روايات

رواية غوثهم الفصل التاسع 9 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل التاسع 9 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء التاسع

رواية غوثهم البارت التاسع

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة التاسعة

“الفصل التاسع”
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“يــا صـبـر أيـوب”
__________________
تبتلتُ مشتاقًا إلى الله بالقلبِ
إلى من يغيث الضارعين من الكربِ
اغث ربي ملهوفًا بعين عناية
وانقذ الهي المسلمين من الخطب
ايا ربي إن اذنبت عفوًا فادركن
عبيدك بالإحسان والصفح يا ربي
الهي اعني بالعطايا علي الذي تحب
وألهمني المتاب من الذنب
وصلي علي طه الشفيع محمد
وسلم علي الاحباب والآل والصحبِ.
_النقشبندي.
____________________
غدوتُ غريبًا وكأن كل الأماكن لا تُشبهني، فلا حُزني يهدأ ولا صمتي يُريحني، يؤسفني أنني لا أستطع الإفصاح عما يجول بخاطري لكنه يفيضُ من عيناي، لا استطعت التخطي وما أنا بِـ نساي، تأملت في وجودهم الأمان وظننتُ نفسي سأجد الحنان بدارهم، وفي حقيقة الأمر ولا لمرةٍ واحدة فيها الأمان زارهم، وكأنني في صحبتهم وجدت الخذلان جارهم، فياليتنا ما تقابلنا وياليتني ما كنت بجوارهم.
ركضت “فاتن” بعد حديث الممرضة عن إفاقة والدتها من غيبوبتها المؤقتة، فيما نحى “يوسف” صراعه جانبًا ليتبعها نحو الأعلىٰ لكن بخطواتٍ أهدأ وكأنه لا يكترث لهما من الأساس، تلك المرأة التي يكرهها كما تكرهه هي وأكثر لكن الفارق بينهما أنها استطاعت إخضاعه وقهره على الرغم من كونه يتيمًا لم يتذوق الحنان منها ولو لمرةٍ واحدة.
وقف على أعتاب الغرفة يراقب الوضع بعينيه، فيما وقفت “فاتن” بجانب الفراش تمسح على رأسها وهي تقول بنبرةٍ مختنقة من فرط البكاء المداهم لها:
_قولي عاوزة إيه يا ماما، “يوسف” هنا أهو.
عند ذكر اسمه حركت رأسها للجهةِ الأخرى، فوجدته يرمقها بقسوةٍ وعلى الرغم من تلك النظرة إلا أنها استطاعت رؤية نظرةً أخرى في عينيه وكأنه يُشفق عليها، التفتت له “فاتن” تقول بلهفةٍ:
_تعالى يا “يوسف”، تعالى يا حبيبي.
دلف الغرفة بترددٍ يقدم قدمًا ويؤخر الاخرىٰ لكنه دلف في نهاية الأمر، وقف بجوار الفراش يدس كفيه في جيبي بنطاله الجينز ثم نطق بجمودٍ:
_هي عاملة إيه ؟؟.
تحدثت “حكمت” بنبرةٍ واهنة وكأن صوتها يخرج رغمًا عنها، حتى خرج مبحوحًا وهي تسأله بنبرةٍ متقطعة:
_طمـ….طمني عليك، عامل إيه؟؟
ابتسم بسخريةٍ وهو يقول بوقاحته المعتادة:
_والله خايف أقولك بخير تروحي فيها، بس اتطمني أنا كويس أوي فوق ما تتخيلي.
حركت رأسها موافقةً بوهنٍ ثم أغمضت جفونها من جديد فعاد الإحباط يرتسم على وجه عمته من جديد وتهدل كتفاها بخيبة أملٍ وهي تُنبس بترددٍ وكأنها تخشى محادثته:
_هي كدا تصحى تنادي عليك، أو تسأل عليك وبعدها تنام.
حرك رأسه موافقًا بدون اكتراث ثم نطق بلامبالاةٍ:
_ربنا يريحها من اللي هي فيه دا.
خرج من الغرفة بعد جملته وتحركت خلفه “فاتن” التي جاهدت لتنطق بثباتٍ زائفٍ من التحدث معه أمام الغرفة قبل أن يتحرك من أمامها:
_على فكرة هي شكل روحها متعلقة بيك، دي مبتسألش عن حد غيرك، هي أكيد عاوزاك تسامحها قبل أي ما يجرالها حاجة.
عاد يقف مقابلًا لها وهو يقول بتهكمٍ:
_لأ انسوا، محدش منكم هيطول مني مسامحة، مش بعد كل دا هعدي وانسى بالساهل، أنا بس سايب الأيام تلعب معاكم شوية، لحد ما أفوق وأعرف أخد حقي.
نزلت دموعها وهي تقول بضعفٍ بعد حديثه:
_حقك، بس لو ناسي أنا طول عمري كنت بحاول علشانك، أنا طول عمري كنت ضدها وضدهم كلهم، أنا….
بترت حديثها حينما اقترب منها ينطق من بين أسنانه بعدما أطبق فكيه على بعضهما:
_محدش فيكم هنا بيجبي عليا، دا حقي وحق أبويا اللي أخوكي وجوزك كلوه عليا، حق الأيام اللي اتبهدلت فيها وهو وصي عليا لحد ما سحب مني كل حاجة، أمك اللي نايمة جوة دي وعملالي فيها بنت ذوات كل اللي هي فيه دا بفلوس جدتي أنا وحق أبويا، بس متقبلتش إن ضرتها تكون أغنى منها علشان كدا شربت أخوكي الغِل، أمك دي كانت بتخبي الأكل مني علشان ماكلش وكنت بسرقه زي الحرامية، لو كنتي عرفتي تنسي، أنا مش هنسى، وهاخد حقي من عينيكم نفسها، بس الصبر مطلوب.
تحرك من أمامها تاركًا الرواق بأكمله ثم صعد نحو الأعلى حيث سطح البيت بعدما اشتعل لهيب الحقد بداخله من جديد، تلك النيران المتأججة كلما حاول اخمادها بمجرد لمحة من الذكريات تعود له لتنذره بأنها فقط خُمدت بمفعول الوقت، لكنها لم تنطفيء بعد.
تنفس بعمقٍ ثم مسح وجهه بكفيه وأقترب من دراجته الهوائية يَحل أوصادها الحديدية ثم اقترب يأخذ منشفة قماشية يُزيل الغُبار العالق بها ثم حملها ونزل بها من البيت، فقابلته “فاتن” تقول بقلقٍ عليه:
_بلاش دلوقتي طيب، الوقت متأخر وأنتَ بتلف بيها كتير، خليها بكرة الصبح أحسن.
رفع عينيه لها ينطق بجمودٍ:
_ أنا حُـر، عن إذنك.
خرج بدون كلمةٍ أخرى مما جعلها تنظر في أثره بخيبة أملٍ، تود معانقته واحتضانه لكن الوقت تأخر كثيرًا، سلبيتها أمام قسوة تلك العائلة ونفوذ أخيها و الجبروت الذي اتضح في شخصية والدتها لم يُسعفها لو لمرةٍ أن تقف رادعًا لهم في حماية ذلك الصغير، ترى دومًا في ملامحه وجه أخيها المتوفي، لكن الطِباع شتان ما بينهما، خصال أخيها المحمودة ولين طباعه لم يتصف بها ابنه.
خرج من البيت يركب تلك الدراجة التي يُحبها حد الهوس، كانت من الأساس لوالده وقام بتغييرها لأجله حتى يكبر ويستخدمها هو بدلًا منه، لذلك تشكل في قلبه حيزًا كبيرًا وقد أصر على نقلها من البيت الأخر لهنا.
تنفس بعمقٍ ثم وضع في أذنيه سماعات هاتفه ووضع الهاتف في جيبه ليتجه كما اعتاد ليهرب من مآساته وذكرياته في التجول بها وسط شوارع منطقة الزمالك التي اتسمت بالهدوء لعله يهرب من ضجيج رأسه، ضربت نسمات الهواء الباردة المُفعمة بروائح المدينة في وجهه وأنفه ليشعر بالانتشاء وارتخاء أعصابه ثم قرر الاستمرار في التجول حتى وصل تقريبًا لمنطقة وسط البلد.
انتبه لنفسه أين هو فأدرك أن جسده ترك لسلطة الهواء العنان لتتحكم في تحركاته حتى وقف هنا في تلك المنطقة التي يعشق أدق تفاصيلها، استمر في السير بالدراجة وهو يتابع ما حوله بنظراته مُبتسمًا بصفاءٍ كما الطفل الصغير، توقف أمام واحدةٍ من المقاهي القدمية شبه الطرازية فأوقف الدراجة ثم دلف للداخل يجلس على المقاعد الخشبية القديمة و طلب كوب الشاي وهو يشاهد تلك الاجواء القديمة التي وقع أسيرًا بها، سحب نفسًا عميقًا وعاد للخلف برأسه يتذكر تلك الذكرى التي لوحت في أفق عقله لتثبت له شقاوته منذ صغر عمره.
(منذ عدة سنواتٍ)
بعد مرور عامان من وفاة والده “مصطفى الراوي” وانتقاله مع أفراد عائلته إلي ذلك البيت قررت العائلة الذهاب إلى نزهة صيفية يبدلون بها حالة الحزن التي خيمت عليهم.
كان حينها “يوسف” يعاني من ازمات نفسية بعد رحيل أسرته عنه وتواجده مع تلك العائلة التي منذ أول أيام جمعته بهم، ظهرت القسوة في معاملتهم له وكأنه وسطهم نكرة غير محسوبة، في شقة المصيف تجهزوا جميعهم للنزول على الشاطيء بعد تناول الطعام، لكنه لم يأكل معهم بل انشغل في رؤية البحر من الشرفة.
شعر بالجوع فجأةً فدلف المطبخ يبحث عن الطعام وجد “حكمت” زوجة جده تقوم بتخبئة الطعام منه، فاقترب منها يسألها بعدما أخفت الطعام تمامًا:
_أنا جوعت وعاوز آكل، الأكل فين ؟؟
التفتت له بعينين نظرتهما جامدة وهي تنطق:
_مفيش أكل خلاص، قولتلك تعالى كل قولت شبعت، اعملك إيه يعني ؟؟ “نادر” أكله وخلصه، استنى لما نرجع بقى.
هم بالنطق ليخبرها أنه رأىٰ الطعام الذي أخفته هي منه، لكنه صمت ونكس رأسه للأسفل بحزنٍ وخرج معهم من البيت نحو الشاطيء، جلس وسطهم بصمتٍ ثم انتفض واقفًا يقول بإصرارٍ:
_أنا هنزل المياه.
لم يرد عليه أيًا منهما سوى “فاتن” التي قالت له تحذره بنبرةٍ هادئة:
_طب خلي بالك من نفسك، ومتدخلش جوة أوي.
حرك رأسه موافقًا ثم قفز في المياه بمهارةٍ حيث دربه والده على ذلك، كان بين الحين والأخر يطمئنهم وهو يقترب من الشاطئ ويعود لهم من جديد حتى سحب نفسه أخيرًا وخرج من المياه متوجهًا نحو الشاليه.
فتح النافذة المطلة على ردهة الشاليه ثم دلف على أطراف قدميه وماساعده على ذلك صغر جسده ثم توجه نحو المطبخ يسحب صينية الطعام فنظر لها باشتهاءٍ تفاقم عن سالفه من الوقت خصيصًا بعدما نزل البحر، كانت صينية وجبته المحببة “مكرونة بالبشاميل” ازدرد لُعابه ثم أمسك السكين يقطع بها وتناول من الطعام قدرًا كافيًا جعله يشعر بالراحة ثم خطرت بباله فكرةٌ أكثر خبثًا فحدث نفسه مُفسرًا:
_دلوقتي هيبان أني أنا اللي عملت كدا، يبقى نخليها كأن قطة دخلت ولعبت في الأكل.
قام باللعب في الطعام بأصابعه ليبدو وكأن قطة دلفت من نافذة المطبخ ثم فتح النافذة ووقف يتأكد من كل شيءٍ كما القاتل يطمئن على ارتكاب جريمته، تنهد مطولًا ثم خرج كما دلف بعدما أخفى أثر تواجده، عزة نفسه وكرامته منذ صغره ترفض الإلحاح على أي فردٍ مهما كانت قرابته، لذا فضل استخدام تلك الحيل.
خرج من الشاليه بنفس الطريقة ثم توجه نحو الشاطيء وقفز في المياه من على بعدٍ من تواجدهم ثم اقترب منهم يقول ببراءةٍ:
_معلش اتأخرت شوية جوة علشان مشيت لحد قدام.
انتبهوا له فتحدث “عاصم” بجمودٍ كعادته:
_خلي بالك مش ناقصين مصايب.
حرك رأسه موافقًا ثم عاد من جديد للمياه يبتسم بمشاكسىةٍ، بعدها عادوا للشاليه من جديد فدلفت “حكمت” المطبخ تقوم بالاطمئنان على الطعام حتى صرخت بملء صوتها فاجتمعوا نحو الداخل ومعهم “يوسف” أيضًا، بينما الأخرى استمرت في العويل وهي تقول:
_مين اللي عمل كدا !! الأكل باظ خالص.
تحدث “عاصم” بعدما تفحص المكان بنظراته:
_عادي يعني يا ماما، شكلها قطة أو حاجة، الشباك مفتوح أهو، يعني مشيت ورا الريحة، حد برضه يحط الأكل هنا.
زاد نهيج صدرها ثم دفعت الصينية على الطاولة وهي تقول بغضبٍ عارمٍ اتضح من انفعالات جسدها:
_حد فيكم ياخدها يرميها للقطط برة، أنا خلاص قرفت.
اقترب “يوسف” يقول بلهفةٍ:
_أنا بحب آكل القطط، هاتيها آكلهم أنا.
سحب الصينية ثم خرج لحديقة الشاليه يجلس بها على الدرجات الصغيرة ثم أكل بقية الطعام بمفرده وهو يبتسم بسعادةٍ فاقتربت منه القطة تنظر له، حينها قال بقلة حيلة:
_تعالي كلي معايا، أنا وديتك في داهية.
رمى للقطة طعامًا تأكله ليثبت أن كل شيءٍ تم كما أراد فيما أنهى هو بقية الطعام ثم دلف للبيت من جديد يقول بهدوء:
_أكلت القطة اللي برة وباقي القطط معاها شبعوا الحمد لله.
نظروا له بدون اكتراث فيما انسحب هو نحو المرحاض يتحمم ويهرب بجريمته النكراء قبل أن يتم اكتشاف ذلك الصغير.
( عودة إلى الوقت الحالي)
خرج من شروده مبتسمًا على شقاوته التي ظهرت مُبكرًا على الرغم من عدم توقعه أن يكون يومًا ما على ما هو عليه، لكن للضرورةِ أحكام وهو حُكمَ عليه أن يغدو عن نفسه غريبًا.
_____________________
انتظر “أيوب” في سيارته أمام مقر شركة العطور لحين موعد خروج المدعو “علاء”، شعر بالملل والضُجرِ لكنه انتظر وصبر حتى يحصل على نتيجةً مُرضية لضميره الحي قبل الجميع، خرج “علاء” من الشركة يحمل حقيبة يده، فاعتدل “أيوب” في جلسته ثم قاد السيارة يقترب من تواجد الأخر الذي نظر له بدهشةٍ فخرج “أيوب” من السيارة ينطق بخشونةٍ تتنافى مع طباعه:
_ها تحب نتكلم بأنهي طريقة ؟؟ جربت معاك اللين، تحب تشوف القسوة ؟؟.
ردد الأخر مُستخفًا به نتيجةً لهيئته الغير منذرة بأن شخصٌ مثله قد يتجه للقسوةِ والعنف:
_عامل نفسك جامد وخلاص، خرج نفسك من الحوار دا.
ابتسم “أيوب” بشرٍ ثم رفع كفيه يقول باستسلامٍ:
_يا رب، اللهم إني وكلتك وأنتَ شاهد إن دا الحل الأخير.
اقترب فور انتهاء جملته يضغط على عنق الأخر بقبضته القوية حتى صَعُبت عملية التنفس على الأخر، بينما “أيوب” هدر من بين أسنانه:
_متراهنش على طاقتي كتير علشان مش هتهاون في سمعة بنت، إذا كنت صحيح “أيوب” بس أنا معنديش “صبر أيوب” هات تليفونك يالا.
عانده الأخر وحرك رأسه نفيًا فأرخى “أيوب” قبضته ثم سحبه من ياقة قميصه يرمقه بشررٍ:
_هات التليفون أحسنلك بدل ما أخدك أنتَ وأعيد تأهيل لرجولتك المعدومة دي، ها ؟؟ هتسمع الكلام ولا لأ ؟؟
حرك الأخر رأسه موافقًا فانتشل “أيوب” الهاتف من جيبه ثم دفعه للخلف وهو ينطق بثباتٍ يمتزج بالسخريةِ:
_لو عاوزه هات ولي أمرك وتعالى خده، ويفضل يكون راجل بجد مش عينتك.
التفت حتى يتحرك من محله فأوقفه الأخر بقوله:
_أنتَ رايح فين؟؟ صدقني هتندم وأنا مش هسكت، أنا مبعرفش أسيب حقي.
التفت له “أيوب” برأسه ينطق بشموخٍ:
_أنا رايح حارة العطار، إنما حقك اللي مبتعرفش تسيبه
دا، أملكه الأول وابقى صاحب حق بعدها اتكلم يا…يا علاء.
ركب “أيوب” سيارته وعاد من جديد فيما وقف الأخر يزفر بقوةٍ ثم نطق من بين أسنانه متوعدًا:
_ماشي، والله ما هسيبك ولا هسسيبها.
____________________
في شقة “فضل” اجتمع بأفراد أسرته يتناولون الطعام سويًا فتحدث هو يسأل ابنته باهتمامٍ:
_وأنتِ إيه أخبارك دلوقتي يا “ضحى” ؟؟ وأخبار شغلك إيه؟
حركت رأسها موافقةً ثم نطقت بنبرةٍ طبيعية:
_الحمد لله يا بابا ماشية، متقلقش.
حرك رأسه موافقًا وهو يبتسم لها وقد وجه حديثه لابنه يسأله بنبرةٍ حاول صبغها بالمرح قائلًا:
_وأنتَ يا نحس ؟؟ أخبارك إيه ؟؟.
ابتسم له “عُدي” بمجاملةٍ ثم أردف:
_الحمد لله زي الفل، اشتغلت في شركة اتصالات كدا، لحد ما الاقي حاجة بشهادتي، أحسن من قعدتي ديه.
سألته عمته “غالية” باهتمامٍ:
_طب مفيش أخبار من عروستك ؟؟ يمكن يابني ؟؟
تركت حديثها مفتوحًا له بإشارةٍ مجهولة فهمها هو على الحال لذلك رد بدون اكتراث بعدما تخطاها:
_والله يا عمتو خلاص، هي من الأول معترضة أني مش عندي شقة والمبلغ بتاع الشغل دا مش عاجبها، وبتقولي هرد عليك، كل همها الفلوس وعاوزة طلبات أكبر من مقدرتي، محدش عارف الخير فين.
ربتت على كتفه وهي تبتسم له ثم تنهدت مُطولًا فيما تحدث “فضل” يسأل ابنة شقيقته باهتمامٍ:
_وحبيبة خالو عاملة إيه، روحتي مشوارك بتاع الصبح؟؟ كنتي فين صحيح؟؟
بدا الارتباك واضحًا على وجهها وهي تبتلع مافي فمها من الطعام وسكتت كعادتها حينما تتلجلج، فتدخلت “أسماء” تقول بلهفةٍ حينما وجدت نظرات زوجها مُمعنة في وجه الاخرى:
_دي بت عبيطة كنت بعتاها مشوار ليا، وكان نفسها في حاجات ليها برضه راحت تجيبها، بما أنها قاعدة هنا لا شُغلة ولا مشغلة قولت اشغلها، مش هي قالتلي اعتبريني ضرتك ؟؟ أنا موجودة خلاص.
ضحك البقية على حديث “أسماء” وطريقتها التي بدت انتقامية من الحديث، فيما تنهدت “قمر” وأجبرت شفتيها على التبسم، فتنهد “فضل” ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_ربنا يحفظكم، لو حد فيكم عاوز حاجة يقول.
ردت شقيقته بدلًا عن البقية بودٍ:
_هو أنتَ مخلي وراك حاجة؟؟ الله يكرمك عامل اللي عليك وزيادة كمان، بعدين قولتلك من بدري هشتغل مش راضي و رافض “قمر” تشتغل كمان، أخرتها إيه يا “فضل” ؟؟
سألته بنبرةٍ يائسة من موافقته، فزفر هو بضيقٍ ثم أردف بنبرةٍ أقرب للانفعال مُعقبًا:
_مبتزهقيش يا “غالية” ؟؟ خلاص الموضوع انتهى من بدري، قولتلك من هنا لأخر يوم في عمري في رقبتي أنتِ وبنتك، بعدين “قمر” جربت تشتغل معرفتش تسد برة، خليها هنا ياستي لحد ابن الحلال ما يجيلها يقدرها، مش كل شوية هتنكدي عليا كدا، الله يرضى عليكي بلاش تنكدي عليا.
ربتت على كتفه بقلة حيلة ثم تنهدت بعمقٍ وهي تتذكر ما مر عليها في سالف الزمان وكان هو جيشها الوحيد ولابنتها الوحيدة التي رأت بها كل ما امتلكته ذات يومٍ.
تحركوا تباعًا كلٍ منهم حيث مرقده ليخلد لنومه، فيما جلست “قمر” أمام التلفاز تبتسم مع نفسها بشرودٍ فاقتربت منها “اسماء” تقول بنبرةٍ هامسة:
_ما تحكيلي عملتي إيه ؟؟ الفضول مموتني.
ابتسمت “قمر” بيأسٍ ثم نطقت بنبرةٍ خافتة:
_طب هعمل شاي وتعالي نقعد في البلكونة، طالما كلهم ناموا خلاص، اسبقيني.
تحركت “قمر” نحو الداخل فيما ابتسمت “أسماء” وهي تنظر في أثرها مرددةً بنبرةٍ خافتة:
_البت دي عبيطة أوي، بس جدعة.
بعد مرور دقائق جلست كلتاهما مقابلةً للاخرى في الشرفة فمدت “قمر” يدها بكوب الشاي وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة:
_روحتله شارع المُعز وأول مرة أخد بالي من حلاوته.
سألتها “أسماء” بفزعٍ من حديثها:
_هو مين دا يا عين أمك ؟؟
ردت عليها الأخرى بلهفةٍ تلحق ما يمكن إلحاقة من تفكير الأخرى:
_المُعز يا ستي مخك راح فين ؟؟ لفيته بالعربية وطلع حلو أوي، بس ما علينا !!
رمشت الأخرى ببلاهةٍ ثم تحستت جبينها تتفحص حراراته وهي تنطق بتهكمٍ بعدما نفذ صبرها:
_أنتِ قاصدة تموتيني ؟؟ يابت احكيلي كل حاجة خلصي.
تنهدت “قمر” مُطولًا ثم بدأت في سرد التفاصيل منذ التقاءها به صباحًا حتى تم توصيلها لهُنا على مقربةٍ من بيتها، بكامل الحوار الدائر بينهما، حتى اختتمت قولها بنبرةٍ هادئة تُثني على أخلاقه:
_بصراحة متوقعتش إنه يقف معايا ويصر كدا إنه يقفله، اختيارك كان صح، قولت هيرفض بس هو خالف توقعاتي، للأسف حسيت بحاجة غريبة خلتني اخاف أوي.
انتبهت لها “اسماء” فسألتها باهتمامٍ:
_حسيتي بإيه ؟؟ هو قالك حاجة ضايقتك؟؟ زعلك؟؟
حركت رأسها نفيًا ثم رفعت ابهامها تمسح تلك الدموع التي تعلقت بمقدمة أهدابها ونطقت بصوتٍ مختنقٍ:
_حسيت أني مطمنة أوي وأنا بعتمد عليه، معرفش ليه حاجة جوايا كدا قالتلي إن دا عادي وحقي، معرفش ليه حسيت إني مش عاوزة الموضوع يخلص كدا وخلاص، يعني عاوزاه يكون موجود تاني، المشكلة إن شكله هو بيحب واحدة تانية أو فيه بينهم حاجة، كويس إنها ظهرت علشان أفوق لنفسي.
سألتها “أسماء” بلمحة حزنٍ ظهرت في نبرتها:
_أنتِ حبتيه يا “قمر” صح ؟؟
رفعت عينيها اللامعتين وهي تقول بقلة حيلة:
_مش عارفة، بس والله مكانش بمزاجي، حسيته مختلف كدا وغيرهم كلهم، فيه حاجة بتخليني أتمنى أكون معاه، بحس نفسي مطمنة لما بفتكر إن فيه ناس زيه موجودة، بس أنا مش شبهه، لبسي عادي ومعلوماتي في الدين كلها متجيبش ربع اللي عنده، يعني مستحيل هو يفكر فيا، اللي زي “أيوب” كدا مستحيل يفكر في بنت ولو فكر أكيد هتكون بنت شبهه وشبه أخلاقه.
شهقت “أسماء” بطريقةٍ سوقية وهي تقول مؤازرةً لها:
_نعم !! وهو هيلاقي زيك فين ؟؟ لا في أخلاقك ولا أدبك ولا حتى رقتك وجمالك، أنتِ و “ضحى” تربيتي ومصروف عليكم أصول، ياكش بس هي البت “ضحى” اللي عبيطة حبتين تلاتة كدا وبتصدق أي حد، بس مفيش منكم.
حركت كتفيها بقلة حيلة ثم تنهدت بعمقٍ، فربتت الأخرى على كفها حتى انتبهت لها “قمر” فسألتها وكأنها تذكرت لتوها:
_بقولك صح ؟؟ ليه كدبتي على خالو ؟؟ لو عرف هيزعل وهيبهدلنا، أنا كنت هقوله أني روحت المعز وعديت على محل الشيخ “أيوب” بلاش نزود مصايبنا بالكدب.
لوحت لها الأخرى بدون إكتراث وهي تتشدق بطريقةٍ لامبالية للموضوع من أساسهِ:
_ياختي بلاش وجع دماغ، هو يعني لو عرف هيسمي علينا ؟؟ دا مش بعيد يطردنا سوا، المهم أنتِ هتعرفي ازاي الباقي؟؟ خدتي رقمه ؟؟
اتسعت عيناها بهلعٍ وهي تردد باستنكارٍ لحديث الآخرى:
_أخد رقمه ؟؟ بقولك كنت قاعدة كاشة في نفسي، بس أنا معايا الفيسبوك بتاعه، آه والكارت….الكارت بتاع شغله بس أكيد هخاف أكلمه، أنا حاسة أنه شايفني مش كويسة.
ابتسمت “أسماء” بخبثٍ وهي تطلب منها:
_بقولك إيه ؟! ما توريني كدا شكله ؟؟ عاوزة أشوفه.
تنهدت “قمر” بقلة حيلة وهي تعلم تمام العلم أن إذا ألحت عليها زوجة خالها نفذ الأمر وحال تحقيقه، لذا أخرجت هاتفها تبحث عن صفحته الشخصية ثم أعطتها الهاتف بقلة حيلة وكأنها لا تُبالي، فيما ابتسمت “أسماء” وهي تقول بنبرةٍ مرحة:
_ياختي على السكر، عسل اوي وتحسيه وشه سِمح كدا، ومين العسل اللي هو شايله دا ؟؟ أوعي يكون ابنه ؟؟
حركت رأسها نفيًا وهي تقول بوجهٍ مبتسمٍ:
_دا أبن أخوه الكبير، شوفته مرة مع أختهم.
رفعت “أسماء” حاجبها بخبثٍ وهي تنطق بتكهنٍ ودهاءٍ:
_يا سوسة !! أنتِ مركزة بقى ؟؟
حركت رأسها نفيًا وقالت بغلبٍ على أمرها:
_والله أبدًا، بس أختهم جميلة أوي وعلطول وشها بيضحك كدا وغلبانة أوي، لابسة خمار وعسولة، لما شوفتها حسيت نفسي أكون زيها، بس عرفت يعني هي عايشة معاه.
ابتسمت الأخرى وهي تقول بتمني وكأنها تواسيها بتلك الطريقة:
_عقبالك ياختي لما تعيشي معاه أنتَ كمان.
ارتسمت على شفتيها إبتسامة ساخرة وكأنها تستخف بحديث الأخرى أو تستخف بأحلامها هي، فمنذ ما يقرب العامين وأكثر وهي تتبعه وتتبع صفحاته، لم تصادف ولو لمرةٍ يتحدثان بها سويًا، لكن ثمة شيءٍ في قلبها يزداد مع مرور الوقت تجاهه، وهي فقط لا تملك سوى الدعاء أن يلطف الله بقلبها وأن لا تتعلق بما هو ليس لها.
_____________________
في منطقة نزلة السمان.
جلس “إيهاب” على الأرض الرملية أسفله الوسائد الجلدية المُستديرة بأنماطٍ فرعونية قديمة وأمامه الموقد الحديدي القديم ويعتليه الفحم المُشتعل وفوقه ابريق الشاي المعدني حيث يقوم بصناعة الشاي على طريقته المُفضلة، كان شارد الذهن وهو يقوم بإعداده خاصةً بعد حديثه مع شقيقه وانفعاله عليه، وتلك الذكرى التي طال أثرها القلب.
شعر بطيفها يقترب منه بتذمرٍ وعبيرها يسري على أنفه، فابتسم وهو يعلم ما القادم معها حتى وجدها تجلس أمامه وهي تنطق بتبرمٍ وتحدجه بسخطٍ:
_أنتَ خرجت وسيبتني لوحدي ليه؟؟ مش مالية عينك؟؟
رد عليها مؤكدًا بإيجازٍ:
_لأ
شهقت باستنكارٍ تظنه تعمد جرح أنوثتها وقبل أن تثور في وجهه، استطاع هو إخماد ثورتها بقوله الرزين المُدل على خبثه:
_مالية قلبي.
حسنًا لقد نجح في إخماد ثورتها تمامًا وقد ابتسمت بخبثٍ واقتربت تجلس بجواره تلتصق به وهي تقول بميوعةٍ تعمدتها وهي تتدلل عليه:
_يوه يا سي “إيهاب” ؟؟ ما أنتَ حلو أهو…أومال مصدرلي الوش الخشب ليه يا جدع أنتَ !!
تحولت كُليًا في جملتها الثانية وقد ارتفع صوتها وهي تلومه على تذمره واقتضاب ملامحه، حتى ضرب كفيه ببعضهما وهو ينطق بضجرٍ:
_لا حول ولا قوة إلا بالله، أنتِ مجنونة يابت ؟؟ ماطول اليوم سوا مسبتكيش ونمتي في حضني، خرجت لما صحيت ولقيتك نايمة، لو كنت صحيتك كنتي كلتي دماغ اللي جابوني.
لم تقو على إنكار ماتفوه به خصيصًا أنه كان مُحقًا، لذا دست نفسها أسفل ذراعه وهي تقول بسخطٍ منه:
_طب أوعى يا أخويا خدني في حنانك كدا.
ضحك رغمًا عنه ثم ضمها إليه يقربها منه وربت على ذراعها وسألها بصوتٍ رخيمٍ:
_مبسوط يا عمنا ؟؟
رفعت عينيها له تهتف بصدقٍ وهي تحرك رأسها موافقةً:
_آه…علشان معاك أنتَ.
لَثم قمة رأسها بقبلةٍ حانية جعلت ضربات قلبها تتزايد خلف بعضها وهي تستشعر حنانه الذي قلما رآته بحياتها، فيما سألها هو بثباتٍ من نبرة صوته الخَشِنة:
_تشربي معايا شاي ؟؟ هعملهولك أنا.
حركت رأسها موافقةً بحماسٍ، فيما تحرك هو يجهز لها الكوب الخاص بها وهي تراقبه بوجهٍ مبتسمٍ من عينيها المُتلألأتين كما نجوم السماء في سمائها ساطعة، راقبها بطرف عينه فسألها بخبثٍ:
_سرحت في إيه يا عمهم ؟؟
كررت خلفه باستنكارٍ كلمته تلك:
_عمهم !! عم مين ؟؟
أراد أن يثبت لها أنه يستطع التحدث كما تريد لذا اقترب منها يجلس على إحدى رُكبتيه هاتفًا بخبثٍ وثباتٍ يتنافى مع طبيعته المُتسمة بالجمود:
_مسمعتيش عمك “عبدالباسط حموده” لما قال يا عمي وعم قلبي ؟؟ أهو أنتِ بقى عمهم هما الاتنين، يا…عمهم.
ابتسمت بعذوبةٍ وكأنها تعزف على أوتار فؤاده معزوفةً نادرة الوصف فيما يشعر به، خاصةً بملامحها السمراء الساحرة وعينيها المُتكحلتين، فوجد نفسه يغرق في أدق تفاصيل ملامحها وهي تبتسم له وتسأله برقةٍ قلما تتواجد في شخصيتها العفوية:
_سرحت في إيه يا عمهم ؟؟
_فيكي
كانت تلك الكلمة هي جوابه الأمثل الذي جعلها تطالعه بغير تصديق، فتنهد هو مُطولًا ثم نطق بنبرةٍ رخيمة أسرتها في اللحظة بقوله:
_بصي، أنا طبعي خشن وناشف آه بس غصب عني أنا بعمل كدا علشان اللي شوفته مش شوية، كنت بصحى بالضرب كل يوم علشان انزل القط لقمة عيش أنا وأخويا، جو الحُب بقى و العواطف الجياشة دي مركونة عندي على جنب، وكنت حالف يمين أني ما أدخل السِكة الشؤم دي، بس أنتِ بقى غير، أول مرة أهلك وصلوا هنا علشان ياخدوكي لقيتك مسكتي أيدي علشان متمشيش، وطلبتي مني ماسبكيش، ساعتها حسيت أني مُجبر أوفرلك الحماية، مش هتكلم كتير آه ومش هعرف اعبرلك كتير، بس والله لو حد فكر يبصلك بعين أنا افقعهم الاتنين، أمان كدا يا عمنا ؟؟.
ضحك وهو يسألها بجملته الأخيرة مما جعلها تبتسم له ثم ارتمت عليه تعانقه وهتفت بفرحةٍ أخرجت صوتها مختنقًا:
_مش عاوزة منك غير كدا، إنك تكون جنبي وخلاص يا سي “إيهاب”، وأنا والله هحاول مزعلكش مني، بس استحملني يا أخويا ينوبك ثواب بس.
تنهد بعمقٍ ثم رفع ذراعه يُربت على خصلاتها الغجرية اللامعة، ثم ابتعد عنها نسبيًا وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_عاوزك كمان تتحجبي يا “سمارة” شعرك الحلو دا لازم يتدارى عن العيون زي ما خليتك تلبسي واسع داري شعرك، قولتي إيه ؟؟.
نظرت إليه بتوترٍ وهي تقول بقلة حيلة:
_ أنا عاوزة حد يقولي وياخد بأيدي معاه، زي ما أنتَ شايف أنا معرفش حاجة خالص، أنتَ اللي علمتني القراية والكتابة، لولاك كان زماني لسه معرفش أي حاجة، أنا مش ممانعة والله بس ساعدني.
أبتسم لها بصفاءٍ وحرك رأسه موافقًا ليهتف عن ثقةٍ:
_و أنا معاك يا عمنا مش هسيبك.
تنهدت بعمقٍ فوصلهما صوت حمحمة خَشنة على قربٍ منهما، فرفع “إيهاب” عينيه نحوه يطالعه بسهامهما، وقد ازداد الشر في نظراته نحو الأخر الذي رأى تلك النظرات فهتف مُتلجلجًا:
_أ…أنا كنت جاي أقولك يعني متزعلش مني، أكيد ماكنتش اقصد أزعلك، بس برضه مش عاوزك تجيب سيرة واحد مات بقى ليه حُرمته، يمكن هو ميستاهلش دا، بس أنتَ تستاهل كل خير يا أبويا، علشان أنت! أبويا اللي بحق.
اعتدل “إيهاب” واقترب منه يقول بنبرةٍ رخيمة دافئة:
_شوف علشان منكررش الموضوع دا تاني، سيرته لا تيجي بخير ولا تيجي بشر، عديه زي ما طول عمرنا معديين كل حاجة، دي أصولها وكدا برجولة معايا، عاوزني ابقى حلو معاك يا عمنا، يبقى تنسى اسمه، وإذا كنت أبوك بصحيح زي قولك، يبقى تراضي أبوك، جاي معاك الكلام سِكة ؟؟
أبتسم “إسماعيل” وهو يؤكد ماهتف به الأخر:
_جاي معايا سِكة، متزعلش من أخوك بقى.
رد مُعلقًا يتكيء على أحرفه:
_ابــنـي، مش هزعل من ابني.
تأثر “إسماعيل” من كلمته تلك التي حقًا يعرف شعورها الأصلي معه هو، لذا اقترب منه يحتضنه وهو يهتف بصوتٍ مختنقٍ من فرط التأثر:
_ربنا يخليك ليا وميحرمنيش منك تاني، أنا كنت يتيم من غيرك، والله ما بكيفي ازعلك بس أنا عاوز ننسى اللي فات كأنه محصلش.
انتفضت “سمارة” تقول بلهفةٍ امتزجت بعفويتها:
_قوله يا أخويا بالله عليك، ويركز معايا شوية كدا أنا خللت وأنا مستنياه، وكنت هستنى ١٥ سنة بحالهم، بس ربك رحيم بيا وخرجهولي بقى، يبقى يفوقلي كدا ويعوضني.
ضحك “إسماعيل” رغمًا عنه بيأسٍ من طريقتها، فيما حدجها “إيهاب” مُحذرًا لها بنظراته، فحركت كفيها معًا وهي تتشدق بنذقٍ:
_يوه ؟؟ هو أنا قولت حاجة غلط ؟؟ إيه المصيبة دي.
أشار “إيهاب” لشقيقه يجلس معهما وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_تعالى أقعد أشرب معايا شاي على الفحم، قرب أهو.
جلس “إسماعيل” على مقربةٍ منهما فاتبعته “سمارة” تُمعن كامل نظرها له حتى هتفت فجأةً دون أن تُكبد لنفسها عناء التحكم في فضولها:
_متأخذنيش بقى يا “إسماعيل” أنا من حقي أعرف فيك إيه، أنا مش غريبة هنا، أنا مرات أخوك يعني في مقام أختك، عاوزة أفهم حكايتكم كلها.
زفر “إيهاب” بيأسٍ فيما ابتسم “إسماعيل” بزاوية فمه وأخرج سيجارةً من علبته وقام باشعالها، فلاحظت هي تجاهله لها، لذا هتفت من جديد بنبرةٍ أعلى:
_يوه !! هو أنا بكلم نفسي يا جدع أنتَ وهو ؟؟ احكولي أنا مش فاهمة حاجة وهموت لو معرفتش، فهموني الله يرضى عنكم.
تحدث “إيهاب” بنفاذ صبرٍ لأخيه:
_احكي ياعم دي هتاكل دماغي ومش هتسكت غير لما تعرف كل حاجة عن اللي حصل، ممكن منامش بسببها.
أخرج “إسماعيل” زفيرًا قويًا ثم نظر أمامه يَسرد عليها الماضي الذي وُلد برحمه ليعيش أكبد انواع العذاب النفسي والجسدي قائلًا:
_أنا و “إيهاب” ولاد “أشرف الموجي” راجل بقى الله يسامحه كان بتاع كيفه وجيبه مع بعض، بدأ شغله زمان واحنا عيال صغيرة سمسار عقارات فيها أثار، وبدأ يبقى وسيط بين الناس صحاب البيوت اللي فيها أثار وبين التجار اللي عاملين نفسهم مُشتريين، لما بدأوا يمشوا أكتر في الحكاية لقوا إن فيه مقابر عليها رصد، سواء رصد بالجن، أو رصد بحيوانات زي التعابين والأحناش كدا.
اتسعت عيناها بهلعٍ وتمسكت في ذراع “إيهاب” تزدرد لُعابها بخوفٍ فأضاف هو مُتابعًا:
_فيه شيخ منهم وصل مصر سِيطه كان مسمع، ساعتها طلب عيل صغير يقدر يسخر عليه جن ينزله المقابر الاثرية تحت البيوت، أبويا حسبها صح، قالك بس دا كنز، راح مسلمني للشيخ وساعتها عرف يسخرني صح، ونزلت أول مرة وأنا عندي ٦ سنين، بعدها بقى بقيت اتأجر بالساعة زي العجلة كدا، كل واحد عاوز يعرف ياخدني وينزلني تحت الأرض ويجيب شيخ يجهزني، أطلع اقولهم على اللي شوفته والطريق تحت عامل إزاي، بدأ سيطي يعلىٰ، والناس كلها تقول أني ملبوس والعيال تخاف مني، وابويا كان بيقبض من ورايا كتير وبرضه مشوفتش حاجة منه ولا حتى اتهنيت.
مصمصت شفتيها بشفقةٍ وكأنها تُرثي حال ذلك المسكين، فسحب نفسًا عميقًا داخل رئتيه ثم أضاف من جديد بنبرةٍ مُهتزة بعدما جالت بخاطره تلك الذكريات المُشينة لطفولته:
_بعدها بقى بدأ الموضوع يزيد في الخطورة وبقى جن وتعابين مع بعض، أخر مرة فيهم واحد كان نصاب معتمد عليا أنا من غير ما يجهزني أني أنزل تحت الأرض، ساعتها كانت أول مرة اخاف وأول مرة أحس بكل اللي حواليا، أبويا حدفني في البيت غصب عني، و “إيهاب” متكتف علشان ميلحقنيش، اليوم دا أنا كنت سامع و واعي بكل اللي حواليا، لحد ما الشيخ سابني وطلع يجري و التعبان وقف في وشي، من الخوف معرفتش اتصرف والأرض مليانة حشرات غريبة، لحد ما صرخت باسم “إيهاب” كلهم طلعوا يجروا وساعتها هو لحقني، صحيت بعدها لقيت نفسي في بيت الحج هنا.
زادت شفقتها عليه خاصةً حينما ظهر الأسى في نبرة صوته مُهتزة الوتيرة، فيما تنهد هو بعمقٍ ثم أضاف بنبرةٍ رخيمة:
_بس خلاص يعني الحمد لله كله عدى بفضل ربنا وبعدها الحج نعيم، لولاه كان زمانا يا مقتولين زي أشرف يا محبوسين في قضية زي اللي كانوا معاه.
اندفعت بدون تعقل تسأله بعفويةٍ نتجت عن الجلبة التي أحدثها في عقلها بحديثه:
_ متأخذنيش يا أخويا، هو عدم المؤاخذة يعني لو خلفت عيالك هيورثوا اللي عندك دا ؟؟.
نظر لها كلاهما بدهشةٍ غلفتها البلاهة، فأضافت هي بتفسيرٍ بعدما حركت بؤبؤيها نحوهما، فاستطردت:
_اصل يعني عدم المؤاخذة ممكن أخلف عيال يلعبوا مع عيالك مش ناقصة لَبس هي يا أخويا، الواحد جِتته ملبشة خِلقة الله لا يسيئك.
لم يستطع “إيهاب” التحكم في ضحكاته فانفجر ضاحكًا على تفكيرها وطريقتها في التعبير عما تفكر وتشعر به، فيما ضرب “إسماعيل” كفيه ببعضهما ينطق بضجرٍ مما تفوهت به:
_ ياستي يورثوا إيه ؟؟! هو أنا بقولك عندي السكر ؟؟ ما تشوف جمعتك يا أخينا !! مش حِمل جلطة أنا بدري بدري.
ضمها “إيهاب” أسفل ذراعه يهمس لها بنبرةٍ بها أثر ضحكاته التي لازال أثرها عالقًا بملامحه:
_اسكتي وأنا هفهمك كل حاجة بس جوة، وركزي في حوار عيالك اللي خايفة عليهم دا، عجبني.
تصنعت اللامبالاة حتى تهرب من خجلها فيما ربت هو على كتفها يدعم قلقها وخجلها بتواجده بجوارها وكأنه يثبت لها أنه الوحيد القادر أن يحميها ويحافظ عليها.
_________________________
في الأعلى في غرفة “مُـحي” جلس بها بعدما فُرض عليه حصارٌ غير صريحٍ الهوية، زفر بقوةٍ فوجد أحدهم يطرق باب غرفته فرفع صوته من الداخل صائحًا:
_أدخل…
ترك عبارته مفتوحة دون أن يعلم هوية الطارق فدلف “نَـعيم” له بهيبةٍ مرفوع الرأسِ يستند على عصاه الخشبية، فانتفض “مُـحي” مُعتدلًا في جلسته ليقترب منه والده يسأله بنبرةٍ هادئة:
_عامل إيه ؟؟ أتمنى تكون القعدة هنا عجباك.
حرك رأسه موافقًا فتنهد “نَـعيم” ثم اقترب منه يجلس بجواره على طرف الفراش ثم رفع رأسه يواجهه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_شوف يابني أنا راجل دوغري طول عمري محبش اللوع، بحب الصراحة، حالك من ساعة ما جيت هنا مش عاجبني، بس أنا مكبر وبقول إنك بعدت عني ياما، لكن وضعك كدا غلط، ثانيًا طريقتك مع الشباب مش عجباني.
هَمَّ “مُـحي” بالتحدث فقاطعه والده بقوله بنبرةٍ جامدة:
_استناني أخلص كلامي، معاملتك ليهم وحشة، ودول هنا زيهم زيي ومش ببالغ، أنا خليت أكبر معلم فيكي يا جيزة يقف احترام ليهم لما يظهروا قصاده، أوعى تكون فاكر إن اللي أنا فيه دا بسببي أنا ؟؟ لأ دا بفضلهم هنا، ربنا جعلهم سبب يديروا أملاكي علشان تبقى كدا زي ما أنتَ شايف، لولاهم كان زماني خسران كل حاجة، بس هما مشيوا مع الزمن وكل ما حاجة تتطور هما يتطورا معاها، لما عمك خطف أخوك الكبير وعمل اللي عمله، أنا حزنت واتكسرت، بس رجعت عرفت أنه نصيب ومكتوب، علشان كدا حمدت ربنا فعوضني بيك، أمك ماتت بعد الولادة بمفيش، ساعتها دلعتك بزيادة بس ماخدتش بالي إنك زي عمك غاوي سهر وشرب وبنات، كنت خيل أصيل، خيبت نفسك لما عاشرت الهجين، علشان كدا حافظ على نفسك لأن الخيل اللي بيتعوج عليا ديته طلقة، فاهم ؟؟.
كان حديثه مُنذرًا بكل شرٍ لما هو قادم وكأنه يحذره من التهور في التعامل، لذا حرك “مُـحي” رأسه موافقًا بخوفٍ من طريقة والده الذي ربت على كتفه ثم التفت يغادر الغرفة وقبل أن يفتح الباب التفت برأسه ينطق بحبٍ خالصٍ:
_على فكرة يا زفت أنتَ، كنت واحشني ووحشني ريحتك في البيت.
خرج من الغرفة على الفور قبل أن تتلاشى صرامته ويحل محلها الحب وهذا ما يرفضه هو بينما الأخر لاحت على شفتيه ابتسامة طفيفة وأدها مُسرعًا ثم عاد للفراش من جديد يضع كلا ذراعيه خلف عنقه يحاول الخروج من حُفرة مراهقته تلك.
_________________________
تأخر الوقت كثيرًا على “يوسف” وهو يدور بدراجته في شوارع منطقة وسط البلد حتى وقف يرتاح قليلًا ثم أخرج هاتفه يتفحصه لعل أحدهم ربما يكون هاتفه لأمرٍ ما، فتح تطبيق “تويتر” بعدما جلس في واحدةٍ من المقاهي القديمة، ثم التقط صورة لدراجته الهوائية مع منطقته المفضلة ثم قام بتنزيلها وكتب فوقها شرحًا توضيحيًا:
_أهيه دي عَجلة مبتفهمش قادرة تصلح اللي البشر كسروه، وهما بشر للأسف بعقل بيكسروا اللي كان متصلح.
قام بإرسال الصورة والشرح التوضيحي معها فوجد أحد أصدقائه على نفس التطبيق باسم “وليد الرشيد” يكتب له:
_فكك ياض مجربتش طبق المكرونة بحتة بانية.
ضحك “يوسف” فأرسل له بسخريةٍ:
_ورق العنب يكسب يا صاحبي.
لاحظ حساب “شهد” الشخصي على نفس التطبيق بعدما كتبت تغريدة اليوم بمناسبة يوم مولدها:
_ سألوني الناس عنك يا حبيبي كتبوا المكاتيب وأخدها الهوا، بيعز عليِّ غني يا حبيبي لأول مرة ما بنكون سوا.
“فيروز”
تلك هي أغنيته المُفضلة لديه ومطربته المُفضلة أيضًا أبتسم بسخريةٍ حينما فهم مقصدها ثم أضاف تلك الجملة التي سبق وقالها في مكتب “عاصم” يكبتها على نفس الموقع:
_ثلاثة لا تلفت إليهم مهما عَلا صوتهم؛ الكلب إذا نبح، الحمار إذا نهق، السفيه إذا تكلم.
بدا وكأنه يرسل لها رسالةً يعلم أنها ستراها لذلك تعمد كتابتها لتفهم إنها بالنسبة لديه الثلاثة مع بعضهم، لم تهمه لمجرد شخصها، لكن جرحها له هو ما ألمه بشدة، لم تؤلمه الصفعة بقدر ما ألمه رؤية صاحب الكف نفسه.
تحرك بدراجته بعدما ارتاح قليلًا ليعود نحو البيت من جديد فتوقف أمام البيت محل وقوف سيارة زوجة عمه، فصدح صوت هاتفه عاليًا برقم “نَـعيم” يطمئن عليه فأخرج الهاتف و جاوب على المكالمة ولازال يعتلي الدراجة وهو يتحدث في الهاتف.
توقفت السيارات خلف وقوفه وعمه يضغط على بوق السيارة لعله يتحرك من محله لكنه لم ينتبه لهم، فنزلت “مادلين” من جواره ثم صاحت بصوتٍ عالٍ لعله ينتبه لها:
_أنتَ يابني أدم !! مش سامع ؟؟
زفر بعمقٍ ثم أغلق الهاتف والتفت ينطق بتبجحٍ:
_سامع وعامل نفسي مش واخد بالي.
اقتربت منه تقف مقابلةً له وهي تقول بنبرةٍ جامدة:
_مش وقت استفزازك دا !! اتحرك خلينا نركن العربية.
تنفس بعمقٍ ثم تحرك يترك لهم المساحة ليصفون السيارة فيما انتظر هو خروجهم من السيارات بعدما صفوهم خلف بعضهم، فنطقت زوجة عمه بغيظٍ منه:
_أنا في حياتي دي كلها مشوفتش حد في برودك واستفزازك.
ابتسم ببرودٍ آثار حفيظتها وهو يُعقب بنبرةٍ آثارت استفزازها أكثر:
_وماله، طب أفرحي أهو خليتك تشوفي، دا إنجاز ليا.
بدلًا من أن يثور ويغتاظ منها رد عليها ببرودٍ ثلجي جعلها تلتفت لتهرب من استفزازه لها نحو بوابة البيت والبقية خلفها بينما وقفت “شهد” أمامه تطالعه بأملٍ وأده هو حينما حمل دراجته بيديه ينتظر دخولهم ثم دلف هو بمقدمتهم وكأن ليس لوجودهم أثرًا بالبيت.
اقترب “عاصم” من “سامي” يسأله بسخطٍ:
_هو هيقعد هنا !! احنا ناقصين ؟؟
تدخل “نادر” ينطق بلامبالاةٍ:
_ما تفككوا منه ؟؟ بجد ليه مركزين معاه ؟!
رد عليه “سامي” بتهكمٍ يستخف بحديث ابنه:
_دا من يومنا يا حبيبي، الحرب بينا والعة وبسبب غبائك بقى هو جاي يحطنا تحت عينيه، أنا عن نفسي مش هعمل أي حاجة خلاص، لحد ميعاد شغله وسفره.
نظر “عاصم” أمامه بنظراتٍ ثاقبة يحاول ربط الأمور ببعضها فإذا فاقت والدته وحدثته عما سبق من الطبيعي أن تُهدم تلك الحياة فوق رؤوسهم.
_______________________
في صبيحة اليوم الموالي لذلك كان “عبدالقادر” في محله يتابع العمل حتى دلف له أحد الشباب الغُرباء عن سكان المنطقةِ يهتف بنبرةٍ جامدة:
_مساء الخير، حضرتك الحج “عبدالقادر” ؟؟
رفع رأسه له وحركها مومئًا بالايجاب، فاقترب من الشاب ينطق بطريقةٍ تمثيلية وكأنه المظلوم في روايةٍ كتبها أحد الظالمين ليروي معاناته ملئًا:
_طب أنا جاي أشتكيلك من ابنك يا حج.
انتبه له “عبدالقادر” وأرهف حواسه بكل أذانٍ صاغية وهو ينطق بثباتٍ:
_اتفضل بابني خير ؟؟ ابني مين ؟؟
اقترب الشاب يقف أمام مكتبه وهو يقول بثباتٍ:
_ابنك “أيوب” افترى عليا وجه على حقي، وأنا سألت عنك قبل ما أجيلك هنا وقالولي إنك عمرك ما ترد حد مكسور الخاطر ولا خايب الرجا.
وقف “عبدالقادر” أمامه يطالعه بتفحصٍ ثم نطق بثباتٍ:
_طب الكلام مينفعش هنا، تعالى معايا علشان نعرف نتفاهم.
تحرك “عبدالقادر” والأخر خلفه يسير مُذعنًا له بعدما صدق أنه استطاع رسم الجدية واقنعه بشخصيته تلك، فيما تحرك الأخر بثباتٍ وخطى واثقة إلى حيث بيته ثم توجه به نحو المندرةِ يجلس معه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_ها احكيلي بقى “أيوب” عمل إيه ؟؟
______________________
في الأعلى جلس “أيوب” في غرفته وخاصةً في ذلك الجزء الكبير وليس الأخر الذي يُخرج به موهبته وقد شرد في لقاءهما بالأمس، و لم ينكر فرحته ببراءتها وأنها لم تجمعها علاقة بذلك البغيض، لذا وجد شفتيه تنفلجان بابتسامةٍ صافية حينما لاح طيف ملامحها الهادئة بعقله، وخصوصًا وهي تبتسم بتوترٍ.
تنهد بعمقٍ ثم أخرج هاتفه يتابع صفحته الاجتماعية “غـوث” فشعر بالضيق حينما وجد نفسه أهملها لذلك بدأ الكتابة فيها بالآتي:
_ إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ
قال رَسُولَ اللهِ ﷺ : إنّمَا الأَعْمَالُ بالنِّيّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصيبُهَا، أَوْ امْرَأَةٍ يَنْكَحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إِلَيْه [ متفق عليه ]
● فمَنْ قصَدَ بعَملِه مَنفعةً دُنيويَّةً لم يَنلْ إلَّا تلكَ المَنفعةَ ولو كان عِبادةً، فَلا ثَوابَ له عليها
● ومَن قصَدَ بعَملِه التَّقرُّبَ إلى اللهِ تعالَى وابتغاءَ مَرضاتِه، نالَ مِن عَملِه المَثوبةَ والأجرَ ولو كان عمَلًا عاديًّا، كالأكلِ والشُّربِ
أنهى كتابة ذلك المنشور ثم أضاف من جديد مُفسرًا باللغةِ الدارجة لعل الكلام يصل للجميع إذا وجد أحدهم صعوبةً في فهم المنشور:
_تعالوا نفكر كدا لو كل حاجة بنعملها قصدنا منها نية الخير، هيكون إيه العمل ؟؟ يعني مثلًا اللي بيذاكر، ممكن يكون بيعمل كدا علشان يعدي الامتحان وخلاص، بس ممكن ياخد نية تانية وهي إن بيطلب العلم اللي ربنا عظم طالبيه، ممكن ياخد نية أنه يجتهد ويوصل للي هو عاوزه وينفع الأمة سواء كان دكتور أو مدرس أو أيًا كانت مهنته.
_ممكن كمان الناس اللي في البيوت ومسئولة عن البيوت زي النساء والفتيات ممكن يكون ليهم حسنات كتير بالنية اللي هياخدوها في العمل دا، زي إن المكان يكون نضيف لأن ربنا أمرنا بالنظافة و التطهر، وإن المكان يكون مناسب لأداء الفروض و الصلوات، وإن دا من باب البر لأهل الدار و الطاعة للوالدين.
_حتى كوباية المياه ممكن تاخد فيها خير، وهي إنك تحافظ على عمرك وصحتك علشان تعبد ربنا بجسد سليم مُعافى من الأمراض، وإنك تقدر تواظب على العبادات، حتى النوم تاخد فيه نية خير، وهي إنك تحافظ على جسمك وصحتك وتبدأ يوم جديد بطاعات أكتر ونوايا خير أكتر، خليك دايمًا فاكر إن نيتك لازم تكون خير….ومتنساش تدعي لنفسك و للغير.
_اللهم اهدنا واهدى بنا واجعلنا سببًا لمن اهتدى
_اللهم صلَّ وسلم على سيدنا مُحمد ﷺ
اختتم منشوره كعادته بالصلاة على الحبيب ثم ضغط على أيقونة النشر وهو يقول بنبرةٍ خافتة:
_اللهم أغفرلي مالا يعلمون واجعلني خيرًا مما يظنون.
وصله صوت طرقاتٍ على باب غرفته يتبعها صوت “وداد” تقول بنبرةٍ هادئة:
“الحج عاوزك تحت يا أستاذ “أيوب”.
تنهد بعمقٍ ثم نطق بنبرةٍ هادئة لكنها مرتفعة قليلًا:
_حاضر يا ست “وداد” جاي وراكي.
بعد مرور دقائق قليلة نزل “أيوب” لوالده فتفاجأ بـ “علاء” يجلس مع والده، لكنه أخفى دهشته تلك وهو يردد بأدبٍ:
_السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اؤمر يا حج.
رد والده التحية ثم نطق مُستفسرًا:
_تعالى يا “أيوب” الأستاذ جاي بيشتكي منك انك اتهجمت عليه وخدت من موبايله، أنا سمعت منه وعاوز اسمع منك.
جلس “أيوب” مقابلًا له يفرد مُنكبيه مرفوع الرأسِ وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_اللي حصل إن فيه آنسة محترمة قالتلي إن الأستاذ دا بيتعرض ليها وإنها مش قادرة تقف قصاده، علشان كدا طلبت مني أني اقفله، الفكرة إن الاستاذ المحترم عاوز يتبلى على البنت بكلام و مكالمات غلط، نصحته مرضاش يسمعني، نصحته تاني مهتمش، سحبت منه الموبايل ومقفول معايا مفتحتوش ولا جيت جنبه، لو هترضى بدا يا حج قولي، وأنا واثق فيك.
سأله والده بنظراتٍ مُتفرسة وهو يُدقق النظر في ملامحه:
_مين البنت دي ؟؟ وجاتلك فين ؟؟
تنهد “أيوب” ثم نطق بثباتٍ:
_آنسة معرفة، جاتلي شارع المعز.
نظر له “علاء” بخبثٍ ثم قال مُدعيًا البراءة:
_يا حج أنا مش فاهم بيتدخل بصفته إيه ؟؟.
حدجه “عبدالقادر” مُحذرًا من التكملة فسكت الأخر مُتقهقرًا عن الحديث، فيما نطق “عبدالقادر” يأمر ابنه بقوله:
_اطلع يا “أيوب” هات التليفون.
نظر له “أيوب” بتعجبٍ، فكرر الأخر طلبه بنبرةٍ أعلى واضاف:
_زي ما سمعت وكلم “بيشوي” قوله يجيلي.
تحرك “أيوب” من أمام والده بعدما فهم عليه، بينما “علاء” ابتسم بسماجةٍ وهو يقول:
_أنا قولت برضه حضرتك مش هتكسفني.
تجاهله “عبدالقادر” ناظرًا أمامه فتلاشت بسمة الأخر واعتدل في جلسته بخجلٍ من احراجه بتلك الطريقة.
____________________
في حديقة البيت جلست “آيات” بجوار “مهرائيل” تتحدثان في شتى الأمور المختلفة حتى نطقت “آيات” بحماسٍ:
_بس بصراحة أنا فرحت في أبوكي بعد موقف “بيشوي”، طالما هو كلمه والناس كلها عارفة دا عامل حوار ليه ؟؟ ما يوافق وخلاص عليه.
تنهدت “مهرائيل” مطولًا ثم نطقت بنبرةٍ مستاءة:
_أنا قلبي وقع في رجلي لما عرفت أنه جايب عريس بجد، خوفت الموضوع يتم وبصراحة أنا مش مقتنعة بحد غير”بيشوي”.
ابتسمت لها “آيات” ثم هتفت تغير مجرى الحديث:
_بقولك إيه روحي هاتي العصير من المطبخ متنكديش علينا، يلا وأبوكي دا أخره قعدة مع أبويا وكل حاجة هتبقى تمام.
حركت رأسها موافقةً ثم تحركت من جوارها بحماسٍ فيما نظرت “آيات” في أثرها مُبتسمة حتى أمسكت هاتفها تجاوب على استفسارات النساء عبر الصفحة الخاصة بشقيقها.
خرجت “مهرائيل” من الحديقة مرورًا بردهة البيت لتصطدم بجسده في وجهها وقبل أن تنزلق للخلف أمسكها “بيشوي” وهو يقول بلهفةٍ:
_حـــاسبي.
رمشت ببلاهةٍ لا تصدق الموقف وأنها حقًا تقف هكذا وهو يمسكها لذا انتفضت كمن لدغتها الحية، لترتسم بسمة عذبة على ملامحه الرجولية هاتفًا بصوتٍ رخيم:
_وقعتي وأشجار الزيتون اتهزت.
رفعت عينيها نحوه باستفسارٍ لم تنطقه، فأشار برأسه نحو عينيها الخضراوتين ناطقًا بخبثٍ يشاكسها:
_عِـيـونِـك الحِـلوين.
ارتبكت من حضوره كعادتها وصمتت تمامًا، وقبل أن يدلف هو للداخل اوقفته بصوتها المضطرب قائلةً:
_أنا كنت عاوزة أشكرك على موقفك، أنتَ نجدتني.
ابتسم لها وهو يقول بثباتٍ ممتزجٍ بثقته اللامتناهية:
_مش عاوز شكر، دا حقي وبدافع عنه.
ارتفعت ضربات قلبها بعد جملته تلك حينما أشار لها في صراحةٍ متوارية خلف ثقته أنها حقه، فيما ابتسم هو لها ثم تحرك من أمامها، وضعت كفيها على فمها تكتم ضحكة عالية كادت أن تخرج وتفضح أمرها، وحينما مرت الجملة من جديد على سمعها وكأنها أدركتها للتو، قفزت من جديد وهي تقول بحماسٍ خنق صوتها:
_أنا حقه…. Yes، Yes.
دلف “بيشوي” المندرة ثم نطق بعدما اعتاد منهم:
_السلام عليكم يا حج، خير.
أشار له بالجلوس فيما اقترب “أيوب” من أبيه يعطيه الهاتف فارتسم التشفي على وجه “علاء” شامتًا بالاخر وكأنهما طالبان في مدرسةٍ وكلٌ منهما يقدم شكواه ضد الأخر، أمسك “عبدالقادر” الهاتف ينطق بتقريرٍ:
_أنتَ جيت وأنا سمعتك، وهو اتكلم وأنا سمعته، ابني مش هجام علشان يثبتك في نص الليالي ومش حرامي علشان يسرقك، بس أنا هعتبرك متعرفهوش علشان كدا قولت كلام خايب زيك، إنما بقى الموضوع التاني، فقراري هتشوفه دلوقتي…..”بــيـشوي”
التفت له الأخر يقول بلهفةٍ:
_تحت أمرك يا حج.
مد يده له بالهاتف وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_شوف شغلك.
اقترب “بيشوي” يأخذ الهاتف من “عبدالقادر” ثم وقف أمام “علاء” يضع الهاتف نصب عينيه حتى فُتح والآخر يطالعه بتعجبٍ لم يدرك ما يصير حوله، فوقف “بيشوي” يتصفح معرض الصور لينطق بتهكمٍ:
_التليفون كله صور بنات عريانة ومسخرة وقلة أدب، حاجة تقرف، بصراحة عاوز الحرق هو والتليفون بتاعه كمان.
ابتسم “عبدالقادر” ثم نطق بشرٍ:
_مستني إيه ؟؟ شوف شغلك، مش دي دراستك؟؟
ابتسم “بيشوي” ثم أخرج هاتفه من جيبه ليفعل ما يحلو له ، فانتفض “علاء” يتحدث بنبرةٍ أقرب للصراخ:
_أنـــتَ يـــا عــم !! بتعمل إيه ؟؟ خلاص يا عمنا !!.
ضرب “عبدالقادر” الأرض بعصاه وهو يهتف بخشونةٍ:
_ولا كلمة !! السُمعة والشرف عندنا مفيهمش تهاون، علشان تفكر مليون مرة قبل ما تأذي أي بنت، فاكرها زريبة ؟! طب يا أخي خاف من ربنا، خاف على حُرمة بيتك، إنما أنتَ ربنا ياخد أشكالك بس مش قبل ما يتعظوا.
أبتسم “أيوب” بتشفٍ خاصةً وهو يجلس بجوار “بيشوي” الذي قام بمسح كل الأشياء من هاتف الأخر ثم قام بتوصيل الجهازين ببعضهما، فسأله “عبدالقادر” باهتمامٍ جلي:
_ها !! بتعمل إيه ؟؟
فسر “بيشوي” عمله بقوله:
_بظبطه علشان لو عقله وزه وفكر يروح يرجع الحاجة يلاقيها مقفولة ضَبة ومفتاح، مش مضمون دا برضه يا حج، الصنف العِرة دا ورد عليا كتير.
شعر “علاء” بالإهانة حتى فارت الدماء إلى عروقه واحتقنت ملامحه، خاصةً وهو يرى نفسه كما الكُرة كلٍ منهم يُركلها للأخر يتسلىٰ بها، انتظر بعد الدقائق شعر بها وكأن روحه تنسحب، وبعدها ألقى “بيشوي” الهاتف عليه وهو يقول بمرحٍ خبيث:
_يلا يا حمام طير.
قبض على الهاتف ثم وقف وهو يهدر من بين أسنانه:
_ماشي….تُشكر أوي يا حج.
تحرك من المكان فنظر “عبدالقادر” في أثره بغضبٍ ثم نطق بقلة حيلة:
_لا حول ولا قوة إلا بالله، ربنا يهدي.
خرج “علاء” من بيت العطار كما المضروب على وجهه بصفعةٍ أهانت كرامته أمام الجميع، وكل ذلك بسبب فتاةٍ !! لذا قرر الانتقام لحقه فبدل وجهته إلى أخرى يعلمها هو جيدًا فقصدها متوجهًا إلى هناك بشرٍ تفاقم داخل صدره منها هي تحديدًا “قمر” لذلك أصر على اتخاذ تلك الخطوة.
وصل إلى ورشة الحدادة الخاصة بـ عمل “فضل”، فوجده يقف أمام إحدى البوابات الحديدية يقوم بطلاء أجزائها، حينها قال بنبرةٍ قصدها جامدة:
_مساء الخير يا عم فضل ؟؟
التفت له “فضل” بعدما علم صوته في الحال، وما إن ابصره أمامه سأله بسخطٍ جمَّ ازداد برؤيته أمامه:
_أنتَ بتعمل إيه هنا ؟؟ خير ؟؟
رد عليه مُدعيًا الانكسار:
_أنا جاي أشهدك يا أستاذ “فضل” ينفع بنت أختك المحترمة اللي اتكلمت في حقي وعلمت عليا لعبة، تبعتلي الجدع اللي هي ماشية معاه يهددني ؟؟
اتسعت عيناه بدهشةٍ لا يصدق ما يسمعه، فأمسك تلابيبه يهزه بعنفٍ وهدر بصوتٍ عالٍ:
_أنتَ بتقول إيه مجنون أنتَ !! باين عليك خرفان ولا شارب حاجة.
بنفس الإدعاء الكاذب هتف بصوتٍ منكسر:
_الله يسامحك يا عمي، لو مش صدقني أنا هقولك على اسمه، “أيوب عبدالقادر العطار” بالإمارة الآنسة المحترمة بتروحله شارع المعز تقابله هناك.
ارتخت قبضة “فضل” عليه وزاغ بصره فيما لاح على شفتي الأخر ابتسامة خبيثة جعلته يشعر بالانتشاء وهو يثأر لحق كرامته المهدورة متوقعًا رد فعل الأخر.
_______________________
جلست تلك الفتاةِ فوق سطح البيت تدندن بصوتها العذب وهي تروي زرعاتها الصغيرة التي ترعاها هي، حتى مرت كتلة هواء دافئة داعبت حجابها المُرتخي فوق خصلاتها السوداء ليعلو صوتها في الغناء بعذوبةٍ:
_غمضت عيوني خوفي للناس يشوفوك مخبا بعيوني، هَبَّ الهوا، بكاني الهوا لأول مرة ما بنكون سوا.
وصلها صوتٌ من خلفها ينطق بتوعدٍ:
_ما احنا كنا هنكون سوا وأنتِ اللي اتمنعتي، اشربي بقى.
التفتت تلك الفتاة بعينين مُتسعتين بعدما وصلها صوته المقزز الذي يجعلها تشعر بالاشمئزاز، بينما هو اقترب يهدر من بين أسنانه وهو يقترب منها تزامنًا مع تراجعها للخلف:
_خلي “عبدالقادر العطار” ينفعك يا حلوة، بقى بتهدديني ؟؟ طب أنا هنفذ وعدي ومية النار هتغرق وشك الحلو دا، ولو على عيال “عبدالقادر” خليهم ينفعوكي بقى، واعرفي إن “سعد” ملهوش كبير يوقفه، سلام يا حلوة.
لكزها في كتفها وهي تقف مستمرةً أمامه حتى رحل هو فارتمت تلك الفتاة تضم ركتبيها تجلس القرفصاء وهي تبكي بخوفٍ خاصةً حينما يظهر أمامها ذلك الوغد
________________________
جلس “يوسف” في غرفته مُتذمرًا يشعر بالضيق بسبب جلوسه بتلك الطريقة فقام بفتح التلفاز وأشعل سيجارةً فوصله طرقاتٌ على باب غرفته فزفر بقوةٍ ثم توجه نحو الباب يفتحه فوجد “مادلين” أمامه رفع حاجبه لها وهو يقول بتهكمٍ:
_خير يا مرات عمي ؟؟ جاية لحد هنا ليه؟؟
ابتسمت بخبثٍ وهي تقول:
_محدش هنا، بلاش حوار مرات عمي دا.
ضحك رغمًا عنه وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_خير يا “مادلين” ؟؟ عاوزة إيه ؟؟
سألته بتعجبٍ قصدته وهي تتحدث بثقةٍ:
_جرى إيه يا عم ؟؟ نسيت إننا صحاب ؟؟.
حرك رأسه نفيًا ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_طب اطلعي فوق السطح وأنا جايلك يا مرات عمي.
تحركت من أمامه فيما نظر في أثرها مُبتسمًا، خاصةً وهي ترسم الدور ببراعةٍ أمام الجميع في كرهها له وماخفى كان أعظم.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى