مين هيدفع فلوس وقفتها؟ كملي يا ست الكل.
ضحكت “نِـهال” من جديد له وعادت معه إلى البيت مُجددًا لكن تلك المرة بمشاعر هدأت من ثورتها واستقرت من شتاتها فيكفيها تواجد هذا الصغير، فمهما كان الأمر نظرة المجتمع كما هي لن تتبدل، ستظل عقيمة ومُجحفة لكل إنسانٍ يخرج عن القيود، لطالما هي لم ترتكب أي خطأٍ في حق الآخرين ولم تُخالف أمور دينها فهي حقًا لم ترتكب أي شيءٍ يجعلها مُجرمة في أعين الأخرين.
__________________________________
<“ليلٌ أتى بكل خيرٍ، يحمل معه فرح الغير”>
في مقر شركة “الراوي”..
بدأت الشمس في الرحيل وظهر حينها اللون البُرتقالي في قرصها المُستدير وقد أسدلت بعض الخيوط اللامعة لتتعامد على مياه النيل لتظهر رائحة طيبة بالمكان عبارة عن مزيجٍ من دفء الشمس وبرودة المياه مع نسمات ليل دافيء بالرغم من برودة الطقس…
وقفت “عـهد” تراقب المكان بعينيها وهي تستنشق الهواء من حولها تدخله عبر رئتيها وقد أتت “رهـف” تجاورها تزامنًا مع قولها بنبرةٍ مرحة:
_أقنعته إنك ليكِ مكان هنا، أي خدمة.
التفتت لها “عـهد” تواجهها بغير تصديق وفضولٍ نطقته عيناها المتلألئة بحماسٍ فيما أضافت “رهـف” بنبرةٍ ضاحكة تثني عليها بقولها:
_والله لو مش مصدقة هو هيقولك، بس هو عنده شروط يقولها ليكِ بمعرفته أحسن، ثانيًا عاوزة أقولك إنك جامدة أوي أوي علشان اللي عملتيه الصبح، مش قادرة أقولك فرحانة إزاي باللي عملتيه وإزاي تصرفك دا ريحني وريح الكل وأولنا “يـوسف” طول عمري كان نفسي أجيبها من شعرها بس مجاتش مناسبة خالص.
ضحكت لها “عـهد” وهتفت بتواضعٍ لم يكن في محلهِ مقارنةً بما فعلت من عملٍ بطولي أمامهم صباحًا:
_أنا معملتش حاجة يعني، دا كان مجرد رد فعل للي هي عملته، وعلشان تبطل تجيب سيرته أو تفكر تغلط فيه، بعدين أنا مش فهماها بجد، إزاي تقدر تجرحه كدا وتتعبه وتكون سبب في كل الظلم دا؟ ولسه برضه عندها طاقة إنها تغلط في حقه؟ إيه اللي كان في قلبها ليه يخليها متعملش حتى علشان العِشرة اللي كانت بينهم، إنسانة مستفزة بس الغلط مش عليها، الغلط على الكبار اللي ساكتين ليها لغاية ما بقى غلطها حق مُكتسب فاكرة نفسها تقدر تتعامل بيه عادي.
ابتسمت لها “رهـف” وحركت كتفيها بقلة حيلة كأنها تخبرها بهذه الطريقة عن عدم معرفتها بالأمر فيما أتى “عُـدي” ووقف بجوارهما قائلًا بثباتٍ:
_مساء الخير، “يـوسف” بيعرفكم إننا هنتحرك دلوقتي، “رهـف” لو حابة نوصلك خليكِ وأمشي معانا بدل ما تمشي لوحدك بقى دلوقتي، قولتي إيه؟.
ردت عليه بلباقةٍ أقرب للدبلوماسية في حروفها:
_لأ متشكرة جدًا، خليكوا عيلة مع بعض عن إذنكوا ورايا حاجات مهمة هخلصها قبل ما أمشي، باي يا “عـهد”.
رحلت من أمامها فيما نظر الأخر في أثر رحيلها مبتسمًا حتى قالت “عـهد” تلفت نظره بسخريةٍ مرحة:
_جرى إيه؟ أنا واقفة هنا يا أستاذ.
عاد لها بعينيهِ وأبتسم رغمًا عنه وهو يقول بنبرةٍ عادية يواري خلفها توتؤه مما فعل ولاحظته الأخرى:
_لأ عادي يعني، هي علطول باعدة نفسها كدا عن الكل وعملية أوي فأنا بصراحة بستغربها مش أكتر، يلا بس علشان “يـوسف” بيخلص وهنروح كلنا علشان بابا مستنيني، و “قـمر” كمان مستنية تشوف “يوسف”.
بعد مرور ساعة تقريبًا..
أوقف “يـوسف” سيارته أمام البناية وترجل منها بالتزامن مع نزول “عـهد” و “عُـدي” وحينها صعدت هي أولًا حتى تُطمئن والدتها فيما مر “أيـوب” من جوراهما أثناء توجهه إلى المسجد لرفع الآذان وحينها ألقى عليهما التحية وهتف بنبرةٍ هادئة:
_يلا علشان تصلوا ولا مش ناويين؟.
انتبه له “عُـدي” وهتف بنبرةٍ ضاحكة يمازحه:
_يا عم لأ جايين أهو، وراك علطول.
دقائق أخرى مرت بعدما أنهى “أيـوب” إقامة الصلاة وقد تعمد أن يأت بـ “يـوسف” معه لكي يوطد علاقته بالمكان قبل أن يبدأ معه الطريق الذي أراد أن يسلكه حتى ينقذه من نفسه وقد ودعه “يـوسف” بعد الصلاة وعاد للبيت مُجددًا وحينها وجد “قـمر” في إنتظاره وما إن دلف لها ألقت نفسها بين ذراعيهِ وكأنها فقدته لمدة عامين وليس فقط مجرد يومين، أما هو فضمها بين ذراعيه وهتف بنبرةٍ هادئة:
_طب تصدقي إنك وحشتيني أوي؟ أوعى تكوني زعلانة مني لسه ولا متضايقة مني علشان زعقت يومها، أنا والله ماكنت بزعق ليكوا أنتوا، كنت بزعق في دماغي تسكت شوية.
أبتعدت عنه للخلف وهي تقول بوجهٍ مبتسمٍ:
_خالص، أنا أصلًا مش زعلانة منك أنتَ، أنا بحبك ولو زعلانة فأنا زعلانة علشانك وعلشان قولتلك إنك بتستغل حد ضعيف، صدقني أنا مش بحب المشاكل ونفسي حياتنا تكون هادية وأفرح بيك وأعوض اللي فاتني معاك يا “يـوسف” لو أنتَ زعلان مني عرفني علشان أراضيك، ها ؟ أراضيك؟.
سألته بمرحٍ جعله يُعانقها ثم لثم جبينها وهتف بصدقٍ:
_أنا مقدرش أزعل منك أنتِ، بعدين أنا اللي ناوي أراضيكِ، ناكل وأغير هدومي وبعدها نقعد نتعلم السُنبلة بتاعتك دي لحد ما نعملها، إيه رأيك؟.
صرخت من فرحتها وصفقت بكفيها معًا بطريقةٍ جعلته يضحك عليها ثم عاود ضمها من جديد وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة بعدما استشعر مدى براءة هذه الفتاة ونقاء قلبها:
_ياريت الدنيا كلها طيبة زي قلبك، يا بخته الواد “أيـوب” نشل عليكِ صح، بس مش خسارة فيه هو برضه طيب ويستاهل إن حد زيك يفرحه.
أبتعدت عنه تسأله بغير تصديق بعدما رفرفت بأهدابها مستنكرة حديثه:
_إيـه ؟؟ هو أنتَ خلاص بقيت بتحبه؟.
ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة يمحي بها ظنونها:
_وهو أنا عمري كرهته؟ أنا بس ماكنتش أعرفه وبحكم ظروفي كان زي النِد ليا علشان هيشاركني فيكِ، بس بعد اللي بشوفه منه دا، أنا أكيد مش هقدر أكرهه، وحتى لو بكرهه حبه ليكِ وطريقته معاكِ تخليني أحبه غصب عني.
من جديد يتسبب في فرحتها في نفس اللحظة وحينها تعلقت بذراعيها في عنقه تخبره بحبها له فيما أنهت “غالية” فرضها ثم خرجت ترحب بابنها الذي جلس على الأريكة و “قـمر” تتوسد صدره برأسها وتضم جسده بكلا ذراعيها بعدما رأت حاله تبدل عن آخر مرة صرخ فيهم وكأنه يقف أمام غُرباء المدينة يعلن عداوته لهم.
__________________________________
<“أعرفك أكثر منك، لا تقلق أيها الصغير”>
بعد مرور عدة ساعات..
وصله الخبر الذي أطلق الحُرية لفؤاده السجين أن يتحرر من قيوده التي فرضها عليه الخوف من شيءٍ مجهولٍ ربما يحرمه من سعادتهِ وحينها خرج من غرفتهِ بهدوء متوجهًا إلى مكان “نَـعيم” في الخارج وما إن وصل إليه جلس مقابلًا له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_ينفع أكلمك دلوقتي ولا عاوز تنام؟.
ابتسم “نَـعيم” له ومازحه بقولهِ:
_قال يعني الواد مش عارف مواعيد نومي، قول يا “إسماعيل” عاوز إيه، أنا لو عاوز أنام أفوقلك مخصوص.
بنفس البسمة حرك مقعده قليلًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_طب دلوقتي “عُـدي” كلمني وقالي إنه فاتح والده في موضوعي أنا وأخته ووالده قال يوم الجمعة نقدر نروح نتقدم ليها رسمي، بس أنا قولت ميصحش أنتَ متعرفش حاجة زي دي، فأعمل حسابك يوم الجمعة الساعة ٦ هنكون هناك كلنا هنروح مع بعض، تمام؟.
ضحك له “نَـعيم” وأومأ موافقًا مما جعل “إسماعيل” يقترب منه ثم لثم جبينه بامتنانٍ له كتقديرٍ له على حمايته لهم ووقوفه في ظهرهم، بينما الأخر أبتسم له وقال بنبرةٍ هادئة كما هو دومًا:
_روح يلا نام وأرتاح شوية ويوم الخميس أجازة روق نفسك وجهز حالك ولبسك، وشوف المقاطيع الباقيين عرفهم علشان يجهزوا نفسهم وييجوا، تمام كدا؟ يلا تصبح على خير يا “حوكشة”.
ضحك له “إسماعيل” ثم تركه وعاد لغرفتهِ فيما تنهد “نَـعيم” بقوةٍ ثم أخرج الهواء خارج رئتيهِ وهو يفكر في الشباب ومواقفه معهم ومواقفهم معه وكيف حظى بالحب في قلوبهم جميعًا حتى “تَـيام” الغريب عنه الذي أعتبره كبيرًا له وسط الجميع، يبدو أنه حُرِمَ من ابنه وعاش طوال عمره في عذابٍ بسبب فقده لكن المولى عوضه بحب العباد كبارًا كانوا أو صغارًا، لذا حمد ربه كثيرًا ثم استند على عصاه يتوجه نحو الداخل ليخلد إلى النوم.
__________________________________
<“لقد توصلنا إلى الحل، أين هي المشكلة الآن؟”>
كانت هذه الطبيبة المهووسة تجلس أمام حاسوبها تعمل عليه بكل اهتمامها وشغفعا حتى جاورها شقيقها قائلًا بنبرةٍ هادئة بعدما استند على سور الشُرفة وفي يده كوب الشاي الخاصة به:
_برضه؟ فضولك دا هيرميكي في ٦٠ داهية، وأنا والله ما أعرفك خلي التطفل ينفعك يا دكتورة.
زفرت بقوةٍ وتوقفت عن العمل لبرهةٍ ثم أجبرت شفتيها على التبسم وهي تقول من بين أسنانها بغيظٍ منه:
_أنا مش هرد عليك، بس لما أديك الحل أنتَ ساعتها هتقف تضربلي تعظيم سلام وتعرف إني مش بمشي عبثًا، بعدين أنا دلوقتي عندي أهم حاجة بدور فيها هي المصحة النفسية اللي “يـوسف” بيعاني منها، هساعدك تتوصل للمرض الغالب عنده وبناءً عليه هتقدر تعالجه، بس برضه لما “عـهد” تيجي هنا الأول وأخليها هي الدافع ليه، وإذا كان رافض أنه يتعالج علشان شايف العلاج ضعف أنا هخليه يعرف إن القوة كلها في علاجه يا “جـواد”.
حرك كتفيه وقلب شفتيه للأسفل بيأسٍ ثم بدل الحديث بقولهِ:
_المهم سيبك من كل دا، “يوسف” كلمني وقالي إن فيه دكتور نفسي صاحبه وواخد شهادة الدكتوراه من الجامعة البريطانية، وممكن ينزل المستشفى معانا وبصراحة لو لقيته زي ما “يـوسف” قال أنا هسلمه حاجات كتير هناك، وأركز مع العيادة هنا شوية، قولت أعرفك بما إنك أقترحتي حاجة زي دي عليا قبل كدا، قولتي إيه يا “فُـلة”؟.
تنهدت مطولًا وخلعت نظاراتها الطبية الخاصة بالقراءة وهتفت بهدوءٍ تؤيد حديثه:
_أنا شايفة إن دا حل مناسب يا “جـواد” الدكاترة هناك كلهم بيشتغلوا علشان الفلوس والماديات ودي رقم واحد عندهم، عمك منه لله كان منقي طقم كامل عبارة عن ناس استغلالية ودكاترة معندهمش ضمير، محدش فيهم مدرك حجم المسئولية عليه ومحدش عاوز يبذل شوية جُهد وطاقة عن الطبيعي، خليه ييجي يكون معانا وأظن برة موضوع الطب النفسي أوسع من هنا، الموضوع طبيعي وطرق علاجه أقوى وأوضح من هنا برضه، أنا تحمست أوي إني أشوفه.
أبتسم لها “جـواد” ثم سحب المقعد وجلس عليه مقابلًا لها وهو يراقبها مستمتعًا بما تفعل، فيبدو أن أثر حبه لهذا المجال أنعكست عليها حتى أصبحت تهوى كل في هذا المجال بأصغر تفاصيله الجُزئية والكُلية، يعلم أن كل معضلات العمل ستنتهي عندها هي، ويعلم أن المعاون الأكبر له لن يكون غيرها هي.
__________________________________
<” هنيئًا لكَ ومُبارك الفرح زار دارك”>
بعد مرور عدة أيام..
كان العمل في شقة “فـضل” على قدمٍ وساق تحضيرًا للزيارة القادمة بعد عدة ساعات، وقد شاركت “عـهد” في تزيين الشقة بطلبٍ من “ضُـحى” وحينها عاونها “يـوسف” فيما تفعل ومعهما “قـمر” أيضًا وبعد مرور نصف ساعة تقريبًا جلسوا معًا و “أسماء” وقفت أمامهم وهي تقوم بمراجعة التحضيرات ومعها “غالية” تُتمم على ما تُتليه وقد هتف “يـوسف” بسخريةٍ يقطع حديثها:
_ ما خلاص بقى أنا صدعت !! دا لسه فتح كلام، وبعدين حضرنا الغدا وحضرنا البيت وفاكهة وعصاير، وتسالي، في الخطوبة هتعملي إيه مش فاهم؟ من الصبح مرمطانا أنتِ والبت اللي عاملة فيها عروسة دي، خلصوا.
كان حديثه ساخرًا جامدًا وأعرب عن نفاذ صبره فيما هتفت “أسماء” توجه حديثها إلى أمـهِ قائلةً بحنقٍ:
_”غالية” !! حوشي إبنك بعيد عني شكله نسي العُـلَـق بتاعة زمان، بعدين استنى يالا !! فين الجاتوه الحلويات اللي طلبت منك تجيبهم؟ أوعى تكون مروحتش تجيبهم؟ أقسم بالله أفضحك قدامهم وأقولهم على حوار رمضان، فاكر؟.
اتسعت عيناه بدهشةٍ فيما ضحكت أمـهُ رغمًا عنها لتلفت الأنظار نحوها وحينها سألها “يـوسف” بغير تصديق غمرته الفرحة البالغة:
_أنتِ لسه فاكرة يا ماما؟.
حركت رأسها وهتفت بنبرةٍ صادقة محمومة بعاطفتها:
_وهو أنا عمري أنسى حاجة خاصة بيك؟ لسه فاكرة طبعًا وحظك الهباب إن “أسماء” فاكرة و “عـهد” قاعدة هنا.
رفعت “عـهد” عينيها لهم تسأل عن سبب الحديث فقالت “غَـالية” بنبرةٍ ضاحكة بعدما لاحظت فرحة ابنها بتذكرها هذه التفاصيل:
_”يـوسف” كان بيحب “شيريهان” أوي، كنا معزومين عند “فـضل” في رمضان مرة والتلفزيون كان شغال عادي على الفوازير بتاعة “شيريهان” وساعتها فضل يعاكس فيها وماكلش غير لما الفوازير خلصت، ومن دا كتير بقى طول الشهر “شيريهان” معزومة معانا على الفطار وخلى “مصطفى” الله يرحمه جابله صورتها وعلقها في أوضته.
انتشرت الضحكات عليه فيما قالت “عـهد” تمازحه أمام الجميع بنبرةٍ ضاحكة:
_طب ومشاعري طيب؟ مفكرتش فيا ساعتها؟.
ضحك رغمًا عنه وهتف بنبرةٍ متقطعة من ضحكاته:
_ماهو أنا كنت عامل حسابي أتجوز “شيريهان”.
من جديد عادت الضحكات بينهم وهتفت “قمـر” تشاكسه بقولها وهي توزع نظراتها بينه وبين “عـهد” التي ظلت مبتسمة بعينيها:
_بس شوفت؟ ربنا رزقك بيها عيونها سود، ووشها قمر، وعسولة ومذهلة وبيرفيكت، وإيـه تاني؟ كنت بتقولي عنها إنها إيه؟ أصلي نسيت معلش أنتَ بتقول عنها حاجات كتير؟.
انتبه لها وضيق جفونه فوجدها تراقص حاجبيها له وحينها صدح صوت جرس الباب فقال بسخريةٍ وهو يتحرك موجهًا الحديث لشقيقتهِ:
_أسألي أمـك وهي تقولك.
من جديد علا صوت الضحكات عليه وعلى حديثهِ فيما تحرك صوب الباب يفتحه فوجده أمامه يحمل الأشياء وهو يرمقه بغيظٍ جعله يقول بلامبالاةٍ من هذه النظرة:
_إيـه يا “أيـوب” ؟ بتبصلي كدا ليه؟.
رفع حينها الأخر صوته يَزجره بقولهِ حينما وجده يسد عنه الطريق:
_يا بني آدم وسع شوية خليني أدخل ولا خد الحاجة، دا أنتَ غريب أوي، وسع يا عم من وشي.
استمعت “قـمر” لصوتهِ فتركت محلها وركضت نحو الباب تبتسم له فيما تعلقت عيناه بها وهي تجاور شقيقها الذي وقف يراقبهما سويًا وحينها هتف “أيـوب” بتهكمٍ يوجه الحديث للأخر:
_طب أنا رحمتك من مشوار صعب، البيه هيخلي عنده دم إمتى ويشيل عني خليني أخلص؟ الجاتوه هيسيح.
خطف “يـوسف” العلبتين من بين كفيه فيما زفر الأخر مُطولًا ثم عاود رسم البسمة على وجههِ أمام “قـمر” التي هتفت بنبرةٍ هادئة تُثني عليه بسبب فعله:
_معلش تعبناك معانا، عقبال ما نتعبلك في الفرح.
أبتسم لها وقبل أن يرد عليها وجد “يـوسف” أمامه يمسك زجاجة مياه وناولها له وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أشرب مياه تلاقي الطريق عطشك، شوفت أنا حنين إزاي؟ علشان تبطل سوء ظن فيا أكني جوز أمـك كدا.
خطفها “أيـوب” من كفهِ وكاد أن يدفعه بها لكن الأخر أخفض جسده حتى لا تصيبه _إذا فعلها الأخر_ وهو يعلم استحالة حدوث هذا الشيء ثم دلف من جديد فيما أمسكت “قـمر” كف زوجها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_تعالى كدا شوف المكان جوة، تعالى.
كاد أن يعترض بسبب تواجد النساء بالداخل لكنها فهمت عليه فقالت بوجهٍ مبتسمٍ له:
_مفيش حد جوة متقلقش، ماما وخالتو و “ضُـحى” في أوضتها و “عـهد” هنا ولابسة إسدالها، تعالى بس وأمشي تاني، يلا يا “أيـوب” تعالى.
حمحم بخشونةٍ قبل أن يدلف معها ثم دلف يلقي التحية بعدما أخفض رأسه كعادتهِ وقد هتفت “غَـالية” بنبرةٍ هادئة تشكره على معاونته لهم بكل تفاني وحب:
_أنا عاوزة أقولك شكرًا إنك من الصبح طالع نازل وعمال تجيب في الكراسي والحاجة، عقبال فرحك كدا وكلنا نخدم فيه بكل حب، وربنا يسعدك وييسر أمـورك زي ما يسرتها علينا.
ابتسم لها وهو يقول بمعاتبةٍ طفيفة ودية في مشاعرها:
_برضه مصممة تخليني غريب؟ هو يعني أنتِ شكرتي “يـوسف” ولا “عُـدي”؟ ربنا يتمم بخير ويبارك في البيت وأهله ويجعل المودة والرحمة والسكن رفقاء لقلوبهم.
ابتسمت له الأخرى بحبٍ كأنه صغيرها حقًا فيما وقف “يـوسف” يبحث عن ضيقهِ أو لما لم يشعر بالغيرة من مشاعر أمه نحو الأخر؟ لما من الأساس أعتمد عليه وطلب منه المساعدة؟ حينها توقف عن الاستماع لضجيج رأسه ثم زفر بقوةٍ وحينها سألت “أسـماء” بحيرةٍ:
_هو مين اللي هييجي مع العريس؟.
انتبه لها “يـوسف” فجاوبها بنبرةٍ هادئة:
_الحج والشباب خمسة ومعاهم “سمارة” و “جـودي” كدا من هناك جاي ٧ وإحنا هنا كلنا ومعانا الحج “عبدالقادر” و “أيـوب” متقلقيش الحاجة هتكفي إن شاء الله وزيادة.
سأله “أيـوب” بتعجبٍ من حديثه وإضافة اسمه:
_هو أنا هحضر؟ مقولتليش ليه إني أنا هحضر؟.
التفت له “يـوسف” يهتف بتلقائيةٍ لم يعلم كيف أمتلكها:
_علشان أنتَ أخويا مش غريب محتـ…
بتر حديثه حينما وجد “أيـوب” يطالعه بدهشةٍ يخالطها الفرح وحينها حمحم “يـوسف” وأكمل حديثه قائلًا بثباتٍ أمام الجميع رغم حيرته من الجملة:
_مش غريب محتاج عزومة يعني يا “أيـوب”، بعدين كلهم بيحبوك وأكيد يهمهم إنك تحضر وتكون معانا هنا، خلي ربنا يبارك ليهم، عن إذنكم هروح أشوفهم كدا وأكلم خالي و “عُـدي” أشوفهم فين.
هرب من المكان فورًا قبل أن تظل النظرات تتبعه وتتعجب من قولهِ وهو من الأساس يتعجب من نفسهِ تجاه “أيـوب” يتعجب كيف تغدقه الطمأنية وكيف يتمكن منه السلام وكيف يشعر أنه مُأمن لأنه يعلم بتواجدهِ، تتملكه الحيرة مؤخرًا بسبب إنشغاله بـ “أيـوب” حتى أنه مؤخرًا أضحى يفكر زواجه من شقيقته إن كان هذا يضمن له راحته
أما “أيـوب” فابتسم رغمًا عنه بعينيهِ بعدما استمع لحديثه وتيقن حقًا أن “يـوسف” وإن لم ينطقها صراحةً فهو يعلم أنه في أشد الحاجة إليه لذا عليه أن يكون معه ويرافقه لعله يغيثه من نفسه التي تفتك به دون أن يقف هو مثل الرداع لها.
__________________________________
<“فلنراقب نجوم السماء، لعلها تصبح لنا”>
لا تعلم كيف أقنع والدها وأخوتها وخصوصًا “أيـوب” حتى تركت بيتها وذهبت معه إلى بيتهِ كما طلب هو وألح عليهم، يبدو الأمر غريبًا عليها وهي تجلس بجوار أمـه تتناول معها الغداء وهو يجلس معهما بكل سعادةٍ وكأنه ملك الدنيا بما فيها له، تشاركه “آيـات” الطعام ووالدته ترحب بها وتُثني عليها وهي بالرغم من خجلها إلا أنها حاولت الإنخراط معهما وكأنها ابنة هذا البيت..
وضع أمامها “تَـيام” الصحن الأخر وهو يأمرها بقولهِ:
_يلا، كُلي دا، يلا دا أنا حاربت علشان تيجي هنا، بالذات السوسة الكبير اللي اسمه “أيـهم” دا خلاني لفيت حوالين نفسي وفي الأخر مأقنعوش غير “بيشوي” ، كلي يلا دا أنتِ فاتحة نفسي ونفس أمـي والله.
ابتسمت له “آيـات” وأخذت منه الصحن دون أن ترد كفيه خائبين وقد صدح صوت هاتفه عاليًا برقم “بيشوي” وحينها ضغط على زر الإيجاب وهو يقول بضجرٍ منه:
_جاي في وقت مش وقتك؟ خير؟.
رد عليه الأخر بنبرةٍ ضاحكة:
_كدا؟ دي أخرتها يا ابن “نجلاء”؟ المهم قولت أعرفك إن الليلة دي يلزمني منها، أخر الليل أمـك تعبي طبق حلو كدا ليا ولأمي، إحنا معملناش أكل، مستني اللي ييجي منكم.
ضحك “تَـيام” ووافقه في الحديث فيما أخبره الأخر أنه يمزح معه ثم أغلق الهاتف بعدما حول نبرته من المزاح إلى المحبة والود فيما بينهما، وبعد مرور دقائق أخرىٰ انتهى وقت الطعام وقد عانت “آيـات” مع حماتها في رفع الطعام وتنظيف الطاولة وبعد مرور دقائق أخرى تركت الشقة توجهت مع “تَـيام” إلى الأعلى حيث سطح البيت بجوار بيت “الحـمام” الذي صنعه هو بنفسهِ.
صعدت معه “آيـات” بحماسٍ وهي تقوم بتجربة هذه الأشياء معه لمرتها الأولى حتى وصل بها إلى الأعلى وأشار على المكان قائلًا بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها:
_دا أكتر مكان بحبه وبحب أكون فيه، عارفة كمان؟ كل الحمام اللي بيطير من هنا بيرجع تاني مش بيغيب عني، وعلى فكرة دا كان السبب أني أصبر لحد ما تكوني ليا من تاني، بعدما اتخطبتي أول مرة، علشان أنتِ طير يا “آيـات”.
ابتسمت بعينيها الخجولتين له وهي تُخفض رأسها للأسفل فيما أقترب هو منها وأمسك كفيها ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_عارفة؟ أنا طول عمري كنت بحس نفسي غريب أو يمكن لوحدي زيادة عن اللزوم وكنت بحارب علشان أسافر وأمشي من هنا، كان نفسي أروح أي مكان تاني بس حاجة كانت بتشدني لهنا أوي تخليني أفضل وأنا مش فاهم سببها، أنا لو فيه حاجة مخلياني فرحان أخيرًا أو حاسس إن ليا مكان مش بطولي هو إني معاكِ هنا وأنتِ أخيرًا بقيتي ليا ومعايا لحد أخر يوم في عمري، وعلشان كدا أنت هقرفك بكل حاجة أنا بحبها.
رفعت رأسها له ثم هتفت بنبرةٍ هادئة وهي تحاول إخفاء خجلها عنه أو ربما تحاول مجاراته فيما يقول:
_مسمهوش قرف، اسمها مشاركة للحاجة اللي بتحبها، وأنا هكون مبسوطة أوي لما تشاركني يا “تَـيام”، كفاية إنك كنت قد وعدك وراعيت ربنا فيا طول شهور الخطوبة، ودوري إني أساعدك زي ما أنتَ وفيت بوعدك معايا، بس أنا عاوزة أطلب منك طلب، ينفع تعلمني إزاي أخليهم يطيروا ويرجعوا تاني؟.
حرك رأسه موافقًا ثم شبك كفه بكفها وتحرك بها نحو المكان بعدما صعد عدة دراجات من السُلم المعدني الذي صنعه هو ثم أمسك الراية البيضاء يلوح بها عاليًا ثم أطلق صفيرًا عاليًا ينادي به على الطيور البيضاء التي أنصاعت لصوتهِ وأتت تباعًا خلف بعضها لُعشها بعدما هاجرته، أما هي فَذُهِلتَ تمامًا مما حدث أمام عينيها وضحكت له بصوتٍ عالٍ وهو يطالعها بزهوٍ حينما عادت له الطيور مُجددًا وقد هتف حينها بنبرةٍ ضاحكة:
_متفتكريش دي نصاحة منهم، دي شطارة مني أنا.
من جديد ضحكت له وفهمت أنه يقصدها هي بهذا الحديث بعد عودتها له وقد مد كفه لها لتجاوره بعدما كانت بعيدة عنه بعدة خطوات وقد جاورته فعلًا ورفع كلاهما رأسه عاليًا يتابعا الطيور التي حاوطتهما معًا وكأن مظهرهم يشبه فرحة الأسير بخروجهِ إلى أرض وطنهِ مُجددًا يرفرف فيه بكل حريته.
__________________________________
<“لم نطلب الكثير، فقط نود الليل تُضيئه الضُحى”>
وقفت “ضُـحى” في غرفتها تواري نفسها خلف الستار حتى لا تظهر منه وهي تراقب قدومه، وحينها كانت سعيدة للغاية وهي ترى السيارات تصف أمام البناية الخاصة بها ليترجل منها “إسـماعيل” وأسرته كاملةً وحينها شعرت بسعادةٍ أكبر فخرًا به أمام عائلتها، كانت ترتدي فستانًا باللون الأزرق والحجاب باللون الأبيض، كانت مميزة كما هي دومًا لكنها وقفت تراقبه حتى نزل هو من السيارة يجاور شقيقه بعدما أمسك باقة الزهور الزرقاء في يده وقد فهمت لتوها لماذا أصر أن يعلم اللون الذي سترتديه..
كان هو يرتدي الحلة كاملةً باللون الأسود وكذلك القميص أيضًا وحينها أجزمت أنها أكثر المرات التي رأته فيها وسامةً، وقد وقف يجاور شقيقه الذي أبتسم له ثم دلفا البناية خلف “نَـعيم” الذي تقدمهم نحو الأعلىٰ.
في شقة “فضل” وقف “يـوسف” بجوار “عُـدي” ومعهما “أيـوب” أيضًا استقبالًا للشاب بأسرتهِ وحينما وصل المصعد لهم صدح صوت “أسماء” عاليًا تطلق الزغاريد ترحيبًا بهم في لحظة انتشرت بها الترحيبات والأصوات المُبهجة وتحيات الرجال لبعضهم وبعد مرور دقائق دلف الجميع وأغلقوا الأبواب ليبدأ الكلام الرسمي.
جلس “نَـعيم” مقابلًا لـ “عبدالقادر” و “فَـضل” وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لهما وهو يقول الدباغة المُعتادة في مثل هذه المواقف:
_طبعًا أكيد عارفين إحنا هنا ليه النهاردة، بس قبل أي حاجة “إسـماعيل” مش ابني من دمي بس يمين أتحاسب عليه قدام ربنا إنه عندي في نفس غلاوة “محمد” و “مُـحي” عيالي ومش هو بس، هو وأخوه وأي واحد من الشباب، صحيح مش من صلبي بس كلهم ولادي، وأتربوا على أيدي، وأنا مش هنا علشان أذكي عن حد، أنا بقول الحقيقة، فيشرفني أطلب أيد بنتكم الكريمة “ضُـحى” لابني الصغير “إسماعيل” ودا بعد إذنكوا.
ابتسم له “فـضل” وهتف بنبرةٍ هادئة ودودة:
_ يا حج دا شرف لينا، وكفاية إنهم تربيتك راجل ونعم الأخلاق من أيام “مصطفى” وأنا بسمع عنك، وسبحان الله تطلع أنتَ اللي معاك الغايب عننا، راعيت ربنا فيه وحافظت على الأمانة، وأنا واثق إن بنتي معاكوا في أمان، لينا الشرف.
كانت “ضُـحى” تقف خلف العامود الرخامي تتنصص على الحديث وقد أعجبها حديث والدها وهو يعبر عن حبه وفخره بهذا الرجل وتربيته للرجال، وتيقنت لما أصرت على عدم إخبار والديها بماضيه، أما الآخر فأعجبه الحديث لكن شعور الذنب لم يتركه ولم ينفك عنه، وما طمئنه هو أن “يـوسف” يعلم حقيقته ويدرك ماضيه وكذلك “عُـدي” أيضًا فبالتالي هو لم يكن خائنًا، بل هو يحافظ على ما يُمكن إنقاذه..
دارت عدة أحاديث أخرى عن عرض الزواج عقبها خروج “ضُـحى” لهم تمسك الصينية ترحيبًا بهم وقد تعلقت عيناه بها حينما خطفت نظرة خاطفة له لم ولن ينساها وكأنها تشكره في هذه اللحظة، وحينها سألها “فـضل” بنبرةٍ ضاحكة:
_المفروض نسألك دلوقتي، بس أنا عارف إنك مش هتقدري تتكلمي، “إسماعيل” طالب إيدك على سُنة الله ورسوله يا “ضُـحى”، موافقة؟.
حركت رأسها موافقةً بحركةٍ سيطر عليها الخجل المفرط وهي تعلم أن الجميع في إنتظار ردها فيما قال “إيـهاب” بنبرةٍ ضاحكة:
_على خيرة الله نقرا الفاتحة؟.
تدخل “أيـوب” يهتف بأسفٍ قبل أن يستمعوا للأخر:
_أنا آسف بس قبل لحظة الحماس دي قراءة الفاتحة في الخطبة مش مستحبة، لأن هي لم تحدث على عهد النبي ﷺ وبالتالي هي لم تكن عادة قائمة نقدر نلتزم بيها، غير كدا لا يجوز إننا نخصص سور من القرآن للحظات معينة، وبرضه مقدرش أجزم إنها بدعة أو ضلالة، لكن الأولىٰ تركها مالم ترد في كتاب الله وسنة رسوله الكريم والله تعالى جل جلاله أعلى وأعلم.
نظروا له بصمتٍ حائرين فهتف هو بنبرةٍ ضاحكة رغمًا:
_مبارك يا جماعة، بس مش هنقرأ الفاتحة.
من جديد ضحكوا وارتفع صوت الزغاريد عاليًا من النساء والفتيات معًا فيما ضحك “يـوسف” وهو يعانق “إسماعيل” قائلًا بيأسٍ من بين ضحكاته:
_تعالى يا وش الفقر، الفاتحة طلعت بدعة.
انتشرت الضحكات عليهما وساد المرح في الأجواء بينما “إسماعيل” لاحظ وقوفها على بعدٍ منهم وهي تراقبه بعينيها وكأنها تخبره عن فرحتها بالوفاء بعهدهِ فيما ابتسم هو لها على هذه اللحظة يشكرها أنه استطاع رؤية الفرح بعينيه جلية في ملامح وجهها هي، هي وفقط.
__________________________________
<“لقد اعتدنا القلق، حتى ظننا الطمأنية كارثة”
في محافظة “بورسعيد”…
وصل “مُـنذر” للعنوان المكتوب معه بخطواتٍ وئيدة جعلته يود الهرب مُجددًا، أنه أكثر المشاعر بُغضًا له وهو الإقدام نحو شيءٍ مجهولٍ لم يعلم أثره عليه، يكره نفسه وكل شيءٍ يرغمه على التنقل بهذه الطريقة بين كل البلدان بحثًا عن إنسانٍ أصله قضية وحقه الأمان.
وصل لبيتٍ قديمٍ متهالكٍ صعده بخطواتٍ أسرع من السابق وقد أخرج هاتفه ينظر في رقم الشقة واسم المرأة من جديد وقد وصل إلى الطابق الثالث وطرق بابها وحينها فتحته له إمرأة شبه مُسنة تضع على رأسها شالًا من خامة الصوف تلتحف به وحينها سألته بطيبةٍ خالفت بها ظنونه:
_أيوة يا ابني، أؤمر؟.
تخبط ما إن رآها أمامه وهتف بنبرةٍ هادئة:
_حضرتك الست “محاسن” الممرضة؟.
ابتسمت له بغلبٍ وهتفت بضحكةٍ يائسة من ذكرى عملها:
_دا أنتَ قديم أوي يا ابني، بس أنا هي، أؤمرني.
رطب شفته على عُجالةٍ وقد أرتفعت نبضات قلبه بصخبٍ أكثر ثم أخرج الحديث من جوفهِ رغمًا وعن لسانه الذي كاد أن يتوقف عن عمله ويغادره:
_أنا جاي بخصوص شغلك القديم، ممكن نتكلم شوية؟.
تخبطت هي الأخرى وأدركت أن الأمر في غاية الخطورة لكنها حركت رأسها موافقةً له وأشارت بالدخول حتى ولج خلفها بأعصابٍ تتأكل، أهذه هي محطته الأخيرة لاسترداد حقه وحق عمه المسلوب؟ لا يصدق أنه هنا حقًا وأنه وجدها على قيد الحياة بعدما خانه عقله وعاقبه بأسوأ الخيالات وفي كل مرة يزداد السوء أكثر، أما الآن فحتى هذه المرأة تبدو عليها الطيبة، وقد جلس في انتظارها حتى خرجت وخلفها زوجها المُسن الذي هتف مرحبًا به بنبرةٍ ودودة وصادقة:
_أهلًا يا بني، نورت بورسعيد كلها، أؤمر يا ابني.
وزع “مُنذر” نظراته عليهما ثم هتف بنبرةٍ هادئة ردًا على تحيتهما ثم جلس وجلس الأخران أمامه ليبدأ هو مهمة التعريف عن نفسهِ مباشرةً دون أي جدالٍ أو تزييفٍ، هو فقط أخبرهم بالحقيقة وانتظر رد المرأة التي قالت بنبرةٍ هادئة:
_شوف قبل ما تفكرني ست مش كويسة أو ست وحشة، أنا فعلًا كنت بشتغل ممرضة في القاهرة وفضلت هناك كتير بس لما جوزي تعب أوي وبقت العيشة هناك صعبة علينا رجعنا تاني، قبل ما تفتكرني بتاجر والله أنا مش كدا، أنا بس باخد العيل من ناس معندهمش رحمة ممكن يبيعوه أو يشحتوا بيه أو يشوهوه وأديـه لناس تانية تتمنى ضُفر عيل واحد، والله يابني ما عملت حاجة وحشة في عيل منهم، كلهم مخطوفين من مستشفيات ومن أهاليهم ومنهم اللي ولاد حرام، ومنهم اللي أهل جوزها رموها في الشارع بابنه وغيره وغيره، والله كل عيل من دول كنت بلحقه من وسط عالم زبالة، وابن عمك في الحفظ والصون، لسه أمـه مكلماني تدعيلي.
ازدرد لُعابه وقد جف حلقه حينها وصمت أذناه عن الحديث، لم يصدق أن الفاصل أصبح مثل الخيط الرفيع، وحينها دون أن يعي لنفسهِ ترقرق الدمع في مُقلتيه وحرك رأسه يسألها بصمتٍ عنه وكأن الحديث فَلَّ عنه مُجددًا، أما هي فانتظرت إشارة زوجها وحينها تحركت نحو الداخل وقبل أن ينطق “مُـنذر” رافضًا تحركها وجد الرجل يمسك كفه وهو يقول بوجهٍ مبتسمٍ:
_متقلقش، هتجيب عنوان الست ورقمها.
من جديد ترتفع نبضاته وتصيبه حالة خدرٍ وكأن العقل شُل تمامًا عن الحركة، لم يتوقع أن كل الأمور تسير معه بهذه الطريقة الغريبة، من المؤكد هناك فخٌ يُنصب له أو ربما سيتم طرده أو الإبلاغ عنه، لكن المرأة خالفت كل توقعاته حينما خرجت له بالورقة تمد يدها بها ثم هتفت بنبرةٍ مبحوحة:
_دا عنوانها ورقمها، هي ست بنت حلال وابنها طيب أوي وطول عمرها بتساعدني من ساعة ما خدت مني الولد، أمسك يابني وربنا يلم الشمل من تاني، والله لو أعرف أبوه كنت رُحتله، كله إلا حرقة قلب الأهل على الضنا، لو ميت أهو عارف إنه عند اللي خلقه، إنما دا سارح في الملكوت.
رفع كفه يأخذ من الورقة أو ربما الحياة التي طُوت بين ورقة صغيرة قد تتسبب في عودة الروح مُجددًا، أمسك الورقة وأغمض عينيه كمن يحصل على نتيجة الاختبار المصيري، وحينها صوته الداخلي حثه على فعلها وفتح الورقة أخيرًا ليجد بها أخر ما توقعه، وجد بها عنوانًا واسمًا بدا له مُبهمين وقد رفع رأسه للمرأة بذهولٍ يسألها بنظراتهِ، فتنفست هي بعمقٍ وهتفت بنبرةٍ مُحشرجة:
_دا عنوانها يا بني، واسمها واسم جوزها.
أعاد بصره للورقة مُجددًا يطالع العنوان الذي جمده محله وشله مُجددًا وسألها بضياعٍ كمن أختلط عليه واقعه بأحلامهِ:
_العنوان فين؟ واسمها إيه الست دي؟.
تعجبت المرأة من عدم قدرته على القراءة رغم أنه ظهر بعكس هذه الصورة وأضافت من جديد تلقي بحديثها حائرةً:
_مكتوب عندك يا بني، حارة “العطار” الست اسمها “نجلاء” وجوزها اسمه “صبري الشامي” ربنا يرحمه، وابن عمك اسمه “تَـيام”.
برق بعينيه للخارج فور وقوع الاسم بكافة بياناته عليه وحقًا أدرك أن الجهل في بعض الأحيان أرحم من معرفةٍ تتسبب في قلب الدنيا رأسًا على عقبٍ، والآن تم حل اللغز هيا بنا لنرى توابع حل اللغز، فقط كونوا على استعدادٍ معنا، فالكثير لم يأتِ بعد.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى