روايات

رواية غوثهم الفصل الثلاثون 30 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثلاثون 30 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثلاثون

رواية غوثهم البارت الثلاثون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثلاثون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الـثـلاثــون”
“يــا صـبـر أيـوب”
__________________
فَكمْ للهِ من لُطفٍ خفيٍّ….فَكمْ للهِ من لُطفٍ خفيٍّ
فَكمْ للهِ من لُطفٍ خفيٍّ….فَكمْ للهِ من لُطفٍ خفيٍّ
يذق خفاه الفم الذكي، وكم يُسرٍ أتى من بعد عُسرٍ
وكم يُسرٍ أتىٰ من بعد عُسرٍ…ففرج كُربة القلبِ الشدي
وكم أمرٍ تساء به صباحًا فتأتيك المسرةٌ من بعد العشي
إذا ضاقت بكَ الأحوال يومًا…فثق بالواحد الفرض العليِّ.
_”محمد عِمران”.
________________________________
_”رُبَ صدفة خيرٍ من ألف ميعاد”
_لكنني لم أثق فهذه المقولة وأنا كلي يقينٌ أنها لم تكن مجرد صدف بل هي تدابير من الخالق، وجودي هنا لم يكن صدفةً والالتقاء بكِ لم يكن صدفةً ورؤيتي لعينيك لم تكن مجرد صدفةٍ، بل هو التقاء مع اليسرِ من بعد عسرٍ، أو ربما لقاء الحياة من بعد الممات، أو لربما كما نجمين تحركت بهما المدارات ليصبحا سويًا يستأنس كلاهما بالأخر، أعلم أنكِ لم تثقي بي وبحديثي، لكن دعيني أخبركِ أن اليُسر في وجودك أزال كل عُسرٍ وتعثرٍ لأني وجدتكِ…ليس صُدفةً؛ بل لأنكِ اختيارٌ مؤكد.
<“كثرت الأسلحة على الماشية، نحن في انتظار الدم”>
لاحظ “أيوب” وقوف “قمر” ولاحظت “عهد” وقوف “يوسف” الذي طالعها بعتابٍ لم تفهمه وكأنه يتهمها بشيءٍ لم تقترفه هي، وقد خرج “سعد” من محله يرى هذا الوضع وقد وقع بصره عليها وهي ترتدي فستانًا باللون السماوي ناسب جمالها الرقيق، وقبل أن تخرج كلمة من فم أحدهم وصلهم صوت إمرأةٍ تصرخ بنبرةٍ عالية وهي تقول:
_يا حسرة عليك يا أخويا، سيبتنا لمراتك وبنتك ييجوا علينا من بعدك يا غالي، روح ربنا يرحمك، كدا يا “عهد” ؟؟ تتخطبي من غير عمتك وعمك ما يعرفوا ؟؟ خلاص موتينا بالحيا يا بنت “محفوظ” ؟؟ اقول عليكِ إيه ؟؟ مش كفاية دايرة على حل شعرك ومحدش قادر يلمك ؟؟ كمان ماشية بكيفك من غير ما ترجعي لكبارك ؟؟ بس نقول إيه ؟؟ أمك مين يعني ؟؟.
كانت صدمة لكل الواقفين بكافة المقاييس، عمتها تهينها وتهين والدتها أمام من ؟؟ أمام كل من تعرفهم ويعرفوها، أمام جارها المزعوم وأمام زوجها المستقبلي وأمام أسرة “العطار” النقية وأمام “سعد” الذي ابتسم بتشفٍ وهو يطالعها بخبثٍ لمحته في نظراته وقد أصبحت “عهد” كما الفأر بالمصيدة لتستمع إلى حديث عمتها من جديد تهتف بنفس الطريقة:
_حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ أنتِ وأمك اللي خدت خير أخويا ومرمط اسمه، أقول عليكم إيه ؟؟ كشفت راسي ودعيـ…..
قبل أن تسترسل أكثر في حديثه بترته ما إن وصلتها نبرةٌ عالية هدر بها “عبدالقادر” يبتر حديثها المسموم قائلًا:
_ســت “نــشـوى” !! كلمة كمان هتنطقي بيها أنا اللي هرد عليكِ وخليني ساكت أحسن بدل ما أزعلك، غوري من هنا، يــلا !!!.
أجفل جسدها من صراخه بها ومن نبرته الهادرة التي جعلتها تطالعه بخوفٍ حقيقي، فهي تخشاه والجميع يخشاه، ومن ذا الذي لا يخشى “عبدالقادر العطار”، كلمته تسير على الكبير قبل الصغير تجعله خاضعًا لأوامره ومذعنًا له وكل أموره تسير بالحق، نظرة أخرى منه جعلتها ترمق “عهد” التي وقفت بانكسارٍ أمامهم وما إن تلاقت النظرات بينهما هتفت “عهد” بوجعٍ بالغ الأثر في النفوس واتضح في نبرة صوتها:
_أمشي…. أمشي بقى أبوس إيدك ورجلك يا شيخة، أمشي وسيبيني في حالي كفاية كسر فيا بقى، ربنا ياخدني علشان ترتاحي أنتِ وأخوكِ.
صرخت فيها بوجعٍ وقهرٍ أمام الجميع فقامت “آيات” باحتضانها تربت عليها وهي تنطق البسملة بنبرةٍ خافتة، فيما تحرك “سعد” يقول بأسفٍ مصطنعٍ يزيد من التهاب النيران:
_خلاص يا ست “نشوى” ميصحش كدا برضه، الآنسة مننا وعلينا وكانت خطيبتي ودلوقتي في مقام أختي وجارتي، حتى لو فيها العِبر كلها نداري ومنقولش علشان عريسها واقف.
توجهت الأبصار نحوه فيما هتفت والدة “أسامة” وهي تسحب ابنها خلفها بنبرةٍ عالية وقد اتضح الضيق عليها:
_بلا عريس بلا هباب، يلا من هنا مش ناقصين فضايح من قلة البنات يعني ؟؟ يلا يابني أمشي معايا، جوازة الهم.
أوقفها “أسامة” بقوله مستاءًا من طريقتها:
_استني بس يا ماما، نفهم فيه إيه؟؟ “عهد” ملهاش ذنب.
التفتت له تحذره من استطراد أي كلمةٍ أخرى وهي تقول:
_مش عاوزة منك كلمة تانية، سامع ؟؟ أنا من الأول معترضة وقولتلك متفرعنة علينا وشايفة نفسها، مش عارفة على خيبة إيه، يلا مفيش كلمة زيادة، ناقصة هم هي؟؟.
تحدث “يوسف” بنبرةٍ عالية بعدما تخطته المرأة بابنها لكن حديثه كان وقحًا كعادته:
_ابقى أمسك أيد ماما كويس يا “أسامة” حاسب تتوه منها يا حبيبي، وأبقى خدها معاك الشغل تجيبلك عروسة من غير هم، يمكن تلاقي عليها كاتشب.
رفعت المرأة حاجبيها ثم التفت تقول بتهكمٍ:
_ياختي دا أصله إيه ؟؟ ربنا يتوب علينا.
رحل الشاب مع والدته لكن عيناه تثبتت على “عهد” وهي تبكي بصمتٍ بين ذراعي “آيات” وقد ارتسم القهر عليها وعلى والدتها التي احتضنت “وعد” تتمسك بها وهتفت بنبرةٍ عالية باكية تُعبر عن قهرها:
_حسبي الله ونعم الوكيل فيكم يا عيلة “عابد” ربنا ينتقم منكم يا عالم يا ظالمة، أشوف فيكِ يوم يا “نشوى”.
رحلت “نشوى” من المكان وقد لاذت حقًا بالفرار خاصةً بعد نظرة “يوسف” لها ولم تنكر أن خوفها منه تخطى الخوف من “عبدالقادر” الذي زفر مُطولًا ثم أشار لابنته قائلًا:
_أطلعي يا “آيات” يلا معاهم وشربيهم عصير وأنا هخلي أخواتك يستنوا لحد ما تيجي البيت، يلا يا حبيبتي.
حركت رأسها موافقةً ثم مدت ذراعها الأخر تمسك “مَـي” حتى دلفن البيت سويًا بينما “يوسف” تعلقت عيناه بها ولازال يعاتبها بنظراته، يسأل بعينيه وينتظر منها الجواب، أما هي فهربت من نظراته ومن اسألته الغير منطوقة ودلفت البيت مع أسرتها منكسة الرأس، بعدما كانت كما الخيل الأصيل مرفوع الرأس شامخ القوى، أصبحت ضعيفة ومكسورة تحاوطها نظرات الشفقة.
تحدث “سعد” من بعد رحيل الناس عدا “عبدالقادر” وأسرته ومعهم “بيشوي”:
_هي الدنيا كدا يا جدعان، كل ما تحاول تلمها في المداري تكبر وتكتر منك وتعمل فضايح، ما كنت موجود وكنا هنلم الدنيا دي، يا حج اقنعها توافق عليا كدا كدا ملهاش غيري والناس كلها بتتكلم، ولسه في بيت أبوها الحوار هيكبر أكتر.
تحدث “بيشوي” مندفعًا بغضبٍ مشحونٍ منذ الصباح في قلبه:
_ولا !! بطل رطرطة ورغي وأقطم لك العيال بتاعك دا، قولنا مش عاوزاك خلاص ريح شوية متاكلش دماغنا، واللي هيجيب سيرتها هنا هيلاقي بدل الواحد جيش كامل ينهشوا لحمه، متخليهاش تيجي فيك أنتَ.
لوح “سعد” بكفيه معًا يستهين به قائلًا باستهتارٍ:
_مالك يا “بيشو” ؟؟ خلاص هتفرد صدرك علينا علشان محمي في عيلة “العطار” ؟؟ الله يرحم زمان، دا أنتَ أبوك كان أهتم.
غلت الدماء في عروق “بيشوي” واندفع نحو الأخر يمسك عنقه بكفيه معًا وهو يهز جسده بعنفٍ ويسبه بألفاظٍ خارجة وقد اجتمع الناس والشباب و “يوسف” أيضًا يحاولون فصلهما عن بعضهما حتى نجح “أيهم” في هذا وصرخ في رفيقه قائلًا:
_خلاص بقى !! هتخلي عيل شمام زي دا يستفزك وتضيع نفسك عليه؟؟ سيبك منه ياعم “بيشوي” دا السيجارة لاسعة مخه، يلا يا جدعان روحوا فضناها سيرة مش فرح هي.
تحرك الجمع الذي وقف يراقب الأوضاع وفرغ الشارع عليهم، فاقترب “عبدالقادر” بهيبةٍ لا تترك شخصه ولا تنحل عنه، ثم خطف “سعد” من تلابيبه حتى بدا الخوف واضحًا عليه:
_اقسم بربي اللي ماهحلف بيه كدب لو ما حقيت نفسك ليه واتأسفتله عن غلطك في أبوه، لأكون مقطعك بأيدي دي وراميك على باب بيتكم من غير حتى مواصلات، هسحبك زي الدبيحة، يلا يالا.
حرك رأسه موافقًا وهتف بلجلجةٍ وهو يعتذر من “بيشوي” قائلًا:
_حقك عليا يا “بيشوي” أبوك كان راجل طيب.
دفعه “عبدالقادر” بيده ثم التفت ينظر لـ “يوسف” قائلًا بنبرةٍ جامدة:
_أنتَ كنت فين ؟؟ وجايب أختك دلوقتي ليه هنا؟؟.
نكست “قمر” رأسها للأسفل تهرب من النظرات الموجهة نحوها بخجلٍ من الموقف، فيما تحدث “يوسف” بثباتٍ:
_جاي أجيب حاجات من هنا، ممنوع ولا إيه ؟؟.
كان التحدي يخرج من نظراته قبل كلماته فيما اقترب “سعد” من جديد يحذر “عبدالقادر” بقوله ناصحًا له:
_بقولك إيه يا حج ؟؟ زي ما طول عمرك محرص من القريب اللي ساكن معاكم، حرص من الغريب اللي محدش يعرف عنه حاجة، أظن دي الأصول برضه.
انتبه له “يوسف” وكاد أن يرد عليه لكنه وجد “عبدالقادر” يلتفت بكامل جسده للأخر وهتف بثباتٍ يتكيء على حروفه به:
_مش دا لما يبقى غريب أصلًا ؟؟ اللي متعرفهوش أنه ابن أخويا وليه هنا زيه زي ولادي بالظبط، وشكرًا على النصيحة، روح شوف شغلك بقى.
ثبت “سعد” نظراته على “قمر” يتفحصها بوقاحةٍ وهو يحرك لسانه داخل فمه ولم ينتبه له سوى “أيوب” الذي فهم مغزى نظرته جيدًا لذا أقترب منه يهتف بنبرةٍ جامدة:
_مش الحج قالك روح شوف شغلك ؟؟ يلا غور، يلا !!.
تحرك “سعد” من المكان يدخل محل عمله فالتفت “أيوب” يهتف بنبرةٍ جامدة يوجه حديثه لـ “يوسف”:
_اتفضل خد أختك وأمشي، ولا هتفضل واقف بيها كدا؟؟
أمسك “يوسف” كفها يقبض عليه بتحكمٍ ثم نظر بتحدٍ لـ “أيوب” وكأنه يخبره أن سلطته عليها أكبر ثم تحرك بها من المكان لكن هناك ضيقٌ سيطر عليه ما إن تذكر “عهد” وأمرها وحالة الضعف التي تلبستها، فيما وقف “أيوب” يتابعهما بعينيه وهما يرحلان من المكان.
________________________________
<“لقد خذلنا القريب…فماذا بعد عن الغريب”>
وقفت تنظر في السماء من نافذة غُرفتها المُطلة على الشارع وخصلاتها مفرودة على كلا كتفيها، وملامحها الهادئة مرسومة بدقة، وجهها المستدير وأنفها الصغيرة، هدوء ملامحها الرقيقة، وعيناها التي دومًا تسكنها العبرات بسبب الحزن المُخيم فوق قلبها، شعرت بباب غُرفتها يُفتح
فمسحت بظهر كفها العبرات التي نزلت على وجنتها والتفتت خلفها تطالع والدتها التي دخلت تقول بضيقٍ من هيئتها بهذه الطريقة:
_برضه واقفة لوحدك يا “نهال” ؟؟ ماتيجي تقعدي معايا برة بدل القعدة لوحدك في أوضتك هنا.
تنهدت الأخر بثقلٍ وهتفت بنبرةٍ مبحوحة:
_تعالي أنتِ اقعدي معايا هنا يا ماما، شكلك عاوزة تقولي حاجة فقوليها علطول وأنا هسمعك أحسن ما نفضل نلف حوالين بعض.
جلست والدتها على طرف الفراش تقول بصراحةٍ وكأنها سبق وبرمجت الحديث في عقلها قبل أن تتفوه به:
_”بهاء” ابن عمك طلب إيدك تاني وبيقولك يارب تكوني فكرتي في الموضوع كويس، قولتي إيه بقى ؟؟.
قلبت عينيها بمللٍ من ذِكر سيرته أمامها ثم زفرت بيأسٍ واقتربت من والدتها تقول بنبرةٍ عالية أعربت عن انفعالها:
_قولت لأ، ولو دا أخر راجل في الدنيا يبقى لأ، هو مش عاوزني أنا، عاوز فلوس أبويا والسيطرة على محله، عاوز يحط أيده على كل حاجة علشان عارف إننا هنكبره وسط الناس، عاوزة تقنعيني أنه ميت في دباديبي؟؟.
هتفت والدتها بنبرةٍ هادئة تحاول اثنائها عن قرارها:
_طب فكري يا حبيبتي، ليه مصدرة لنفسك الصورة دي عنه؟؟ يمكن هو فعلًا لقاها فرصة من بعد انفصالك، ليه أنتِ عاوزة تتعبي نفسك بقى ؟؟ والحل سهل قصادك.
نزلت دموعها بوجعٍ وهي تقول بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_علشان أنا فاهمة تفكير كل اللي حواليا، هو عاوز “نهال” اللي مبتخلفش ومش هتلزمه بعيل، عاوز “نهال” اللي هترتاح في البيت وتديله تجارة يديرها ويبقى هو الكل في الكل، عاوز واحدة يقهر بيها خطيبته اللي سابته ويقولها أنه خد واحدة أقل منها وأنها معيوبة، بس هتعلي قيمته، عاوز يحقق انتقامه فيا، بس دا مش هيحصل، حتى لو هموت هنا في الأوضة دي لوحدي مش هيحصل، وعلى فكرة أنا ممكن اخلف بعملية بس الحيوان كان رافض، مش علشان ارضيكي أنتِ واريحك من كلام الناس أحكم على نفسي بالموت تاني، مش هيحصل يا ماما، فاهمة ؟؟.
نزلت دموع والدتها لأجل دموع ابنتها ونبرتها الموجوعة وهي تخبرها عما تشعر بها لم يكن أمامها سوى أن تقف وتعانق ابنتها تربت عليها فيما احتضنتها الأخرى وهي تبكي بنفس القهر فهي قد عانت لكثيرٍ طوال حياتها من زوجها السابق وعائلته ولم يكتفي بهذا بل تزوج عليها أخرى ليزداد قهرها منه، والآن يريد ابن عمها أن يُكمل مكان الأخر ويزيد من قهرها وهي كل ما يتوجب عليها فعله أن تبقى قوية.
________________________________
<“غارقٌ في الظلام فأين النور”>
عاد من عمله كعادته إلى بيت والده في منطقة نزلة السمان، دلف بهدوءٍ فوجد ربة المنزل تخرج من المطبخ وما إن رأته أقتربت منه تقول بنبرةٍ هادئة:
_حمدًا لله على سلامتك يا أستاذ “سراج”.
رد عليها وبحث عن الصغيرة بعينيه فجاوبته مدبرة المنزل بنبرةٍ هادئة لكن بها ضحكاتٍ خافتة:
_قاعدة في البلكونة تتفرج على الاهرامات والنجوم.
ابتسم لها ثم تحرك نحو الصغيرة يضع كفيه على عينيها فاستمع لضحكاتها المرحة وهي تجاوب عن غلطٍ مقصود جعله يحملها بين ذراعيه ويقبل وجهها هاتفًا من بين قبلاته بمرحٍ:
_وحشتيني، وحشتيني قد الدنيا كلها.
طوقت عنقه بكلا ذراعيها وهي تقول مقلدة طريقته:
_وحشتني وحشتني قد البحر كله.
سألها بوجهٍ مبتسمٍ حينما أمعن نظره في ملامحها التي تشبه ملامح شقيقته:
_قاعدة هنا بتعملي إيه؟؟ قعدي برة أحسن من القعدة لوحدك هنا، اتفرجي على التلفزيون حتى ولا العبي بموبايلك.
جاوبته بقلة حيلة وهي تقول:
_بزهق، كنت قاعدة فعلًا بس زهقت، وكنت عاوزة اسألك على حاجة كدا مهمة.
انتبه لها لكي تخبره بما تريد فوجدها تسأل بضجرٍ:
_نور هترجع إمتى ؟؟ عاوزة أشوفها علشان وحشتني وأنتَ من زمان بتقول هتيجي.
زفر مُطولًا وهتف بنبرةٍ جامدة لم يقصدها:
_خلاص يا “جودي” !! قولتلك معرفش هي فين، مش بأيدي أرجعها وعمال ادور عليها، بس هي مشيت اختارت أنها تكون بعيد عننا، وأحنا لازم ننساها، خليكِ معايا هنا وبلاش تفكري فيها، علشان هي سافرت بعيد أوي.
لمعت العبرات في عينيها ثم حركت رأسها موافقةً فاحتضنها هو وقد لمعت العبرات في عينيه هو الأخر، يبكي على فراقها بعدما أحبها بصدقٍ وأحبته هي الأخرى، كان يعتبرها وطنًا كاملًا لكنه لم يضع في الحسبان أن يرحل عنه الوطن ويصبح هو مشردًا على حدود البلدان، حالته أصبح يُرثى لها من بعدها وهو يتصنع القوة، يغرق في الظلام لكن أين النور وأين “نور” ؟؟.
_________________________________
<“يوم موعودٌ، أتىٰ للوفاء بالوعود”>
مر تقريبًا ثلاثة أيام من بعد هذا اليوم، عاد “يوسف” إلى والدته مع “قَـمر” متجاهلًا أمر “عـهـد” وقد حاول الانخراط مع العائلة بقدرٍ كافي لكي يتناسى الكسرة التي لاقتها على يدي عمتها أمامهم، هو يشعر بها ويعلم بما تفكر به، لأنه سبق ووضع مكانها حينما تعرض للانكسار على يد عائلته، وقد رأى القهر مرسومًا على نظراتها.
أغلقت “عـهد” على نفسها لمدة يومين كاملين تبكي بقهرٍ ووجعٍ، تتمنى أن يكون والدها موجودًا معها يأتي لها بحقها من الدنيا، لم تنسى قهرتها حينما ارتمت ليلتها خلف باب الغرفة تضرب وجنتيها بكفيها تعبر عن صراخ روحها، تركها ورحل خلف والدته التي اهانتها بالحديث ولم تتجرأ هي لتدافع عن نفسها، كيف هذا ومن تتهمها هي عمتها؟؟.
كان “أيوب” يحاول حل المعضلة خاصةً حينما هاتفه “أسامة” يطلب منه فرصةً أخرى للقاء “عهد” وأن يحاول هو معها لكن “أيوب” رأه متخاذلًا لذا هتف بنبرةٍ جامدة يرفض رفضًا قاطعًا:
_أسف يا أستاذ “أسامة” للأسف كان عندك فرصة ضيعتها، وأنا مش هضحي بيها وبسمعتها للمرة التانية بعدما حضرتك مدافعتش عنها، لو عملت كدا هبقى راجل ظالم، وأنا لا يمكن أظلم بنت بريئة، بالنسبة لموضوعك اعتبره انتهى لحد كدا، نفسك مش طويل كفاية.
خرج من شروده وهو يرتدي ملابسه لكي يذهب اليوم إلى خطبة “قـمر”، يومه الموعود لكي يطلبها رسميًا من شقيقها ويحدد موعد الزواج أيضًا، لذا ابتسم براحةٍ فور تذكره أمر هديتها وكم أصبحت هذه الهدية محبوبة إلى قلبه.
دلفت “آيات” بعدما ارتدت فستانًا باللون الأبيض بها زهور صغيرة باللون الوردي وارتدت الخمار بنفس اللون وما إن رأت شقيقها ضحكت بفرحةٍ وهي تقول:
_المرة دي بقى خير إن شاء الله، كلنا رايحين سوى ومتنساش إن دا خير ربنا يكرمك وييسرلك الأمور، البنت قمر أوي يا “أيوب”.
حرك رأسه موافقًا ثم هتف بنبرةٍ ضاحكة:
_هي اسم على مسمى بصراحة، اللي اختار الاسم معلم.
ضحكت على طريقته التي قلما يتحدث بها ثم اقتربت منه تقبل وجنته حتى ضمها إليه وقال بحبٍ أخوي لها:
_بكرة هنروح نجيبلك الدهب إن شاء الله، عارفة؟؟ حاسس أني فرحانلك بجد وحاسس إنك فرحانة من قلبك، ربنا يعوضك بكل خير، ويكرم “تيام” بِيكِ وفيكِ إن شاء الله.
ابتسمت له فدلف “أيهم” لهما يقول بنبرةٍ جامدة يقصد المزاح معهما:
_بقولكم إيه ؟؟ تخلصوا حوارتكم دي على السريع علشان الواد داخل على مدارس ولسه مبدأش الدروس، عاوزكم تفوقوا للواد مش تعيشوا حياتكم وتنسوه وتهملوه !!.
كان يلقي عليهما تحذيره لذا سأله “أيوب” بتعجبٍ بين طياته السخرية والتهكم حين هتف:
_وحضرتك ناوي على إيه إن شاء الله ؟؟.
أبتسم بهيامٍ وهو يقول:
_ناوي أعيش حياتي شوية بقى.
ضحكت شقيقته وضحك بعدها “أيوب” ثم خرجوا من بعدها إلى الخارج حيث وقوف “عبدالقادر” في ردهة البيت مع حفيده وما إن رأهم سويًا ابتسم لهم وقال بنبرةٍ هادئة:
_ما شاء الله ربنا يحفظكم ويبارك فيكم، يلا علشان منتأخرش؟؟ خلوا الواد يفرح شوية دا وشه منور.
كان يشير بقوله على “أيوب” الذي ابتسم له ثم تحرك نحوه يقبل رأسه وقال بامتنانٍ له:
_الفضل بعد ربنا سبحانه وتعالى ليك يا حج، ربنا يديمك لينا
ربت على رأسه وهو يبتسم له ثم شرعوا في التحرك لخارج البيت في سيارة “أيهم” الذي تولى هو أمر قيادتها وبجواره “بيشوي” يحمل “إياد” على قدمه وفي الخلف والده وأخويه، فسأل “عبدالقادر” بتعجبٍ:
_هو “تَـيام” مجاش ليه؟؟ قولتله تعالى معانا.
رد عليه “بيشوي” مفسرًا عدم وجود الأخر بقوله:
_للأسف فيه رخام خارج من المخزن وهو مسئول عنه قولتله يأجل وييجي معانا، قالي إنه في الحارة علشان بكرة أجازة، إن شاء الله نعوض في الليلة الكبيرة.
في شقة “قمر” جلست أمام المرآة بتوترٍ أكبر تحشى الوضع بأكمله، كما أن وجود “يوسف” أضاف لها الكثير من التوتر والقلق مما جعلها على وشك الاحتضار، كانت “ضحى” معها وتعاونها وتهتم بها ثم قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_بت يا “قـمـر” ؟؟ هو “أيوب” في الرؤية الشرعية بيتكلم إزاي ؟؟ بيغض بصره برضه ولا بيكون عادي ؟؟.
تنهدت “قمر” مطولًا وقالت بنفاذ صبرٍ من الأخرى:
_دا وقتك يعني ؟؟ بقولك هموت من الخوف والرعب وحاسة إن نفسي بيتقطع، تقوليلي بيكون عامل إزاي ؟؟ ألطم على وشي ؟؟.
ضحكت “ضحى” ثم اقتربت منها تضبط حجاب رأسها بعد أن بعثرته الأخرىٰ وأصبح عكس ما وضعته في باديء الأمر، وفي الخارج ارتدى “يوسف” حِلته وجلس بجوار “عدى” و “فضل” فلاحظت “أسماء” تهجم وجهه لذا سألته بتعجبٍ:
_مالك يا “يوسف” ؟؟ بقالك كام يوم كدا مش متظبط، حد جه جنبك ولا زعلك ؟؟.
انتبه لها ولم يجاوبها، أو بالأحرىٰ هو لم يعلم الجواب، هل يخبرها أن أمر جارته يشغله ؟؟ هل يخبرها أنه لم يعلم عنها أي شيءٍ حتى حينما تعمد الذهاب إلى الشقة والصعود إلى سطح البيت لم يراها وكأن العالم فرغَ منها ؟؟ لم ينس نظرتها المنكسرة قبل أن تصعد إلى البيت ولم ينس لقاءهما الثاني حينما أنقذها من “سعد” ووجدها تتشبث وهي تطلب من برجاءٍ أن يبقى هُنا ولا يرحل، لكن الآن أين هي وأين هو؟؟.
لاحظت “أسماء” طيلة صمته وأتت والدته تمسك علبة الحلوى وهي تقول بعجالةٍ على أمرها:
_امسكي دول يا “أسماء” وحطيهم في الأطباق في المطبخ علشان على ما يوصلوا تكون الحاجة جهزت، “يوسف” ؟؟ أنتَ جاهز يا حبيبي ؟؟.
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة بعدما سحب نفسًا عميقًا وبعد مرور دقائق وصلت عائلة “عبدالقادر” إلى بيت “قَـمر” ارتفعت ضربات قلب “أيوب” بصخبٍ ولم يدري لما شعر برجفة غريبة وكأن الأمر جديدٌ عليه أو لربما يراها للمرةِ الأولى، صعدوا مع بعضهم ورحب بهم “يوسف” الذي تقابل مع “أيوب” أخر فردٍ فيهم لينظر له بتحدٍ فهمه “أيوب” وعلم أن الليلة لن تسير كما ظن هو وان هذه الرجفة بسبب “يوسف” ليس إلا هذا.
جلسوا مع بعضهم وساد الترحيب بهم من قبل “فضل” وأسرته، بينما “أيوب” و “يوسف” فظل التحدي متبادلًا بينهما في خلال عينيهما، تحدث “عبدالقادر” بثباتٍ بعدما ابتسم بوقارٍ:
_طبعًا الغرض من وجودنا معروف ومن غير لف ودوران إحنا جايين طالبين ايد الآنسة “قـمـر” لأبني “أيوب” واتمنى طبعًا الحصول على موافقتكم وموافقة “يوسف” على طلبي، قولت إيه يا “يوسف” ؟؟.
تنهد “يوسف” بثقلٍ ثم وزع نظراته على الجالسين ثم بعدها نظر لـ “عبدالقادر” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا موافق ودا شرف لينا، بس أنا عندي شرط.
انتبهوا له ولجملته الأخيرة وظهر التأهب والاستعداد على الوجوه وانفعالات الجسد ليقول هو بتقريرٍ يغلفه الإصرار:
_أظن ظروفي معروفة للكل وإني لسه مجتمع بأختي، علشان كدا فيه خطوبة الأول سنتين مفيش جواز قبل كدا، أنا لسه راجع ملحقتش حتى اعرف اختي خريجة كلية إيه، يعني مش منطقي اسلمها ليكم وأنا لسه محتاج ليها.
ظهرت الحيرة على ملامح البعض والشفقة على ملامح البعض وتباينت ردود الأفعال على حديثه ليتحدث “أيـهـم” بنبرةٍ جامدة وقد اغضبه حديث “يوسف”:
_دا مش كلام ناس عاقلة خالص، دا كلام ناس بتقفل المواضيع قبل ما تبدأ، سنتين بإمارة إيه؟؟ طب خليها شهور معقولة رغم إن أخويا جاهز من كل حاجة ويقدر بكرة يعمل الفرح.
ظهرت الحيرة على ملامح “أيوب” ونظر لوالده ينجده من هذه الورطة فهو يخشىٰ أن يتهور عليه وفي الأساس يبدو أن الأخر يكرهه بشدة، لولا سلطة القلوب على المرء لكان رحل من هنا، لكنه يعلم أنه في حاجةٍ إليها، كل ما شعر به تجاهها حقيقي ولم ينكره هو، وهي أيضًا أخبرته بعينيها أن قلبها حينما صفا رأه هو من بين كل البشر.
فهم “عبدالقادر” نظرة ابنه فتحدث يؤيد الأخر بقوله مذعنًا له ولسيطرته على مجرى الأمور:
_أنا معاك في كل كلمة وحاسس بيك بس مش شايف إن سنتين خطوبة كتير خصوصًا إن “أيوب” شقته جاهزة الحمد لله ومش ناقص غير عروستنا تنورها ؟؟ ليه منحلهاش حل وسط؟؟.
انتبهوا له وخصوصًا “يوسف” الذي ثبت عينيه عليه بنظراتٍ مُتفرسة جعلت يخرج حروفه بثباتٍ قائلًا:
_ابني راجل طول عمره بتاع ربنا ودوغري، ومش أنا اللي بقول كدا دا كلام الكل، حافظ كتاب ربنا وكلام سيدنا محمد عليه افضل الصلاة والسلام، ربنا جعله سبب للناس تستشيره في أمور للدين وللحق عمره ما قصر في حاجة، فكرة إن ابني يقعد سنتين خطوبة من غير أي رابط شرعي ويبقى مضطر يحافظ على علاقته بيها، كأني بضغط على ابني وبضغط على العروسة، مش عاوز وجواز دلوقتي مقولتش حاجة دا حقك، بس مش سنتين، لحد ما الأمور تستقر معاك ولحد ما كله يكون تمام وأنا بنفسي اتطمن على أحوالك، تاني حاجة إن “أيوب” يكتب الكتاب ودا علشان يقدر يتعامل مع مراته بحرية ونعمل إشهار وبكدا يبقى أمر أنها تسيبك وتيجي تعيش عندنا دا بعدما أمورك تتظبط، قولت إيه ؟؟ أظن دا الكلام السليم واللي يهمني اسمع رأي أختك فيه، لأن هي صاحبة الشأن.
تنهد “أيوب” براحةٍ وابتسم “أيهم” و “بيشوي” بظفرٍ فيما ظهرت الحيرة على الطرف الأخر وأكثرهم كان “يوسف” الذي تصنع عكس ذلك ولم ينكر أن الحديث به جزءٍ نال إعجاب، يبدو الأمر وكأنه مراضاةٌ لكلا الطرفين، حينها تحدث “أيوب” بنبرةٍ هادئة يطمئنه بقوله:
_أنا عارف الظروف اللي حكمت عليك بالفراق والغُربة عن أهلك، ومقدرش أقلل من قيمة كلامك بالعكس أنا زيك اتحكم عليا بغربة قبل كدا عن أهلي ويوم رجوعي ليهم كنت زي اللي رجعلته روحه، بس أنا راجل ربنا كرمني ومن عليا بفضله أني أدرس كتابه وعلم الاسلام وعارف كويس أوي احتياجك لعيلتك، بس والله أنا عمري ما هحرمك من أختك سواء دلوقتي أو بعدين، أنا هكون أخ ليك وفي ضهرك ويوم ما تقولي أنا محتاجك هتلاقيني معاك، قولت إيه؟؟.
لم ينكر “يوسف” أنه نجح في طمأنته وهذا الأمر نادر الحدوث، يبدو وكأن “أيوب” يضع البساط أسفله وما إن يستقر عليه من المؤكد سيسحبه منه، ها قد عاد خوفه من جديد لذا اندفع يسألهم بأول فكرة جالت بخاطره بعد حديثهم:
_معنى الكلام دا إنها هتتحسب جوازة على أختي ؟؟ يعني لو حصل حاجة هتبقى مُطلقة رسمي بجوازة محسوبة عليها ؟؟.
تلك المرة تحدث “بيشوي” بنبرةٍ جامدة يدافع عن الأخر:
_معلش يعني وهو إيه اللي يخليه في طلاق في الموضوع ؟؟ دا كلام ناس ناوية على خراب بيوت، “أيوب” طالما شاري لا يمكن يبيع، لا دلوقتي ولا بعدين، وحد الله كدا وفكر في الكلام تاني ومتزعلش العرسان، قولت إيه؟؟.
تنهد “يوسف” بثقلٍ ونظر لـ “فضل” الذي حرك رأسه موافقًا وكذلك والدته فأجبر شفتيه على الابتسام وهتف بجمودٍ:
_عن اذنكم أشوف رأي العروسة.
تحرك من مكانه ودلف تجاه الغرفة فوجد شقيقته تركض للداخل وخلفها “ضحى” ابتسم بسخريةٍ على سذاجة تفكيرها ثم فتح الغرفة وهو يقول بنبرةٍ ساخرة:
_هعتبرك موقفتيش تتصنطي علينا وهقولك عاوزين يكتبوا كتاب لحد ما ربك يكرم وحياتنا تستقر وبعدها يبقى فيه جواز، قولتي إيه ؟؟.
سألته باندفاعٍ تغلفه اللهفة:
_يعني كدا هكون معاكم انتم الاتنين صح؟؟.
عقد حاجبيه وحرك رأسه باستنكارٍ وظهر الاستفسار على ملامحه فقالت هي تفسر سالف حديثها وهو تقول:
_يعني هكتب الكتاب واسمي مراته وفي نفس الوقت معاك هنا أختك نقضي وقت سوا، أظن دي أحسن حاجة خصوصًا إن اللي زي “أيوب” مستحيل يعمل فترة خطوبة وأنا مش هقدر على فترة خطوبة معرفش عنها أي حاجة، وافق علشان دا أفضل لينا كلنا وكفاية أني هكون معاك.
حرك رأسه موافقًا بقلة حيلة والتفت حتى يغادر الغرفة فوجدها تركض له تعانقه وتتعلق به وهي تقول بنبرةٍ أقرب للبكاء من فرط تأثرها بتواجده معها:
_أنا لحد دلوقتي حاسة أنه حلم، مش عارفة أصدق إنك جنبي في يوم زي دا ومش عارفة أصدق إنك معايا في فرحتي دي، ربنا يبارك في وجودك وتفضل معايا علطول.
لم يمنع عينيه من البكاء بل ترك دموعه تنزل ثم شدد العناق عليها يضمها إليه وهو يقول بنبرةٍ محشرجة:
_وأنا عمري ما كنت أتخيل إن ييجي يوم وأشوفك فيه من تاني وكمان أشاركك فرحتك دي، وأبقى المسئول عن القرار علشان كدا عاوز افرح بيكِ وأفرحك أنتِ كمان، وافرح “أيوب” اللي باين عليه مستني بقاله كتير.
ابتسمت له فربت على وجنتها ثم خرج من الغرفة وعاد للجلسة من جديد فوجد الترقب يسود الوجوه ولا مانع من وجود القلق فابتسم هو ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_موافق يا حج على كتب الكتاب.
لم يسمع سوى صوت التنهيدات التي أخرجتها الصدور بسبب القلق الذي خيم عليهم في غيابه بالداخل، وصوت زغرودة “أسماء” العالية ونظرة الامتنان التي طالعها به “أيوب” فتحدث “عبدالقادر” موجهًا حديثه للجميع بقوله:
_طب بما إن الجمعة الجاية كنا هنعمل الخطوبة، فاحنا إن شاء الله هنعمل كتب كتاب في المسجد وإشهار للجواز، تمام يا حج “فضل” ؟؟ تمام يا “يوسف” ؟؟.
عاد للخلف بجسده ينظر لشقيقته فوجدها تهز رأسها عدة مراتٍ بموافقةٍ فابتسم وغمز لها ثم تصنع الجدية من جديد وعاد إلى موضعه يقول بموافقةٍ:
_على بركة الله يا حج.
صدح صوت هاتف “بيشوي” في هذه اللحظة فاستأذن منهم ليجيب على الهاتف وما إن فتح الخط وصله صوت “تَـيام” يقول بنبرةٍ اتضح بها القلق والخوف:
_تعالى بسرعة يا “بيشوي”، عم “عهد” جه هنا وعمتها ومفيش حد يقفلهم ومعاهم “سعد”.
سأله “بيشوي” بنبرةٍ عالية جذبت الأنظار نحوه:
_جايين يعملوا إيه؟؟ و “عهد” فين يا “تَـيام” ؟؟.
رد عليه الأخر بحيرة لازال القلق يصاحبها:
_مش عارف بس أكيد في بيتها، تعالى علشان لو حصل حاجة متبقاش هي لوحدها، ياريت تكونوا معايا هنا أحسن.
لاحظ “يوسف” نبرة “بيشوي” المرتفعة وخصيصًا ذِكر اسمها وكذلك “أيهم” الذي أقترب منه يسأله بلهفةٍ:
_فيه إيه و”عهد” مالها ؟؟ إيه اللي حصل ؟؟.
رد عليه “بيشوي” بتيهٍ سيطر عليه وعلى حروف كلماته:
_مش عارف عم “عهد” وعمتها راحوا هناك و معاهم “سعد” الزفت، ومحدش هناك يقفلهم و”تَـيام” ميعرفش أي حاجة خالص ولا حتى هيقف قصادهم.
تحرك “يوسف” بلهفةٍ يخطو نحو الباب وهو يقول بنبرةٍ عالية يجذب بها الأنظار له:
_يلا إحنا هنقف هنا ؟؟؟ قدامي يلا.
تحرك الشباب خلف بعضهم ومعهم “أيوب” أيضًا فيما جلس “عبدالقادر” بحيرةٍ لم يفهم سبب ركضهم بهذه الطريقة ولا حتى القلق الذي أتضح عليهم، بينما البقية ساروا خلف بعضهم يركبون سيارة “أيهم” الذي قادها بسرعةٍ كبرى يشق بها الأرض من أسفل إطارات السيارة، بينما “يوسف” لم يعلم السبب تحديدًا في قلقه ولا حتى في خوفه، كل ما يعرفه أنها سبق وقالت تترجاه أثناء خوفها:
_”متمشيش”.
لذا قرر أن يذهب يتعامل هو مع من يريدون الوقوف في وجهها، ليكون هو أول من يحميها ويقف مواجهًا لهم، لطالما رأى ضعفها الذي ذكره بنفسه ورأى الانكسار واضحًا عليها لذا سيكون هناك، سيذهب إلى المكان الذي كان سببًا في التقاء دربهما ليكون لأول مرةٍ منذ أن وطأت قدماه هنا لأجلها ويعلنها صراحةٍ حتى لو لنفسه أنه هُنا لأجلها وأجل حمايتها.
شرد “يوسف” مع نفسه وهو ينظر من النافذة مفكرًا بها ولم ينتبه إلى مكان وقوفهم في حارة العطار عند بنايته التي سبق وسكنها عند مجيئه إلى هنا، نزل من السيارة بعدما انتبه لنزول الشباب ليجد الحارة مجتمعة بأكملها وفي المنتصف يقف عمها وهي بجواره تبكي بقهرٍ و أمامها “سعد” الذي كان يبتسم بسعادةٍ غريبة، لم يفهم السبب لكن ما يعرفه حقًا أنها تتعرض للقسوة على أيديهم وهذا ما أكده له مظهر “مَـي” التي حملت صغيرتها على ذراعها وكلتاهما تبكي بِحُرقةٍ.
اقترب “أيوب” أولهم يسأل بنبرةٍ جامدة وهو يوزع نظراته على الحشد وقد احتواها بعينيه يسألها باهتمامٍ:
_حصل إيه يا آنسة “عهد” ؟؟ فيه إيه ؟؟
رفعت عينيها الباكيتين نحوه ليرى دموعها تسرد له عن الظلم الذي تعرضت له ليهتف “سعد” من خلفه بنبرةٍ ضاحكة متشفية بهم:
_باركلي يا أستاذ “أيوب” الحج “وجدي” وافق على فرحي أنا و “عهد” ومش بس كدا هي نفسها موافقة وقالتها قصاد الحارة كلها، مش كدا يا “عهد” ؟؟.
انتبه “يوسف” لحديث “سعد” لذا أقترب يقف بجوار “أيوب” يتمنى أن تكذب هذا الحديث لكنها أخفضت رأسها إلى الأسفل تهرب بخزيٍ من نظراته الموجهة نحوها، ياليتها سمعت حديثه وياليتها لم توافق على “أسامة” الذي تسبب في كل هذا وياليتها هربت من هنا بشقيقتها.
اقترب “أيهم” يسألها بلهفةٍ وبداخله يتمنى تكذيب هذا الحديث:
_الكلام دا صح يا “عهد” ؟؟ وافقتي بجد؟؟
حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ مختنقة:
_آه يا أستاذ “أيهم” موافقة وبعدين عمي قرر خلاص الفرح الأسبوع الجاي، أكيد مش هرجع في كلامي.
أبتسم عمها بظفرٍ وقال باستحسانٍ لجوابها:
_شاطرة يا بنت أخويا، ربنا يكرمك ويسعدك يا حبيبتي إن شاء الله، و “سعد” راجل طيب وهيحطك في عنيه، سمعينا زغروطة يا “نشوى” !!!.
طلبها من شقيقته التي ارتفع صوتها بزغرودة عالية وهي ترمق “مَـي” بتشفٍ بها وغيظٍ منها وكذلك “وجدي” الذي نظر لزوجة أخيه يهتف بوقاحةٍ:
_إن شاء الله قريب يا قمر ربنا يعوضك خير بعد الغالي.
رمقته باشمئزازٍ فيما وقف “سعد” يُحيي الناس بكلا ذراعيه المرفوعين إلى الأعلىٰ بينما “يوسف” وقف ضائعًا، يرى نفسه من جديد بها، لكنها عكسه هو لم يستسلم للضعف لكنها استسلمت، هو لم يوافق على الذل لكنها قبلته، هو لم يخضع لأحدهم، لكنها خضعت، لما لا تحارب لأجل نفسها ؟؟.
فرغ المكان من جديد بعد المباركات والتهنئات لكلا العروسين وقد أمر “سعد” بتنزيل المشروبات للمنطقة بأكملها على حسابه الشخصي، التفتت “عهد” لكي تَلِج داخل البناية فوجدت “أيوب” و “يوسف” يندفعا نحوها وقد لكزها عمها في كتفها حتى فهمت مقصده وقالت لهما بنبرةٍ مبحوحة:
_لو سمحتوا يا أساتذة، إحنا عيلة وطالعين نتكلم سوا، ياريت بلاش تدخل من حضراتكم وشكرًا على مواقفكم.
حاول “يوسف” أن يتدخل في الموضوع لكن “أيوب” منعه بكفه ثم هتف بنبرةٍ خافتة:
_حقكم يا آنسة، مبارك الجواز وربنا يتمم بخير.
حركت رأسها موافقةً ثم صعدت مع عائلتها بينما الشباب التفوا لـ “سعد” الذي وقف مبتسمًا بسماجةٍ وهو يراقب ملامحهم المتهجمة ليعلنها صراحةً أنه فاز عليهم وربحها من بينهم جميعًا، لكن “يوسف” رمقه بمقتٍ وبصق عليها وتبع فعلته بقوله:
_اتفو عليك وعلى صنفك كله.
مسح “سعد” وجهه وقال باستفزازٍ:
_الله يبارك فيك يا حبيبي، مستنيك علشان تكمل بيك.
رحل الشباب مرةً أخرى بينما “سعد” وقف أسفل البناية يبتسم بخبثٍ وقد هتف لنفسه بوقاحةٍ متذكرًا تفاصيلها الدقيقة:
_طير جارح بصحيح بس جامدة بنت الإيه.
_______________________________
<“طلب الوصال فوصله التعال ممن تسوق الدلال”>
في منطقة نزلة السمان ذهب “إيهاب” إلى عدة مشاويرٍ أخرىٰ بعد رحيله من البيت ومحاولته في مصالحة زوجته، ثم عاد من جديد إلى البيت فوجد “نَـعيم” جالسًا برفقة “إسماعيل” و “مُـحي”، جلس وسطهم فتحدث “نَـعيم” بنبرةٍ ضاحكة يمازحه قائلًا:
_ازيك يا “وغدًا” ؟؟ تصدق جامدة وكيفتني.
ضحك “مُـحي” من جديد وابتسم “إسماعيل” بسخريةٍ فيما ليتحدث “إيهاب” بقلة حيلة قائلًا:
_زعلها وحش أوي، قلبت عليا قلبة زي القرش البراني، بس وماله أنا نفسي طويل معاها.
تحدث “مُـحي” بنبرةٍ ضاحكة يقول:
_الوزة قلبت طير جارح يا معلم.
نظر له “إيهاب” وضحك رغمًا عنه ثم وقف وهو يقول بصوتٍ منهكٍ:
_طب يا عم إبراهيم الأبيض هروح أنام علشان مش قادر وجسمي مكسر، يلا اشوفكم بكرة الصبح، وابقوا قولولها الوغد بيقولك تصبحي على خير.
تحرك من مكانه بعد وصوله صوت ضحكاتهم عليه وعلى سخريته ليتحرك هو لبنايته ومنها إلى داخل شقته، فوجدها على عكس ماتركها صباحًا، حيث كانت نظيفة ومرتبة وكل شيءٍ كما كان بالسابق، علم أنها أتت إلى هنا ترتب المكان، لكنه لم يضع بالحسبان أنها لازالت هُنا، حيث وجدها تخرج من الداخل تسأله بحيرةٍ:
_اتأخرت ليه يا سي “إيـهاب” ؟؟.
نظر لها بدهشةٍ وخاصةً بسبب طريقتها لكنها اقتربت منه تقول بمعاتبةٍ:
_كدا تتأخر برة وأنا مستنياك علشان تاكل، دي مش أخلاق ناس واعية بصراحة يعني.
سألها ساخرًا بعدما خلع سترته يلقيها على يد المقعد:
_أومال إيه بقى ؟؟ أخلاق إيه؟؟
ضحكت بمرحٍ وهي تقول بما يشبه حديثها السابق:
_أخلاق أوغاد ربنا يعافينا.
همت بالركض بعد جملتها فوجدته يمسكها من ذراعها وهو يقول بنبرةٍ هادئة ويتابع عمق عينيها:
_طب ما أنا وغد هو أنتِ بتكدبي يعني؟؟ وغد علشان زعلتك مني وعلشان حرمت نفسي من سي “إيهاب”.
ضحكت على طريقته وحاولت أن تهرب من براثنه وشباكه التي اوقعها بها كما فريسة سهلة الصيد، لكن كان الأقوى في التشبث بها حينما هتف بنبرةٍ جامدة يأمرها:
_اثبتي !! اقفي عدل مش عاوز حركة، فاهمة؟؟
همت أن تعانده من جديد فوجدته يمسك كفيها بين كفيه هاتفًا بنبرةٍ رخيمة صادقة وهو يتشرب كل إنشٍ في ملامحها بسبب شوقه لها:
_أنا أسف، مش دي الكلمة اللي هتريحك وتخليكي تفضلي هنا..؟؟ بقولها أهو علشان أطمنك وأنا فعلًا غلطت، وغلطت لما لمست واحدة تانية غيرك وأنا مينفعش أعمل كدا، أنا بحبك بجد وعارف إنك عاوزة حد يطمنك كل شوية بس أنا مش بتاع كلام والله، أنا راجل بتاع أفعال، اقدر اطمنك بس معرفش اقولها، أفضل جنبك بس مقدرش انطقها، صدقيني أنا مش وحش، بس أنا واحد شارب قسوة لما قال يا بَس، مشوفتش حاجة حنينة غيرك عليا، خليكِ هنا ولو عاوزاني أنا أنزل أنا موافق بس متـ…..
احتضنته بلهفةٍ بعد حديثه وهي تقول بتأثرٍ له:
_أنا مش همشي، هفضل هنا وأنتَ معايا، علشان مش عارفة اتنيل في حتة تانية غير هنا، هسيبك تتهنى بالشقة يعني لوحدك، عمال تكركب يمين وشمال، دا بعينك.
ابتسم بيأسٍ على حديثها ثم رفع ذراعيه يضمها إليه وهو يقول بخبثٍ:
_طب ما تيجي أقولك وحشتيني قد إيه علشان شكلك هطلة.
ضحكت بدلالٍ وهي تقول:
_بس يا سي “إيهاب” أنا لسه مش مسمحاك فيه حتة جوايا كدا عاوزة ترقع في وشك مليون صوت، بس أنا خرساها.
سحبها خلفه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_تعالي بس ناكل ونسكت الحتة دي سوى مع بعضنا، يلا.
تحركت معه وهي تضحك رغمًا عنه، يكفيها تشبثه بها ويكفيها أنها تراه ساعيًا في البحث عن حقها ويكفيها أنه يبذل قصارى جهده لأجلها وفي الحقيقة هي لم ترى في حياتها شخصًا فعل نصف ما فعله هو لأجلها وتبقى قمة الغباء إذا خسرته وخسرت حبه لها.
________________________________
<“لم يتوقف الزمان، بل يسير عكس هوانا”>
لم تتوقف الأيام قط ولم تكف عقارب الساعة عن السَيْر بل تُكمل طريقها كما هي دون الالتفات لمن يعرقل طريقها أو يزيد العثرات في دربها، مر من الزمان بعد هذا اليوم أسبوعٌ كامل العدد، من الخميس حتى الجمعة التالية، لم تكن أيام هادئة كما يظن البعض ولا حتى أيام مشغولة كما يزعم البعض، هي أيام ومرت تحمل معها الكثير وربما اليوم قد أتىٰ بالكثير أيضًا.
اليوم هو المحدد لعقد قران “قمر” وخطبة “آيات” عروسين بظروفٍ مختلفة وأشخاصٍ مختلفة وأماكن نفسها مختلفة، بدا القرار وكأنه وليد الصدف وكأنه ظهر بين ليلةٍ وضحاها لم يتم الإعلان عنه، حتى أن الناس ذات نفسها لم تفهم شيئًا سوى أن بيت “عبدالقادر العطار” يشهد حفلًا عظيمًا اليوم بعقد قران ابنه الصغير، ونظرًا لحب الحارة له ولابنائه انتشرت البهجة بالمكان.
جلس “سعد” يتابع حركة الناس في الحارة والشباب الذين يذهبون إلى الحارة ويعودون فسأل بتعجبٍ:
_هو فيه إيه يا جدعان ؟؟ الحارة حالها اتقلب ليه؟؟.
انتبه له عامل المقهى وقال بنبرةٍ ضاحكة:
_عقبالك يا غالي، “أيوب” ابن “العطار” كتب كتابه الليلة وخطوبة “آيات” بنته.
أبتسم “سعد” بسخريةٍ وقبل أن يرد عليه بمباركةٍ ساخرة أتى “يوسف” له من حيث لا يدري وهو يقول بابتسامةٍ سخيفة:
_مفيش مبروك يا “سعد” ؟؟ مش النهاردة كتب كتابي على “عهد” ؟؟.
وقف “سعد” يقول بنبرةٍ عالية أقرب للصراخ:
_بتقول مين ؟؟ أنتَ مجنون يا جدع أنتَ؟؟..
حرك رأسه نفيًا وهتف بنفس الاستفزاز:
_كدا ؟؟ وأنا اللي كنت جاي عاوزك شاهد معايا، بس خلاص هعتبرك شاهد ملك، قولت إيه يا سِعدة؟؟.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى