روايات

رواية غوثهم الفصل التاسع والتسعون 99 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل التاسع والتسعون 99 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل التاسع والتسعون

رواية غوثهم البارت التاسع والتسعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة التاسعة والتسعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الرابع عشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
_أتيتُكَ أنا العبدُ الضعيف
أتيتُكَ وأنا أركض لكَ وذنبي لم يكن بطفيف
جيئتُكَ مُحملًا بالثُقلِ ومُقرًا بما خرج مني
أتيتُ ألتجيء فيكَ من وحشة الطريق المُخيف
جيئتُ أرجوك أن تمنُ عليَّ وترحمني مني
فحبكَ الذي يسكن قلبي هو العفيف
_”غَـــوثْ”
__________________________________
لم تكن مجرد شخصٍ وُجِدَّ في الدنيا،
بل أنتَ شخصٌ الدنيا بأكملها وُجِدَت فيكَ،
أراكَ دومًا مني و إليْ، فيكَ وجدت كل العالم فيك أنا وظلي، فيك أكثري وأقلي، أنا منكَ وأنتَ مني، أراكَ دومًا بقلبي قبل عيني، أنتَ من جعلتني أتساءل ماهو العالم قبل مجيئك، إن لم يكن العالم حاضرًا في طريقك؟ دعني أختصر حالي وحال قلب المعذب قبل أن ألتقي بِكَ ويغدو قلبي رفيقًا لمسيرك،
فيا خليل الفؤاد، كان القلب قبلك يعيش في الجراح، ومنذ أن اجتمع معكَ من عنائه وألم روحه أرتاح..
نسينا معك متاعب الروح والآلام، والقلب رآك في دنياه
جنة الأيام، والآن رحلت عن قلوبنا الغُربة، وسكنَّا من آلم الكُربة، وحلت بين الفؤاد ونديمه الأُلفة.
<“الغبي دومًا لا يحسب خطواته ونحن أشطر الحاسبين”>
في المشفى الاستثماري…
المكان سادته حالة الهرج والمرج حينما ولجت الممرضة الغُرفة الخاصة بـ “نـادر” لتعطيه الإبرة الطبية تزامنًا مع قدوم “فاتن” برفقة “عـاصم” لتجد المكان منقلبًا رأسًا على عقبٍ وزوجها يصرخ ثائرًا في الجميع يطالبهم بالبحث عن ابنه المُختفي تمامًا من الغرفة والمشفى ثم ارتفاع صرخات زوجته تنادي على ابنها بحثًا عنه، لكن الحالة أختفت تمامًا ولم يظهر لها أي أثرٍ، فمن الخافي؟ ومن المُتسبب؟ سنعلم لا شك في ذلك، وهاهي فتحت أبواب الألغاز من جديد، ألغاز تحتاج لحلها خاصةً إذا كان عدد الخصوم ليس بهينٍ، وقد وقف “سـامي” تائهًا بين الجميع وهو يفكر بعقلٍ مُشتتٍ أين ذهب ابنه؟ مَن مِن الممكن أن يتجرأ ويفعلها؟ أخصامه كُثِر وكارهيه أكثر وكأنه عاش عمره بأكملهِ يصنع العداوات مع الآخرين.
وقفت “فاتن” تبكي بصمتٍ وتنتحب بين الفنية والأخرىٰ بخوفٍ على فلذة كبدها وهي ترى الأطباء يسعون ويركضون ويقطعون الممر ذهابًا وإيابًا بحثًا عنه وكأنه طفل صغير سُرِقَ من مضجعهِ، بكت وهي تتخيله أمامها عاجزًا عن الحراك وعن معاونة نفسه، رآته يخشى الجميع ويحتاج لعناقها، وهي لم تكن معه، تخشى أن تكون روحه جراء أفعال والده وقتها أرتمت على المقعد وهي تبكي وجاورها “عاصم” وهو يمسح على كتفها ويحاول ضمها له حتى دفعته هي بعيدًا عنها وناظرته بمعاتبةٍ من عدستيها حتى هتف هو بنبرةٍ هادئة مُقدرًا حالتها في المقام الأول:
_أهدي يا “فاتن” هو مش طفل صغير علشان يضيع من حضنك، “نـادر” هيرجع وهيبات في حضنك، وبعدين هو ابني زي ماهو ابنك ومش هستنى حاجة تآذيه وأقف أتفرج، متقلقيش نفسك، يمكن يكون زهق وخرج مع “شـهد” أكيد القعدة هنا شهر وأكتر تعبته نفسيًا، بلاش توجعي قلبك.
حركت رأسه نحوه ترمقه ببكاءٍ جعله يُشفق عليها وقد ضمها له يمسح على رأسها فبكت هي بين ذراعيه بمرارةٍ بينما زوجها فظل كما هو على حالته المُهتاجة وهو يخرج إنفعاله لفظيًا على طاقم العمل المُتغافلين عن رعاية ابنه.
في عيادةٍ خارجية بعد منتصف الليل..
هذا المكان البارد المُظلم في إحدى البنايات البعيدة في منطقةٍ متطرفة إلى حدٍ ما، جلست “شـهد” في الانتظار بعدما حسمت أمرها أخيرًا بإجهاض ابنها الأول دون ذرة تفكيرٍ واحدة من جديد بشأن تلك الروح التي أتت لهنا حتى تُزهقها، تجني على ابنها دون حتى أن يرف جفناها لتنتبه إلى جُرمها، آخذت القرار طواعيةً وليس إجبارًا وتفرح بما تفعل كأنها تتخلص من وصمة عارٍ تلحق باسمها..
أتت الممرضة تشير لها بالدخول وحينها أنتبهت هي لها وحركت عينيها الخائفتين تطالعها ثم قبضت على حقيبتها تستمد منها الأمان وتأكدت أن الرسالة وصلت لرفيقتها “نـور” حينما أرسلت لها الموقع الكترونيًا وطلبا منها القدوم بعد مرور ساعتين نظرًا لحاجتها الكُبرى لها وما إن وصلها الرد من الأخرى تستفسر منها حينها فتحت هاتفها ترسل لها رسالة إلكترونية بصوتٍ مضطربٍ:
_علشان خاطري تعالي بس بعد ساعتين أنا محتاجاكِ أوي، بعدها هقولك كل حاجة، بس متتأخريش عليا وهاتي عربيتك معاكِ، باي.
أغلقت الهاتف ما إن رآت الإشارات الزرقاء بجوار رسالتها مما يدل على استماع الأخرى لها ثم قامت بغلق هاتفها وتحركت خلف المُمرضة نحو غرفة العمليات المُجهزة على أعلى المستويات فيما ابتسمت لها الطبيبة وأشارت لها نحو الفراش لكي تتسطحه وما إن تسطحته الأخرى هتفت الطبيبة أولًا تطمئن على ما يخصها:
_خلصتي الحساب برة؟.
أومأت لها بخوفٍ بعدما أزدردت لُعابها فيما بدأت الأخرى عملها بحقنها إبرة طبية بداخلها مادة مُخدرة ما إن وصلت لجسدها فقدت الأخرى وعيها تمامًا فيما لتباشر الطبيبة عملها القاتم في قتل روحٍ كتب لها الخالق الحياة لكن البشر أعترضوا على ذلك، وكأنهم يملكون الحق ليتحكمون في مشيئة الخالق وكأن القلوب فقدت خوفها وسكت صوت ضميرها، وصدح صوت المصلحة الشخصية فوق الجميع.
__________________________________
<“فكر ألف مرة قبل أن تسترد حقك”>
النيران المُتأججة بداخل الصدور لن يُطفئها إلا الثأر،
فاثأر لنفسك ولذويك ولأخوتك، قبل أن تأكلك أنتَ النيران وتطول كل من حولك، اثأر وأرفع صوتك لكي يعلم العالم بأكملهِ من أنتَ، أو أدرس عدوك جيدًا وأجعله هو من يثأر لكَ بغبائهِ، لذا تعلم كيف تُسترد الحقوق من سارقيها، والأرواح من زاهقيها.
جلس “إيهاب” في سيارته بجواره “يـوسف” في أحد الشوارع العمومية المتكدسة بالسكان والمارة يتابع بعينيه كما الصقر الجارح متربصًا مقهى شعبية يجلس فيها غريمه حول مجموعة رجال، وقد ظل يتابعه وهو يدخن تبغ غليونه بشراهةٍ حتى رفع “يـوسف” صوته يسأله بتعجبٍ يخالطه الضُجر من كثرة جلوسهما هكذا:
_وأخرتها يا “إيـهاب”؟ هنفضل قاعدين كدا نتفرج عليه وهو عامل فيها عمدة البكايتة؟ ما ننزل ونشوف هنرجع حق أخونا إزاي؟ هنفضل نتفرج؟.
انتبه له “إيـهاب” الذي خرج من قوقعة تركيزه مع الآخر وهتف بلامبالاةٍ بعدما نفث هواء سيجارته ولازالت نظراته كما هي مُبهمة وخاوية في حين أن مستقرها كان معلومًا:
_لو زهقت رَوح أنتَ، ولو بتسأل ناوي على إيه، ريح علشان عارف طبعي إني مبقولش حاجة ناوي أعملها، بس وغلاوة “إسـماعيل” أنا هخليه يتطرد زي الكلب والليلة دي، وقبل ما عيني تغمض، يا ساعتها قول عليا عيل هفأ، قصر في حق أخوه.
تنهد “يـوسف” بثقلٍ ثم أشعل سيجارةً أخرى وحرك عينيه يُتابع نفس الهدف المُراد وكأنه خيلٌ ينتظر فتح ساحة الركض له لكي يحصل على المركز الأول في الفروسية كما اعتاد، وقد انتبه لتوه لجرح كفه الغائر فتفحصه بعينيهِ وشرد كيف تأذى دون أن ينتبه وكيف بدا جرحه عميقًا بتلك الدرجة لكن تحرك “إيـهاب” العنيف جعله ينتبه له خاصةً حينما سحب هاتفه يجاوب على المكالمة وهتف بلهفةٍ لم يخفيها:
_ها يا “مـيكي”؟ لو جيبت الحاجة أبعتها.
_حصل يا” عمهم”
كان هذا جواب مساعده الوفي الذي ذهب لإحضار مطلبه وما إن تحصل عليه فعل ما يتوجب عليه القيام به حتى وصل للمبتغي الذي ابتسم بشراسةٍ ثم أغلق الهاتف وأشار لرفيقه حتى يرافقه سيرًا وقد خرجا سويًا من السيارة وحينها أقترب “إيـهاب” من “يـوسف” يهمس له بنبرةٍ خافتة:
_على مبدأنا، لو الحرب قامت طلع سلاحك وخُش بقلب جامد، خليك في كتفي يا عمنا.
ابتسم له “يـوسف” وحرك رأسه موافقًا يؤكد ذلك بصمتٍ ثم سارا جنبًا إلى جنبٍ بجوار بعضهما حتى وصلا إلى المقهىٰ التي يجلس عليها “ضـاحي” وسط الرجال يتحدث بهيبةٍ لم تلق به وهو يرتدي جلبابًا رمادي اللون وفوقه عباءة سوداء اللون ويستند على عصاه وما إن وقف أمامه الإثنان رفع عينيه نحوهما فابتسم له “إيـهاب” الذي رافق بسمته تلك حديثه الغامض:
_إيـه يا حج “ضـاحي”؟ منور النزلة كلها والله، أنا جاي علشان أقولك إني خلاص خلصتلك برنامج الإنتخابات بتاعك وبعون الله، مفيش حد غيرك هيطول الكرسي دا، وقدام الرجالة دي كلها والشارع الكُمل دا هوريك البرنامج ويا رب يعجبك.
ابتسم له “ضـاحي” بعينيهِ وكأنه بذلك يزهو بنفسهِ كونه علم طُرق ونقاط ضعف الآخر الذي يقف أمامه فيما تحرك “إيـهاب” نحو الشاشة المُعلقة ثم سحب هاتفه وقام بتوصيله فيها وهو ينظر أمامه بنفس الغموض ثم ابتسم بخبثٍ والتفت برأسه يوجه حديثه للبقية:
_لامؤاخذة يا رجالة، أنتوا مش أغراب هوريكم البرنامج الإنتخابي وعاوزكم تركزوا في تفاصيله، أصله برنامج جامد أوي أوي، ربنا يتوب علينا.
أنهى حديثه ثم فتح الشاشة أمام الجميع ليظهر “ضـاحي” فيها في ملهى ليلي يرقص ويتمايل وسط الفتيات العاريات وهو يرمي عليهن الأوراق المالية ويتناول المشروبات المُحرمة وحينها ظهر الذهول على ملامح الحشد المُتجمهر ثم المارين بالشارع بجوار المقهى العمومية والآخر عائمًا في بحورٍ من المُحرمات بين الرقص مع الساقطات بمناظر فجة مُحرمة، ثم إهدار الرزق الذي أنعم عليه به الخالق فوق أجسادهن، ثم إهداره لصحته وحواسه بشكلٍ سافر لا يتسحقه أمثاله وقد وقف هو يصرخ في وجه “إيـهاب” بقولهِ منفعلًا:
_الله يخربيت أهلك، أقفل ياض، أقفل أحسنلك بدل ما أخرب بيت أهلك، أقفل بـــقـولـك !!!.
صرخ بجملته وهو يرفع عصاه ظنًا منه أنه سيضرب الآخر أو هكذا خُيلَ له لكن يد “يـوسف” منعته من ذلك حينما تدخل وأمسك ذراعي الآخر ثم هتف من بين أسنانه حانقًا بقولهِ:
_أحترم سنك ونفسك بدل ما أقل بيك قدام رجالة حتتك، محدش هنا بيته هيتخرب غيرك يا راجل يا عايب، وأمثالك يستاهلوا الفضايح، عارف ليه؟ علشان ناقص والرجولة بتاعتك مبتخرجش غير في الكباريهات، بس وماله تيجي أعرفك يعني إيه رجالة أتربت في بيت “نَـعيم الحُصري”؟.
في الحقيقة حديثه وطريقته أديا الهدف المطلوب منهما في اسكات الآخر بينما الشارع فتقريبًا أمتلأ حتى أضحى النفس فيه مستحيلًا والجميع يشاهدون فضيحة الآخر وصوره ومقاطعه في الملاهي الليلية وقد ابتسم “إيـهاب” بغرورٍ كونه أدى مهمته في إذلال غريمه لكن الآتي قُدِمَ له على طبقٍ من فِضة حينما صدح صوت زوجة “ضـاحي” تصفق بكلا كفيها جاذبة الأنظار نحوها وهي تتحدث بطريقةٍ سوقية تهكمية أمام الجميع من شرفتها:
_بقى أنا؟؟ ستك وست عيلتك الجعانة كلها تخوني في الكباريهات يا راجل يا ناقص؟ يا أخويا طب أصرف على بيتك وكفي اللي معاك الأول، بس نقول إيه؟ عيلة صنفها كله جعان، نسيتوا نفسكم يا عربجية؟ دا أنتوا أول واحد فيكم يلبس هدوم نضيفة صورتوه تذكار وخليتوها مناسبة قومية، بس وماله؟ صبرك عليا يا عرة الرجالة.
ألقت حديثها أمام الجميع ثم ولجت من الشرفة قرابة الدقيقة ثم عاودت الظهور من جديد وهي تُلقي كومة ملابس خاصة به ترميها أرضًا من شرفتها وهي تضيف بإنفاسٍ متقطعة بعدما أُضرِمت النيران بداخلها ثأرًا لأنوثتها المهدورة على يديه:
_هدومك إيـه، لمها من على الأرض وروح قضي ليلتك في الكباريهات وخليهم ينفعوك ولو فكرت تقرب من هنا وربنا لأخلي أخواتي بعيالهم كل واحد فيهم بس يسلم عليك، وشوف بقى إيه اللي هيحصل وورقتي توصلني، بدل ما أخلعك علشان تبقى موكوس ومخلوع.
أنهت حديثها ثم أغلقت الشرفة بعنفٍ حتى أجفلت معظم الأجساد الواقفة فيما شعر “إيـهاب” بالإنتشاء فور رؤيته لمظهر الآخر وسط الناس وهو ينكس رأسه للأسفل هربًا من التقاء عينيه بعينيهم والبقية منهم من يتشفى فيه ومنهم من يضرب كفيه ببعضهما متحسرًا على كهلٍ متصابي مثل ذلك ومنهم من لا يُبالي ووقف هنا
فقط لأجل المشاهدة، بينما “إيـهاب” فقام بسحب هاتفه وأقترب من الآخر يضع كفه على كتفه هامسًا في أذنه بقولهِ:
_قولتلك قبل كدا بلاش أنا، علشان قلبتي وحشة وغشيم في أخد الحق، وأنا لامؤاخذة عندي مبدأ، إن كان آخد الحق حِرفة فمحسوبك صنايعي على أبوه، وأحفظها ليك بقى، الله يكفيك شر الخيبة من بعد الهيبة.
دفعه بكفهِ وتجاوزه أثناء مروره لكن “يـوسف” اندفع بحميتهِ البدائية العنيفة وأمسك الرجل من تلابيبه يهدده صراحةً بقولهِ:
_لو فكرت تقرب منهم أو حتى عقلك يوزك على حاجة هتلاقي عفريت جديد طلعلك في العلبة، لو منك أروح أتدارى وأداري على خيبتي.
دفعه “يـوسف” ليسقط محله ثم تتبع “إيـهاب” في سيرهِ ووصلا السيارة سويًا وولجها الإثنان وحينما استقر الثاني في جلسته سحب نفسًا عميقًا يدخل به الهواء داخل رئتيه وكأنه منع عن نفسه حتى التنفس حتى يسترد حقه وحق شقيقه، حينها وفقط خمدت النيران المُضرمة بداخلهِ ثم شرع في قيادة السيارة وما إن تلاقت نظراته بنظرات “يـوسف” خاطبه مستفسرًا بزهوٍ في نفسه:
_ عرفت أنا ليه “عـمهم”؟.
أومأ له رفيقه وهتف مُردفًا له سبب أفعاله بقولهِ:
_طبعًا عرفت، كدا بردت نارك وخدت حق أخوك بمعلمة، لا ضرب ولا رفع صوت، أصله راجل كبير وأنتَ عمرك ما تعدي الأصول حتى لو مع عالم ناقصة زيه، قد القول وزيادة يا “عـمهم”.
جاوبه الآخر ردًا عليه بتفسيرٍ أكبر يوضح له:
_الفكرة إن مش كل حاجة بالدراع، ساعات لازم المخ يحضر ويشتغل، لو بالدارع بس بلطجة، ولو بالمخ بس قلة حيلة، لو الاتنين مع بعض ذكاء، ولو معاهم الهيبة تبقى قوة، لازم كل إنسان يشوف عنده إيه ويكمله باللي ناقصه، بالك لو كنت دخلت عليه زي دَخلتي على” فرعون” كدا كان اتقال عليا هجام وبلطجي، وأنا مش بلطجي، أنا باخد حقي من الحرامي اللي فاكره حقه، بس الحق بيتاخد بمعلمة.
أنهى حديثه ثم شق الطريق بسيارته خارج المنطقةِ ليعود ويطمئن على رفيق روحه وينعم بالنظر في وجهه بعدما تركه مُرغمًا على ذلك، لكنه الآن يرى أنه يملك الحق في النظر إليه ورفع رأسه أمامه بعدما استرد حقه من بين مخالب الأسود واطئًا بقدميه أرضهم واقفًا في براثنهم.
__________________________________
<“من فقد شهية التحدث، لا تجبره على تناول الكلامِ”>
في بيت “نَـعيم” عمَّ الهدوء في المكان وهو ينتظر في الفناء الرملي العربي وجلس معه “سـراج” و “مُـحي” و “أيـوب” و “تَـيام” والإنتظار يتآكلهم بسبب قلقهم من غياب الإثنين الآخرين، لكن ظهورهما بجوار بعضهما أثلج نيران تتوقهم بمجرد أن ولج “إيـهاب” أولًا ثم “يـوسف” يتتبعه وحينها تحدث الأول بنبرةٍ مُتعبة ظهرت في صوته:
_قبل ما حد يسأل على حاجة، هدخل أشوفه وآجي تاني وأقولكم اللي عاوزينه، أشوف أخويا وأتطمن عليه الأول عن إذنكم وهاجي تاني.
تحرك نحو الداخل يقطع المسافة بخطواتٍ واسعة لكي يدلف لشقيقهِ فيما وقف “يـوسف” بجوار “أيـوب” يسأله حائرًا بقولهِ:
_أنتَ لسه هنا؟ الوقت اتأخر أوي.
انتبه له “أيـوب” وهتف بقلة حيلة بعدما تقابلت الأعين ببعضها:
_علشان مستنيك، مش ضامنك بصراحة.
ألقى جملته وهو يتحرك صوبه حتى أصبح في مواجهته بينما “نَـعيم” فابتسم ساخرًا ثم أضاف متشدقًا بنزقٍ مشيرًا بكلماته إلى “يـوسف” قائلًا:
_محدش يضمنه أصلًا، وليا عتاب عليه بس حظه الحلو إن الأمور كلها أدربكت فوق دماغنا، أخلص بس وأشوف حوار “إسماعيل” وساعتها ليه عتاب كبير ودلوقتي أتفضلوا برة الوقت اتأخر وأكيد أهاليكم قلقانين عليكم، يلا.
قام الاثنان بتوديعه وتوديع البقية وقبل أن يرحل “تَـيام” هو الآخر أوقفه شقيقه بنظرةٍ واحدة خفيةً وجهها نحو والده مما جعل الآخر يفهم أن والده يحتاج لتواجده هذه الليلة فانصاع لنظرة شقيقه مومئًا له وحينها هلل قلب “مُـحي” فرحًا ببقاء أخيه بجوارهِ، الأمر الذي أضحى يسعى إليه طوال اليوم أن تجمعه اللحظات بشقيقه كما يرى نصب عينيهِ علاقة “إيـهاب” بشقيقه والآن يتمنى أن يحيا مثلها.
في الداخل ولج “إيـهاب” لشقيقهِ فوجد “مُـنذر” يجلس بجوارهِ على الأريكة بقرب الفراش غافيًا وهو يستند برأسهِ على كفهِ فتنهد بثقلٍ ثم أقترب من الفراش يستند عليه بنصف جسدهِ ثم مال على شقيقه يُلثم جبينه وربت على منابت رأسهِ ورفع الغطاء يدثره به، ثم سحب غطاءً من الخزانة ودثر به جسد “مُـنذر” ماسحًا على رأسهِ وعينيهِ ثم خرج ثانيةً فوجد الردهة فارغة من الجميع لذا تحرك نحو بناية شقته لكي يطمئن على زوجته التي من المؤكد تجلس في إنتظاره بنيرانٍ مُضرمة بداخلها.
وقد ولج شقته في صمتٍ هائلٍ لكنه وجدها تتسطح الأريكة وكأنها ملت من كثرة إنتظاره فاقترب هو منها بجسدهِ ووضع كلا ذراعيه أسفل رُكبتيها يحملها بهدوء ثم وضعها على الفراش بداخل غرفتهما وتسطح جوارها وكأنه الآن فقط ينعم بحياتهِ الهادئة، حتى الحديث لم يعد يشتهيه.
__________________________________
<“وجدناك في الطريق رفيقًا لنا، وكنتُ خير الخير لنا”>
في بعض الأحيان يولد حب الأشخاص داخل قلوبنا دون علمٍ مننا، وتفتح لهم أبواب القلوب الموصدة وتصبح العين لهم راصدة، بعض الأشخاص لو علموا ما تحمله لهم قلوبنا، لظلوا طوال العُمر جالسين على أبوابنا يتتوقون فقط لسماعنا.
أوقف “أيـوب” سيارته أمام بناية “يـوسف” بعدما قطع المشوار في صمتٍ مُطبقٍ عليهما وقد هتف متشدقًا بنزقٍ بعدما وصلا للحارةِ سويًا:
_أدينا وصلنا أهو الحمدلله، تصبح على خير.
نظر له “يـوسف” بتعجبٍ وأملىٰ عينيهِ من ملامح الآخر المتقتضبة التي قلما تلاشت عنه البسمة والبشاشة وقد فهم أن الآخر لازال مستاءً منه لذا تحرك بجسدهِ لليسار قليلًا لكي يصبح في مواجهته وهتف مُستفسرًا:
_هو أنتَ ليه استنتني هناك؟ ما كنت مشيت هو أنا عيل صغير يعني؟ بتعاملني كأني عيل وهتوه منك، متتعبش نفسك معايا يا “أيـوب” خسارة ليك.
ألقى حديثه عليه وهو يطالعه مُتفرسًا فيما تنهد “أيـوب” وأخيرًا تحدث وأخرج ما في جبعته من إيلامٍ ومعاتبةٍ أضمرها بداخله:
_بس مش خسارة فيك، أنا مش ذنبي إنك غبي يا “يـوسف” أو قصدك تتغابى عليا، أنا بتصرف معاك غصب عني علشان للأسف أنا حاسس إنك عدو نفسك ولو سيبتك هتغرق ومتنكرش دا، كل مرة أنا ببقى عارف إنك بتضيع نفسك وبقف في ضهرك، بس لما أحس إنك مش عاوزني أنا عن نفسي هختفي من حياتك، بس مش من حياة مراتي، علشان غصب عني مش بأيدي إني أسيبها.
صُدِمَ “يـوسف” من طريقة الآخر واندفاعه فيه وأدرك حقًا أنه على مشارف فقد رفيقه فهتف يدافع عن نفسه بقولهِ مُتلهفًا كمن يدفع التهمة بعيدًا عنه:
_بس أنا مش بتغابى عليك ولا قصدي أبعدك عني، أنا عارف كويس أوي قيمتك، بس أنا يهمني إني أبعدك عن الأذىٰ، يمكن أكون خايف أخسرك وعاوزك مكاني، أنا واحد ابن موت مصايبه كتيرة، مبقدرش أحسب خطواتي، ودماغي بتخونَّي وعمرها ما رحمتني، وشكرًا إنك بتشيل خاطري يا “أيـوب”، بس أنا ماليش وش أرفع عيني في عينك علشان تقريبًا مش هقدر أبص في وشك بعد كل حاجة عملتها فيك.
يبدو أن الحديث مثل الكُرةِ بينهما يقوم كلاهما بقذفها للآخر حيث يُصدم أحدهما تارةً والآخر يصيبه الذهول وقد ذُهِل “أيـوب” من حديث الآخر الذي هتف بتشتتٍ كما حال رأسهِ:
_أنا مش عاوز أخسرك، ومش عاوزك تشيل همي علشان زي ما قولتلك في وشي مصايب كتيرة، بس منكرش إني متطمن إن فيه أخ في ضهري عمال يقف في وش الدنيا علشاني، تفتكر بالسهل عليا إني أنسى موقفك معايا لما لحقتني من السجن؟ أنا كنت هقتل في لحظة غضب عيوني أتعمت فيها، وساعتها أنتَ كنت عيني وشوفت اللي أنا مشوفتوش، متزعلش مني يا “أيـوب”.
ابتسم له “أيـوب” بصفاءٍ من عينيهِ ثم سحب نفسًا عميقًا وزفره على مهلٍ فيما أغمض “يـوسف” جفونه ثم تجهز لترك السيارة فأمسك “أيـوب” رسغه يمنعه ثم سأله يمازحه بقولهِ مُشيرًا إلى الضربة التي تلقاها منه قبل سفره:
_جيبتلي إيه معاك من أسوان؟ ولا هتضرب ببلاش؟.
ضحك له “يـوسف” ثم هتف يمازحه هو الآخر بقولهِ:
_جيبتلك بخور، وأحجار كريمة شاري؟.
_ شاري يا غالي، بس هات.
هتفها الآخر بنبرةٍ ضاحكة وهو يرى انسحاب “يوسف” من السيارة ثم وقف أنتظره حتى ولج البناية وأغلقها ورحل الآخر نحو بيته أخيرًا خاصةً بعدما هاتفه والده حينما لاحظ تأخره لبعد منتصف الليل بكثيرٍ من الوقت، والآن يطمئنه بعودتهِ أخيرًا والظهور أمام عينيهِ ليرتاح من عبء التفكير.
__________________________________
<“المدينة لا ترفضك، هي فقط تُعاتبك”>
أضواء المدينة لم تنطفيء ولن تنطفيء؛ لطالما كان سبب لمعتها لازال موجودًا، والمدينة ذاتها لم ترفض ساكنيها بل هي تحزن من إنطفائهم فتنطفيء هي الأخرى لأجلهم، وربما يترك المرء مدينته قاصدًا العيش في الغُربة، لكنه لم يعلم أن مدينته فاضلة ستبقى في انتظاره حتى فناء العوالم وفناء النفس بذاتها إن لم يحضر السبب في بريقها…
وصل “يـوسف” للأعلىٰ لكن أضواء سطح البيت المُضاءة أشارت له بتواجدها في الأعلى وكأن المدينة تنتظر موعد الساعة لإقامة إحتفالها، وعليه توجه مُباشرةً نحو الأعلىٰ فوجدها تجلس في إنتظارهِ وعلم هو من جلوسها أنها تنتظره فأقترب منها يقف خلفها وهو يقول بخجلٍ من نفسه ومن صاحبة الكرم:
_أنا جيت أهو، مكانش ليه لزوم تستني كل دا.
سحبت هي نفسًا عميقًا ثم ألتفتت له تهتف بنبرةٍ محتدة تتهرب من سذاجة موقفها كونها تجلس في إنتظاره:
_أنا مش مستنياك ولا حاجة، أنا قاعدة عادي.
ابتسم ساخرًا بزاوية فمه ثم ألتفت لها يقف أمامها وهتف بتهكمٍ قاصدًا ممازحتها حتى يستغل الظروف المُهيئة له في التحدث معها:
_ماشي هعمل نفسي مصدقك، بس أنا عارف ومتأكد إنك قاعدة مستنياني، مش علشان حاجة، بس ثقة في أصلك وطيبتك وقلبك الجدع، أنا مش ناسي موقفك لما مديتي إيدك تمسكي أيدي النهاردة علشان حسيتي إني خايف، شكرًا يا “عـهد”.
زفرت هي بقوةٍ ثم وقفت تواجهه وهي تتجاهل حديثه ونبرته ثم هتفت بحديثٍ مُقتضبٍ حتى تهرب من صوت ضميرها المُنادي لأجلهِ:
_كويس إنك رجعت، أنا هنزل علشان أنام ورايا شغل بكرة بدري ومش هقدر أتأخر عن كدا، وبراحتك أحسبها زي ما أنتَ عاوز، أنا مش مُضطرة أبررلك أو أعدل موقفي.
ضيق عينيه مُتفرسًا في ملامحها ثم أندفع يسألها بضيقٍ بعدما تذكر أمر عودتها للعمل من جديد:
_”عـهد” أنتِ إيه اللي نزلك الشغل تاني؟ أنا مش ناسي ولا ساكت، بس أنا مش عاوز أزعلك مني، بس مش معنى إني غايب عنك يبقى تعملي حاجة غصب عني، نزلتي شغلك ليه يا “عـهد”؟.
_يا رب صبرني.
هتفتها “عـهد” بضجرٍ تفاقم بداخلها وقررت أن تخرجه على هيئة هذه الجملة التي أعربت عن نفاذ صبرها وهي تتشبث بحبالٍ شبه واهية في التماسك بقوتها قبل أن ينفلت لسانها تعاتبه بما لم تقو على احتوائه بداخلها، فيما رفع هو حاجبه الأيسر كعلامة استنكارٍ لرد فعلها على سؤالهِ في حين التفتت هي من جديد توليه ظهرها وقد عاود هو السؤال مُجددًا بنبرةٍ أكثر تحفظًا وكأنه يتأهب للغضب بقوله منفعلًا:
_تاني والمرة دي عاوز إجابة واضحة، نزلتي الشغل ليه يا “عـهد”؟.
تأففت هي بضيقٍ منه ثم التفتت له تهتف باندفاعٍ هي الأخرى اقتبسته من غضبه البائن عليه وعلى نبرته التي تحفزت للمشكلات معها:
_هو كدا، ومش عندي مبرر، وأكيد مش هضطر أبرر ليك كل حاجة، زي ما أنتَ بتعمل كل حاجة من غير مبرر، ولو سيبت الشغل هروح غيره، وياريت لو سمحت تبعد عني خليني أعمل كوباية الشاي بمزاج قبل ما أنام.
هتفت جملتها ثم أولته ظهرها من جديد في جهتها المُرادة تتابع عمل الشاي لنفسها وحينها وزع نظراته بينها وبين ما تفعل وسألها بنبرةٍ أدعى فيها البراءة قائلًا:
_طب ممكن تعمليلي شاي بالنعناع معاكِ؟ وحشني منك.
بهذه النبرة وهذه الرقة والطابع البريء الذي يدعيه ستكون جاحدة إذا رفضت مطلبه لذا سحبت نفسًا عميقًا تزامنًا مع حركة جفونها وهي تُطبق على بعضها في حركة انسيابية وكأن رموشها سماءٌ تُطوى فوق جفونها وتحفظه معها، بينما هو راقب حركة كفها وهي تسحب الكوب الخاص به بعدما كشفت عن بلدته بداخل عينيها وحينها ابتسم يُراضيها بقولهِ:
_أنا مش عاوز أضايقك بوجودي معاكِ، بس أنا لاحظت إنك بتحبي الشاي وعلشان كدا عندي ليكِ شغل حلو أوي.
وصلها حديثه الذي خرج منه ببساطةٍ وكأنه فتى صغير تسبب في إثارة الشغب والضجة حتى تعبت منه أمه لكنه عاد لها يسترضيها وقد التفتت له بكامل جسدها تسأله بعينيها عن مقصد كلماته فوجدته يهتف بنبرةٍ بها لمحة طفيفة من المرح:
_جايبلك شغل في شركة شاي العروسة إيه رأيك؟.
ضيقت جفونها بشكٍ فيما يقول، بينما هو لم يتمالك نفسه من الضحك أثناء تكملة سابق الحديث بقولهِ مازحًا معها:
_شركة شاي العروسة، كل ما كرتونة شاي تطلع تزغرطيلها، إيه رأيك؟.
هذا الوقح لن يَكُف عن المزاح بالتأكيد وهي في أوج غضبها منه، وفوق كل ذلك يمازحها؟ لكن لأجل الحق هي تود أن تظهر ضحكاتها على جملته العبثية وحينها مال برأسهِ يُشاكسها بقولهِ:
_طب ما تضحكي، بخلانة ليه؟.
ضحكت رغمًا عنها حينما أقترب يمازحها أو بالأحرىٰ حينما تخيلت الموقف وهي تقف وتفعل ما تحدث عنه، وحينها أهدته هي مكافأة نهاية اليوم، ضحكت له وتحدثت معه وقبلها شاركته خوفه ثم جلست تنتظره، وكأنها تنعته بالبخل والشُحِ في حين أنها هي صاحبة الكرم وقد هتف هو بشرودٍ في ملامحها الرقيقة الضاحكة:
_حبيب عيوني.
طالعته هي بتوترٍ من جملته المُحببة بعدما أشتاقت لها كثيرًا منه هو تحديدًا وهو يُخاطبها بها بتلك الرقة وقد أقترب هو منها أكثر وببطءٍ ضمها إليه يُكبل حركتها بين ذراعيه وحينها مسح على رأسها مرورًا بظهرها وهتف بنبرةٍ دافئة وعميقة كمن يتذوق الراحة بين أحضان وطنه:
_أنا مش عاوز غير وجودك كدا في حضني بس، صدقيني أنا عاوز أرتاح شوية ومفيش غريب بيرتاح في أرض غير أرضه يا “عـهد”، سيبيني كدا شوية وأمشي بعدها براحتك بس أنا بجد تعبان وتقريبًا مفيش مكان يريحني غيرك أنتِ.
تنهدت هي مُرغمة على ذلك ووقتها آثرت الصمت لكي لا تُعكر صفو هذه اللحظة التي أرادت هي سرقتها من الزمن معه، فكما عاشت تتعذب في فراقهِ ألم يحق لها أن تنعم بالراحةِ في قربهِ؟ آهٍ لو يعلم هذا الغريب كيف تحتاجه مدينته لكي تعود أضوائها من جديد لامعةً بعدما أنطفأت في غيابه، لكنه سيعلم لا شك في ذلك، بينما هو سكت كعادته وترك الحديث للقلوب وقرر أن لا تضيع هذه اللحظة منه هباءً وتذكر قول الشاعر الذي شابهه وكتب فيما سبق:
إِني أُطيلُ حديثنا إذ يبْتدِي
‏وأنا بِطَبعي لا أطيلُ كلامِي
‏خيرُ الكلام أقلُّه في مذهَبي
‏إلا حديثه ملجَئي وَسَّلاميِّ
وهي حقًا تُشبه مدينة آمنة يُغدقها السلام في حين أنه كما المحارب أفنى عمره بأكملهِ في ميادين المعارك متمسكًا بالربحِ حتى يُشارف على لفظ أنفاسه الأخيرة، فُرِضَت عليه شتىٰ الحروب وخاضها بكل شرفٍ، إلا حرب عينيها هي الوحيدة التي تخلى فيها عن مبادئهِ وخان لأجلها العهد، وقبل أن يتساءل عن إثم الخيانة وإقتراف الذنب، خاطبه رفيقه المُدعىٰ بالقلب، أن كل شيءٍ مسموحٍ في الحُب والحربِ، وأي حربٍ هذه يخسرها مُقاتلٌ مثلي، إلا حرب عينيك يا “عـهد”؟.
__________________________________
<“أتى الصباح ومعه زال الظلام”>
قيل مرة على لسان حكيمٍ
أن الحياة لن تستحيل بدون طعامٍ وقد يحياها المرء، ولن تستحيل بدون شرابٍ وسيحيا المرء، ورُبما بغير هواءٍ تزداد مُحاربة المرء، لكن بدون أملٍ لن تقوم الحياة ولن يحيا المرء، فحارب لأجل الأمل مثلما تحارب لأجل شربة الماء..
كانت “آيـات” تجلس في حديقة بيتهم تتذكر لقائها بشقيقها أمسًا عند عودته للبيت وقد جلست هي في إنتظاره لكي ترعاه عند عودته وما إن دلف البيت وتوجه لغرفته وشعرت هي به وقتها تحركت بخفة الفراشات التي تحاوطها في الحديقة وقامت بتحضير الطعام له وقد ولجت غرفته بعدما فتحها لها ليجدها تقف بالطعام على أعتابه وقد ابتسم بعينيهِ لها وضم ذراعيها عند صدره يجاهد بسمته التي كادت أن تظهر فيما هتفت هي بمرحٍ تشاكسه:
_سهرانة علشان أأكلك رغم إنك اتأخرت بس أنا قلبي طيب ومش هقدر أنام من غير ما أتطمن إنك أكلت، علشان تقدر قيمتي بس.
حينها أقترب منها يحتضن وجهها بين راحتيه ثم لثم جبينها بامتنانٍ لها حتى ضحكت هي بسعادةٍ فيما أنهال هو عليها بوابلٍ من المديح والإطراء والثناء عليها وكأنها طفلة تنل إعجاب العائلة في صبيحة العيد، وقد خرجت من شرودها على صوت “وداد” تخبرها بنبرةٍ رخيمة ودودة:
_بقولك يا “آيـات” الآنسة “جـنة” برة وعاوزاكِ.
انتبهت لها وهي تترك شرودها ثم أعطتها موافقتها على دخول الأخرى لها وبعد مرور أقل من دقيقة ولجت لها “جـنة” على استحياءٍ وهي تُخفض رأسها أرضًا وكأنها لم تقو على رفع عينيها في وجـه هذه التي تشبه الملائكة، وقد وقفت لها الأخرى ترحب بها بحفاوةٍ كُبرى جعلت ضيفتها تتنفس بعمقٍ ثم هتفت بصوتٍ على مشارف البكاء بعد جلوسهما:
_أنا عاوزة أقولك إني جيتلك علشان أنا ضايعة، أنا مبقيتش بحبني ولا حتى قادرة أبص لنفسي في المراية، دي مش أنتكاسة أبدًا، أنا واحدة كنت لابسة لبس شرعي ومش بفوت فرض ولا حتى نوافل، إيه اللي حصلي؟ أنا بقيت أفظع من الأول ومحدش بينصحني، أنا جيتلك علشان عارفة من قلبي إني حتى لو غلطت أنتِ مش هتلغطيني، أعتبريني أختك وأنصحيني، أنا محتاجالك.
ابتسمت لها الأخرى بطمأنينةٍ ثم مدت كفها تحتضن كف الأخرىٰ وهتفت بتفهمٍ لتيهها وتخبط مشاعرها:
_أنا حاسة بيكِ ومريت بحالتك دي قبل كدا، الفتور سيطر عليا وساعتها سلمت نفسي ليه، فطرة الإنسان أصلًا متأرجحة بين ذنب واستقامة، محدش فينا خالي من العيوب ولا معصوم من الخطأ، كلنا بنغلط ونتوب والهوى يغلبنا بعدها نغلبه إحنا، الإنسان أصلًا أواب، يعني دائم الرجوع لربنا بعد الفتور، أنتِ إيه مشكلتك؟.
تنفست “جـنة” بخوفٍ ثم هتفت تصارحها بقولها:
_أنا مش هكدب عليكِ، أنا من ساعة جواز “أيـوب” حسيت نفسي مُشتتة وضايعة، أنا كنت شايفاه فتى أحلامي وأنتِ عارفة، بس أنا والله مش وحشة، أنا بس أتطمنتله، حسيت إنه الشخص المناسب اللي كل بنت ينفع تحلم بيه، خدته قدوة ليا وبقيت بقرب من ربنا يمكن أكون مناسبة ليه هو، بس والله أنا نيتي مش وحشة، أنا بتمناله السعادة، و “قـمر” جميلة أوي وتستاهل حد زي “أيـوب” بس أنا مبقيتش أنا، أنا مش بحبني كدا، ساعديني وقوليلي ليه حصلي كدا؟.
تنهدت الأخرى وهتفت بحكمةٍ يتصف بها عقلها في تصريف الأمور وإرجاعها إلى أصلها:
_بصي، أصل أي عمل في حياة الإنسان هو النية، لازم النية تكون خير علشان العمل يتم صح، يعني النية الفاسدة ممكن تفسد العمل حتى لو كان العمل نفسه صالح؟ الحقيقة أيوة، ساعات النية رغم صحة الفعل بتفسده، يعني لو جينا نبص ليكِ ليه لبستي حجاب شرعي وقررتي تقربي من ربنا أكتر كان الهدف والنية ساعتها غلط، وهو علشان واحد من العباد، بس الأهم بقى رب العباد، يعني اللبس الشرعي ربنا أمرنا بيه سترة لأجسادنا وحماية لنفسنا، وفرض الحجاب على كل مسلمة، يبقى نطبق الفرض علشان ربنا أمرنا بكدا ودي نيتنا، إنما النية لما بتكون غلط الفعل رغم إنه صح، بيكون غلط ومش هنحس بالراحة فيه، يعني دلوقتي أنا واثقة إن توبتك وإحساسك بالذنب صادقين، علشان حسيتي ببعد المسافة بينك وبين ربنا، صح؟.
حركت رأسها موافقةً بخزيٍ من نفسها وقد ترقرق الدمع في عينيها وهي تشعر بفداحة ذنبها، فيما هتفت “آيـات” تُطمئنها بقولها الحماسي:
_مش عاوزاكِ تحسي بالذنب، لأن زي ما قولتلك إحنا بشر، محدش فينا معصوم من الخطأ، وربنا سبحانه وتعالى أعلى وأعلم بعباده، دلوقتي أنتِ حسيتي بالذنب وحسيتي إنك مقصرة، ودا في حد ذاته توبة، لأن تفكيرك في التوبة توبة وربنا بييسرها على عباده، أنتِ تقدري تقومي وتبدأي من تاني، مش عيب خالص إننا نقع، بس عيب نستسلم لوقوعنا ونسيب الفتور ينهشنا، عادي نرجع تاني نحاول نصلي في ميعادنا، وعادي نرجع نقرأ الورد من بداية المصحف، وعادي نبدأ القيام من تاني، وعادي نحاول نتمسك بالأذكار، طالما بنحاول يبقى هنوصل، ومفيش حد بيوصل من أول مرة، ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه العزيز:
“والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لـَمَعَ المُحسِنِينَ”
أنهت الاستشهاد بالآية الكريمة ثم أضافت من جديد تُكمل الحديث بتفسيرٍ أكبر من السابق:
_‏أتظُنّ أنْ يخذل اللَّهُ من يُجاهِد نفسَه ثُمَّ يسقُط ويمشِى وهو أعرَج؟ يعني إيه؟ يعني الشخص اللي بيجاهد نفسه للتمسك بالطاعات ويخالف هواه ويعصى شيطانه ربنا سبحانه وتعالى بيرزقه الهُدى لطرق أكتر تزيده قرب من ربنا، يعني تلاقي شخص بيبدأ يلتزم بالصلاة بعدها ربنا يكرمه ويرزقه صلاة النوافل، ثم يثبت ورد القرآن ثم يرشده للأذكار ثم قيام الليل، ثم الصيام، ثم دراسة علوم الإسلام الشرعية، هي بتيجي واحدة واحدة بس الإنسان يبدأ يجاهد نفسه ويعصي هواه ويخالف نفسه، مخالفة الهوى نجاة النفس، ومسايرة الهوى هلاك النفس، والإنسان عليه النجاة بنفسه بإنه يخالف هواه.
رفعت “جـنة” عينيها لها وقد استصعبت أمر العودة من جديد وأضافت تخبرها بما أملاه عليها قلبها:
_صعب، صعب أوي أرجع تاني، حاسة إني ماليش عين أروح تاني أقف على باب ربنا، إزاي بعدما بغبائي زودت المسافة؟ انا حتى أقل القليل بطلت أعمله.
وكالعادة أتاها الرد حكيمًا بقول الأخرى:
_ماهو للآسف الشيطان بيوقف للناس بالمرصاد، يعني هيقف قدام عزيمتك، وهيخليكِ تشوفي الطريق صعب أوي، رغم إن ربنا مُرحب بعباده وبابه مفتوح، علينا بس إننا نروح ونبطل نأجل، سيدنا “عمر بن عبدالعزيز” قال مقولة حلوة جدًا وهي:
‏ “لو أن الناس كلما استصعبوا أمرًا تركوه، ما قام للناسِ دنيا ولا دين.”
يعني مش هنقدر نعمل أي حاجة وحجتنا هتبقى الصعبنيات، بس الحاجات مش صعبة علينا بالعكس، إحنا اللي بنضعف عزيمتنا، قومي تاني وروحي وأبدأي طريقك من تاني، وأفتكري إن الطريق دا ربنا هداكِ ليه علشان بتجاهدي نفسك، وأنا معاكِ، بس أهم حاجة النية الخير والهدف أولًا وأخيرًا الطاعة للخالق سبحانه وتعالى.
أزداد حماس الأخرى لهيبًا وشعرت أن كل شيءٍ أضحى في حوزتها لذا ابتسمت براحةٍ ثم ركضت تحتضن “آيـات” التي استقبلتها بين ذراعيها مُرحبةً بذلك وأكثر وهي تتمنى أن توفق هذه الفتاة في هذا الاختبار الذي يُصيب المرء في كل فترات الحياة وخاصةً من يحاول السير للخالق، كما أنها قطعت وعدًا بينها وبين نفسها أنها لن تتخلى عنها حتى تصبح كما أرادت.
__________________________________
<“كل الفترات تُتعب المرء، إلا فترة واحدة تصبح شفائه”>
تلك اللحظة التي يقف فيها المرء أمام نفسه يلومها ويلقي عليها حكم التقصير هي أصعب اللحظات التي يواجهها، تلك اللحظة التي يواجه فيها مخاوفه وآلامه هي اللحظة الأكثر مخافةً، لحظة تشبه الحروب تنشأ بين المرء وذاته والأصعب فيها هي هزيمة المرء من ذاتهِ..
خرجت “مارينا” باكيةً من غرفة الإختبار وهي تشعر بالكره لنفسها كونها قامت بالتقصير في حق دراستها وفي حق نفسها، نفسه الشعور البغيض الذي تمر به كُلما تعرضت لمثل ذلك الموقف وهو عدم توفيقها في الإختبار بالشكل المتوقع أو هكذا خُيل لها، وقد جلست بقرب الحديقة وهي تحاول إخفاء عبراتها حتى سقط عليها ظل أحدهم فرفعت رأسها تلقائيًا لتجده يقف أمامها وهو يسألها باهتمامٍ:
_عملتي إيه يا “مارينا”؟ طمنيني.
هربت من النظر إليه ومسحت عبراتها المُنسابة على وجنتيها وهتفت بصوتٍ مُختنقٍ:
_معملتش، حليت زي الزفت، ياريتني ذاكرت كويس، وكل مرة أعمل كدا، أقول هذاكر ومش هضيع وقتي وبعدها أضيع الوقت وأفقد شغفي، بس أنا بأمانة كنت ناوية المرة دي أشد، بس أنا مش قصدي كدا، أنا مشكلتي إني تايهة وكل الظروف حواليا بتأثر عليا، أنا للأسف عاملة زي العيلة الصغيرة عاوزة حد يهتم بيا وبمذاكرتي حتى، بس في نفس الوقت أنا كبيرة وفاشلة، فاهمني؟.
سألته بتشتتٍ حتى وجدته يجاورها ثم سحب نفسًا عميقًا وهتف بنبرةٍ رخيمة صبغها بطابع الحكمة:
_أنا ممكن أكون فاهمك وأكتر كمان، بصي يا” مارينا” مفيش حاجة اسمها شغف، دي حاجة اخترعها الناس علشان يبرروا هروبهم من المسئولية اللي عليهم، الإنسان اللي عاوز هيتشقلب علشان يوصل، هيحاول ويحفر في الصخر، أنا مقدر موقفك وتشتتك، وعارف إن ظروف البيت مش أحسن حاجة، بس لازم أنتِ تساعدي نفسك، محدش هيساعدك غيرك، مش مهم الإمتحان دا ومش مهم السيكشن العملي، دا كله هيتعوض، بس الأهم إنك تحاولي تاني وتالت وأنا معاكِ، وحتى لو مش معاكِ أنا بدعيلك، ومستني إنك تنجحي وأرفع راسي بيكِ، وكدا كدا أنا فرحان بيكِ علطول، بس عاوز أفرح أكتر، قدري فرحتي بقى كدا.
ابتسمت له بإطمئنانٍ وطالعته بعينيها أخيرًا فوجدته يشير لها نحو المطعم داخل الجامعة ثم عرض عليها عزيمتها بقولهِ الرزين:
_تعالي بقى أعزمك على مانجا، مش كيفك كيف مانجا برضه؟ أتفضلي يلا.
تحركت معه نحو موضع إشارته وقد وقف هو يُملي طلباته وقد لاحظ القلم الموضوع بجوار الأكواب البلاستيكية الشفافة فخطف القلم وأنتظر وضع العصير على الحافة الرُخامية وحينها ألتقط الكوب الخاص بها وكتب عليها بالقلم جملةً لأجلها هي:
_رُبما أخطئتي الظن حينما حسبتي نفسكِ فاشلة، في حين أنكِ أمهر من يصنع البمسة على وجهي.
أعطاها الكوب بعدما كتب لها العبارة وحينها فعل هو ما سبق ودونه حيث أجاد رسم البسمة على وجهها العابس ومن قبلها عينيها اللامعتين، وكأنه يتحدى نفسه في الوصول لقلبها لكي يحظى بقربها وينال حُبها، تلك التي تُشبه قطعة ماسٍ تمناها من صغرهِ والآن يودها في كبرهِ.
__________________________________
<“أتتك الضُحىٰ ومعها النور، حلق ورفرف كما الطيور”>
في منزل “نَـعيم” صباحًا..
كان “إسماعيل” متسطحًا فوق الفراش وبجواره جلس “مُـنذر” الذي أعتذر عن الذهاب إلى عمله مُتحججًا بالبقاء بجوار رفيقه خاصةً أن “إيـهاب” لم ينزل حتى الآن ويبدو أنه لازال يشعر بالتعب، فيما غرق “إسماعيل” في التفكير بشأن خطيبته وما حدث له، فإن كانت المخاطر تحاوطه بهذا الشكل، من المؤكد أنها ستحاوطها في تواجدها بجوارهِ، الآن أضحى يخشى عليها أكثر من خوفه على نفسهِ.
في البناية المجاورة لهم تحديدًا بشقة “إيـهاب”
وقف يبحث عن هاتف زوجته التي ألقى عليها لقبًا جديدًا وهو “المسطولة” وقد أمسك هاتفه يطلب رقمها في محاولةٍ جديدة نسى عددها وهي تبحث في الخارج بعدما قلبت المكان رأسًا على عقبٍ حتى أهتدى الصوت إليه من المطبخ فتحرك نحوه ليجده وسط التوابل فابتسم ساخرًا وعاد لها يهتف بسخريةٍ:
_أمسكي يا مسطولة، كان وسط التوابل جوة، قوليلي بقى مش غلطتك دي وإنه نفسه هفته على شوية فلفل أسود، أمسكي وفوقي لنفسك يا “سمارة” ربنا يعينك.
التفتت هي بلهفةٍ تخطف الهاتف منه ثم تنهدت بعمقٍ وهي تقول بنبرةٍ لاهثة بعدما فقدت أعصابها بسبب فقدان هاتفها:
_هات ربنا يجبر بخاطرك، يا أخويا كل شوية أنساه وقلبي يقع في رُكبي، بحس إني لوحدي من غيره، بس خلاص مش هضيعه تاني، مش كل شوية هتخض كدا.
ابتسم رغمًا عنه وضرب كلا كفيه ببعضهما فيما وضعت هي الهاتف ودلفت للداخل حتى تقوم بإحضار الطعام لهما سويًا، فيما لاحظ هو الاسم المسجل به رقمه فوق شاشة هاتفها وحينها ألتقطه يقرأ اسم المكالمات الفائتة منه فوجده مُسجلًا “دُنيتي كلها” حينها ابتسم رغمًا عنه حتى وجدها تخرج من جديد أمامه فسألها بنبرةٍ رخيمة:
_دُنيتي كُلها؟؟ حلو الاسم دا.
خجلت هي حينما فهمت سبب إشارته وحديثه وتنهدت بقلة حيلة ثم جلست على الطاولة تضع الطعام فيما أقترب هو يجاورها ثم سألها باهتمامٍ:
_وإشمعنا بقى دنيتك كلها؟ بس كيفني.
تجاهلت هي الرد عليه ثم عرضت عليه مشاركتها الطعام بقولها الذي سيطر عليه الخجل أو ربما الضيق منه بسبب ما فعله الأمس وعلمته هي دون أن يخبرها حتى:
_تعالى أفطر معايا وسيبك من الكلام دا.
رفع حاجبيه ساخرًا وكأنها ترد له طريقة معاملته معها وقد مال عليها يلثم جبينها لكي يُراضيها بذلك ثم هتف معتذرًا بقولهِ:
_ماليش نفس شربت شاي وهنزل أشوف “إسماعيل” وهاجي مش هتأخر، أفطري أنتِ كويس وأنا هاجيلك تاني.
أولاها ظهره وكاد أن يختفي من مُحيطها لكنها اوقفته بقولها الذي فاجئه حينما أتاه منها هي:
_مسمياك كدا علشان أنتَ مش حد في الدنيا والسلام، أنتَ حد الدنيا كلها فيه هو، ماليش غيرك في الدنيا ولا ليا دنيا من غيرك، علشان كدا قلبي بيوجعني عليك من عمايلك، أنا مش ناسية عيشت يتيمة إزاي في غيابك، ودلوقتي أنا جوايا حتة منك، خلي بالك من نفسك، علشان اللي جاي في السكة، علشان برضه هيبقى زيي وهيشوفك كل دنيته، عرفت اللي فيها؟.
ألقت الحديث بنبرةٍ متباينة بين العاطفة والمعاتبة فيما حرك رأسه هو مومئًا لها ثم تحرك نحو الأسفل يهرب من معاتبتها له فهو لم ينس نظرتها له حينما استيقظت صباحًا وفهمت ما فعله لأجل شقيقه وأكده هو بنظراته حينما هرب منها بعينيهِ بعيدًا عن عينيها.
في الأسفل خرج “إسماعيل” من شروده على صوتها ملهوفًا وهي تُناديه لتظهر فجأةً على أعتاب غرفته كما تظهر خيوط الضُحى الأولىٰ في سماءٍ مُعتمة غطاها الليل، لكن كما المعتاد لن يطول الليل ولن تغيب الضُحى، وهاهي ظهرت “ضُـحى” وخلفها “يـوسف” الذي أحضرها إلى هنا فدلفت هي له تطالعه على الفراش وهو يجلس بهذه الهيئة المُتعبة ومعظم جسده مُضمدًا بالخامات الطِبية وقد ترقرق الدمع في عينيها وهي تقترب منه وسألته بصوتٍ مُختنقٍ:
_ألف سلامة عليك يا “إسماعيل” حاسس بإيه؟.
تعلقت عيناه بها وهي تقف أمامه وقد عجز عن الرد كما عجز عن الطير والتحليق على عكس فؤاده الراقص بداخله وقد أخرج الحديث أخيرًا يهتف بصدقٍ:
_كويس علشان شوفتك، جيتي ليه وتعبتي نفسك؟ أنا كويس خلاص والموضوع مش مستاهل يعني.
طالعته بعتابٍ من سهام عينيها ثم جلست على المقعد المجاور للفراش وهتفت بصوتٍ هاديءٍ:
_أنا جاية أشوفك وأتطمن عليك، “يـوسف” قالي إن فيه ناس اتهجمت عليك علشان أنتَ حقاني ومش عاوزة تاخد صف الغلط، ودا الصح، محدش في الدنيا دي يقدر يجبر إنسان على حاجة، كل واحد فينا حر في اللي يعمله، الإنسان أتخلق حر، وأنا مبسوطة بيك أوي.
طالعها بغير تصديقٍ ورمش ببلاهةٍ عدة مرات وقد جلس “يـوسف” على مقربةٍ منهما يترك لهما حرية الحديث فتحدث “إسماعيل” بصراحةٍ يخبرها حديث قلبه التائه في طرقاتها:
_أنا عاوزك تمشي وتختفي من طريقي يا “ضُـحى” مش علشان حاجة، بس خوف عليكِ أنتِ، خوف منهم يأذوكِ زي ما بيأذوني، أنا غصب عني حبيتك، وحبيت نفسي معاكِ، بس خايف عليكِ أكتر ما خايف على نفسي، ودا كلام جوايا وأنا مش طبعي أخبي، بس الحقيقة إني مش عاوزك تمشي، أنا عاوزك معايا يا “ضُـحى” عاوز أكمل اللي رسمته في خيالي معاكِ، بس مش عاوز حاجة تقرب منك، أنا تايه فيكِ.
أعترف لها بما يُربكها ويُشتت دفاعتها وقد نزلت عبرَاتها التي كانت تُجاهد لإخفائها وما إن لاحظت تيه نظراته وتوسله لها بعينيهِ حركت كتفيها وهي تقول بنبرةٍ مختنقة من البكاء:
_ماهو للآسف أنا مش بايدي أختار، مفيش حد ليه سُلطة على القلب ولا على أختياره، أنا حبيتك أنا كمان، حبيت نفسي معاك وأنتَ شايفني حاجة غالية أوي، حسيت بقيمتي معاك وعرفت إني أستاهل حاجات كتير، أهمها وجود راجل زيك في حياتي، مش همشي وأنتَ هتقوم وهنفرح مع بعض.
كان “يـوسف” يقصد تجاهل حديثهما لكنه تحرك وجلس بجوار “إسماعيل” وهتف يشاكسه بقولهِ:
_أنا راجل دمي حُـر، لولا حالتك دي كنت دغدغت دماغك، بس هعديها، وأنتِ ياختي، أحترمي قرطاس اللب المرزوع دا، قصره، الواد دا يفوق ويكتب كتابه عليكِ بدل الخطوبة، على الأقل يعرف يحضن براحته.
شهقت هي بخجلٍ فيما ضحك “إسماعيل” رغمًا عنه لمرته الأولى منذ الأمس وقد ولج “إيهاب” في هذه اللحظة ولاحظ ضحكة شقيقه فابتسم هو الآخر وكأن كل ما يحدث للآخر ينتقل له من تلقاء نفسه، لكن ما رفع مقدار فرحته هو تواجد “ضُـحى” بجوار أخيه، فمن المؤكد جروح روحه ستلتئم في حضرتها.
في الخارج وقف “مُـنذر” يتحدث في الهاتف مع “جـواد” يخبره عن سبب غيابه تفصيلًا وقد أعطاه الآخر الإذن وترك له الحرية داعيًا لرفيقه بالشفاء العاجل، وقد أرتاح هو كثيرًا من تلك المكالمة لكي يقضي اليوم برفقة العائلة رغم استياءه من الفكرة ككلٍ، نظرًا لكرهه للأجواء العائلية الإجتماعية التي دومًا ما تُشير إلى ما ينقصه.
وقف “سـراج” يمسك كف “چـودي” قبل أن يتوجه للعمل ويأخذها معه وتجاهل عن عمدٍ مكالمات “نـور” له حتى يصل لها ضيقه منه بسبب أفعالها وقد أرسلت له رسالةً صوتية تبكي فيها بقولها:
_رد طيب علشان أنا حاسة إني عملت كارثة ومفيش غيرك ممكن يلحقني منها، “شـهد” كانت حامل ونزلت البيبي وأنا كنت موجودة ورجعتها من العيادة، بس ماكنتش أعرف والله، ومش عارفة أعمل إيـه.
توسعت عيناه وتجمدت أطرافه فور وصول الحديث لسمعهِ وكأنه يُكذب نفسه وحاسة سمعهِ أن الإخرى من المؤكد لن تفعلها وتقتل ابنها، والأدهى أنها ورطت معها حبيبته؟ هذه هي الكارثة الكُبرى وعليه أن يتخلى عن كبريائهِ لأجلها وفقط.
__________________________________
<“لكل الألعاب قواعد، ولُعبتنا لها كبار”>
بداخل المشفى الاستثماري..
استمر البحث والتحقيقات بشأن إختفاء “نـادر” وقد أتت “رهـف” لهم برفقة أحد زملائها المختصين في البحث الجنائي في شركة من شركات الأمن الخاصة، وقد حضر “عُـدي” معها حينما أخبرته عن مقصد توجهها، ودون أن يعي لنفسه وجد شيئًا يدفعه للتواجد برفقتها وقد حضر بالفعل وأخبر “يـوسف” عن ذلك، لكن يبدو أن الفاعل تمرس في مهنته حتى تمت بتلك الحرافية الشديدة حتى باءت محاولات البحث بالفشل، لكن الغريب هو غياب “فاتن” منذ الصباح بعدما أنهارت في أوجه الجميع..
في حارة العطار قُبيل الظهر..
كان “عبدالقادر” جالسًا في وكالته ينتظر ضيفه حتى وصل له بعد مرور دقائق والذي لم يكن سوىٰ “نَـعيم” الذي جلس أمامه وهتف بنبرةٍ هادئة من بعد الترحيب ببعضهما:
_أنا جيت علشان الموضوع اللي أنتَ عارفه، الدنيا في البيت بايظة عندي وأنا بقيت قلقان عليهم كلهم، اللي يطول “إسـماعيل” النهاردة بكرة يطول غيره، وأنا كلهم في رقبتي وهتسأل عنهم قدام ربنا، علشان كدا أنا بحط أيدي في إيدك.
ابتسم له “عبدالقادر” وحرك رأسه موافقًا وقد ولج لهما “أيـهم” في هذه اللحظة يُلقي عليهما التحية ثم هتف بثباتٍ يليق بشخصه الوقور ذي الطابع الدبلوماسي:
_أنا جيت أهو، يلا علشان منتأخرش؟.
أومأ له الإثنان في آنٍ واحدٍ ثم تحركا خلف بعضهما نحو السيارة التي تولى “أيـهم” قيادتها للخروج من حارة “العـطار” نحو المنطقة المُرادة، وقد قطع هو الطريق ذرعًا ومنصاعًا في آنٍ واحدٍ لوالده، وبعد مرور فترة من القيادة أوقف السيارة في منطقة التجمع ثم التفت برأسهِ للخلف يهتف بهدوءٍ:
_المكان هنا، إحنا وصلنا خلاص.
أنهى جملته ثم نزل من السيارة وأنتظر نزول الاثنين ثم دلفوا البناية الراقية مع بعضهم يتجهون نحو الطابق الأول في إحدى بنايات “عبدالقادر” بهذه المنطقة ثم قام “أيـهم” بالطرق فوق الباب حتى فتحته له ساكنة الشقة وهي “فـاتن” التي ما إن رأتهم تنفست بعمقٍ، فيما سألها “عبدالقادر” بفتورٍ قبل الدخول:
_”نـادر” ابنك كويس؟.
ازدردت لُعابها وهتفت بثباتٍ واهٍ أمامهم:
_جوة ولسه مفاقش، بس الدكتور طمني، أتفضلوا.
ألقت حديثها وهي تشير لهم بالدخول نحو الشقة وقد دلفوا سويًا خلف بعضهم ولأول مرة يتم هذا اللقاء بينهم جميعًا، وكأنه لقاءٌ يشبه ما يُسمى لقاء السحاب، وها هي السحاب تجتمع مع بعضها من الشرق والغرب..
____________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى