روايات

رواية غوثهم الفصل الثالث والأربعون 43 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثالث والأربعون 43 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثالث والأربعون

رواية غوثهم البارت الثالث والأربعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثالثة والأربعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث والأربعون”
“يــا صـبـر أيـوب”
___________________
_أبحثُ عن نفسي وكأني فقدتني
وحينما وجدتُ الطريق في دربكَ وجدتني
إلهي أتيتُكَ مغلوبًا من دربٍ معتمٍ أناجيكَ
وبرحمتك الواسعة رأفتُ بي وبرغم
أني عاصيك سمعتني
أعلم أني برغم قوتي في رحابك ضئيلًا
لكني حينما أتيتُ إليكَ كرمتني.
ولسؤالي سمعت فازدهر قلبي من جديد
حينما تقبلتني.
_”غَـــوثْ”.
__________________________________
الدرب مُعتمٌ والطَريقُ صَعبٌ والخوفُ يُرافقني،
وأنا وحدي مستوحشٌ بدونِ أنيسٍ،
حتى نومي لم يكن هادئًا بل ترافقه الكوابيس،
لكن ربما يأتي الغَد المُشرق بشموسٍ تُزيل العتمة من دربي، وينكشف ظلكَ لأنعم بقربك في يومٍ صافٍ وتصبح القلوب فيهِ خِلانًا، أما أنتَ ؟
فَـأنتَ في قربك أنا وقلبي وجدنا الغاية ذاتها وهي الأمان،
أنتَ وإن كل الأناس رحلوا ففي وجودك كل الخِلان
أنا يا أنيس رَوحي مَن أتيتُك بعد الُغربةِ
وكأنني بإيجادك عرفتُ لكل السُبلِ..عنوان.
<“لا خير في جَبانٍ يخشى أخذ الحق”>
بعد مرور عدة ساعات أسدل بها الليل ستائره وبدأ في الناس في الخلود للنومِ بعدما أتى وقت الراحة لتبدأ رحلة جديدة في يومٍ جديدٍ بعد انقضاء الليل، وخاصةً في مكانٍ شبه مجهول لم تظهر معالمه حتى الآن وصله بخطواتٍ هادئة ومنها إلى بيتٍ متهالكٍ وتحديدًا إلى الوجهة التي حددها قبل نزوله.
كان الأخر يتسطح الفراش في شقته بمفرده بدون زوجته التي تبيت ليلها في غرفةٍ أخرى لذا نام بدون أن يحمل في ذهنه عبء التفكير أو حتى القلق من أي شيءٍ حتى تمطع بجسده على الفراش وتقلب للجهة الأخرى وبعد مرور ثوانٍ أخرى شعر بشيءٍ معدني يُلامس عنقه، فمسح محلما شعر باللمسة، لتظهر مرةً أخرى فكرر نفس الفعل وفتح عينيه على مضضٍ ليتفاجأ بـ “يوسف” جالسًا على المقعد بجوار الفراش في وضعٍ يعاكس طبيعة المقعد وحينما اعتدل “وجدي” في الفراش بخوفٍ وفتح المصباح المجاور له ابتسم “يوسف” بسخريةٍ وهتف باستهتارٍ:
_براحتك خالص، أنا هنا ليا مهمة هخلصها وأمشي تاني.
هتف “وجدي” باستهجانٍ شديد لتواجده وحديثه:
_أنتَ بتعمل هنا إيه ؟؟ مش خِلصنا ؟؟ وخدت حقها؟
حرك رأسه نفيًا ثم هجم عليه يضع مَديته على عُنق “وجدي” وهو يقول بنبرةٍ هامسة بالغة الأثر العنيف في الأنفس حتى وصلت لحد الرعب:
_دا حق أبوها وحق أمها واللي جابه “عبدالقادر العطار” إنما حق مراتي أجيبه أنا بأيدي، وزي ما بيقولوا أخد الحق حِرفة، ومحسوبك حريف جامد وحقي ميباتش برة، على البركة نبدأ !!.
ضغط بمديته على عنق “وجدي” الذي أختنق إثر ما وُضِعَ على عنقه، لم يقو على الدفاع عن نفسه بل كان الأخر متمكنًا منه بل ورفع قد خوفه حين همس بنبرةٍ قاتمة كما الظلام الذي يسكن بداخله تمامًا:
_أنا بقى هخليك تجرب قلة الحيلة والضعف اللي هي كانت فيهم وحريمك بيضربوها، بس الفرق إن اللي هيعمل كدا فيك راجل من ضهر راجل.
تحدث “وجدي” بنبرةٍ مختنقة يجاهد لكي يُخرج صوته:
_عاوز تقنعني يعني إنك هتخرج من هنا عادي؟ هصرخ وأقول للناس حرامي بيتهجم عليا وهتبات الليلة دي في الحجز يا حرامي يا هجام.
طَلَّ الخُبث من نظراتِ “يوسف” وابتسم بشرٍ وهو يقول براحةٍ وكأنه ينتظر هذا الحديث ليرد عليه :
_وماله، وأنا هقولهم جاي شقة حمايا ولقيت المياه مقطوعة دخلت عندك الحمام وعندي شهود إني خبطت عليك ودخلت برضاك، تاخد الكبيرة كمان؟ أنا دخلت هنا بعدما اتحايلت عليا، أصلك ابن أصول أوي.
ثقته الغريبة وعنفوانه بل أيضًا النظرة التي يرميه بها إن أوحوا بشيءٍ فهم يوحون أنه حقًا سيفعل ما قاله بالحرف دون أي نُقصان، وقد استغل “يوسف” دهشة الأخر وتيهه عن مُحيط واقعه وقام بسحبه من الفراش بحركةٍ لم يتوقعها “وجدي” حتى وجد نفسه مُلقىٰ أرضًا وقد هجم عليه “يوسف” يخنق عناقه بكفٍ واحدٍ حتى أوشك الأخر على لفظ أنفاسه الأخيرة لكن “يوسف” تعقل وأرخى قبضته ثم أظهر مَديته بسلاحها اللامع ببريقٍ يسرق الأمان قبل العَيان وما إن فتحها ورآها “وجدي” بدا الخوف عليه وازدرد لُعابه وقد تيقن أنه سيلقىٰ حَتفه لا محالة من هذا.
أما “يوسف” فرآى أمامه صورة “سامي” مُتجلية، يرى نفسه في صِغره ضعيفًا وأعزلًا والآخر يضربه وعمه يعنفه، لذا ازداد الغضب بداخله وتفاقم حد الثأر وخاصةً حينما تخيل صورتها أمامه، من المؤكد أنها تألمت وشابهته في صغره، تخيل صوت صراخها وهي تُناديه، اختلطت الأصوات بداخله وهجم على “وجدي” يضربه على وجهه وكمم فمه بيده، أراد أن يريه نفس المعاناة التي يتذوقها الضعيف.
لم يعلم كم الوقت المار عليه ولم يعلم كيف انتهى به الأمر والآخر يُنازع من الألم، لكنه كان رحيمًا به ورأف به حتى ابتعد عنه وقال بنبرةٍ جامدة من بين أنفاسه اللاهثة وقد امتلأ وجه الأخر بالكدمات وآثار الضرب على ملامحه:
_اعمل حسابك…دا مش أخري معاك
بس أنا عملت حساب إنك راجل كبير وناقص، علشان كدا أنا همشي ومن باب بيتك زي ما دخلت منه، بس قسمًا بربي لو فكرت تقرب منها تاني أنتَ ولا الكلاب بتوعك أنا همحيك من على وش الدنيا وبالنسبة للمطوة، مش هزفرها علشان الأصول بتقول أني ماجيش على أعزل.
لهث “وجدي” وهو يقول بنبرةٍ عالية يعبر عن بها ضعفه:
_وهي الأصول بتقول…إنك تصغر كبيرك كدا، “عبدالقادر العطار” عارف إنك جيت هنا تعمل كدا ؟؟ ولا هو اللي باعتك؟؟.
مال “يوسف” من جديد عليه يجلس على عاقبيهِ وهتف بنبرةٍ واثقة كملكٍ يخطو بداخل أرضه:
_أنا لو مش ابن أصول كنت قليت منه قصادك، كنت قومت كسرت رقبتك قصاده وقليت منك قصاد حريمك وحطيت راسك تحت راجلي قدام مراتي، بس أنا سكت علشان عارف الحق بيرجع إزاي وامتى، ومش لازم أقوم أوري الناس كلها حقي وهو بيرجع، كفاية أني أرجعه لنفسي واتمزج بيه وهو بين أيدي.
نظر “وجدي” له بدهشةٍ لم يُصدق أن هُناك على وجه الأرض من يملك هذه الجُرأة والثقة، بينما الأخر أخرج علبة سجائره يأخذ منها سيجارةً ثم وضعها بين شفتيه وأشعلها بالقداحة ثم أخرج هوائها وكذلك خرج هو من البيت، بدا بعد ظهوره كما السراب، لم يكن مرئيًا وقد أقترب من باب الشقة يفتحه ثم خرج منها كما الضيف لكن هُنا لم يكن مُرحبًا به والآخر ربما يكون تعلم درسًا لم ولن ينساه مهما طال زمانه، وهو أن الجبان هو من يخشى استعادة حقه.
__________________________________
<“نحنا والقمر أحباب، والقُرب بِنا بلا غِياب”>
جلس في الجزء المَخفي في غرفته بجوار أداة صنع الفخار سهر على ضوء مصباحه البُرتقالي يَضع كامل تركيزه فيما يَصنع وبجواره صوت القرآن الكريم الذي صدح في الغُرفةِ بتلاوة القاريء “مُحمد رفعت” رحمه الله، كان يصنع أداة فُخارية لم يضع حسبانًا لها بل ترك يديه تفعل ما تشاء وتحركها موهبة مَنَّ الله عليهِ بها، وجد في نهاية المطاف أنه صنعَ حاوية فخارية كبيرة الحجم، فشكلها “أيوب” بكلا كفيه وما إن وصل شكلها لما يُريده ابتسم بخفةٍ ثم تركها حتى تجف تمامًا وغسل كفيه في دورق المياه المجاور له.
أخفض صوت القُرآن ثم خرج من هذا الجزء الصغير يلج غرفته الأساسية بعدما ترك الجزء المُلحق بها ثم نظر في ساعة الحائط يستعلم عن الوقت وحينها تذكر أمر “قـمر”، تردد أن يحدثها في هذا الوقت وخجل أن يفعلها، لكنه حسم أمره وأخذ هاتفه يطلب رقمها بأعصابٍ متوترة حتى جاوبت هي على المكالمة بحماسٍ شديد فابتسم هو ورد عليها التحية قائلًا:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، الحمد لله إنك صاحية خوفت تكوني نمتي بصراحة أو وقتي غلط.
تنهدت “قمر” بعمقٍ ثم قالت بنفس الحماس:
_بصراحة حاولت أنام بس قولت أفضل سهرانة كدا لحد الفجر علشان لو نمت مش هصحى، مشكلتي إن شخص عشوائي، يعني مش برتب لأي حاجة، أنا عبيطة أوي على رأي “ضُـحى”.
ضحك بخفةٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة كعادته:
_مش عبط، بس أي إنسان لازم يكون مبرمج نفسه، النظام حلو وسهل، ولازم في كل حاجة نرتب لكل حاجة، وبصراحة أنتِ مش عبيطة خالص، أنتِ بس عندك ربع ضارب.
تلاشت بسمتها وهتفت بنبرةٍ عالية نبعت عن تلقائيتها أو لربما راحتها في الحديث معه:
_إيه دا !! مبنقولش كدا يا عم أنتَ.
تفاجأ هو بما قالته هي وظهر هذا حينما سكت وتغيرت تعابيره للتعجب والحيرة بينما هي قالت بتوترٍ مما قالت:
_بص !! أنا عشوائية وهطلة وعفوية، وفي نفس الوقت عنيدة ودماغي ضاربة أنا كوكتيل حلو، بس استحمل لحد ما أعقل على إيدك، حاسة كدا والله إني هكون هادية زيك.
لم يكن أمامه سِوىٰ السخريةِ منها لذا هتف بنبرةٍ بها ضحكة مكتومة على ما تفوهت به:
_يعني أنتِ جايالي طمعانة في هدوئي وأنا جايلك طمعان في مرحك وروحك الحلوة علشان أفرح بوجودك، طب الحمد لله إن مفيش طرف تالت طمعان فينا إحنا الاتنين.
ضحكت هي على حديثه وضحك هو الأخر بينما هي لاحظت أن هناك شيءٌ ربما يكون مخفيًا عنها أو هو يتعمد اخفائه عنها، لذا ابتلعت غصة مريرة في حلقها وتبدل حالها كما حال صوتها وهي تقول بنبرةٍ آسية:
_”أيـوب” أنا عاوزاك تقولي كل حاجة، كل حاجة عنك، بحس دايمًا إنك مش مرتاح أو حاسة إن فيه حاجة أكبر منك بتأثر عليك، الجواب بتاعك أنا حفظاه كلمة كلمة، أنتَ قولت إنك جيت متعذب، مين اللي عذبك طيب، احكيلي.
للمرة الثانية هي تُبادر وتسأله بينما هو نظر أمامه بصمتٍ بعدما هجم عليه وحشٌ يتخفى في هيئة الذكريات، ذكرياتٌ حارب لنسيانها تمامًا ومحوها لكن بالحديث عنها ظهرت له تقف أمامه وتؤلمه، لذا سحب نفسًا عميقًا ثم قال بنبرةٍ تبدلت وظهر عليها الحزن:
_كل اللي هقدر أقوله إنها حاجات مرت الحمد لله، بس منكرش إنها سايبة أثر وأنا للأسف مش بعرف أقول على اللي واجعني لحد.
لاحظت هي كلمته الأخيرة وما زادتها إلا حُزنًا على مكانتها لديه لذا قالت بنبرةٍ مختنقة بعدما استوطنت الغصة المريرة حلقها:
_ماكنتش أعرف إني لسه حد غريب عنك كدا يا “أيوب” وآسفة لو كنت اتدخلت في حاجة مش من حقي أسأل عنها.
لاحظ هو تغير صوتها والحزن الذي ظهر عليها لذا سارع يدافع عن نفسه وهو يقول بلهفةٍ ماحيًا ظنونها تجاه ما تفوه به:
_استني بس، أنا مش قصدي إنك غريبة ولا عاوز أزعلك، أنا كل الحكاية أني مش حابب أنكد عليكِ، يا “قـمر” أنا ما صدقت الدنيا تهدا معايا شوية، الحمد لله أنا أهو بحاول أنسى كل اللي فات لأنه مكتوبلي، حرام نفتكر في الحزن ونغفل عن النِعم الموجودة حوالينا.
سحبت نفسًا عميقًا ثم مسحت وجهها وقالت بنبرةٍ ظهرت بها العُجالة وكأنها تبدل الوضع برمتهِ:
_طب خلاص مش مهم، قولي اختارتني ليه؟؟ يعني أنا مش شبهك ومش زيك والمفروض يعني إنك تختار حد يكون قريب ليك في نفس المستوى، أنا مقارنةً بيك أبيض يا ورد.
زاحمت البسمة ملامحه على قولها وطريقتها لكنه أجاب بصدقٍ حين قال بنبرةٍ هادئة ينطق للمرةِ الأولى بصدقٍ:
_فيه ناس بيلفتوا نظر القلوب، واللي بيتشاف بالقلب مبيكونش عادي يا “قـمر” وأنا حبيتك، جايز أكون خدت وقت كبير لحد ما فسرت دا بس حبيتك والله، لما كنت بشوفك كانت عيني بتخوني علشان تبصلك، أنا اللي علمت شباب الحارة كلها تغض بصرها جيت عندك وعيني خانتني، في الأول كنت بخاف من ظهورك، وماكنتش فاهم السبب، بس…بس أنا بحبك.
انفلجت شفتاها ببسمةٍ عذبة وارتفعت ضربات قلبها بما تسمعه منه، أخبرها بها صراحةً، تلك الكلمة التي سمعت عن تأثيرها كثيرًا اليوم يطولها هذا التأثير لذا بدون أن تشعر أغلقت الهاتف في وجهه وهي تضحك بسعادةٍ ثم ارتمت على الفراش كمراهقة صغيرة تحصل على الاعتراف الأول من حبيبها خلسةً في الخَفاءِ، لم تشعر بالعالم من حولها بل غاصت في عالمٍ وردي تأبىٰ الخروج منه.
رفرف “أيوب” بأهدابه بعدما استمع لصافرة انتهاء المكالمة ولم يتعجب بل ضحك وألقى الهاتف بجواره ثم وضع ارتمى على الفراش يضع رأسه أسفل ذراعيه مبتسم الوجه ثم شرد في لقاءه الأول بها وحينما تذكر ضحك رغمًا عنه ثم سحب هاتفه من جديد يرسل لها بملامح عابثة:
_طب علشان اللي حصل دا، أنا مش ناسي على فكرة
بس علشان أنا طيب مع تحيات أسطى “أيوب” بتاع القُلل.
وصلتها الرسالة وقرأتها بتعابيرٍ مجهول التعرف عليها حتى شهقت ثم أحمر وجهها بأكمله ولم يكن أمامها سوى أن تغلق الهاتف تضعه أسفل الوسادة وهي تسب نفسها وغبائها وتهورها في هذا اليوم، لكنه سيبقى دومًا هكذا ذكرى جميلة آلفت بين قلوبهما، ليصبح هو والقمر أحبابًا.
__________________________________
<“متى نأمن وكيف نطمئن؟”>
في شقة “عـهد” كانت في غرفتها تجلس على فراشها وبين أحضانها “وعـد” التي قررت أن ترافقها في ليلها، لم تفكر سوى به هو، صورته لم تنفك عن بالها ومرأى عينيها، دفاعه عنها هو كل ما تتذكره، حمايته لاسمها وعائلتها هي ما خُلدت بذهنها، رفضه لجعل زواجهما مؤقتًا أسعدها وكأنه يعلن نفسه حاميًا لها لوقتٍ أطول، سحبت نفسًا عميقًا ثم مسحت على ظهر شقيقتها.
دلفت “مَـي” غرفتها وما إن رآتها مستيقظة اقتربت تجلس مقابلةً لها وهي تبتسم بحزنٍ ثم رفعت كفها تمسح على وجه “عـهد” التي نطقت بندمٍ:
_أنا آسفة والله، ماكنتش اعرف انهم ممكن يعملوا كدا بس أنا لما…لما عرفت أنهم هيبيعوا الشقـ….
بترت حديثها وهي تبكي بقهرٍ، بينما أمها سحبتها لعناقها وهي تمسح على ظهرها فيما بكت الآخرى بنسبةٍ أكبر، لم يكن بمقدورها أن توقف البكاء، خاصةً أمام حزن والدتها التي ابتعدت عنها تقول بنبرةٍ مُحشرجة:
_متتأسفيش، دا طبعك إنك قوية وبترفضي سيطرة أي حد، وطبعك برضه إنك مترضيش بالذل ولا الظلم، بس لوحدك في الدنيا دي مش هتقدري، لازم حد يكون معاكِ، حد تاني يكون جنبك ويقدر يوفرلك الأمان، حد لو أنا مت يدافع عنك بروحه.
لاحظت “عـهد” حديث أمها فسألتها بعدما ضيقت جفونها وكأن والدتها تُلقي بحديثٍ غامضٍ عليها:
_قصدي “يوسف” يا “عـهد” لازم تفضلي معاه، جو الهبل بتاع الشرط وجواز مؤقت دا مش هينفع، العمر مش مضمون أصلًا، وأظن أنتِ كنتي واعية كفاية لموت أبوكِ، في يوم وليلة كدا كل حاجة اختفت، شوفتي حصل فينا إيه، اتمرمطنا وسيرتنا اتبهدلت واتفضحنا، علشان محدش كان معانا غير ربنا، بعدها الحج الله يكرمه قرر يتولانا، بس أنتِ علشان عزة نفسك رفضتي دا، لكن “يوسف” جوزك يعني حق عليه يدافع عنك، طب تنكري إنك فرحتي بموقفه؟.
أغمضت جفونها تهرب من أثر الحديث على نفسها ثم قالت بنبرةٍ مختنقة وكأنها تضغط على نفسها:
_ يا ماما نا تعبت، هفضل أقولك أني بعيدة عنه لغاية إمتى ؟ دا يستاهل واحدة زيه، واحدة على الأقل من نفس المستوى، لكن أنا بعيدة عنه، دا واحد ربنا يحفظه، مرتاح ماديًا غيرنا، يبقى ليه أحكم عليه أنه يفضل معايا رغم أنه ممكن يلاقي الأحسن والأنسب مني ؟؟.
تحدثت “مَـي” بضجرٍ جليٍ ردًا على حديثها:
_بت !! ليه محسساني أنه جايلك من القصر وأنتِ عايشة في كشك الكلب برة ؟؟ فوقي يا حبيبتي وبصي لنفسك، أنتِ وهو جيران، يعني في عمارة واحدة، بطلي تحطي في بالك كلام فارغ، الراجل كتر ألف خيره عمل اللي عليه بزيادة أوي، يعملك إيه تاني؟ بلاش تخلي الغباء يضيعه من إيدك علشان هتندمي.
اختلطت الأفكار ببعضها بداخل رأسها، لم تعد تعلم ماذا تفعل لكي تهرب من كل هذه الضغوطات لذا زفرت الهواء من داخل صدرها دُفعةً واحدة، ثم قالت بنبرةٍ تائهة كحالها تمامًا:
_طب نامي جنب “وعـد” وأنا هطلع فوق السطح شوية، حاسة أني مخنوقة ومش طايقة نفسي، عن إذنك.
تحركت من جوار شقيقتها ثم ارتدت السترة الصوفية وفوقها حجاب رأسها خاصةً أن البرودة تزداد ليلًا كرسالةٍ لقدوم الخريف، وقد خرجت من الشقة نحو الأعلى مباشرةً كعادتها فوجدته يقف بالمكان خاصةّ عند زاوية المشروبات.
لم ترد أن ترتبك فوق تيهها برؤيته، حضوره فقط يبدلها تمامًا، ترتبك وتضيع من نفسها بل الأدهى أنها تتقبل كل هذا بترحيبٍ ولم تفق سوى عن التفرق، بينما هو وصله عبيرها ورائحتها المميزة، استشعر وجودها وهو يقف أمام أكواب الشاي فصدق حدسه حينما اقتربت تجاوره محل وقوفه وهي تقول بنبرةٍ مهتزة أعربت عن توترها:
_ماكنتش أعرف إنك هنا.
التفت لها برأسه يهتف جملة واحدة تحمل أكثر من معنى:
_بس أنا علطول هنا.
سحبت نفسًا عميقًا تحاول تهدئة نفسها به ثم عرضت عليه بنفس التوتر وكأنها تهرب منه أو تخفي نفسها عنه:
_طب تحب تشرب حاجة، أعملهالك أنا ؟؟.
جاوبها بنبرةٍ هادئة وهو يشير إلى ما يفعله:
_الكاتيل قرب يخلص، بعمل كوباية شاي أعملك معايا؟؟
حركت رأسها موافقةً وكأنها لم تقو على الرفض أو تأبى أن ترفض عرضه، بينما هو سحب كوبًا أخر لها يقوم بتجهيزه للشاي، أما هي فقد تحركت نحو أوراق النعناع الخضراء تقوم بأخذ وريقات صغيرة منها لتضعها بداخل الشاي وحينها كان أنهى هو ما يفعله ثم أقترب من الأريكة يجلس عليها ويضع الأكواب أمامه.
أتت “عـهد” وجلست بقربه ثم وضعت النعناع في الأكواب بعدما أشارت له وجاوبها هو بصمتٍ يوميء لها موافقًا، كانت تتحرك بآلية شديدة أو ربما بحركاتٍ مُرتبكة لاحظها هو وعلم إنها تود الحديث عن شيءٍ ما لذا هتف بنبرةٍ قوية:
_عاوزة تقولي إيه؟؟ قولي علطول.
انتبهت له وتعلقت عيناها بعينيه وهي تقول بنبرةٍ متوترة:
_عاوزة أقولك شكرًا، عارفة إنها مش كفاية بس شكرًا من كل قلبي علشان…علشان عملت اللي المفروض غيرك يعمله، أنا بس كنت عاوزة اقولـ…..
بترت حديثها حينما وضع اصبعه على فمها يمنع استرسال الكلام من فمها وما إن نظرت هي له قال بنبرةٍ هادئة:
_مش عاوز منك أي كلام ولا أي شكر، عاوزك تسكتي، ممكن ؟؟.
حركت رأسها موافقةً توميء له وعيناها تنطق بالخوفِ فيما سحب هو كفه ونظر أمامه، لم يعلم لما خشى أن تتحدث، هذه التي كلما فتحت فمها تثير أعصابه، لذا سكت وأسكتها أيضًا، وحينما شعر بها تتململ في جلستها بطريقةٍ غير مُريحة ابتسم رغمًا عنه والتفت يسألها وهو يضحك بقلة حيلة:
_عاوزة تقولي إيه يا “عـهد” ؟؟ بس لو هتحرقي دمي بلاش بالله عليكِ، أنا مش ناقص ودماغي مكركبة فوق بعضها كلها، عاوزة تقولي إيه؟.
كان يتوسلها أن تَكُف عن أي أحاديثٍ تثير غيظه بينما هي رأت أن الفرصة أتت لها على طَبقٍ من ذَهب لكي تسأله بلهفةٍ عن سبب فِعله وما فَعله لأجلها:
_ليه، عملت كدا ليه يا “يوسف” ؟؟
أنا شوفت حمايتك ليا افتكرت بابا الله يرحمه، عاوزة أسألك ليه عملت كدا ؟؟ علشان أنا بقيت مراتك ؟؟ طب ما فيه ناس عايشة تحت سقف واحد ومحدش بيعمل كدا علشانهم، فسؤالي هنا هو ليه؟.
حرك رأسه يستقر بعينيه نحوها هي، وهي وفقط، وهتف بنبرةٍ هادئة بعدما وقع تحت تأثير عينيها السوداوتين:
_هجاوبك، علشان أنتِ شبهي، اللي كنتي فيه دا أنا عارفه مجربه، عارف يعني إيه اللي منك يدوسوا عليكِ وأنتِ تقفي مكسورة قصادهم، جربت القهر والحُرقة لما حقك يتاخد علني عيني عينك وأنتِ حتى مش قادرة تمدي إيدك تاخديه، مش هبالغ لو قولتلك بشوف نفسي فيكِ وبشوف أني كنت محتاج حد يقويني، علشان كدا أنا بدافع عن نفسك وأنا شايفك أنا ومن بين الكل أنتِ اللي شبهي، وفوق كل دا برضه أنتِ ملزومة مني علشان عارفة الجواب، أنتِ مراتي.
ابتسمت له بحزنٍ ثم سحبت نفسًا عميقًا وأظهرت المرح المحبوس بداخلها وهي تسأله بحالة استهتار بحالهما سويًا وكأنها تتجاهل عن قصدٍ حديثه:
_طب ولما إحنا الاتنين شبه بعض هنتطمن إمتى ؟؟.
ضحك هو الأخر ثم ارتشف من كوب الشاي وهو يقول بسخريةٍ ردًا على سؤالها:
_على الأقل خلينا خايفين مع بعض.
ضحكت بخفةٍ وضحك هو الأخر معها ثم سحبت الكوب ترتشف الشاي، وهنا شرد هو رغمًا عنه في هيئتها التي أشبهت لوحة مرسومة ببراعةٍ، ملامحها الرقيقة، وخصلاتها السوداء التي ظهرت بفعل الهواء، ناهيك عن عينيها السوداوتين التي تعمدت اخفائهما عنه، وبينما هو هنا غارقًا في عمق لوحتها تحركت هي حتى تضع الكوب لكنها مرت عند اللوح الخشبي، فسحبت نفسًا عميقًا ثم اقتربت تمسك القلم وخطت به السؤال المُلح في عقلها:
_إذا كُنا نَشبه بعضنا بعضًا فكيف ومتى نطمئن؟
التفت “يوسف” في هذه اللحظة فوجدها تكتب على اللوح حينها ترك محله واقترب منها ولازالت هي واقفة أمام الجملة التي كتبتها تستفسر عن حالهما، أما هو فعلم الجواب بمجرد وقوعه على الجُملة، أخبره قلبه بالجملة لذا أخذ منها القلم ثم جاوبها حين كتب أسفل سؤالها:
_حينما أخبرتُكِ أننا نُشبه بَعضنا وأنكِ من بين الجميع تشبهينني كان المقصد حينها أن:
“الشبيه لشبيهه يطمئن”.
وقع بصرها على الجملة التي كتبها هو ردًا على سؤالها، هي حقًا تشعر بالطمأنينة وكأن خوفها حينما قُرِنَ بخوفه تحولا إلى طمأننيةٍ، لذا ابتسمت له ثم قالت بنبرةٍ هادئة:
_تصبح على خير يا “يوسف”.
تحركت من أمامه وتركته هو محله بدون حتى أن يرد على جملتها ثم أعاد بصره على الجملة التي دونها، شعورٌ غريب يزوره، هو حقًا يأمن لها ؟ هذا الذي لم يطمئن حتى لنفسه، يأمن لهذه ؟ هل نسى أنه غريبٌ هُنا، أم أنها أصحبت هوية الوطن لغريبٍ ؟.
أخرج هاتفه وتحديدًا فتح حسابه الشخصي في موقع “تويتر” حيث مكانه المُفضل ثم قام بكتابة الجملة التي دونها على اللوح ردًا عليها وكأنه يختصر حالها بحاله في هذه الجُملة:
_الـشَـبيه لِـ شبيههِ يَـطمئنُ.
سحب نفسًا عميقًا وأغلق هاتفه يضعه في جيبه ثم نزل من السطح يتجه نحو شقته وقد ارتخت أعصابه تمامًا بعدما ضرب عمها وهاجمته بعض الذكريات المؤلمة، لكنها بظهورها ذكرته بحياته هنا لذا سَكِنَ وهدأت غوغاء رأسه وبعثرة أفكاره بعدما علم أن الشبيه لشبيهه يطمئن.
__________________________________
<“اللقاء حُجته ضعيفة، وأنتِ وحدك القوة”>
أشرقت الشمس بنور ربها صباحًا وخرج “بيشوي” من غرفته يَمسك شيئًا سبق وغلفه بيديه بورقٍ بني اللون، وقد وجد أبناء شقيقته في الخارج فرحب بهما وترك ما يمسكه في يده وحمل “كاتي” تلك الصغيرة التي قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_إيه الحلاوة دي يا خالو، رايح فين؟.
لثم وجنتها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_رايح شغلي، بس فيه حد مهم هقابله، فين ماما؟
تدخلت والدته تقول بسخريةٍ:
_راحت الشغل وبعدها هتيجي هنا تاخدهم وتروح تجيب حاجات ليهم بقولها تبيتهم مش راضية بتقولي “جورج” هيزعل علشان هيسافر شغل مهم وعاوز يقعد معاهم.
هز رأسه مومئًا لها ثم ترك الصغيرة وتحرك من محله نحو الخارج فأوقفه التوأم مع بعضهما ليلتفت لهما وهو يقول بضجرٍ:
_حاضر هبعتلكم حاجة حلوة، فاهم.
أغلق باب الشقة ثم التفت واتجه نحو المِصعد ينتظر قدومه وهو ينظر للشيء المغلف في يديه حتى فُتِحَ المصعد وخرجت منه “جَـنة”، لكنه تعجب من مظهرها حتى أنه في باديء الأمر لم يتعرف عليها، وكأنها غريبة عن المكان حتى ابتسمت له وهي تقول بنبرةٍ مقتضبة:
_صباح الخير يا أستاذ “بيشوي”.
عقد ما بين حاجبيه وسألها بتعجبٍ من مظهرها حيث كانت ترتدي بنطالًا من خامة الجينز وفوقه قميصٌ باللون الوردي، على عكس الملابس الشرعية التي كانت ترتديها في السابق:
_صباح النور، أنتِ قلعتي الخَمار ؟؟.
حركت رأسها موافقةً بأسفٍ وكأنها تخجل من فعلها أو بدت وكأنها أجرمت في حق نفسها وهذا ما أكده لها “بيشوي” بقوله معاتبًا:
_هي حرية شخصية عادي، بس على فكرة هو أحسن خصوصًا إنك بتروحي الجامعة وبتنزلي الحارة هنا، ربنا يوفقك إن شاء الله.
ركب المصعد وتركها محلها تقف بمشاعر متخبطة، هي فعلت هذا انتقامًا من نفسها في الأغلب، ظنت أنها تحب “أيوب” لكن في حقيقة الأمر هو لم يراها من الأساس لكي يرى حُبها، هي أرادت أن تثبت لنفسها أنها جميلة وأنها تستحق الحب من أي جهة تُريدها، لذا بدلت نفسها وعادت لما كانت عليه في سابق الأمر، لكن الراحة من المؤكد أنها تركتها، في السابق برغم اتساع الملابس إلا أنها كانت تسترها عن الأعين، الآن ترى تغزل الرجال بها صراحةً وبكل وضوح ووقاحة، حتى كرهت الخروج من البيت وكرهت نفسها قبل أن تكره من حولها.
دلفت شقتها وهي تفكر هل ستبقى هكذا دومًا أم أن هناك يد تمتد لها وتلحقها وتكون لها يد العون؟؟ أم أنها ستقع في بئر عواقب أفعالها واحدًا تلو الآخر دون أن تلحق نفسها؟.
نزل “بيشوي” من بيته وسار متوجهًا إلى بيت “جابر”، بثقةٍ كبرى وكأنه سيتوج بجائزة يَندر الحصول عليها، والحُجة القوية التي يمتلكها هي رؤية “ملاك” واصطحابه معه إلى سوق العمل، تمم على مظهره في مرآة العمارة حيث كان يرتدي حِلةً باللون الرمادي وأسفلها القميص باللون الأسود، ابتسم بثقةٍ لنفسه ثم قرر الصعود إلى شقتها، بعد مرور ثوانٍ وقف أمام الشقة وقد فتحت له “مارينا” التي قالت بنبرةٍ ضاحكة:
_ها مين اللي هيكسب ؟؟ أنا عن نفسي هشجع أختي.
ضحك لها على سخريتها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_طب قولي لجدك أني جيت علشان ييجي يقعد معايا النهاردة، بس لو أبوكِ جوة خلاص كأني مش هنا.
أتى “جابر” من عند الرواق بداخل الشقة وقد لمح “بيشوي” الذي يبتسم له بسماجةٍ فتجاهله الأخر ودلف لصالة شقته بينما “ملاك” خرج له يقول بترحيبٍ به:
_نورت الدنيا، تعالى أفطر معانا يلا.
ابتسم له “بيشوي” وهو يرفض بمرحٍ:
_لأ، أنا محضرلك طلب من عربية الفول وصاية، يلا علشان هنفطر في المحل مع بعض، ولا هتلبسني في الطلبات ؟؟.
ارتفع صوت ضحكات “ملاك” ثم استأذن منه يدخل الغرفة يُبدل ثيابه بينما “بيشوي” تحرك للخلف ينتظره في الخارج حتى خرجت له “مهرائيل” تمسك في يدها زجاجة المياه ومعها الكوب الفارغ وهي تقول بنبرةٍ هادئة تتعامل وكأنه مجرد ضيفٍ عابر:
_اتفضل، مياه طالما مش هتدخل الشقة.
ابتسم لها وهو يقول بسخريةٍ:
_هو انتوا هنا بتتفرجوا على هندي كتير؟؟ بتضايفوا الناس بالمياه يا “هيري” ؟؟.
ضحكت له ثم مدت يدها بالماء فيما أخذ هو الكوب منها يرتشف الماء وقد استشعره ظمأه حالًا، جف حلقه حقًا كما جف حبه لها، هي ودونًا عن غيرها تجمعه بها كل السُبلِ إلا السبيل الذي يريده هو معها، أعطاها الكوب ثم مد يده لها بالشيء الذي يمسكه فنظرت له بتساؤلٍ فأشار برأسه نحو الشيء الذي قدمه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_افتحيه وشوفي أو خمني.
شهقت هي بفرحةٍ وأضافت بحماسٍ تستفسر منه:
_دا كتاب ؟؟ كتاب ولا رواية ؟؟.
حرك كتفيه فيما فتحت هي الغلاف بحماسٍ وأده اسم الكتاب حينما وقع بصرها عليه، هذا الأبله يهديها كتابًا لا يمت علاقتهما أو حتى أي علاقة حُب تجمع بين الأبطال كما تقرأ هي، لذا سألته باستهجانٍ وكأنها تندفع في وجهه:
_إيه دا ؟؟ إيه الكتاب دا؟.
جاوبها بنبرةٍ عادية تتنافى مع فعله الغير طبيعي:
_ماله؟؟ كتاب “أبي الذي أكره” هجيبلك إيه يعني ؟؟.
رفعت حاجبيها وظهر التهكم على ملامح وجهها وهي تتشدق بنزقٍ:
_لا والله ؟؟
أقترب يهمس لها بقوله العابث:
_فوقي، أنتِ عايشة مع “جابر” ابن “سميحة” عاوزاني أجيبلك كتاب إيه؟؟ قواعد العشق الأربعون ؟؟.
زفرت هي بقوةٍ في وجهه ثم دلفت للداخل تضرب الأرض أسفل قدميها بغيظٍ منه، بينما هو كتم ضحكته عليها حتى خرج له “ملاك” واستعدا كلاهما للنزول دون وضع أي إعتبار إلى “جابر” الذي يجلس بالداخل وكأنه نكرة بالمكان، أو لربما هو هكذا حقًا من وجهة نظر “بيشوي”.
في بيت “العطار” اجتمعوا سويًا حول الطاولة في الحديقة يتناولون فطورهم مع بعضهم وكان “إياد” جالسًا على قدم “أيوب ” والآخر يطعمه باهتمامٍ حتى تحدث “عبدالقادر” مستفسرًا من ابنه الكبير:
_هتخرجوا النهاردة يا “أيـهم” ؟؟.
أومأ له الأخر بالايجاب ثم أضاف مُردفًا بعدما ابتلع طعامه:
_آه يا بابا إن شاء الله، هنخرج الأستاذ “إيـاد” ونجيب حاجة المدرسة علشان نخلص بدري بدري، قبل الزحمة، ولو “آيات” عاوزة حاجة تجيبها بالمرة برضه.
استحسن “عبدالقادر” جوابه ثم نظر إلى “أيوب” يعرض عليه باقتراحٍ يراه صوابًا من جهته:
_لو مش وراك حاجة مهمة، خد مراتك معاهم علشان أختك متبقاش لوحدها وأهو تتعرف عليهم، قولت إيه ؟؟.
انتبه له “أيوب” وهتف بأسفٍ لكونه غير قادر على تنفيذ هذا المُقترح رغم قوة صلاحه وصوابه:
_بصراحة مش هينفع، عندي مشوار مهم إن شاء الله أروحه بليل، فبنسبة كبيرة مش هينفع، مرة تانية إن شاء الله أخدهم بنفسي أخرجهم وأغديهم في المعز كمان.
هلل “إياد” بفرحٍ كبير والتفت يُلثم وجنة عمه بينما “آيات” قالت بنبرةٍ هادئة:
_بص ممكن مرة تاخدني معاك عندها، عاوزة أتعرف عليها وعلى “ضُـحى” وكمان أتطمن على “عـهد” ممكن بكرة إن شاء الله ؟؟.
أومأ لها موافقًا فيما ترك والدهم محله وهو يقول موجهًا حديثه لهم مع بعضهم:
_طب أنا هخرج علشان عم “ملاك” هيجي يسلم عليا، عيبة يقف يستناني، شوفوا دنيتكم واللي هيتحرك من هنا يكلمني ويقولي هيروح فين، مش عاوز أقلق على حد فيكم.
ضحكات !! كل ماناله منهم ضحكاتٍ عالية جعلته يطالعهم بيأسٍ ثم ألقى التحية وتحرك نحو الخارج، فتحدث “أيـهم” وهو يضحك رغمًا عنه:
_الراجل يعيني جاله تروما مننا، بقى جد ولسه بيستنانا نطمنه علينا، منه لله اللي كان السبب.
رفع “أيوب” حاجبه وهو يسأله بتهكمٍ حينما استشعر توجيه الحديث له:
_ يا صبر “أيـوب”،
حاسس بريحة مش كويسة، علشان كدا هسكت أحسن.
تدخل “إياد” يقترح عليهما بما يتمناه:
_بابا هي ميس “نهال” هتيجي تديني الدرس إمتى ؟؟.
جاوبه والده بقلة حيلة وكأنه لا يملك في الأمر شيئًا:
_مش عارف والله عندهم ضغط الفترة دي، بس ممكن بكرة تكلمنا وتيجي تديك الدرس، بس إيه الإجتهاد دا كله؟؟ من إمتى وأنتَ عاوز الدروس كدا ؟؟.
حرك الصغير كتفيهِ وهو يضحك، فيما لاحت فكرة في عقل “أيـهم” فقال بصوتٍ يغلبه التسرع مما يدل على سرعة افكاره:
_بقولك إيه يا “آيات” ؟؟ مش معاكِ رقمها؟ إيه رأيك تكلميها وتعرضي عليها تيجي معانا، أهو تفك شوية مع “إيـاد” وتختار معاه يمكن تقنعه، وبالمرة كمان تكون معاكِ بدل ما تكوني لوحدك.
حركت “آيات” بؤبؤيها بتفكيرٍ ثم هتفت بحماسٍ تُبدي إعجابها بفكرة شقيقها:
_تصدق فكرة !! بما إنها مرتبطة بيه وهو بيحبها، يا رب توافق بس وأنا أكيد هكون مبسوطة لما هي تكون معايا.
تدخل هنا “أيوب” ينطق بنبرةٍ جامدة يمنع أفكارهما:
_بس بس أنتَ وهي !! تيجي معاكم فين وبصفتها إيه إن شاء الله ؟؟ تيجي تعمل معاك إيه يا راجل يا غريب عنها !!.
أشار “أيـهم” عليه وهو يقول بسخريةٍ:
_أنا ماجيتش جنبك علشان تعملي فيها الشيخ الشعراوي، قولنا هتيجي علشان خاطر “إيـاد” عندك أهو اسأله يا حبيبي.
رفع “أيوب” حاجبيه وهو يسأله بتكهنٍ وكأنه يعلم ما يستفسر عنه بتلك النبرة التهكمية:
_علشان خاطر “إياد” برضه ؟؟.
_يعني هو أبو “إياد” ملهوش نفس يعني؟؟.
كان ذلك قول “إيـاد” نفسه الذي تدخل في الحديث بمرحٍ حتى أقترب منه والده يقبل وجنته ثم قال بسخريةٍ مرحة يقصد ممازحة البقية:
_الحمد لله مطلعش قليل الأصل لخاله، طلع قليل الأدب لأبوه.
انتشرت الضحكات من جديد ومعهم “أيوب” الذي ضحك بيأسٍ على مزاح شقيقه وضحكات الصغير وكذلك “أيـهم” الذي تمنى من داخله أن تحضر معهم هذا اليوم وتشارك ابنه هذه المناسبة، لعل وعسى كلٌ منهما يعطي للأخر ما يريده، دون أن يصل هو لهوية ما يريده.
__________________________________
<“أن نأمن في طُرقنا هذه هي الغاية نفسها”>
في مقر شركات “الراوي”
وصل “يوسف” للعمل صباحًا يدير شئون عمله بنفسه مع “رهف” تلك المسكينة التي يقع عبء العمل كله على عاتقها هي، لذا انغمس معها في العمل يتابع كل الملفات والأوراق حتى تركت هي ما تمسكه في يدها وهي تقول براحةٍ يخالطها الإنهاك وكأنها استنزفت أخر قواها هنا:
_كدا الحمد لله نكون ظبطنا العرض التقديمي و فاضل بس عمك يراجعه وأستاذ “ممدوح” وبعدها كل حاجة تكون تمام، أنجزت معايا النهاردة كتير بصراحة.
ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا برضه ؟؟ كتر خيرك والله ماسكة كل حاجة ومسئولة عنها، عاوزك بس تديه لـ “مادلين” وهي توصله للهانم اللي هتبقى مسئولة عن كل الخطط الجديدة، بلاش تتعاملي معاها علشان متضايقيش بسببها.
قلبت شفتيها بفتورٍ وهتفت بنبرةٍ عادية:
_عادي يعني، هي كدا كدا جاية ترسم نفسها هنا علينا، طمني بس إيه أحوالك؟؟ أخبار العـهد إيه ؟؟.
راوغته وهي تسأله ففهم عليها وضحك بخفةٍ ثم قال بنبرةٍ مختلطة المشاعر:
_العهد زي الفل، اللي خان العهد بقى بيتربى.
زفرت هي بقوةٍ ثم قالت بصوتٍ يملئه الشوق:
_ماهي دي المشكلة، في الخيانة نفسها، بس بصراحة يعني في عهود لازم تتخان زي العهد اللي كنت قاطعه دا، وفيه ناس علشانهم لازم العهود تتخان زي “عـهد” كدا أكيد تستاهل إنك تعمل علشانها كل حاجة.
فكر قليلًا ثم بدل الحديث بقوله يهرب من هذا الحوار قبل أن ينفتح عقله إلى أمورٍ يخشى هو الإقتراب منها:
_طب تعالي نطلع نتغدا يلا، قبل اجتماع المتخلفين بتاع كمان شوية دا، يلا علشان أعرف أرد عليهم.
ضحكت “رهف” رغمًا عنها ثم خرجت خلفه وما إن فتح مكتبه وجد أمامه “شـهد” وكأنها تراقبهما، فرفع حاجبه لها يسأل بملامحه عن سبب وجودها هنا، فتلجلجت هي في وقفتها وهي تهتف بتوترٍ:
_أنا…أنا كنت بس جاية أقولكم جاهزين للإجتماع ؟؟.
رد عليها هو بطريقته المعتادة معها:
_وأنتِ مالك ؟؟ دا أولًا، ثانيًا بقى حد سألك أو أداكِ أي إهتمام أصلًا، الإجابة لأ، يبقى خليكِ في حالك.
زفرت بقوةٍ في وجهه تعبر عن ضيقها من طريقته وقبل أن يتحرك للأمام ويتركها محلها، أوقفته تقدم الملف وهي تقول بتعالٍ وكأنها توجه الأمور لهما:
_طب ياريت تاخدوا الملف دا تراجعوه قبل الاجتماع علشان ميكونش كلامنا مختلف عن بعض جوة.
أخفض بصره نحو موضع الملف ثم رفع عينيه من جديد يهتف بكلمةٍ تشابه كلمة قالها في سابق الأمر:
_خَــلـيـهـولـك.
اتسعت عيناها من جديد فيما قال هو بنبرةٍ تتحدى طريقتها وبالطبع المكسب كان حليفًا له حين هتف:
_يلا يا “رهف” خلينا نشوف شغلنا، دي عالم فاضية.
تحركت “رهف” خلفه وهي تكتم ضحكتها على “شـهد” التي بُهِتَتْ ملامحها تمامًا وهربت منها الدماء، وتفاقم غيظها منه ونقمها لـ “رهف” حتى بدت تراها دومًا عائقًا بينها وبين الآخرين في كل شيءٍ.
جلس “يوسف” أمام نهر النيل مباشرةً وهو يمسك سيجارته في يده وبجواره كوب القهوة، وبداخل رأسه تستقر صورتها، تلك التي لم تمر عليه كما مرور غيرها، بل هي بالكل وبغيرها، أراد أن يطمئن عليها ويحادثها متخليًا عن كبريائه، لكن هناك شيءٌ أقوى يمنعه من هذا، لذا أخرج هاتفه يرسل لها كتابةً دون أن يحدثها هاتفيًا:
_صباح الخير، كويسة؟.
ظنها لم تقرأ رسالته أو بالأحرى لم تهتم، لكنه تفاجأ حينما كتبت له بسخريةٍ استشفها هو دون أن يراها:
_صباح النور، فيه حد يبعت كدا ؟؟.
زاحمت البسمة ملامحه المقتضبة وأرسل لها مُلصقًا كوميديًا بصورة كُتِبَ أسفلها بمزاحٍ:
_المرة الجاية هبعته بالجبنة، ولا بالمكسرات؟؟.
ضحكت هي ثم أرسلت له بسخريةٍ:
_وليه تتعب نفسك ؟؟ متبعتش حاجة خالص، مالك ياعم محسسني إني عدوتك، شكلك فاضي أصلًا.
بنفس الملامح كتب لها يعبر عن ضجره:
_عاوز أروح والله، قبل ما أجيب كرش حد هنا.
أرسلت له مُلصقًا تعبيريًا يعبر عن الدهشة وأضافت أسفلها:
_يا ستار يا رب، شغال في مدبح ولا إيه أنتَ؟.
صدح صوت ضحكته هذه المرة عاليًا حتى لفت الأنظار له وقد رُسمت الصورة نصب عينيه وهو يتخيل نفسه في هذه المهنة حقًا وأسفل يده أعدائه جميعهم بدون نقصان، اقتربت منه “رهف” وهي تشير له على الموظفين بالمكان، فتنحنح هو بخشونةٍ ثم فتح التسجيل الصوتي يُرسل قولًا مُعاتبًا لها:
_روحي ربنا يسامحك يا شيخة، فضحتي أمي، تصدقي أني عيل قليل الرباية ؟؟.
أرسلت له تمازحه برسالةٍ صوتية أرسلتها بسخريةٍ:
_الله أنا مالي أنا يا “يوسف”.
ضحكت بصوتٍ عالٍ بعدما قالت هذه الجملة وللمرة الأولى في حياته كرجلٍ يُغرم بصوت ضحكةٍ كما أحب هو صوت ضحكتها وكأنها تطمئنه عن نفسها بدون أن يسأل هو، لذا أرسل لها يراوغها بكتابته بحديثٍ يقصده:
_طب ما إحنا حلوين أهو !!.
قبل أن ترد عليه أتته “رهف” كرادعٍ بينه وبينه أو لربما كطوق نجاة للأخرى وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_”مادلين” كلمتني وبتقول الاجتماع جاهز، يلا ؟.
أومأ لها ثم أغلق هاتفه يضعه في جيب سترته وتحرك من مكانه وترك مكالمته معها لحين إشعارٍ أخر، وأثناء سيره مع الأخرى تعجب من نفسه ومشاعره ومن الأمان الذي تسلل إليه بمهاتفتها، يبدو وكأنه طالبٌ أُرغِمَ على القدوم إلى مدرسته وفي وسط اليوم أتت له والدته تعطيه الطعام وتعود من جديد إلى البيت بينما هو يستأنف يومه الدراسي.
بعد مرور عدة ساعاتٍ في حارة “العطار”
قام “أيوب” في محل عمله بإكمال الحاوية الفخارية التي صنعها بالأمس، وأضاف عليها بعض التعديلات منها مادة براقة لامعة تسرق الأنظار وزين حوافها باللون الذهبي، ثم كَتَبَ على الحاوية من الخارج بخطٍ عربي جميل برع في كتابته:
_”الناسُ ناسٌ في نَظري
وأنتِ وحدكِ من بينهنَ يا “قـمر”
قَمري”.
أبتسم هو بسعادةٍ حينما توصل لما يُريد ثم قام بوضع الأدوات بداخل الحاوية التي شبهت الصندوق في تصميمها، وقبل أن يستكمل باقيه وبقية الأدوات التي وجد الكثير منها ناقصًا حينها قام بالتقاط صورة لهذا الصندوق الفُخاري ثم أرسلها لها وكتب أسفلها يمازحها:
_إيه رأيك يا عم القمر ؟؟ ننفع؟
لم ترد عليه لأنها وبكل أسفٍ لم تفتح تطبيق التواصل لذا ترك هو هاتفه ثم حاول التواصل مع “يوسف” الذي أغلق هاتفه منذ الصباح ولم يقو على التواصل معه.
عند “يوسف” أنهى اجتماعه وقرر أن يذهب إلى منطقة نزلة السمان حتى يتابع عمله هناك، ركب سيارته ووضع هاتفه بها ثم قام بفتح الموسيقى بداخل السيارة بصوت مطربته المفضلة “فَـيروز” تلك التي تحمله إلى عالمٍ أخر، لكن هذه المرة تفكيره أنصب على “عـهد” يفكر في حالها اليوم وفي مشاعرها التي ومن المؤكد أنها تتألم بسبب ماحدث لها على يد عائلتها، ثم تذكر سطح البيت وجلوسهما بالأمس مع بعضهما.
_”طيري يا طيارة طيري ياورق وخيطان،
بدي ارجع بنت صغيرة على سطح الجيران”
كلمات الأغنية التي ظهرت في السيارة لتسرق انتباهه، سطح الجيران ؟؟ هل هو مراقبٌ ؟؟ كيف عرفت الموسيقى والمذياع أنه يُحب سطح الجيران؟ بل كل راحته أصبحت في هذا المكان الذي يشمل كل ما تحبه النفس، غرق في فكره حتى قطع “أيوب” عليه استمتاعه حينما هاتفه، فجاوبه “يوسف” بعدما عاد لواقعه وخرج من قوقعة شروده:
_أيوة يا “أيوب” ؟؟ أؤمر.
جاوبه “أيوب” بضجرٍ من طريقته:
_أولًا السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثانيًا
أنا مبشحتش منك، كلمني عدل يا جدع أنتَ.
ضحك “يوسف” رغمًا عنه وقال مستسلمًا له بخضوعٍ:
_بس كدا ؟؟ أجل يا سيدي، نعم يا حضرة الشيخ؟ مرضي كدا يا “أيوب” ؟؟ تحب أولعلك عودين بخور بالمرة ؟؟.
ضحك “أيوب” رغمًا عنه ثم قال بحديثٍ تغلبه الجدية:
_لأ يا سيدي ألف شُكر، المهم عاوزك تيجي توديني بيت “عادل أبو الحسن” علشان عاوز أروح أزوره.
تعجب “يوسف” مما قاله الأخر وبدا مدهوشًا حتى وهو يرد على حديثه مستفسرًا بغرابةٍ سيطرت عليه:
_إزاي دا ؟ أو ليه يعني مش فاهم؟؟.
جاوبه “أيوب” مُفسرًا بقوله الهاديء :
_علشان هو كان قالي إنه لوحده وقالي لو أقدر أروح أزوره ياريت متأخرش عنه، بصراحة هو ليه جميل في رقبتي وفضل ربنا جعله سبب فيه، علشان كدا لازم أروحله.
أذعن له “يوسف” ووافقه وهو يقول باقتناعٍ بحديث الأخر:
_تمام، مفيش مشاكل خالص، هاجي أغير هدومي ونروح مع بعض، بس مش هنتأخر، يعني كبيرك معايا نص ساعة عنده دا لو كترنا معاه هناك.
وافق “أيوب” ثم قرر أن يغلق معه ويذهب إلى بيته يُبدل ثيابه ويحضر الهدية التي سبق وجهزها لـ “عادل” وبداخله يتمنى أن تليق به وتنل إعجابه، كما كان يتمنى أن تخبره “قـمر” برأيها، أما “يوسف” فقرر أن يذهب إلى الحارة بدلًا من منطقة نزلة السمان بعد مطلب “أيوب”.
__________________________________
<“بعض الفرص وإن كانت متأخرة ستظل ذهبية”>
في مكانٍ عام من الأماكن الخاصة بجلوس العائلًات، جلس “أيـهم” برفقة أخته و صغيره ومعهم “نِـهال” أيضًا التي شعرت بالسعادة بقدومها معهم خاصةً بجوار “إيـاد” الذي شعر بالفرحة بتواجدها معه، حتى قالت “آيات” بصوتٍ يعبر عن الفرحة:
_بس بجد كويس إنك جيتي معانا، إن شاء الله يعني متتعبيش معانا وننجز نفسنا بدري، صح يا “إيـاد” ؟؟.
أومأ لها بينما “نهال” قالت بنبرةٍ هادئة وهي تبتسم لها:
_بصراحة خوفت أرفضلك طلب، مقدرتش، غير كدا “إيـاد” برضه ليه تأثير قوي عليا، يعني بالبلدي كدا زنقتوني.
تدخل “أيـهم” ينطق بهدوءٍ وهو يتطلع إلى صغيره:
_بس كويس إنك جيتي الفترة الجاية ضغط كبير عليكِ، وأكيد هتكوني محتاجة تفصلي خصوصًا مع دخول المدارس، ربنا يوفقك إن شاء الله ويقويكِ.
ابتسمت له وردت خلف دعائه تؤمن بينما “إيـاد” تحرك من محله واقترب منها يمسك كفها وهو يقول بحماسٍ شديد:
_تعالي معايا اوريكي الحاجات اللي عاوز اجيبها.
تحركت معه بحماسٍ يشبه حماسه هو، هذه الأماكن الخاصة بالادوات المدرسية تزورها للمرة الأولى في أواخر سنين عُمرها، الجميع هنا مع صغارهم يبتاعون لأجلهم الأدوات المدرسية، ويقفون مع صغارهم، وهي تنظر للجميع بمشاعر غريبة، كلما ظنت أن الموضوع لم يشغلها تفاجئت به يؤلمها، اغرورقت عيناها بالدموعِ لكنها تفاجئت بالصغير يحرك كفها وهو يشير نحو الحقيبة وينطق بإلحاحٍ:
_دي يا “نهال” أنا عاوز دي، حلوة صح؟؟
حركت رأسها نحو الصغير تبتسم له وهو يعطيها الشعور الناقص لديها لتصبح كما غيرها من النساء هنا، وقبل أن ترد عليه وجدت امرأة كبيرة تكبرها بعدة أعوام وهي تعاتب الصغير بقولها:
_عيب، مبنقولش كدا، اسمها ماما، مينفعش حد يعرف اسم ماما كدا وفيه رجالة غريبة، قولها باسمها في البيت، ماشي؟؟.
حرك رأسه موافقًا بخوفٍ من وقوعه في هذا الخطأ فيما حاولت “نِـهال” أن تبرر لها فعل الصغير وتوضح لها حقيقة الأمر أنها لم تكن أمه فوجدت الأخرى تقول بتفهمٍ:
_متقوليش حاجة هو أكيد بيتدلع عليكِ، ربنا يحفظه ويبارك فيه إن شاء الله، عن إذنك.
تركتها المرأة وتحركت من المكان فيما وقف “أيـهم” يتابع ما يحدث بعينين مُتعجبتين من الموقف بأكمله ويكاد يُجزم أنه علم شعورها وكيف تألمت بدلًا من تخطي الموضوع، لكن صغيره سحبها من كفها نحو الداخل وهي معه تضحك بسعادةٍ على عكس المفترض.
بعد مرور بعض الوقت خرجوا من المكان بعدما ابتاع “إياد” كل ما يريده من المكان وقد وافقته “نهال” في كل ما يريد وأقنعت والده أيضًا والآخر أمام رغبة صغيره وطلب الثانية والحاح شقيقته، يخضع لهم ويوافق أخيرًا.
أوقف السيارة عند مقدمة شارع “نهال” بعدما أنهوا شراء المنتجات لم تكن بأكملها، لكنها طلبت أن ترحل نظرًا لتعب والدها المُفاجيء وقرر أن يوصلها هو ثم يعود من جديد ويُكمل اليوم مع ابنه كما أخبره.
نزلت من السيارة بلهفةٍ ونزل “أيـهم” معها يوصلها إلى البيت وما إن دلفت ودلف هو خلفها وجدت والدها يجلس على المقعد وبجواره شقيقيه ومعهم “بهاء” ابن عمها وبقية أفراد العائلة، ركضت هي نحو والدها تطمئن عليه وكذلك “أيـهم” الذي نظر له أبوها بعينين أشبه بالجمر وكأنه يكره تواجده بالمكان، وقد استشعر “أيـهم” هذا لذا سأله بنبرةٍ هادئة:
_حضرتك عامل إيه ؟؟ تحب أنقلك المستشفى؟؟.
حرك رأسه نفيًا ثم جاوبه بنبرةٍ مقتضبة كأنه يجبر نفسه:
_شكرًا، كتر ألف خيرك لحد كدا.
خجل “أيـهم” من الموجودين بسبب هذا الحديث وهذه النبرة ثم تصنع الثبات من جديد وهو يقول بنبرةٍ هادئة في محاولةٍ منه لإصلاح موقفه:
_ لا شكر على واجب، ربنا يطمنا على حضرتك.
تركه ورحل من المكان بعدما استثقل تواجده على الحاضرين وخاصةً والدها وأفراد عائلته، بينما هي فهمت أن الأمر بأكمله لم يكن على ما يُرام، بل هناك شيءٌ أكثر خطورة من مجرد تعب، وهذا ما أكدته لها نظرات والدها قبل أن ينطق عمها الكبير بقوله متهكمًا:
_أهلًا بالحلوة اللي كسفانا وجايبالنا الكلام.
نظرت له بتعجبٍ ووقفت أمامهم كما المتهمة بداخل القفص، جميع الأنظار مُثبتة عليها وهي أمامهم ضائعة أو لربما تبحث عن عونٍ لم تجده في بلدةٍ يتسم أهلها بالقسوةِ والجحود.
__________________________________
<“لم أعد أرغبني، أنا أيضًا أصبحتُ أكرهني”>
كان جالسًا في مكتبه الذي أصبح يجلس به كثيرًا في الآوئنة الأخيرة هروبًا من العالم الخارجي، ويهرب أيضًا من ذكرياته لكن ذاكرته هي التي تخونه، ناهيك عن عروض الأعمال المشبوهة التي عرف هو بها، قرر أن يخرج من مكتبه يتابع الأمور بالخارج وقد جذبت نظره شاشة العرض المُعلقة بالمكان حيث كانت تعرض فيديو موسيقي بأغنية غريبة عليه يسمعها للمرةِ الأولى وتصف معاناته:
_”وقفت ساعات الكون بتبكي في بُعدها،
حتى الهوا مبقاش يغازل السما مين كان سبب،
وقفت دموعي في وقتها ساعة الوداع،
حتى أنا مبقيتش أنا مين كان سبب؟”.
ترقرق الدمع بعينيهِ في الحال، تلك التي تركته ورحلت من حياته، لتصبح حياته من بعدها تُنافي اسمها الذي حمل أيضًا وصفها، “نـور” وإن غابت عن حياته ستبقى دومًا كما النور، كل الأشياء بدونها باهتة ومملة، بدت وكأنها دلفت عالمه تضيئه ثم خرجت منه ليكتشف أن الضوء الذي ظهر في دربه كان منها هي.
_”وقفت بكل مافيها تنهي المسألة،
مشيت وروحي عندها أنا كنت إيه من بعدها،
والحبر دايب على الورق،
صورنا لما حرقتها غريبة قلبي اللي اتحرق”.
تاه عن واقعه يشردُ بها وبلقائهما الأخير وتردد على سمعه جملتها وهي تصرخ في وجهه ببكاء وقهرٍ قبل الوداع الأخير:
_خـلـصـت، خلصت خلاص طاقتي يا “سراج”، هأمن لنفسي إزاي مع واحد مش خايف على حياته ولا حياة طفلة صغيرة ملزومة منه، أنساني، وعلى فكرة مش هتصعب عليا، علشان نفسي صعبانة عليا أكتر منك.
خرج من شروده فيما مضى على المقطع الذي قتل أخر ما تبقى من ثباته وقوته الكاذبة:
_باين في عينك أني مش صعبان عليكِ أكيد،
طب ودعيني قبل ما تمشي ولو بحضن أخير،
أنا كنت عارف من البداية إنك محبتينش،
وفضلت متعلق بحلم بعيد موصلنيش”
تلك المرة خانته دِمعة هاربة من إحدى مُقلتيه وتوترت أنفاسه لذا سحبها دُفعةً واحدة وأغمض جفونه يردع هذه العبرات الساخنة، ولم يكن أمامه سوى الخروج من هذا المكان يهرب بما تبقى له من ثباته قبل أن يقوم بتكسير كافة شيءٍ هُنا.
خرج من الكافيه وأمامه وقف “إسماعيل” يتحدث في الهاتف، أراد أن يذهب له ويقف بجواره وأن يتخلى عن الخلافات الواقعة بينهما، أراد أن يشعر ولو ببعض الأمان في كنف رفيقه، لذا قرر أن يتحرك إليه فأغلق “إسماعيل” الهاتف وهو يقول بسخريةٍ:
_خير ؟؟ المرة دي هنروح نرمي نفسنا تحت قطر؟.
حرك رأسه نفيًا وهمَّ أن يتحدث فاقترب منهما “مُـحي” الذي قال بضجرٍ وبنبرةٍ عالية:
_أخوك بيطفش البت مني ؟؟ لسه هاخد رقمها لقيته بيقولها مراته حامل ؟؟ مرات مين يا عم، هو “إيـهاب” هيفضل كاتم على مراوحي كدا ؟؟ بقالي ساعة مستني البت تلين، ييجي يضيع الرزق كدا ؟؟.
ضحك “إسماعيل” رغمًا عنه فيما نطق “سراج” بتهكمٍ:
_هي الحريم دي بتجري في دمك ؟؟ ما تتلم بقى.
رفع “مُـحي” طرف شفته العُليا وهو يقول بسخريةٍ:
_شوف مين بيتكلم، ولا هي علشان “نور” أدبتك هتتأدب.
سكت “سراج” وهو يفكر هل اسمها يعانده أم أن كافة الأمور حتى وإن كانت مزاحّا تتعلق بها هي، لذا أخرج علبة سجائره ثم فتحها وعرض عليهما ليأخذ كلاهما واحدة، وقد أقترب “إيـهاب” منهم وسأل “سراج” باقتضابٍ:
_أخبارك إيه ؟؟ أحسن؟.
أومأ له بصمتٍ، وعلى الرغم من شكوك “إيـهاب” إلا أنه قرر أن يصمت عن الأسئلة تمامًا وعلى جهةٍ أخرى في إحدى البنايات القريبة من محل وقوفهم كان هناك من يراقبهم، ويراقب تجمهرهم سويًا وما إن اجتمعوا مع بعضهم بدوا له وكأنهم صيدٌ سمينٌ، لذا شد أجزاء سلاحه ثم أطلق العيار الناري وهو يبتسم بثقةٍ لتصيب الرصاصة هدفها وسطهم.
أصاب الهدف وفعل ما طُلِبَ منه بالحرف بعدما أصاب العيار الناري وجهته المُرادة ثم أخرج هاتفه وهو يقول بثقةٍ:
_اللي أنتَ عاوزه حصل يا “ماكسيم”.
أغلق الهاتف بعد جملته وهو ينظر لهدفه، فياترى أيٍ منهم هدفه وأيٍ منهم المُراد وأيٍ منهم المُصاب؟؟.
________________________________
_متنسوش الدعاء لإخوانكم في فلسطين،
إن لم تستطع رفع الظلم فأخبر الناس عنه.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى