رواية غوثهم الفصل التاسع والثمانون 89 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل التاسع والثمانون
رواية غوثهم البارت التاسع والثمانون
رواية غوثهم الحلقة التاسعة والثمانون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
أتيتكَ يا ربي وأنتَ بحالي عليم..
أتيتك هربًا من دنياي ومن ذنبٍ أليم..
جيئتُ راكعًا وأنتَ يا مولاي الغفور الرحيم
أرجوك أن ترحمني وأنتَ صاحب العفو العظيم.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
“مُذهلة هي كل تفاصيلك…
وخصوصًا لمعة عينيكِ، تلك اللمعة التي تنافس كل أضواء المدينة في قوتها، حيثُ كل مافيك جميل ويستحق أن يُذهل المرء عند رؤيته، تستحقين أنتِ وعيناكِ أن يخضع المرء لكما ويترك العالم خلفه…
وفي الحقيقة لم يُترك العالم فقط، بل يترك نفسه وكل ما يَشغله ويبقى معكِ أنتِ، أنتِ وفقط..
فدونًا عن العالم بأكملهِ وكل الطُرقات المُخيفة،
وجدنا أنا وقلبي الأمان في كنفكِ هُنا،
وكأن خير ماحدث لي هو قدومي إلى مدينتك هُنا.
<“الذنب ليس ذنبنا، هو ذنب من أحبنا”>
بعد مرور ساعة تقريبًا خرج “نـادر” من المكان وقد كرهه هو الأخر وأراد أن يعود إلى البيت قبل أن تقلق عليه أمه أكثر من ذلك، خرج وأخرج مفاتيح سيارته وهاتفه واستعد للتحرك للجهة الأخرى تجاه سيارته لكن السيف قد سبق العزل وأتت سيارة أخرى وأطاحت به على الطريق ليهوىٰ جسده مُجددًا فوق الأرض الأسفلتية وقد هربت السيارة من المحيط بأكملهِ وهذا الشاب هنا غرق في دمائه بمفرده في طريقٍ مظلم وسط عتمة الليل وصفوف السيارات الفارغة، وفقط صوت نباح الكلاب وسط سكون الليل هو الذي خرج بالتزامن مع ارتجافة جسده وهو يحاول فتح فمه وعينيه صرخًا لطلب الاستغاثة.
في المشفى كان يتحرك الفراش المعدني المدولب الخاص بنقل المرضى أو ربما الجُثث نحو الغرفة الخاصة بالإنعاش مُجددًا أو إنقاذ ما يُمكن إنقاذه، هذا الغارق في دمائهِ كان يتسطح الفراش وقميصه الأبيض تلطخ بدمائهِ وقد وصل للمشفى بأعجوبة وركض له الأطباء ما إن تم الكشف عن هويته وعن عمله حيث القبطان البحري “نادر سامي السيد”، هويته وحدها بالطبع أسعفت الموقف حيث الخوف من طاقم العمل والأطباء القائمين على إنقاذه رغم شبه استحالة حدوث هذا الأمر، فعند وصوله إلى هنا كان يُشبه الموتىٰ أو هكذا كان حاله.
دلف غرفة العمليات وخلفه دلف الأطباء في محاولةٍ شبه يائسة لأجل إسعافه وإنقاذه من جديد، ومنذ البداية اتضحت الأضرار عليه، حيث الكدمات في وجههِ الدامي والنزيف الذي خرج من رأسهِ نتيجة الدفعة القوية على الأرض الصلبة، وها هم والجميع يجلس في الإنتظار.
__________________________________
<“وصلنا بر الأمان وأصبحنا في أمانٍ”>
وقف هذا المُتعب صاحب القلب المُعذب يفتح الباب الخاص بشقة والدته بأعصابٍ تالفة، وقد وصل إلى هنا بعد صراعٍ طويلٍ مع نفسه وما إن فتح الباب دلف وألقى مفاتيحه على الطاولةِ بجوار باب الشقة وخلع حذائه ثم جلس على المقعد بجسدٍ مُنهك تمامًا بعد مقابلته مع “نـادر” وكيف صارع رأسهِ ونفسه وساكني رأسه حتى ترك المكان ورحل، وحينما وصل الشقة وجد الظلام يُغطيها وقد ظهر النور بظهور أمـه التي أقتربت منه وهي تسحب المقعد الخشبي لكي تجلس بمحاذاتهِ وقد أبتسم هو لها فوجدها تمد كفها ثم قربته منها وجعلت رأسه يستقر فوق صدرها وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا سيبتك تروح لوحدك علشان أنتَ قولتلي لو مروحتش هتحس إنك زعلان من نفسك، وهتزَّعل “مصطفى” منك، بس برضه متجيش على نفسك يا حبيب ماما، هما أحرار مع بعض، ياكلوا في بعض كلهم، بس بلاش أنتَ ترمي نفسك ليهم، لو ليا غلاوة عندك فكر فيا أنا، أكيد مرضاش ييجي معاك صح؟.
حرك رأسه نفيًا وأغمض عينيه وهو يقول بنبرةٍ هادئة يخالطها الصوت الناعس:
_مرضاش، قالي روح لأمك وسيبك مني، بيني وبينك أصلًا سيبته هو مش صغير بقى، دا شحط قد الحيطة واسنيت شوية قولت لو شرب هدخل آخده وأرميه لأمه وهي حرة، بس “غالب” كلمني وقالي مشربش، مشيت وجيتلك بصراحة، نيميني بقى علشان دماغي مصدعة.
ابتسمت “غالية” وظلت تمسح على رأسهِ وكتفه وهو بين ذراعيها ولو كان الأمر بيدها لكانت حفظته هنا في كنفها بعيدًا عن العالم بأسرهِ، بينما هو تمنى أن يبقى هنا بعيدًا عن العالم بأكملهِ ساكنًا بين ذراعيها من ضجيج الرأس الذي لم يتوقف ومن الغوغاء التي يصورها له خياله وتعصف بذهنهِ.
في مكانٍ أخرٍ يعرفه الجميع جيدًا ويعرف ما يدور بداخله في هذا التوقيت، كان يجلس “أيـوب” بداخل المسجد في الساعات الليلية قبل الفجر وإذاعة القُرآن الكريم قد صدح صوتها ليلًا بنفس الجملة المعتادة للبداية:
_إذاعة القرآن الكريم من القاهرة..
للقاريء الشيخ “شعبان الصياد”.
بدأ القاريء في قراءة ما تيسر من القرآن الكريم بنفس لحظة وقوف “تَـيام” على أعتاب المسجد وهو يتنفس بأنفاسٍ مُتقطعة وكأن في عراكٍ دائم بينهما، وقد أخذ قراره وولج المسجد أخيرًا وقد فهم مغزى الرسالة أخيرًا وهو أن يأتي للمكان الذي يُرشد الجميع نحو الطريق الصواب، كان في هذه اللحظة “أيـوب” يوليه ظهره لكنه شعر به من صوت أنفاسه المضطربة وعلمه دون أن يكشف هويته وجهًا لوجه..
حينها دلف “تَـيام” على استحياءٍ وكأنه يخشى الولوج أو ربما يخاف من المواجهة، يعلم أنه سيظهر بصورة المُخطيء لكن الشعور لديه أقوى من أن يعترف به، المشاعر بداخله مُثارة بشكلٍ غريب جعله يفقد الصواب ويضل كل الطُرق وهاهو في بداية التحرك نحو الطريق الصحيح وقبل أن يوسوس له شيطانه ويستمع لنفسه الأمارة عليه بالسوء حينها رفع “أيوب” نبرته يأمره بالتوجه إليه قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_تعالى يا “تَـيام” أنتَ خايف ليه؟ دا أنتَ في آمن مكان في الدنيا كلها، تعالى أنا كنت مستنيك وعارف إنك هتيجي هنا.
أقترب منه وهو يزدرد لُعابه حتى شعر بالألم في أذنيه ووصل بخطواتٍ وئيدة شبه ميتة وجلس أمامه على ركبتيهِ في وضعٍ غير مريحٍ لكن بعدما ابتسم له “أيـوب” رَبَّعَ كلتا رُكبتيهِ ورفع عينيه الزائغتين ونبس بنبرةٍ خافتة أظهرت وجهه:
_أنا جيت بعدما فضلت أفكر إزاي أخلص من التوهان دا، جيت وأنا معنديش جرأة أدخل هنا، بس أنا عاوز أسألك يمكن عندك الجواب، ليه يا “أيـوب”؟ كل دا كان ليه؟ أنا مش قادر أستوعب حاجة، واللي جوايا أصعب من إني أتحمله أو أفكر فيه، طلعت من مجرد واحد عايش مع أهله في بيت كله حب وهنا، لواحد خدوه عطف وشفقة وسد احتياج؟ أنا مش قادر استوعب حاجة زي دي، ومش قادر أصدق إنها مكانتش شفقة عليا، لو تقدر تريحني من نفسي ريحني واكسب فيا ثواب يا “أيـوب”.
ابتسم له “أيـوب” ورفع كفه يمسك كف “تَـيام” مُربتًا عليه وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما سحب نفسًا عميقًا:
_أنا بدوري مش هقدر أنكر إحساسك ولا أقدر أقولك مشاعرك مبالغ فيها، لأن اللي حصل دا مش هين عليك، صحيح ليك حق تزعل وليك حق تتخض وتتوه من نفسك، بس قصاد كل دا متنساش تحمد ربنا وأوعى تنكر فضله عليك، ولو عاوز ترتاح بجد يبقى لازم تصدق إنك عاوز ترتاح، لازم تكون متقبل دا من جواك أنتَ، لأنك لو بسيط هتلاقي نفسك مخسرتش أي حاجة خالص، بالعكس أنتَ ربنا كرمك من وسع ماخدش منك حاجة، ربنا كرمك وإداك.
التقت حينها النظرات ببعضها وكأن الأخر يسأله بعينيهِ عن مقصد حديثه في لمحة استنكارٍ صدرتها عيناه فيما هتف الأخر بنبرةٍ هادئة يفسر مقصد الحديث بقولهِ:
_آه متستغربش كدا، ربنا كرمك أوي، على الأقل أنتَ أتربيت في بيت مع أهل كل الناس بتشهد بحبهم ليك، محدش يقدر ينكر دا، هاتلي مرة حسيت فيها إن “صبري” مش أبوك، أو هات مرة حسيت وسطهم إنك مش ابن ليهم، حبوك وكرموك وعلموك وربوك وصرفوا عليك، صحيح غلطوا لما اتبنوك وكتبوك على اسم “صبري” ودا ذنب كبير بس ربنا سبحانه وتعالى رحيم بالعباد، وكرمك بأم وخلاها رضعتك علشان ميكونش فيه حرمانية بينك وبينها وتعتبر أمك وتحرم عليك، صدقني ربنا كرمك، أحمد ربنا يا “تَـيام” وقدر النعم اللي عندك، صدقني عندك كتير بس أنتَ مش عاوز تشوف.
هاهو يؤكد له أنه حقًا أصبح مُذنبًا في عين نفسه وقد نكس رأسه للأسفل بخزيٍ من نفسه فوجد “أيـوب” يربت فوق كفه وحينها نطق هو بنبرةٍ ضائعة أقرب للبكاء الذي جاهد لإخفائهِ:
_طب إزاي وأنا حاسس نفسي غريب في الدنيا دي؟ حاسس إن كل الأماكن مش ليا وكل الناس مش مني، كل شوية أفتكر وأبقى عاوز أموت نفسي وأكسر دماغي يمكن تبطل تفكير، طب العمل إيه دلوقتي وأروح فين وأجي منين؟.
ابتسم مُجددًا هذا المُرشد الذي لُقِبَ بالغوث وأضاف من جديد مُكملًا حديثه بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ جيت خلاص المكان الصح، أنتَ هنا في أمان، ربنا سبحانه وتعالى كرمك أوي وأداك كل اللي نفسك فيه، كرمك بالبنت اللي حلمت بيها وجمعك بيها رغم استحالة الأسباب، كرمك من صغرك بحضن أم ولسه الحضن دا من حقك لأنها أمك اللي رضعتك، زعلان؟ طب ما أخوك عاش يتيم الأم من يوم ما أتولد، زعلان برضه؟ طب ما أنتَ كنت في رعاية أب وأم وليك اسم ومعزز مكرم، غيرك بيترموا في الشوارع والمواصلات وعلى أبواب المساجد ودور الأيتام والله العالم بمصيرهم إيه، زعلان؟ طب ما أنتَ كنت علطول نفسك في أخوات وعيلة وعزوة علشان تكون مسنود عليهم مش زي “صبري” مات هنا ملهوش حد، زعلان؟ روح حضن أمك وهون عليها وهون على نفسك علشان غيرك لسه بيتمنى لحظة واحدة في حضن أمـه ومش عارف، قولي إيه مزعلك تاني؟.
في الحقيقة هو يعطيه الفرصة لكي يتحدث الأخر ويخرج مافي جبعته بكامل إرادته دون أن يُراكم الأسئلة والحيرة ثم ينفجر بلحظةٍ واحدة، يريده أن يتحدث بكامل حريته وحينها هتف الأخر بنبرةٍ أقرب للاندفاع:
_طـب ليه معيشتش مع أبويا؟ ليه متربيتش في حضن أخويا وعيشت عمري كله وحيد من غير أخوات؟ ليه أبويا يحضر كتب كتابي زيه زي الغريب رغم إني حسيت ناحيته بحاجة محسيتهاش مع أي حد حتى “صبري” نفسه، إزاي حسيت إني عاوز أورح معاه ومش عاوزه يمشي وحسيت إني بتغرب وهو سايبني ومروح؟ ليه مفضلتش في حضن أبويا وأتحرمت منه وبعد العمر دا كله يتكتب عليا أعيش المشاعر دي؟ ليه حياتي أتقلبت كدا في لحظة ويطلع ليا أخ وبحبه وشبهي وأنا مش عارفه وعمال أكلمه كأنه غريب عني، صدقني أنا اللي جوايا أصعب من إني أتكلم عنه، مليون سؤال في راسي ومليون إحساس كلهم أصعب من بعض.
في هذه اللحظة أرتاح “أيـوب” بمجرد إخراج الأخر البركان الذي يثور ويموج بداخلهِ مُشكلًا نيرانًا لم تتوقف عن البنش في قلبه بلهيبها وكأنها مخالب أسدٍ تمتد نحو القلب تخدش نياطه، فيما بحث الأخر عن الجواب الحكيم الذي يُطفيء نيران الأخر بقولهِ:
_وكل إحساس في دول ليهم حكمة من الخالق الرحيم، وأنا هجاوبك باللي يريح قلبك، زعلان إنك متربيتش مع أبوك؟ طب أنا هفرض دلوقتي إنك أتربيت مع أبوك في حضنه وفي بيته ومع أخوك، وطلعت أنتَ زي عمك وورثت منه كره أخوك أو العكس إن أخوك يكرهك، فييجي واحد فيكم يخلص على التاني ولا يحطه في مصيبة، مش دا كان وارد يحصل؟ وساعتها أبوك بدل ما يدعيلك كان هيدعي عليك ليل ونهار، ويتمنى ربنا يخلصه منك، أو بلاش افرض طلعت عيل متدلع ومعندهوش مسئولية ومصايبك تكتر لدرجة تخلي أبوك يستعر منك، ويتمنى إنه ميخلفكش، أو توصل الأمور إن عمك كان خلى واحد فيكم نسخة منه ويجحد على أبوه لدرجة إنه ممكن يموته، أو كان ممكن تفضل مع أبوك وتتقتل مرة بجد وكان ممكن تكوت وحش على معصية، بلاش كل دا.
توقف عن الحديث ثم أعاده بنفس الأسلوب من جديد يُكمل الحديث بنفس اللباقة والحكمة قائلًا:
_كان زمانك مع أخوك دلوقتي وأبوك بس عمرك ما عرفت يعني إيه حضن أم، كان زمانك يتيم الأم بجد وعمرك ما لقيت حضن حنين يحتويك ومش هتقدر تنكر إنك حسيت في حضن الست “نجلاء” إنها أمـك بجد، يا سيدي كان ممكن تكون معاه بس أبوك يبقى راجل جاحد وقلبه يقسى بفلوسه وماله وعياله ويبقى ظالم، بس ربنا برحمته فعل ما شاء رحمةً بالقلوب، ومش قلبك أنتَ أو أبوك بس، اللي حصل دا كان سبب إن ناس كتير حياتها تتصلح وربنا جعل أبوك سبب إنه يكون منقذ ليهم.
سأله “تَـيام” بعينيهِ وبفمهِ حينما مطَّ شفتيه باستفسارٍ هاديءٍ جعل الأخر يضيف ببساطةٍ أكبر:
_أيوة، اللي حصل دا كان سبب كبير أوي إن غيرك حياتهم تتصلح وربنا يرزقهم بمكان في الدنيا دي، لأن بغيابك الحج “نَـعيم” بقى بيشوفك في كل عيل صغير محتاج، بقى بيحس ناحية كل حد ملهوش حد إنك هو، بسببك “إيـهاب” و “إسماعيل” بقى عندهم بيت يعيشوا فيه وأب يحميهم من الدنيا والناس برة، ما كان ممكن تعيش مع أبوك وهو ميقدرش حاجة زي دي وميمدش أيده ليهم لأنه متوجعش على عيل صغير..
وبسببك برضه البيت اتفتح لكتير منهم البنت مرات “إيـهاب” وبقت محفوظة في بيت ومحمية فيه من الشارع وناسه والرجالة اللي زي كلاب السكك، ما دا كان ممكن ميحصلش، بسببك “يـوسف” ربنا رزقه بالحج في الوقت المناسب علشان يكون طوق نجاة يلحقه من كارثة كبيرة هتضيع مستقبله، أبوك فتح بيته لكتير وأكرمهم وبقى ليهم طوق نجاة في نفس الوقت اللي ربنا رحم ابنه ورزقه بناس قلبهم أبيض، في حين إنه كان هيموت، أو يترمي في ملجأ أو يتدبح، فيه كتير غايب عن عينك، بلاش كل دا، زعلان إنك اتخطفت عيل صغير من حضن أهلك زي حتة اللحمة الحمرا؟ طب ما كان ممكن تتخطف كبير ومتقدرش تنسى اللي حصل، وكان ممكن يحصل فيك زي اللي حصل لابن عمك، أظن دا جرحه كبير أوي.
في تلك اللحظة انقبض قلب “تَـيام” حينما لمح طيف “مُـنذر” وتذكره وتذكر انفجاره في الحديث عن وجعه وجرحه وقد أغرورقت عيناه بالعبرات ليجد صوت المُغيث يهتف بنبرةٍ هادئة:
_شوفت بقى؟ أهو دا يعيني كان طفل زيك، بس للأسف ملهوش ذنب في أي حاجة، فقبل ما تستغرب عمك إزاي كان بالجحود دا إنه يخطف ابن أخوه ويعمل فيه كدا، فهو عمل في ابنه الأصعب من كدا، حكم عليه بالموت قبل ما يشوفه، وابنه بقى بيتباع في كل مكان شوية، ابنه اللي أتربى إنه والعياذ بالله عبد لشوية بشر، كل حياتهم أوامر منهم وبس، يسرق ويقتل ويروح ويسافر ويراقب ويجيب، حتى شهادته كانت اختيارهم هما علشان يقدر يساعدهم بيها، ها ؟ لسه زعلان؟ زعلان وأنتَ عندك أب سيرته بتملع ومحدش عرفه غير لما يدعيله، زعلان إنك عندك أخ عاش عمره كله يغير منك ومش حابك وسبحان الله ربنا يجمعك بيه صدفة فيحبك ويرتاحلك ولما يعرفك يتمناك أنتَ من كل الدنيا تكون أخوه، زعلان وأنتَ عندك “آيـات” اللي بتدعي ربنا يلطف بقلبك قبل ما تدعي لنفسها؟ زعلان وأنتَ ربنا كرم أمـك باللبن وألهمها ترضع ابن أختها لحد ما أنتَ تيجي علشان متكونش مُحرم عليها؟.
انتبه له “تَـيام” وسأله بنبرةٍ ضائعة:
_هو أنا لو كنت عيشت معاها من غير رضاعة كانت عيشتي دي معاها حرام؟ بس إزاي وهي ست كبيرة يعني قد أمي، “نجلاء” أكبر مني بـ ٢١ سنة، صحيح متجوزة صغير بس دي أمي، آه يمكن مشاعري ناحيتها اتلغبطت بس هي أمي
ابتسم له “أيـوب” وهتف بنبرةٍ هادئة ازدادت بها الحكمة وهو يفسر له أكثر عن مقصد الحديث:
_ماهو ربنا سبحانه وتعالى أعلى وأعلم بكل شيء، ربنا حرم التبني لأنه عالم إن قلوب العباد بتتغير وتُفتتن بأقل شيء ولو مش كدا أكبر مثال “زُليخة” اللي افتتنت بسيدنا “يوسف” عليه السلام رغم إنه أتربى في بيتها، بس هي مقدرتش وأتهمته وراوضته عن نفسه، وساعتها فرعون قال إن كيدهن عظيم لما أكتشفوا براءة سيدنا “يـوسف” من خلال قبضتها على قميصه، دا أكبر مثال حي إن ربنا سبحانه وتعالى لم يخلق أو يحرم شيء من العبث، بس هي حكمته، وأنتَ من رحمته بيك جعل اللبن موجود علشانك أنتَ، يعني حتى وأنتَ مش معاها رزقك كان موجود ومحفوظ، صدقني والله أنتَ مُبخت وربنا كرمك بكل اللي نفسك فيه، علشان أنتَ كنت محتار ليه مش عندك عيلة وأخوات وليه مش معاك فلوس كتير، وربنا كرمك بكل دا أهو، عيلة كبيرة مش أخ واحد بس، وأب عاش عمر كامل مخلص لابنه وبيدور عليه، وأخوات كتير أتربوا على أيد أبوك والإخلاص ليه، وابن عم ملهوش حد ودورك تمد إيدك ليه زي ماهو حارب بأخر نفس فيه وجابك لأبوك تاني.
في تلك اللحظة شعر “تَـيام” بظهور النور في طريقه بدلًا من الظلام الدامس الذي غطى عليه وعلى أيامه، شعر كأنه يسير في الطريق الصحيح بمجرد أن استهدى لطريق الغوث، شعر وكأنه هنا وجد الأمان والراحة لكل سؤالٍ بدت الإجابة عليه مُبهمة وقد نزلت دموعه وهو يطلب من “أيـوب” بنبرةٍ منكسرة:
_ينفع أحضنك يا “أيـوب” وأعيط؟.
حينها شعر به “أيـوب” وأدرك حاجته للإحتواء ففرق بين ذراعيه وهو يبتسم له وحينها أرتمى عليه “تَـيام” باكيًا وكأنه أستغل الفرصة أحق الاستغلال في أن يُخرج كل طاقته السلبية خلال اليومين الماضيين في هذه اللحظة، بينما “أيـوب” ظل يمسح على خصلاته وظهره وهو يهدهده كما لو كان طفلًا صغيرًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_بسم الله على قلبك حتى يهدأ..
بسم الله على روحك حتى تطمئن..
اللهم إني أسألك أن تحفظه في رعايتك.
حينها ظل “تَـيام” متمسكًا به وهو يبكي حتى نام بين ذراعيهِ أخيرًا وأغمض جفونه بعد ليلتين جفاه النوم بهما وقد وصل “يـوسف” المسجد في هذه اللحظة وابتسم ما إن تيقن من تفكيره وأن هذه الليلة ستنتهي بهذه الطريقة وقد جاور “أيـوب” وهو يبتسم له ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_كنت متأكد إن الليلة دي هتنتهي كدا، وكنت عارف إنه هيجيلك يسكن وجعه ويرضي حيرته، على رأي “قـمر” يا بخت ناسك بيك يا أسطى “أيـوب”.
ابتسم الأخر له ثم مسح على كتف “تَـيام” وتركه على سجاد المسجد ثم أشار للآخر يعاونه في التجهيز لصلاة الفجر وكأنها عادة يُلزم بها الأخر الذي يعمل بكل رحابة صدرٍ وهو يشارك في هذه المهمة بسعادةٍ خفاها عن نفسه حتى لكنها لم تُخفى عن الغوث.
__________________________________
<“أحذر عدوك مرة، ثم بعدها ألف مرة، لا تأمنه”>
بدأت الشمس تظهر بعد بزوغ الفجر، وفي هذا التوقيت أمتلأت المشفى بعائلة “الراوي” بعد تلقيهم خبر حادث “نادر” على الطريق وقد جلست “فاتن” على الأرض في الرواق الرُخامي وهي تنوح على فلذة كبدها وبجوارها جلست “مادلين” تمسك كتفيها وهي تحاول تهدئتها، بينما الأخرى غريزتها الأمومية أعمتها عن الإستماع لأي حديثٍ سوى أن ابنها في مرحلة خطرة بداخل غرفة العمليات، الأمر لديها مثل الخطورة بذاتها كونها شارفت على خسارة ابنها الوحيد وحينها دون وعيٍ ظلت تُردد:
_ليه يا “يـوسف”؟ ليه يابني كدا؟ ليه يا “يـوسف”؟.
ظلت تُرددها بنبرةٍ مكتومة وهي تُلقي كامل الذنب على “يـوسف” ولم ينتبه لها سوى “شـهد” التي حركت رأسها نحو “فاتن” وسألتها بنبرةٍ مُتعجبة مختلطة بالبكاء على حال زوجها:
_ماله “يـوسف”؟ وإيـه علاقته بجوزي واللي حصله؟ إيه اللي حصل يا طنط قولي؟ و “نـادر” كان فين أصلًا ساعة الحادثة، قولي يا طنط حصل إيه ؟؟.
صرخت فيها باكيةً بشكلٍ لفت الأنظار نحوهن حيث كانت تجلس “شهد” على المقعد الحديدي بينما “فاتن” تجلس على الأرض و بجوارها “مادلين” وهي تدعم ثقل جسدها وحينها سكتت “فاتن” ما إن أدركت فداحة ما تفوهت به لتجد في هذه اللحظة زوجها يندفع نحوها مثل الإعصار الأعمى حين يقتلع الأشجار من جذورها وحينها أوقفها وهو يمسكها من مرفقها قائلًا بنبرةٍ جامدة:
_فوقي لنفسك كدا يا “فاتن” وقوليلي حصل إيه وإيـه دخل “يـوسف” بالحوار ؟؟! ولو كدبتي أنتِ عارفة هعمل إيه وساعتها أبقي وريني مين هيلحقك، أنــطـقي !!.
صرخ فيها وهو يهزها بيده حتى صرخت هي بصوتٍ مُتقطعٍ وهي تتوسله أن يتوقف وما إن فلتت أعصابها ومعه فقدت السيطرة على زمام الأمور حينها هتفت بنبرةٍ باكية:
_أنا معرفش، بس قولت لـ “يوسف” لو يعرف مكانه يروح يجيبه ليا أحسن يعمل في نفسه حاجة، خوفت يسهر ويشرب ويجراله حاجة بس هو شكله مراحش، أنا كنت حاسة إن ابني هيجراله حاجة، ياريته كان راح.
تثبتت أنظار “سامي” على وجهها وهو يرمقها مُتسائلًا ليجدها تدخل في نوبة بكاء عاتية جعلت “مادلين” تدفعه بعيدًا عنها ثم ضمت رأسها بحنوٍ وهي تهدهدها بينما “شـهد” ربطت بين حادث زوجها وبين تهديد “نَـعيم” أمسًا وحينها حركت رأسها نحو “سامي” الذي وقف بنيرانٍ تأججت داخل صدره بنفس لحظة قدوم “غالب” إليهم وهو يسأل بلهفةٍ:
_طمنوني يا جماعة، الدكتور طمنكم؟.
انتبه له “عاصم” الذي ضيق جفنيه يطالعه ويستبين هويته وحينها هتف هو يعرف نفسه بقولهِ:
_أنا “غالب” صاحب المكان اللي “نادر” كان فيه وصاحبه وصاحب “يـوسف” كمان، وجيت أتطمن عليه، هو كويس؟.
حينها أقتربت منه “شـهد” تسأله بنبرةٍ جامدة بعدما برعت في إخفاء دموعها وعبراتها:
_إيه اللي حصل لجوزي؟ وإزاي العربية خبطته كدا؟ والكاميرات فين؟ أنــطق أحسنلك.
رفعت صوتها أمام الجميع بينما هو هتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء لكن التحفز للاشتباك معها لم يتركه بل تأهب لذلك هاتفًا:
_أنا ماليش علاقة بأي حاجة، جوزك كان في المكان وخرج والعربية خبطته في مكان الكاميرا مش جايباه لأن دا باب الخروج التاني وهو عدى الطريق دي آخر حاجة ظاهرة، بعدين هو كان فايق وفي وعيه لحد ما “يـوسف” جه ومشي من المكان.
هذه هي الجملة الأخيرة التي جاوبت على حيرة الجميع وفضولهم ومنهم “فاتن” نفسها التي برقت بعينيها عند استماعها للجملة الخاصة بحضور “يـوسف” لذلك المكان، لكنها هي الوحيدة التي كانت تُنافي الجميع في هذه اللحظة تزامنًا مع دخول طاقم الشرطة الخاص بالتحقيق في تلك القضية بعدما قامت المشفى بإخلاء مسئوليتها عن طريق تقديم البلاغ باعتبار الحادث جريمة الشروع في قتلٍ…
_________________________________
<“لقد أختارت الطريق الصواب، مبارك عليك”>
قبل الظُهر بوقتٍ كثيرٍ…
لقد هدأت نيرانه وتم إرشاده للصواب، وقد جلس يشهد حضور الشمس محل ليله المُعتم وجلس هو يوثق هذه اللحظة وهو يقوم بالمقارنة بين حاله وحال الطيور خاصةً وبعد جلسته مع “أيـوب” فقد وصل للكثير من الأمور المفقودة في عينيه ولتوهِ حصل عليها، بدا الأمر وكأن الضوء حل محل الظلام الذي أصابه بالعمى الكُلي عن الحقيقة، وهاهي الطيور تُحلق فوقه بكل حرية وهو يتنفس لمرته الأولى من بعد ظهور الحقيقة الغائبة..
شهد “تَـيام” هذه الساعات بنفسهِ بعد عودته من المسجد وقد جلس بجوار الطيور دون أن يتقابل مع أمه، وللحق مشاعره أثارته نحوها أن يحتضنها ويقوم بالتهوين عليها لكن الأمر أصبح أكثر صعوبةً عليه، وفي هذه اللحظة تعجب من حاله وحال دنياه، فهل يُعقل أن أكثر الأفعال التي كان يفعلها بكل أريحية تصبح هي أصعب ما يقوم المرء به؟.
نزل من سطح البيت وتوجه إلى شقته فوجدها تنام على الأريكة وهي تحتضن صورته وقد لاحظ هو شحوب وجهها والهالات السوداء التي ظهرت حول عينيها من كثرة البكاء بسبب رحيله، كافة الأمور أجتمعت ضدهما سويًا، والآن عليه أن يُزيل الحاجز الذي وُضِعَ بينهما لذا تحرك نحوها بخطوات مترددة وعيناه بدت كأنها خائفة من نزول عبراته وما إن أقترب من الأريكة جلس على عاقبيهِ وقد نزلت دموعه من جديد وحينها أقترب منها يُلثم جبينها لكن هذه المرة لثم جبينها بإمتنانٍ أنها لم تتركه أو تتخلى عنه، بل أحتمى في كنفها من قسوةٍ كانت ستؤدي بحياتهِ..
في هذه اللحظة تململت “نجلاء” في نومتها فابتعد هو عنها مُسرعًا حتى لا يقطع وقت راحتها من هذا القسط الذي أخذته أخيرًا وقد لاحظ تشبثها بصورتهِ وكأنها تُصبر نفسها بهذا الفعل، بينما هو ألتفت وسحب الوشاح يُدثرها بهِ ومسح على رأسها ثم تركها وترك الشقة بأكملها يتوجه إلى مكانٍ أخرٍ…
في مكانٍ أخر تحديدًا بشقة “مُـنذر”…
كان يجلس على الأرض أسفل الأريكة وقد ضم “مُـنذر” كلا رُكبتيه معًا بذراعيه في محاولةٍ منه للهروب من واقعهِ، يبدو وكأن الحياة بكل ما فيها تكالبت عليه ولازال هو بمفرده، يقف وحده في ساحة المعركة وكأن الجميع أعلنوا عليه الخصومة وهو الأعزل في مواجهتهم بدونِ سلاح، وفي هذه اللحظة صدح صوت جرس الشقة وقد رفع هو رأسه سريعًا كرد فعلٍ على صوت الجرس وما إن وقع بصره على الساعة المُعلقة واستنبط الوقت حينها أعتدل واقفًا ثم توجه للباب يفتحه فوجد أمامه آخر من توقع قدومه وحينها هتف مستنكرًا:
_”تَـيام” !! بتعمل إيه هنا؟.
تنهد “تَـيام” مطولًا ثم سحب نفسًا عميقًا وهتف بنبرةٍ جافة:
_المفروض إنك ابن عمي يعني، ولا دي اشتغالة منك؟.
رفع “مُـنذر” حاجبيهِ له وكأنه يخبره أن الحديث لم يعجبه فيما أغمض “تَـيام” عينيه ثم فتحهما من جديد وهو يقول بنبرةٍ هادئة عن سابقتها:
_أنا مش جاي أزعلك أو أخنقك، أنا جاي بس أشوفك وأتكلم معاك دا لو ينفع، مش عاوز خلاص، بس خليك فاكر إني جيتلك وأنتَ زي البومة على الصبح، مبتضحكش خالص؟.
تنهد “مُـنذر” وأشار له بالدخول وحينها ولج “تَـيام” بترددٍ لكنه حسم أمره أخيرًا وولج إلى ردهة البيت وخلفه وقف “مُنذر” وهو يفكر بكل جدية لما أتى ابن عمه إلى هنا؟ هل أتى يثير غضبه من جديد أم أنه أتى لكي يُشكك بهم من جديد؟ ولما يحتار هذه المرة وهو يحاول الوصول إلى سبب قدومه لكن حيرته كانت أكبر من عقله لكي يترجمها، لكن الآخر أتصف بالرأفة حتى رحمه من تفكيره وهو يقول بنبرةٍ هادئة في محاولةٍ منه لإخفاء الألم:
_أنا هنا علشان يمكن يكون كنت أعمى أو لحظات الغضب دي خلتني مشوفش اللي حصل غير بصورة واحدة بس، سلمت نفسي لدماغي وهي عملت الواجب وزيادة معايا، بس أنا متعودتش إني أكدب إحساسي بأي حاجة، وأنا حاسس بيك وحاسس بيكم كلكم، يمكن اللي صعب رد فعلي هو إني زعلت إني لسه عارفكم، بس كل شيء مقدر ومكتوب وربنا حكمته أكبر من إننا نفهمها في لحظتها، أنا عرفت إنك تعبت لحد ما وصلتلي، وعرفت إنك تعبت أوي وحصلك زي اللي حصلي وأصعب كمان بكتير، فأنا وأنتَ شربنا من نفس الكاس بسبب نفس الراجل، بس أنا جاي أقولك تعالى ننسى كل حاجة ونروح لراجل تاني شكله مستنينا بقاله كتير، أبويا وعمك، فزي ما أنتَ رجعتني ليه، أنا بمدلك أيدي تروح معايا يا “مُـنذر”.
أنهى حديثه ومد كفه للأخر الذي أخفض رأسه يطالع كف الأخر بذهولٍ من فعلهِ ودهشةً من حديثهِ وقد طال الصمت منه كرد فعل للأخر لكنه حسم أمره مُسرعًا ومد كفه في كف الآخر الذي ابتسم له ثم سحبه داخل عناقه لمرته الأولى، نعم هذه هي المرة الأولى لعناق الإثنين بصفةٍ رسمية وروابط الدم تجمع بينهما وحينها انتفض قلب “مُـنذر” ما إن استشعر الدفء في عناق ابن عمه الذي يبدو أنه قلبه لازال بريئًا لدرجةٍ جعلته بسيطًا في حكمه على الحياة وحينها وفقط رفع “مُنذر” ذراعيه يعانق “تَـيام” الذي هتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_أهلًا بيك يا ابن عمي.
ألقاها على سمعهِ وهو يشدد العناق له بينما الأخر ضحك رغمًا عنه وهتف جملةً مشابهة لجُملة الأخر وهو يبتسم باتساعٍ:
_أهلًا بيك أنتَ يا ابن الغالي.
في هذه اللحظة أبتعد عنه “تَـيام” وهو يبتسم له وقد ضيق جفونه وهو يتابع وجه “مُـنذر” وكأنه يستبين ملامحه وحينها هتف بنبرةٍ هادئة لم تنفك عنها البسمة الهادئة:
_هو أنتَ حلو أوي كدا ليه؟.
_من بعض ما عندكم يا سيدي.
هكذا رد عليه “مُـنذر” بنبرةٍ ضاحكة فيما ضحك “تَـيام” هو الآخر له ثم جلس وأشار له أن يجلس بجوارهِ وقد أنصاع لرغبتهِ الأخر دون ذرة تفكيرٍ واحدة منه، بل يبدو أن فرحته بوصوله لهذه النقطة مع “تَـيام” طغت على أفعاله وأصبحت هي المُصدرة لردود أفعالهِ تجاه الآخر الذي بدا أمامه كطفلٍ يسعى لإصلاح ما أفسده بسبب مشاغبته في لحظةٍ لم يحسب هو حسابها.
__________________________________
<“فعل الشيء الصحيح يلزمه الخطوة الصحيحة”>
في منطقة وسط البلد..
قد ذهب “يوسف” صباحًا إلى العمل الخاص به في شركة البترول يتابع سير العمل هناك ثم خرج وعاد إلى حارة “العطار” لينتهي الأمر به هنا في هذه المنطقة المُحببة إلى قلبه برفقة “عـهد” بعدما تم تحديد موعد الجلسة من قبل “فُـلة” وحينها أنتبهت له “عـهد” حينما أوقف السيارة وهي تسأله بنبرةٍ هادئة:
_أنتَ شكلك تعبان، إيه رأيك نأجلها؟.
حرك كتفيه ببساطةٍ وهتف بنبرةٍ هادئة هو الأخر:
_لأ وعلى إيه يعني، خلاص ظبطت أموري وكدا كدا أنا لسه مش بشتغل هناك أنا بس بتابع الأوامر والاجتماعات والخطط الجديدة لحد ما نلاقي حل يرضي جميع الأطراف، المهم يلا علشان منتأخرش؟.
حركت رأسها موافقةً وخرجت من السيارة بعدما خرج هو الأخر وأغلق سيارته بينما هي توقفت لثوانٍ عابرة تتابع البناية القديمة التي يرجع طراز بنائها إلى القرن الماضي وحينها ابتسمت وهي تسحب نفسًا عميقًا وقد لاحظها هو وسألها مبتسمًا بنبرةٍ أعربت عن تعجبه بفعلها:
_أنتِ بتعملي إيه يا “عـهد”؟.
كان يقف إبان قوله بمحاذاتها وحينها حركت هي رأسها نحوه ضاحكةً وهي تقول بنبرةٍ بها خجلٍ طفيفٍ:
_بُص هو أنا المفروض كبرت، بس أنا قدام البيت هنا بحس إني عاوزة أقف أغمض عيوني واسمع عبدالحليم حافظ وكأني في فيلم قديم، العمارة شكلها حلو أوي يا “يـوسف” دي علاج لوحدها أصلًا.
ابتسم هو لها ثم أمسك كفها وهو يضحك على حديثها بينما هي ولجت معه للداخل وحينها تركت عينيها تتجول في مدخل البناية القديمة التي لازالت كما هي حتى لوح الخطابات الورقية الخاص بالشكاوىٰ والإقتراحات، المكان كان عبارة عن اللونين معًا الأسود والبني ومعهما اللون الأخضر الخاص بالورود والزروع الخضراء الصناعية والطبيعية معًا، وقد ازدادت لحظة نشوتها بسبب المصعد القديم لتشعر هنا كأنها بداخل أحد الأفلام القديمة المُصورة بلونين الأبيض والأسود…
وصلا سويًا للعيادة الخاصة بـ “فُـلة” وقد رحبت هي بهما نظرًا لانشغال شقيقها في المشفى الخاص بعائلتهما بينما “يـوسف” تركها للطبيبة وجلس هو في شرفة البيت الواسعة المزودة بالزرع الأخضر والزهور المتنوعة…
في داخل العيادة جلست “عـهد” باسترخاءٍ وجلست بجوارها “فُـلة” التي أمسكت دفتر الملاحظات الخاص بها وقد بدأت الجلسة بالتعارف العام بينهما ثم هتفت بنبرةٍ دبلوماسية ذات طابعٍ رسمي يُخالف طبعها المشاغب والمرح:
_بصي يا “عـهد” حاليًا أنا هبدأ العمل رسميًا، المفروض إن العلاقة اللي بيننا دي اسمها علاقة طبيب ومريض، بس أنا مش بحبها كدا، بحبها أعمق وأوضح، يعني أنت يهمني أكون أكتر من مجرد طبيبة، أنا بس عاوزة الكلام بيننا يكون مُريح يعني تشوفيني مراية هتعترفي قدامها بكل حاجة وهي دورها تظهرلك كل حاجة، إحنا هنا اتنين مش ضد بعض، بالعكس إحنا اتنين دورهم بيكمل بعض، فمبدأيًا أحكي مشكلتك بكل حاجة عندك وكل احساس بتشوفيه.
أطمئنت لها “عـهد” وحينها سحبت نفسًا عميقًا وحبسته لوهلةٍ ثم أخرجته بتروٍ وهتفت بنبرةٍ متألمة وهي تستعرض كافة الزكريات المؤلمة أمام عينيها:
_أنا بشوف كل يوم كابوس، كابوس مرعب أوي لدرجة بقت تخليني أخاف أنام، بقيت بخاف كل ما الليل يدخل عليا وأضطر أستسلم للنوم وهو بيغلبني، أنا مش بخاف منه بس بخاف من القبضة اللي بتجيلي لما أنام وبخاف كل مرة وأنا بجري ورا حاجة معرفهاش ومن حاجة معرفهاش، بس أنا عارفة سبب الكابوس دا، كلهم السبب، “سـعد” وتهديده ليا وعيلة بابا واللي عملوه فيا، الناس وكلامهم ونظراتهم اللي مبترحمش إننا ست وبنتين عايشين لوحدهم وأكيد مدورينها، وكل ما عريس ييجي يتقدم يمشي بسبب السُمعة اللي الزفت “سـعد” طلعها عليا، وللأسف الكابوس مبيقفش وأنا مبنامش، أنا كل يوم بضطر أواجهه بشكل مخيف أكتر، وهو بيكون حقيقي كأنه واقع، ولما بفوق معرفش أنا بكون فين، بتمنى كل يوم أموت بدل ما أفضل أجري وقلبي يوجعني وأصحى ألاقي نفسي بجري على الفاضي، بتصعب عليا نفسي أوي…
توقفت عن الحديث ما إن تذكرت كل ماحدث معها وكيف كانت حياتها عبارة عن مغامرة صعبة على فتاةٍ مثلها، تألم قلبها ما إن تذكر كل الكوابيس التي تعرضت لها وعاصرتها حيث في كل مرةٍ كانت الخطورة تزداد أكثر، وقد لاحظت “فُـلة” توقفها وحينها هتفت بنبرةٍ هادئة:
_طب تمام، دلوقتي دوري إني أعرضلك أعراض المرض اللي عندك تفصيلًا وإجمالًا بس الأول هعرض عليكِ كام سؤال كدا وإن شاء الله المشكلة بسيطة مش محتاجة لخوفك أو إنك تزعلي نفسك كدا، تمام؟ دلوقتي الكابوس بييجي كل قد إيه؟ ومدته قد إيه وبتحسي بإيه لما تكوني جواه، والأهم لما تصحي إيه إحساسك ناحية الواقع واللي حواليكِ؟.
سحبت “عـهد” نفسًا عميقًا وزفرته على مهلٍ ثم هتفت بنبرةٍ هادئة تمامًا:
_للأسف بييجي بشكل يومي، كل يوم وكل مرة أصعب، مدته بتكون كبيرة أوي وطويلة وبحسه مبيخلصش، كل مرة بخاف منه بسبب إن الطريق بيطول وأنا مش بوقف جري، وطول ما أنا جواه بكون زي طير محبوس في قفص رغم إن القفص مفتوح عليه بس هو محبوس ولما ييجي يطير يلاقي جناحه مكسور، وساعات بكون زي واحد أخرس بيشاور لناس كلهم عُمي ومحدش شايفه علشان هما عاوزين يسمعوه وهو عاوزهم يشوفوه، ولا هو هيقدر يتكلم ولا هما هيشوفوه وهو بيحاول، كل مرة خوف أكبر من اللي قبله وبالذات من الليلة اللي “سـعد” خطفني فيها، بقيت بحس إن التهديدات عدت كل المراحل، إنما لما بصحى ببقى خايفة وبدور على حضن أكون فيه علشان بفضل لسه شايفة الكابوس وعايشة جواه، بحس كأن قلبي بيتخنق جوة وحد بيدوس عليه، بتعب أوي سواء وأنا نايمة أو وأنا صاحية، بصحى نفسي مقطوع بس الخوف بيا موصول.
تنهدت “فُـلة” بعمقٍ ثم هتفت بنبرةٍ لازالت تحت طور العملية والدبلوماسية وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_طب كدا عمليًا وعلميًا دا اسمه إضطراب الكابوس، للأسف بيكون واقعي أوي في الرؤية لدرجة إن العقل بيعجز عن التفرقة بينه وبين الواقع، الكابوس دا بجانب أنه مرض نفسي نبع عن ضغوطات عقلية، بس بيكون معاه أمراض عضوية كبيرة جدًا، مع الوقت طبعًا بعد الشر عنك، الأمور بتتطور لأعراض أكبر أهمها مشاكل في القلب والتنفس والشرايين، غير كدا السيطرة على الجهاز العصبي المركزي، أما بقى سبب الكابوس فهو الخوف الكبير اللي العقل مش بيقدر يتخطاه أو التهديد المستمر بشيء، أو التعرض لانتهاكات جسدية أو جنسية، الغريب بقى إن سببه علميًا لما بيتطور لأعراض جسمانية أو عقلية مش معروف هل بسبب خطورة الكابوس ولا بسبب الضغط على مراكز الإحساس العقل بشكل مفرط فيه، الإضطراب دا نادر جدًا، بس لما بييجي لشخص بيحصل حاجات كتير جدًا معاه نفسية وعضوية هنتناقش فيها المرة الجاية، دلوقتي بقى هديكي اسم موقع تقرأي فيه عن الإضطراب دا وهديكي ورقة تعلمي فيها على كل الأعراض بكل الملاحظات، تمام؟.
حركت الأخرى رأسها موافقةً بحماسٍ كبيرٍ بينما “فُـلة” تحركت صوب مكتبها تسحب الأوراق التي سبق وتحدثت هي عنها ثم أعطتها لـ “عـهد” وبدأت في شرح العمل لها وهي تقوم بإرداف المقصود منها حتى تُيسر عليها عملية العلاج النفسي ثم هتفت بنبرةٍ هادئة:
_كدا هنمشي الطريق مع بعض، أنتِ تساعديني وأنا هساعدك علشان نقدر نتخطى كل المراحل دي، وأهم حاجة إنك تكوني على علم بأعراض المرض اللي عندك لأن دا بيكون صورة عند صاحب الإضطراب وبيكون نوع من أنواع المُضاد للعقل الباطني بحيث إن المعلومات تتخزن بصورة طبيعية والعقل يبدأ يترجم حدوثها وأسبابها، أتمنى الأمر يكون سهل عليكِ وإحنا ماشيين بالتدريج أهو مع بعض.
انتبهت لها “عـهد” وبدأت في الاستماع لها بكامل إنصاتها وهي تشعر بالحماس يزداد لها في التخلص من هذا العبء الذي يجسم فوق صدرها وكأن الحمل الثقيل بأكمله تمحور في هذا الكابوس وذلك الإضطراب المزعج الذي أخرج حياتها عن طور الهدوء وحل محله الإزعاج المُزمن.
أنتهت الجلسة النفسية وخرجت “عـهد” لـ “يـوسف” الذي ما إن رآها ابتسم لها لتبتسم هي الأخرى وتطمئنه على نفسها دون أن تتحدث أو تضيف أي كلماتٍ أخرىٰ حتى نزلا سويًا لمدخل البيت لكنه أوقفها في مدخل البيت ثم جلس بها على الدرج الصغير وسط نظراتها المتعجبة مما يفعل وحينها ابتسم لها “يـوسف” ثم أخرج هاتفه وطلب منها بنبرةٍ هادئة:
_غضمي عيونك كدا يا “عـهد”؟.
أمتثلت لمطلبه الذي يشبه مطلبها له سابقًا وحينها فتح هو هاتفه على لحنٍ موسيقي خاص بالموسيقار المحبب لديه “عمر خيرت” وحينها أغمض عينيه هو الأخر ثم هتف بنفس النبرة الهادئة وكأنه أقتبس حالة الهدوء هذه من المبنى القديم الذي يجلس هو به:
_دا لحن موسيقى أغنية خلي بالك من عقلك، بحبه وبحب الإحساس منه، كل مرة تحسي بالسلام فيه، وبحبه أكتر علشان “شيريهان” هي بطلة الفيلم، والحلو إنك أنتِ بطلة حكايتي أنا، أنا دلوقتي شايفك بطلة في فيلم قديم وأنا بطل الفيلم كله بجمهورك يا “عـهد”.
فتحت عينيها بدهشةٍ من حديثه بينما هو حرك كفه حتى وصل إلى كفها وأجبرها بهذه الطريقة أن تعاود إغلاق عيونها وكأنه تيقن من رد فعلها دون أن يراها، وقد غرق الإثنان في لحظة الخيال هذه التي امتزجت بين القديم والحديث في الأحلام والواقع لكن الفارق أن أبطال الحكاية نفسهما هما مُحبين الماضي ومستمتعين الحاضر…
__________________________________
<“القمر وصل هُنا وأصبح في بيتنا”>
في بيت العطار بعد صلاة الظُهر…
كان البيت على عكس اليومين السابقين حيث عادت البهجة له من جديد بعودة مرح “آيـات” وظهور فرحتها بعد رؤيتها لـ “تَـيام” بل ومحادتثه معها صباحًا، وفي هذه الأثناء عادت “نِـهال” من العمل مبكرًا عن المعتاد بسبب شغور يومها من أي عملٍ مُضاف فقررت أن تعود إلى بيتها بدلًا من الإنتظار في ذلك المكان وسط نظرات الجميع لها خاصةً بعد ذهاب زوجها إليها في المدرسة وتهديده لهم…
دلفت المطبخ على صوت الضحكات العالية التي تخرج منه وحينها لاحظت جلوس “آيـات” برفقة “قـمر” التي ظلت تضحك وهي تمازح شقيقة زوجها وحينها دلفت لهما “نِـهال” وهي تضحك لهما وترحب بهما وبرؤيتها لهما معًا، وحينها لاحظت تورد وجه “آيـات” وكيف تضرجت وجنتاها بحمرة الخجل فسألتها بخبثٍ وهي تشير إلى ماحدث أمسًا:
_بس إيه يا سكر؟ وشنا نور خالص والدموية فطت فيه، يا شيخة دا أنتِ كنتي جايبالنا بؤس، بس تمام كدا عرفنا ديتك خلاص، أول ما تكشري في وشنا هنجيبه هنا علطول.
ضحكت “قـمر” لها فيما أخفضت “آيـات” رأسها وهي تنبس بخجلٍ وكأنها تخرج الحديث من شفتيها رغمًا عنها وعن أنفها:
_ياستي متكسفينيش بقى، بعدين ماهو أنا كنت خايفة عليه علشان بحبه ومش حابة إنه يحس إحساس صعب أو إنه لوحده، أنتِ يعني مش بتحبي “أيـهم” وبتخافي على زعله من ساعة ما أتجوزتيه؟.
وزعت “قـمر” نظراتها بينهما فيما هتفت “نِـهال” بضجرٍ زائفٍ تستفسر بنبرةٍ عالية مندفعة:
_مين دي؟ هي مين دي اللي بتحبه؟ أنا؟.
تدخلت “قـمر” تسألها بتعجبٍ ولازالت حركة عينيها كما هي بين الاثنتين تذهب وتأتي أثناء استفسارها:
_أومال أنتِ إيـه طيب؟.
استقرت “نِـهال” برأسها نحو “آيـات” وهتفت بنبرةٍ ضاحكة:
_بموت فيه، بدوب في جماله، حاجة كدا، إنما الحب دا بتاع العيال الصغيرة، أنا واحدة الحمدلله ناضجة وكبيرة تخطيت مرحلة الحب دي على فكرة، حتى اسألي العروسة دي.
في هذه اللحظة ارتفع صوت الضحكات بينهن وقد عادت “آيـات” لصنع الشاي الخاص بشقيقها في نفس لحظة وقوفه خارج المطبخ بعد خروجه من غرفته ووقف يهتف بنبرةٍ عالية بعض الشيء دون أن يعلم من معها بالداخل:
_”آيـات” لو الشاي جهز بعد إذنك هاتيه علشان متأخرش أكتر من كدا، ومش مهم الفطار كدا كدا هفطر في المحل مع “أيـهم” وبابا، بسرعة بس ربنا يبارك فيكِ.
حينها مدت يدها بالكوب لـ “قـمر” وهي تشير لها برأسها وقد أخذت “قـمر” الكوب منها ومعه قطع البسكويت الغير مُحلى ثم خرجت من المطبخ تتجه نحو جلوسه على المقعد أثناء انشغاله بالهاتف وقد شكرها هو دون أن يرفع عينيه عن هاتفه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_تسلم إيدك يا “آيـات” معلش تعبتـ…
توقف عن استرسال حديثه ما إن وقع بصره على وجه طارفة عينه أمامه، تبتسم له ببراءةٍ وكأنها تكتم ضحكتها عليه حتى وقف هو أمامها وسألها بنبرةٍ وقعت تحت أثر الدهشة:
_”قـمر” !! بتعملي هنا إيه؟ ومقولتيش ليه إنك هنا؟.
جاوبته مبتسمة الوجه بدلالٍ عليه:
_جيت هنا أقعد مع “آيـات” علشان عرفت إنها متضايقة من أول إمبارح وأنا هنا معاها من الساعة ٨ الصبح وفطرنا مع بعض وشربنا شاي بلبن، وعلى فكرة أنا “يـوسف” هو اللي جابني هنا وهو رايح شغله، زعلان أمشي وأروح عند ماما؟.
نفىٰ ذلك ضاحكًا وأضاف بنبرةٍ هادئة وهو يطالع وجهها، في الحقيقة أصبح يعشق النظر لهذه الملامح وكأنه بمجرد النظر لها يتأكد من الوصول إلى الطريق الصحيح، يراها بنفس براءة الفتيات الصغيرات وبنفس أحتواء أمـه له، حيث أنها تحبه كما لو كان هو الوجهة والطريق، كلما نظر إليها أحبها من البداية لذا حديثه كان صادقًا حينما هتف:
_لأ تروحي عند ماما إيه؟ خليكِ معانا هنا دا حتى البيت منور بيكِ، بعدين هو القمر كل يوم هنلاقيه واقف في صالة بيتنا كدا؟ روحي يلا هاتيلك كوباية شاي وتعالي نشربهم سوا، أنا نسيت أصلًا كنت هروح فين الله يسامحك، مغلباني ومخلياني مطروف العين ومشغول البال، يلا يا بت من هنا، هِـش يلا.
ضحكت هي على طريقته وهو يتنصع تجاهلها وقد تجرأت في فعلها ثم أقتربت منه ولثمت وجنته بفعلٍ أهوج غير محسوب وحركةٍ خاطفة ثم أختفت كما السراب من أمامه وحينها أنفرجت شفتاه عن بعضهما بضحكةٍ واسعة مندهشة من فعلتها لكن هذه التي تسمى “قـمر” لازالت تُدهشه بما تفعل.
__________________________________
<“من لم يدرك فداحة الخطأ لا يستحق المناقشة”>
في مقر عمل “عبدالقادر العطار”..
جلسوا الشباب معًا ومعهم “يـوساب” أيضًا الذي بسبب انشغاله في الإمتحانات العملية والإشراف التربوي والإرشادي في الجامعة وقد أبتعد عن أمور رفيقه، وعن أحوالهِ وفي هذه اللحظة سألهم بتعجبٍ:
_طب دلوقتي “تَـيام” أخباره إيه؟ دي أهم حاجة، أنا للأسف بسبب الإمتحانات والإشراف التربوي عندي أنا انشغلت، وآسف إني ماكنتش معاه الفترة دي.
أنتبه له “أيـهم” الذي هتف بنبرةٍ هادئة:
_هو من يومين حاله كان صعب أوي ويقطع القلب وهو زي العيل التايه وسط الكل، إنما دلوقتي الحمدلله، ربنا ألهمه وقدر يروح للغوث بتاع الكل وهو لحقه، وعلى ما أظن كدا هو طبعه بيكره إن الحاجة تفضل عايمة من غير أساس فهو هيحط الأساس لكل حاجة، بس معرفش هو راح فين، وأبويا هو كمان راح فين.
في هذه اللحظة دلف لهم “أيـوب” الذي ألقى عليهم التحية وجلس على المقعد بجواره شقيقه بينما “بيشوي” سأله بلهفةٍ نبعت عن خوفه على صديقه الغائب منذ الصباح:
_”أيـوب” أنتَ متعرفش “تَـيام” فين؟ بكلمه من الصبح وتليفونه مقفول والحج كان معانا هنا بس مشي ومقالش رايح فين، متعرفش أنتَ حاجة عنهم؟.
عقد “أيـوب” مابين حاجبيه وحرك رأسه نفيًا لكنه تذكر شيئًا جعله يشرد بعيدًا عن الجميع وهو يفكر في حال صديقه الذي تغيب عنهم جميعًا ومن الممكن أن يكون ذهب لإصلاح ما أفسده الآخرون ولعله حقًا يكون فعلها، وقد آمل “أيـوب” في قلب الأخر ونقائه الذي لم تدنسه قسوة الأيام كما تمنى لو أن الآخر يكون فهم مغزى الرسالة كُليًا..
ظل “أيـوب” شاردًا حتى هتف “بيشوي” بثباتٍ لابن خالته:
_أعمل حسابك يا “يوساب” إنك هتروح تتقدم لـ “مارينا” بشكل رسمي، وعلى فكرة مبقاش عندك حِجة، لو على حمايا فأنا نفسي يرفض علشان ساعتها أنا بنفسي هاخدكم على الكنيسة، وعلى فكرة لو ماخدتش الخطوة دي دلوقتي أنا مش هقدر أساعدك بعد كدا، دا إذا لو كنت عاوز مساعدتي أصلًا.
نظروا له في آنٍ واحدٍ بتعجبٍ بينما هو حاول إخفاء نظراته عن الجميع وفي هذه اللحظة قرأها “أيـهم” في عينيهِ أنه حقًا يُخفي عنهم شيئًا وما إن تلاقت نظراتهما معًا حينها أومأ له “بيشوي” بأهدابه بمعنى أنه سيخبره بكل شيءٍ لكن الآخر استشعر وجود كارثة شارفت على القدوم.
__________________________________
<“أحسب عمار البيت بسعادة أهل البيت”>
في منطقة نزلة السمان أثناء غروب الشمس…
كان “نَـعيم” مُختليًا بنفسهِ بعيدًا عن الأعين بوجعٍ لم يقو على إخفائه مع نفسهِ، أصبح يستغل فرصة غياب الجميع عن عينيهِ ثم يطلق العنان لوجعه حتى يظهر، هل تحمل في قلبه كل ذلك الصبر حتى تصبح النهاية بهذه الطريقة وما إن تجتمع طرقاته بطرقات ابنه يتم رفضه؟ هل تحمل وصبر حتى يرى بعينيه النتيجة المؤلمة بهذه الطريقة؟ لما لم يأتي له صغيره؟ لما يرفضه؟ ولما لم تلتهب مشاعره له كما أحترق هو من كثرة الإنتظار؟ لما لم تراف به عينه وتطلق العنان للعبرات المخزونة بداخل مُقلتيه؟.
في هذه اللحظة أخرجه “إيـهاب” من شروده برفقة “سراج” أيضًا وكأنهما أصبحا يعلنان شفقتهما على حالهِ لكن الأول قرر أن يواري سبب حضوره في حديثٍ آخر بقولهِ:
_أنا جيت أقولك إن “ضاحي مخلوف” عضو مجلس الشعب كلمني وأنا كرفتله ولما كلم “سراج” مردش عليه فكدا إحتمال ييجيلك هنا، أظن أنتَ عارف اللي فيها صح؟.
التفت له “نَـعيم” يسأله بعينيهِ وقد تحدث “سراج” مستفسرًا بنبرةٍ حائرة:
_أيوة أنا برضه مش فاهم، ليه مش عاوز ترد عليه؟ الراجل عمال يلف ورانا ويدور لو فيه مصلحة هتيجي منه رسيني يا “إيـهاب” أنتَ عمال تكرفله خالص.
حينها حرك “إيـهاب” رأسه نحو الاخر وهتف بنبرةٍ جامدة لم تنفك عنها القوة كعادة طباعه وإصراره:
_علشان عاوزنا كُبري يا ريس، داخل المجلس وعاوز الناس تهلل وتقف في صفه ويبقى ابن الدايرة اللي يتوسط لواحد يجيبله توك توك، واحدة أرملة ياخد منها قرشين ويجيبلها كشك ويطلع من وراها بمصلحة، عيل معاق يجيبله عربية وهو مخلص ورق مضروب، لحد ما يقعد وياخد الحصانة وساعتها أمكم في العش ولا طارت، دا عاوز يتحب عند الناس على قفانا، وأنا اللي ياخدني كبري يتحب بيه على قفايا عند الناس بدوسه هو والناس وأكسر الكُبري فوق دماغ أبوهم، عاوز ييجي يخليني أمسكله حملة الانتخابات ونهلل ونسقفله، والناس تشاور عليه بصوا دا طيب دا حلو والتاني وحش إزاي؟ فأعرفها كلمة، اللي يتحب عند حد على قفاك، أديله أكبر قفا في حياته لما تكرفله أنتَ، ولو على الأيام فهي دول رايحة وجاية، وكله حسابه جاي.
ضيق “سـراج” جفنيه وسأله مخمنًا بنبرةٍ أعربت عن التقرير أكثر من الاستفسار بقولهِ:
_ثانية واحدة، هو الرجل دا اللي خبط فيك وجاب سيرتك بالوحش ساعة السجن؟ مش دا اللي فضل يقول إن اللي زيك لازم يتقطع من هنا ونحافظ على الشباب منه؟ صح كدا وسلوكي لامسة مع سلوكك.؟.
ابتسم “إيـهاب” بتهكمٍ وهتف بسخريةٍ:
_طب ما أنتَ في وعيك أهو، آه هو، هو اللي قرر يتحب عند الناس على قفايا بس الأيام جابته عندي علشان ليه حاجة عندي، وأنا اللي يعملها معايا ويقل مرة، بدوس عليه مليون مرة، فمن دلوقتي لما يحضر هنا محدش يعاتب عليا فاللي هعمله، وأنا بما إنك أنتَ كبيري يا حج، بعرفك اللي هيحصل.
في الحقيقة أراد “نَـعيم” أن يتركه يفعل ما يحلو له بهذا الشأن حيث أن الأمر في المرةِ السابقة حينما أستغل هذا الرجل حادثة سجنه والأزمة التي مر بها في تلطيخ سمعته واستغلالها لأجل سمعته في العمل سياسيًا وإجتماعيًا، لذا أراد أن يرى انتقام تلميذه من هذا البغيض الخبيث الذي يسير خلف مصالحه أينما كانت ومهما تسبب في ضررٍ لغيرهِ…
في الخارج كان “مُـحي” يقف شارد الذهن وهو يصارع رغباته في الذهاب إلى شقيقه، أراد أن يفعلها لكن ثمة شيءٍ في نفسه نبع عن عزتها انبئه بإحتمالية طرده أو ربما يثور الآخر عليه ويرفض مجيئه كما رفض أن يعترف بها صراحةً أنه الابن الكبير لصاحب هذا البيت، وفي هذه اللحظة وقف “إسماعيل” يراقبه بعينين دامعتين مشفقًا على هذا المشاغب المرح الذي أصبح واحدًا يتنافى مع الآخر في كل الصفات، وحينذاك صدح صوت هاتف “إسماعيل” برقم خطيبته وكأنها تنجده من مشاعره فجاوب على المكالمة بنبرةٍ حزينة لاحظتها هي فقررت أن تخرجه من حالته بقولها:
_أنا عارفة إنك متضايق علشان عمو “نَـعيم” وعلشان “مُـحي” بس صدقني لازم تقف معاهم، وتحاول تخرج “مُـحي” من حالته وتطمنه، أنتَ تقدر على كدا، بعدين أنا بكلمك أقولك إني خلصت شغلي بدري وإحتمال أروح بدري لو عاوز تيجي البيت تعالى، أنا عاملة حسابي إنك تيجي.
ابتسم “إسماعيل” رغمًا عن حزنه وضيقه ثم جاوبها بنبرةٍ أكثر أريحية حين هتف:
_حاضر، هجيب “مُـحي” عند أخوه وأخدها حجة وأجيلك، أنا حاسس إني عاوز أتكلم معاكِ شوية، إيه رأيك يا “ضُـحى”؟ مش كدا أحسن برضه؟.
أكدت له ذلك بنبرةٍ ضاحكة بينما هو انتبه لصوت أحدهم حينما صدح خلفه يُنادي عليه بنبرةٍ قوية جعلته يغلق معها مُسرعًا ثم ألتفت لصاحب الصوت وحينها ابتهجت ملامحه ما إن وقع بصره عليه وكذلك “مُـحي” الذي ألتفت للخلف حيث مصدر الصوت وحينها فرغ فاههِ بدهشةٍ بينما “إسماعيل” ركض نحو الداخل مهرولًا وهو يُنادي على “نَـعيم ” بصوتٍ جعل كل من في البيت يجتمع نحو الخارج وعلى رأسهم “نَـعيم” الذي وقف بذهولٍ وهو يرى “عبدالقادر” واقفًا وعلى طرفيه كلًا من “تَـيام” و “مُـنذر” بجوارهِ !! حينها أبتسم له “عبدالقادر” ثم أشار إلى الإثنين وحينها تحركا سويًا في نفس اللحظة نحو “نَـعيم” الذي نزلت دموعه تتسابق على وجنتيهِ وكأنه يكذب واقعه وهو يحسب هذه اللحظة ضمن أحلامه التي يلجأ إليها خياله وما حيلة مجبورٍ مثله سوى أن يلجأ للخيال لعله يرحمه من قسوة وبخل واقعه…
في هذه اللحظة فرق مابين ذراعيه وهو يبكي وحينها أرتميا سويًا عليه داخل عناقه بينما هو أغلق ذراعيه عليهما وكأنه يسرق هذه اللحظة من الحياة برفقتهما قبل أن يكتب لهما الفراق من جديد وقبل أن ينعم هو بهذا القرب في ردهة البيت توقفت سيارة أخرى بنفس المكان ونزل منها “سـامي” مثل الإعصار وهو يقول بنبرةٍ عالية هادرة أقرب للصراخ:
_أنتَ بتقتل ابني يا “نَـعيم” !! ورحمة أبويا هحرق قلبك على اللي منك.
صدح صوته في هذه اللحظة وسط الجميع ليقف أمامهم في كثرةٍ حقيقية وصادقة أمام شجاعة زائفة، فما ظنك بالرابح؟ الشجاعة الزائفة بسلاحٍ قوي أم الكثرة الحقيقية بدون أي سلاحٍ؟.
_________________________________
<“زيارة غير مرحب بها، لما أتت إلى بيتنا؟”>
في شقة “غالية” وصل “يـوسف” بعدما أنهى مشواره برفقة زوجته في منطقة وسط البلد، ثم قرر أن يبدل ثيابه الرسمية هذه بأخرى عصرية أكثر راحة حتى يذهب إلى “نَـعيم” ويطمئن عليه بعدما هاتفه ولاحظ الحزن في صوته، وحينها شعر بالجوع فرفع صوته وهو يقوم بترتيب قميصه الأبيض الذي يتناسب مع وسامته في هذا النوع من الثياب:
_يلا يا “قـمر” سخني الأكل أنا جعان ولا أروح آكل هناك؟.
خرجت له وهي تمسك الأطباق تضعها على الطاولة:
_الأكل سِخن أصلًا، بس ماما بتصلي جوة.
حرك رأسه موافقًا وكاد أن يتحرك نحو المائدة لكن صوت جرس الباب أوقفه تزامنًا مع خروج والدته من الداخل وحينها تحرك هو مغيرًا اتجاهه فوجد في وجهه رجال الشرطة وحينها تبدلت تعابير وجهه حينما سأله الضابط المسؤول عن أمر إحضاره:
_أنتَ “يوسف مصطفى الراوي” ؟.
أومأ بصمتٍ دون أن يتفوه ويؤكد هويته فيما ألقى الآخر أمره لمن معه بإحضاره وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_هاتوه.
في هذه اللحظة صرخت “غالية” وركضت نحو ابنها وكذلك “قـمر” أيضًا بينما “يـوسف” رفع صوته يسأل الضابط بنبرةٍ عالية أقرب للإنفعال في وجه ضابط الشرطة:
_هــاتوه فين ؟؟ بتهمة إيه إن شاء الله؟.
رفع صوته بنبرةٍ هادرة وصل صداه لنصف طوابق البناية بينما الضابط هتف موجزًا أو ربما ألقى قنبلته التي جمدتهم جميعًا حين هتف عاليًا:
_بتهمة الشروع في قتل “نادر سامي السيد” هاتوه.
هذه هي القنبلة الموقوتة التي انفجرت أمام الجميع دون سابق إنذارٍ أو حتى أي إشارات دلالية لحدوث ذلك، هي فقط أُلقيت وسط المكان وأنفجرت في وجه الجميع، والآن سوف نرى توابع الإنفجار، فتوخوا الحذر أعزائي…
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)