روايات

رواية عشق بين هشيم مشتعل الفصل الأول 1 بقلم آية العربي

رواية عشق بين هشيم مشتعل الفصل الأول 1 بقلم آية العربي

رواية عشق بين هشيم مشتعل الجزء الأول

رواية عشق بين هشيم مشتعل البارت الأول

رواية عشق بين هشيم مشتعل الحلقة الأولى

ستأتي تلك اللحظة الفارقة يوماً ما ، سيثأر القدر ممن قيدوني بأصفادِ القسوةِ ومزقوا روحي بسيوفِ كلماتهم اللاذعة .
لن يدوم الحال لهم ولن يدوم عذابي ، سيشتد الحبلُ بقوةٍ ثم سينقطع .
في إحدى محافظات الصعيد
وتحديداً في قرية من قراها الشامخة ، وهنا أعنى عادات وتقاليد قاسية وحادة جعلتها شامخةً مثل قلعةٍ مهجورةٍ لا تُسكن ولا تؤمن من بشر .
داخل منزل كبير يشبه القصر في تفاصيله تحتله حديقة وسورٍ صلب يشبه قلوب ساكنيه .
استيقظت وردة صباحاً بنشاطها المعتاد كي تبدأ روتينها اليومي ، ترجلت من فراشها وفتحت شرفتها لتسمح لأشعة الشمس بالدخول إلى أثاث غرفتها تطهره ككل يوم لتدب الحياة في أركانه .
فهي لها نصيباً من اسمها حيث تشبه الوردة في رونقها ونشاطها ، تشبه عودها الأخضر ذو الشوك لمن امتدت يده قاصداً اقتطافها ، تشبه فوَاح عِطرها الأخاذ لمن أُعجب بها ، وتشبه نعومة ملمسها لمن أحبها بصدق .
اتجهت بعدها نحو الحمام لتغسل وجهها وتتوضأ وتؤدي ركعتي الضحى ، ربما هذا البيت تتوغل إليه بعض البركة بسببها .
نزلت بعد نصف ساعة للأسفل كي تقوم بتحضير فطور العائلة مع نهال المساعدة ، فبرغم أنها الابنة الوحيدة ل جابر السيوفي إلا أنها ليست مدللة على الإطلاق ، بل على العكس ، المدللان هنا هما شقيقيها رامي وعادل .
هما المفضلان عند كلٍ من جابر وشريفة زوجته ، دوماً هي المُلامة على أي خطأ ، دوماً هي المُعاقَبة حتى وإن كان الخطأ لهما ، هي التي يتم توبيخها في جميع الأحوال لأنها وبالنسبة لهما أنثى وهما رجُلان يحق لهما مالا يحق لها ، لقد اعتادت على تلك الطريقة وباتت جزءاً من حياتها ، وبرغم كل الصعاب إلا أنها قويةً مفعمةً بالحياةِ ، تعطي لنفسها دوماً الأمل بأن هناك فارساً سينتشلها من هنا يوماً ما وستكون أميرة قلبه وسيعوضها عن كم الظلم والقهر التي تشعر بهما مع كل مرة يعاملوها بها .
بدأت العائلة تستيقظ واحداً تلو الآخر .
كانت قد انتهت وردة من تحضير الفطور ووضعته على المائدة الواسعة في بهو المنزل الكبير وساعدتها في رصّهِ نهال ابنة مدبرة المنزل .
وصلت شريفة أولاً وتحدثت بملامح ناعسة ونبرة باردة :
– لحقتوا عملتوا كل ده ؟
تحدثت نهال وهي تنظر نحو وردة بود لتنسب الفضل لأهله :
– وردة هي اللي عملت كل الوكل ده يا ست شريفة ، أني بس ساعدتها فيه .
ابتسمت شريفة وتحدثت بنبرة متعجرفة وهي تسحب مقعدها وتجلس عليه :
– هو ده الصُح ، علشان لما تروح بيت راجل تشرفنا ، ويقوله شريفة عرفت تربي زين .
استمعت لها وردة بصمت بينما صراخ عقلها يرفض هذا الحديث ، هي لم تخلق لتنفيذ أمورٍ يمكن أن ينفذها الجنسين ، هي خُلقت بغرضٍ معينٍ مخصصٍ لها كأنثى ، خلقها الله لتؤنث وحدة آدم وتجاوره رحلته وتعينه عليها ، خلقت لتكون الشعاع الذي يسري في دروب ليلة قارصة البرودة ليوزع الدفء في قلب محب ، هكذا تعلمت وهكذا علمت من دينها وقدوتها محمد صلَّ الله عليه وسلم .
شغلت نفسها بوضع الفاكهة الطازجة على المائدة بشكل مرتبٍ وأنيق كشخصيتها لتتجاهل السيء من حديث والدتها الذي لا يسمن ولا يغني من جوع .
خرج جابر من غرفته يتحمحم بعلو وينظف حلقه حتى وصل إليهن قائلاً بنبرة صلدة تشق جدران المكان :
– بت يا رودة ، فين فنچان القهوة بتاعي .
تركت ما في يدها وتحركت نحو المطبخ وهي تردف بهدوء في طريقها :
– حاضر يا أبوي حالاً ، أني مرضتش أصبه غير لما تاچي علشان ميبرُدش .
زفر جابر ونظر نحو زوجته التي تتثاءب واضعة باطن كفها على فمها ليلتفت بوجههُ بملل وقد مد يده يلتقط قطعة من الزيتون المخلي يلوكها في فمه مردفاً بترقب :
– فين اسم النبي حارسه ابنك رامي ، وابنك التاني فين هو ومرته منويش ينزل بقى ؟
تحدثت شريفة بنبرة متهكمة :
– رامي دلوك لساته نايم ، وعادل عيفطر فوق هو ومرته ، لساتهم عرسان عاد .
نظر لها بجمود وتحدث بنبرة غاضبة من استهتارها :
– عرسان إيه وكلام فارغ إيه يا وليّة ، ده بقاله أسبوع ساكن أوضته كأنه محروم چواز .
لوت فمها ساخرة وقررت الصمت فهو لن يفهم حديثها وسيوبخها ككل مرة لذا فضلت عدم الدخول في مناقشةٍ خاسرةٍ معه ، التفت هو ينادي بصوتٍ عالٍ قائلاً على تلك التي تلبي دون اعتراض :
– بت يا وردة ، بت يا نهال .
أسرعت نهال تركض عائدة نحوه بينما جاءت وردة تخطو بحذر وهي تحمل فنجان قهوته ومن ثم وضعته أمامه بانتباه مردفة بترقب :
– نعم يا أبوي .
نظر لهما ثم تحدث بصرامة ونبرة جليدية :
– اطلعي يا بت يا نهال صحي سيدك رامي ، وانتِ يا وردة تطلعي تخبطي على أخوكي عادل وتقوليله كفاية إكدة بدل ما اطلع اطربق الأوضة عليه هو ومرته ، هو فاكر إننا معندناش مصالح ولا إيه .
تحدثت شريفة توقفه معترضة بدلال أمومي مفرط تحكم بها :
– سيب رامي يا چابر ده چاي في الدوغاشة ، ملحقش ينام زين .
التف برقبته ينظر لها بغضب ثم عاد بنظره نحو نهال وتحدث بصرامة متجاهلاً حديثها :
– اللي قولته يتعمل ، يالا عاد .
قالها وهو يشير لهما بكفه فتحركت وردة وتبعتها نهال نحو الأعلى لتناديا على رامي وعادل بقلة حيلة برغم أن وردة تعلم جيداً أنهما لن ينزلا .
وصلت أمام غرفة عادل وطرقت بابها بحرج وانتظرت بينما أكملت نهال سيرها نحو غرفة رامي حيث كانت في ممرٍ آخرٍ وطرقتها أيضاً وانتظرت بحذر أمامها حتى يفتح من في الداخل .
فتح رامي بعد عدة ثواني بملامح مشعثة وجذعه عارِ ويبدو عليه النعاس فخجلت نهال وأدارت وجهها للجهة المعاكسة تردف بحرج :
– يا رامي بيه أبوي چابر بيقولك انزل دلوك .
نظر لها من مقدمة حجابها حتى أخمص قدميها وبرغم نعاسه وخمول جسده بسبب ما تناوله أمس مع أصدقائه إلا أنه كان واعياً بالقدر الذي يجعله على وشك التهامها ، فقد كانت ترتدي عباءة ضيقة بعض الشيء أظهرت منحنياتها أمام عينيه التي لن يملؤهما سوى الغبار ولا شيئاً غيره ، فشخصيته مستهترة لا يعرف للشرف مذاقاً .
على الجانب المجاور للممر الآخر من الطابق العلوي فتح عادل الباب قليلاً وأطل برأسه على شقيقته البلهاء من وجهة نظره يردف بحدة وفظاظة :
– إيه عايزة إيه يا مزغودة إنتِ ؟
نظرت له بغيظ وتحدثت بشموخ ونظرات حانقة من جفاءه :
– وهعوز منك إيه وانت لابد في أوضتك بقالك جمعة ؟ ، لو عليا أني إكدة مرتاحة ، بس أبوي رايدك إنت ومرتك تحت .
نظر لها بتجهم وتحدث بنبرة مقتضبة وحنق :
– قوليله إنك لقتيني نايم ، يالا عاد من إهنة .
أغلق الباب في وجهها فزفرت بغيظ وتوعد وتحركت قاصدة الأسفل ولكنها تذكرت أمر نهال لتتجه نحو غرفة شقيقها رامي الذي كان يحاول سحب يد نهال كي يدخلها غرفته عنوةً والأخرى تبكي وتمنعه بخوفٍ وتوسل .
لمحتها وردة من بداية الممر فأردفت بحدة :
– بت يا نهال .
انتفضت نهال ونظرت لها بهلع وسحبت كفها بعدما تحررت من قبضة رامي بفعل مجيء شقيقته ووقف ينظر نحوها بضيق وجمود قائلاً بتأفأف :
– إيه الصباح اللي معيفوتش ده ، انزلوا تحت انتوا الاتنين مش ناقص قرف ع الصبح .
مدت وردة يدها تتمسك بيد نهال ونظرت لشقيقها نظرة حادة قائلة بنبرة تحذيرية قوية :
– متبقاش تيجي يمة القرف يا نضيف ، وروح غطي نفسك وكلم أبوي تحت .
سحبت نهال معها تحت نظراته المتوعدة لها وتحركت عائدة تنزل الدرج وهي توبخها وتشير لها بسبابتها :
– إياكِ مرة تانية تروحي يمة أوضة الواد ده ، إنتِ فاهمة يابت ؟ ، ولو أبوي بعتك قوليلي وأني اللي هروح اصحيه ووسعي لبسك شوية عن إكدة يا نهال وابعدي عن سكة رامي أخوي ، متخلنيش أقول لخالتي عزيزة عليكِ .
أومأت لها نهال تردف بزعر :
– ياوردة أني لسة بقوله كلم أبوي چابر راح ماسك يدي وكان رايد يدخلني چوة ، أني ذنبي إيه دلوك ؟ .
احتقن وجهها غضباً من هذا الأخ الخائب وأفعاله وتركت يدها تطالعها بشفقة وهي تعلم أن نهال ربما تشعر نحوه بشيء ما ولكنه لا يستحق أبداً تلك المشاعر ، برغم أنه شقيقها إلا أنها تعلم جيداً مدى عدم إئتمانه على العرض .
زفرت تردف بهمس بعدما وصلت عند والدها :
-طب روحي إنتِ شوفي شغلك دلوك .
أومأت نهال وخطت نحو المطبخ زافرة خوفاً من انكشاف ما حدث بينما وقفت وردة تردف بترقب :
– عادل يا أبوي قالي أقولك أنه نايم ومفتحش مع إنه رد عليا ، ورامي قالنا انزلوا بلاش قرف ع الصبح .
نظرت لها شريفة بغضب وتحدثت معنفة :
– وانتِ يا مقصوفة الرقبة چاية توقعي أبوهم فيهم ، ما تقولي كيف ما قالوا .
تنفست بعمق ثم سحبت مقعدها وجلست عليه متجاهلة حديث شريفة كأغلب الأحيان بينما تحدث جابر بشرود ونبرة معتادة :
– من غير ما تقول يا شريفة ، أولادك التنين أني جبت أخري منيهم ، مصالحنا الغرب هما اللي عيرعوها وولادي سايبين السايب في السايب ، والمال السايب يعلم السرقة .
نظرت لابنتها بغضب وتوعد ظناّ منها أنها من أوقعت بينهم ثم نظرت نحوه قائلة بتروي تحاول سكب مياه باردة على الدخان قبل أن تندلع ألسنة اللهب :
– متقولش إكدة يا حاچ ، عادل ورامي شايفين مصالحهم زين وبكرة تشوف وهما بيكبروا أراضينا ويرفعوا راسنا بين الناس ، مرت عادل بكرة أراضيها تبجى تحت يد ابنك ، ورامي كمان هنشوفله بت تكون عيلتها كبيرة ونطلبهاله ، الواد لما بيتجوز بيعقل يا حج وبكرة تشوف كلامي ، عيلتنا هتكبر بيهم ، دول سندك في الدنيا والمفروض تكون متباهي بيهم ، هو إنت عندك مين ولد ؟ .
زفر وعاد يرتشف قهوته بصمت بعدما حققت شريفة غرضها بينما كانت رودة تأكل بصدرٍ ضيق وتستمع لحديث والدتها وهي تبتسم داخلياً عليه ، تبتسم وتتألم في آنٍ واحد .
فهي درست علم نفس وأحياء وتنمية بشرية جيداً وكانت تحب تخصصها ، يمكنها أن تعتبر دراستها هي الحسنة الوحيدة في حقها من والدها بعد تصميمه على تعليمها تعليماً جامعياً نظراً لتفوقها الدائم في الدراسة وهذا ليس عدلاً لها وإنما تباهياً وتفاخراً أمام الناس ، وبالفعل دلفت كلية التنمية البشرية وتفوقت وتخرجت بتقديرٍ عالٍ ولكن بالطبع لم يسمح لها أحداً بالعمل بشهادتها ، بل اكتفى جابر بنجاحها هذا ليكن قد حقق سمعةً بين الناس بتميز أولاده جميعهم عن البقية حتى لو لم تكن المعاملة هكذا ولكنه عاشقاً للمظاهر جداً وما خفي كان أعظم .
.꧁꧂꧁꧂꧁꧂꧁꧂
على الجانب الآخر من البلدة
يجلس تحت شجرته وفي مزرعته الصغيرة كالمعتاد .
حوله أغنامه يرعاها واللون الأخضر في أرضه يرشده على تلك النغمة التي يعزفها بالناي المعلق بين أصابعه .
عاشقٌ هو حد النخاع ، أهلكه الهوى وأحرق فؤاده ولا يعرف سبيلاً يطفئ به ناره .
يعزف لحناً عذباً يجذب السامع إليه كانجذاب النملِ للسكاكر .
يرتدي جلبابه البسيط الذي يغلق بعض أزراره ويترك بعضهم ليظهروا تفاحة آدم الخاصة به ، هو الشاب الصالح صالح ، شاباً في ريعان شبابه لا تشوبه شائبة ، في العقد الثلاثون من عمره ، درس في كلية الزراعة وتفوق في دراسته بمجهوده كاملاً ودون طلب العون من أحدٍ غير الله ، من هؤلاء الذين كافحوا وما زالوا يكافحون في تلك الحياة .
برغم الفقر الذي أكل والدته المريضة حتى توفت في عمرِ الشباب وتركته يراعي والده الذي كبر حزناً على فراق زوجته ولكنه أثبت مثابرته وكفاحه في الحياة .
كل ما كان يمتلكه والده هو قطعة أرضٍ صغيرة ومنزلٍ بسيطٍ في وسطها تجاور أراضي عائلة السيوفي الشاسعة مساحتها ، ليبدأ هو في الدراسة ويتعلم أصول الحرفة جيداً ليبث في أرضه ما تعلمه ويزرعها بجهدٍ ويرويها بحباتِ عرقه الغائرة ، كان كالجندي في أرض المعركة يريد أن يثبت كفاءته ويقتنص من العدو المحتل وهو الفقر والضعف .
لذا وخلال سنوات دراسته استطاع توسيع أرضه بأرضٍ تجاورها كانت ملكاً لجارٍ قرر بيعها ومغادرة البلاد بعد موت والداه .
كما اشترى أغناماً وطيوراً وجمّل أرضه بمشتل زهورٍ تنتج العطور الفواحة بعد صناعةٍ متقنة يجيدها بمهارة عن علمٍ درسه جيداً ، ليصبح مُصنّعاً لروائح نادرة اختص هو بها دون غيره ، روائحاً عُرف بها لدى المقربون ولكن مع ذلك فهو يظل مغموراً لا يعلم كيفية الدعاية والإعلان عما يصنعه جيداً ولولا رعاية والده ووجوب وجوده جانبه لكان بذل مجهوداً أكبر في السفر وبيع منتجاته .
ليرضى بالقليل من المشترين لعطوره المميزة ويدخر باقي عطوره إلى فرصةٍ يؤمن بتحقيقها يوماً ما .
وها هو يجلس ممدداً ساقيه حيث يتقابلان عند قدميه وظهره مثبتاً يستظل بظل الشجرة التي لا تستطيع تبريد نيران عشقه المستحيل .
يحبها وهي من تسكن القلعة الشامخة وهو مزارعاً فقيراً ، فكيف لمثلها أن تراه وهي نجمةً في السماءِ وهو يراها بمنظارِ من أرضه ، حفظ وادخر كل ما يتعلق بها منذ سنوات دراستها وإلى الآن لم ينسَ نظرة عيناها السوداويتان ولا أهدابها الكثيفة حينما تعرض لها أحدهم عند عودتها من جامعتها وكان يمر من جوارها بعدما ابتاع أدوية والده ليسمعها تعنف هذا المتحرش .
كانت توبخه ولم تحتاج لتدخله ولكنه لم يعتد التوقف والمشاهدة كمن يجلس أمام تلفاز بل دوماً اتخذ مهنة المخرج للأمور لذا أسرع يقبض على طرفي قميص هذا الشاب ويعنفه بحدة وغضب ثم يدفعه ليهرول الشاب بسرعةٍ عالية مهرولاً ونادماً على اللحظة التي تفوه بها مادحاً جمال تلك الوردة .
نظرت له وردة ولم تكن نظرة حينها بل كان سهماً انطلق من قوس عينيها ليستقر في قلبه ، عيناها كان لها وقعاً مدمراً زلزل قلبه حتى انقلب رأساً على عقب .
تحدثت بنبرة هادئة مخالفة تماماً لنبرتها المعنفة لذاك المتحرش وقالت بهدوءٍ وامتنان :
– متشكرة قوي يا أخويا ، عملت الواچب وزيادة .
حيته بإيماءة بسيطة من رأسها ثم التفتت تغادر وتركته يقف دون حركةٍ واحدةٍ ، ومنذ تلك اللحظة وإلى الآن وبعد كل تلك السنوات التي مرت هو يقف في ذلك الطريق دون حراك ، قلبه تعلق بها خاصةً وأنه علم هويتها وعلم أنها لم ترتبط إلى تلك اللحظة برغم أن لقاءهما يعد مستحيلاً ، سعى لرؤيتها دوماً ولم يحالفه الحظ إلا من لمح طيفها من بعيداً ولكن ذاك الطيف كان كافياً لجعله عاشقاً مخلصاً لحبه المستحيل .
أنزل الناي عن فمه وتنهد تنهيدةً حارةً معذبةً فضفاضة يهون بها عن قلبه ثم تحدث بلوعة لا تظهر سوى له بمفرده قائلاً :
– وجع الهوى غلاب كسّر ضلوع القلب ، روحت لطبيبي اشتكي قالي يا ولدي ضلعك صلب ، ما لقيتش عنده دوا ولا حتي چابلي سِم ، قال لي يا ولدي دواك عند الهوا روح للهوى يمكن عليك يحن ، ويحن كيف يا طبيب وهوايا كيف الصخر .
زفر مطولاً ثم نظر لرعيته حيث كانوا يلتفون حوله يأكلون من حشاش الأرض .
تناول عصاه واعتدل يقف ليبدأ في اصطحابهم معه ككل يومٍ في رحلةٍ ينفرد فيها بأفكاره ، يعلم أن عشقه ضرباً من ضروب المستحيل ولا أمل فيه ومع ذلك وقع في حبها من مجرد رؤيته لعينيها ، وبرغم قوة إيمانه إلا أن هناك دوماً ذنباً في بني البشر وذنبه أن أمله في جمعهما ضئيلاً جداً ربما يحتاج إلى مجهرٍ لرؤيته ومع ذلك فهو يحب ويتلذذ بهذا العذاب الذي يعد رفيقه الوفي .
꧁꧂꧁꧂꧁꧂꧁꧂
بعد يومين في غرفة عادل السيوفي .
يقف أمام المرآة يهندم جلبابه ويدندن نغمةً لم يفصح لسانه عن هويتها ، مد يده يلتقط مشط الرأس وارتفع ليبدأ في ترتيب خصلاته السوداء .
خرجت زوجته دعاء من الحمام الملحق ترتدي مأزرها وتلفه حول جسدها وتنظر نحوه بتوجس ، لقد ظنت أنه غادر بعد غيابها متعمدة في الداخل ، فمنذ زواجهما وهو لم يتركها لحظة ، لم يترك غرفته حيث رفض والده الذهاب لقضاء شهر عسلٍ لذا قرر الانتقام على طريقته وقضاه هو في غرفته ، ولكن من دفع ضريبة انتقامه لم يكن والده بل كانت تلك المسكينة دعاء التي لم تنجُ من طوفان رغبته الجامحة والتي لم تهدأ ، حتى أن الطعام كان يصل إليهما عن طريق الخادمة كما أوصتها شريفة .
لذا عندما صعد له والده بنفسه اليوم صباحاً وناداه بحدة وتوبيخ قرر أخيراً وبغيظ أن يترك غرفته ويحرر تلك المسكينة من قيود رغباته الذكورية الزائدة عن حدها .
تحمحمت بخفوت وتحدثت بنبرة واهنة وضعف :
– فكرتك نزلت يا عادل .
التفت ينظر لها بوقاحة ثم خطى نحوها بخطواتٍ متصيدة وهو يقول بتسلية :
– لع يا قلب عادل ، مهاينش عليا أنزل وأفارق القمر ده .
شهقت داخلها واتسعت عينيها وهي ترى يده تعبث برباط مأزرها لتوقفه بيدها قائلة بخوف من تكرار غزوه :
– وه ؟ ، عتعمل إيه عاد ؟ ، بزياداك يا ولد السيوفي أبوك تحت عيستناك ؟
تنفس بقوة وأبعد يده متذكراً ليقول بضيق ونبرة شاكية يستبيح أفعاله :
– معرفش أبوي عايز مني إيه ؟ ، واشمعنى أني عاد ، ما عنديه رامي ، بس كله فوج راس عادل حتى وأني عريس معارفش اتهنى بمرتي .
فرغ فاهها ولم تستطع النطق ليزفر بضيق ويتابع متجاهلاً ملامحها :
– مكملتش عشر أيام والبيه التاني مقضيها سرمحة مع عيال *** وعمال يضيع عليهم مالنا بس أبوي معايشوفش غير عادل الكبير ، كل حاچة وكل مصيبة يبقى عادل .
قالها بضيق فتنفست تطالعه وقد رأفت على حاله لتمد يدها تملس على صدره في حركةٍ عفويةٍ منها تواسيه قائلة بحنو :
– معلش يا عادل ، دي حاچة متزعلكش يا حبيبي بالعكس ، المفروض تفرح وتعرف إنه معتمد عليك في كل حاچة .
كانت تتحدث وتبتسم له بملامحها البريئة والبشوشة ويداها تملس على صدره ولكن تلك الحركة الأقل من بسيطة منها كانت كالشعلة التي سقطت على حطب رغبته فأشعلته مجدداً بعدما أنطفئ لينظر لها بعيون يتلاعب بهما المكر قائلاً :
– سيبك من أبوي ومن المحروق رامي دلوك ، تعالي لما أقطف تفاحة من شجرتك يا قمر أنت .
ابتعدت تتراجع وهي تهز رأسها معترضة بعيون متسعة فأسرعت يداه تسحبها من طرف مأزرها لترتطم به بقوة وهو يبتسم ويتلاعب بأصابعه برباطه قاصداً فكه وقد التهم شفتيها في قبلةٍ حارة لا تعرف للود سبيلاً وباتت هي في موضع ضعف تحاول إيقافه ولكنها لم تستطيع ولكن جاءها الخلاص على هيئة طرقات مندفعة على باب غرفتهما نبّهت هذا الهمجي وجعلته يبتعد ويعتق شفتيها التي تطالب بالرحمة ، زفر بقوة ولعن تحت أنفاسه ثم تحدث بغضب وعلو :
– مين عااااد .
تحدثت الخادمة بتوتر برغم حنقها من هذا الرجل وقوة إصراره المُلحة :
– يا سي عادل الحچ چابر عيقول لو منزلتش دلوك هياچي يطربق الأوضة فوق راسك .
اتسعت عينيه من حديثها ونظر لزوجته التي تحمد ربها سراً ليقول لها بحنق كمظلومٍ أجبر على الانحناء لفرعونٍ قائلاً :
– استغفر الله العظيم ، معرفش اتهنى بيكِ يا دودو ، معرفش اشبع منيكِ زين .
تحرك مجبراً يتركها ويخطو نحو باب غرفته يفتحه وتقدم خارجه يردف وهو يتطلع على الخادمة بحنق :
– ياكش ترتاحي يا بدرية بعد ما طلعت من أوضتي ، ياكش تنحل قضية روسيا وأوكرانيا بعد ما بعدتوني عن مرتي ، انجري قدامي قبر يلم العفش .
فلتت منها ضحكة خافتة تكتمها بظهر يدها وهي تخطو خلفه نحو الأسفل بعدما تركا تلك التي باتت تتنفس براحة .
꧁꧂꧁꧂꧁꧂꧁꧂
أسدل الليل ستائره على القرية وتلألأت النجوم في سمائها ، بعض سكانها قد غفوا ليستيقظوا صباحاً يسعون على أرزاقهم .
والبعض منهم مستيقظين في منازلهم ، وهناك في هذا المنزل المتطرف نوعاً ما عن القرية يقف هو في غرفته التي خصصها لصنع عطوره ودمجها ، يمسك بقارورة بلاستيكية في اليمنى وفي اليسرى يمسك زجاجة عطرٍ رفيعة متناسقة يسكب فيها من محتوي هذه الزجاجة بتأني .
انتهى من وضع المقدار المناسب بها ومد يده يضع الزجاجة ويأخذ غيرها ليكمل دمجه لهاتان الرائحتان اللتان استخلصهما من زهرة الغاردينيا التي ينفرد بزراعتها في تلك المنطقة مضيفاً إليها خلاصة الورد البلدي ليندمجا سوياً في رائحةٍ مميزةٍ جداً .
انتهى من ملئها ووضع الأغراض مكانها بترتيب ثم تحرك يحمل بين يده الزجاجة حتى وصل لغرفته المتواضعة ودلفها ووقف أمام رفٍ يضع عليه أغراضه الشخصية ومعلقاً فوقه مرآة مرتبة .
وضع الزجاجة على سطح الرف ثم تقدم من خزانته وانتقى ملابس نظيفة وخطى بعد ذلك للخارج نحو حمامه .
خرج بعد ربع ساعة بعدما أخذ حماماً دافئاً يزيل به أثر جهد اليوم من زراعة ورعي ومباشرة شئون معيشتهما هو ووالده ثم عاد يخطو نحو غرفته ووقف أمام مرآته يهندم خصلاته السوداء الغزيرة بمشطه فهو من هؤلاء المعتنين بأنفسهم جيداً كما أنه عاشقاً للترتيب والنظافة .
تناول عطراً غير هذه الزجاجة التي وضعها منذ قليل ونثر منه على رقبته وملابسه وهو يتنفس تلك الرائحة بانتعاش .
اتجه بعد ذلك يشرع في فرد سجادته ووقف يؤدي فرضه بخشوع .
انتهى ونهض يقبل يداه ثم تحرك يتناول دفتره وقلمه من أحد الأدراج وتحرك نحو الخارج قاصداً الأعلى حيث سطح المنزل المكون من طابقٍ واحدٍ فقط .
قبل أن يصعد الدرجات الخشبية سمع نداء والده من الداخل وهو يقول بخفوتٍ :
– يا صااالح ، صالح .
تحرك على الفور نحو غرفة والده ليشعل إضاءتها ويقول بحنو وقلق :
– نعمين يا حچ محمد ؟ ، محتاچ حاچة يا أبوي .
تحدث الأب بنبرة مرتعشة وضعف كأنه بلغ التسعين وهو لم يتجاوز الخامسة والستين بعد ولكن وحش المرض هاجمه ومزق أوردة صحته ليقول :
– بل ريقي يا ولدي .
كان يتحدث بوهن فاليوم كان موعد جلسة غسيل الكلى الخاص به ، لذا تحرك صالح على الفور نحو قنينة المياه المجاورة لوالده يفتح غطائها ثم دس يده أسفل رأس والده يرفعها بحنو ويسقيه بتمهل حتى ارتوى أباه فأراحه مجدداً ونظر له نظرة حانية وودودة قائلاً :
– محتاج أي شيء تاني يا أبوي .
نظر له الأب بعيون وقلبٍ راضيان عليه ليتحدث مردفاً :
– ربنا يسقيك من مية زمزم يا ولدي ، ربنا يسقيك من أنهار الجنة .
التمعت عين صالح وابتسم لوالده ثم دنى يقبل رأسه ورفع عليه الغطاء وتحرك يغادر الغرفة بعدما أطفأ إضاءتها ليختلي بنفسه في الأعلى ويبدأ في كتابة أشعاره .
فمن قال أن كتابة الشعر أمراً هيناً ؟ ، هل جربت يوماً أن تزيل الستار عن تلك الكلمات التي تنال أعجابك ؟
أبيات الشعر هذه كُتبت بدموع الشعراء وعذابهم ، كل تلك الخواطر دونت بعد ألم حاد نتج عن سوطٍ بيد الحياة التي لا ترحم ، كل كلمةٍ راقت لسامعها خطت على ورقةٍ امتصت دموع الكاتب قبل أن تمتص الحبر .
آية العربي
꧁꧂꧁꧂꧁꧂꧁꧂
في أحد الأماكن الليلية التي يقبع بها هؤلاء .
لا أحد يعلم أيطلق عليهم رجالاً أم يبحث عن كلمةٍ أخرى تناسبهم ! ، يجلسون هنا بحالٍ مخدرٍ وثمالة بلغت عنان السماء والأدخنة تتراقص حولهم ببطء كأنها فتيات ليلٍ تغريهم بتناول المزيد .
هنا يجتمع كل ما يعد شاذاً وسيئاً ، هنا روائح السكر والثمالة والمخدرات تفوح في الأجواء ، لو أن الطبيعة تتجسد في هيئة إمرأة لاسرعت نحو جراحٍ مختص يستئصل لها هذا المكان الملوث قبل انتشاره .
يجلس هذا الشاب ويجاوره رفقته المقززة يتقامرون على مبلغٍ ربما يقضي حاجة أسرة كاملة لسنوات ، ولكنهم باتوا يألفون النعم والصحة كأنهما حقٌ مكتسب لهم .
تحدث أحدهم بانتشاء وخدر جعله يبدو كالمحتضر وهو يقول :
– بقولك إيه يا رامي ، شكلك رايد تنصب علينا ، بقالك كام مرة عتقول عتعوض خسارتك عتعوض خسارتك وكل ليلة عتخسر ومبنشوفش تعويض ، هتدفع اللي عليك ولا تچيب الرهان ؟
امتقع وجه رامي ببغض وتحدث بحقد وهو على وشك قتله :
– رهان إيه إياك اللي عايز تاخده يا واكل ناسك ؟ ، دي عربيتي تساوي عمركوا كله .
ثار الجالسون وقد أفاقهم حديثه وأغضبهم لذا تحدث فارس ( أحد رفقائه ) باندفاع وعيون حمراء وهو ينهض واقفاً بترنح :
– ومكانتش تساوي عمرنا لما راهنت عليها ولا إيه ؟ ، ولا إنت طلعت عيل وكلمتك كلمة مَرَة ؟
انتصب رامي واختفت الأدخنة من حوله كأنها ارتعبت من هيأته وهو يتجه نحو هذا الذي تراجع برعبٍ حين رأى الجحيم في عينيه وكاد يتحدث لولا هجوم رامي الحاد عليه وهو يلكمه بقبضة قوية في وجههُ مباشرةً جعلت أنفه ينزف دماً فوقف البقية يمنعوه من إكمال هجومه معنفين له بينما تحدث جمال ( رفيق آخر ) بحدة :
– خبر إيه عاد ، جنيت ولا إيه .
نفض نفسه منهم بغضب وتحدث محذراً يرفع سبابته أمامهم حيث قال بنبرة مراوغة يخفيها بجموده وطغيانه :
– اسمعوا عاد ، متفكروش إني هين ، لع أني لحمي مر ونابي أزرق ولدغتي سم ، ولا ناسيين مين هو رامي السيوفي عاد ؟ ، اللعبة دي من الأول وهي مش على كيفي ، عتخبصوا فيها كَتير علشان إكدة مش محسوبة وهنلعب الدور من أول وجديد ، والرهان المرة دي على حاجات على قدكوا ، يعني بالكتير قوي ساعة من اللي عندي أو حباية من اياهم ، غير أكدة يبقى كتير على اشكالكم العِرّة ، عتفهموا عاد ولا افهمكم بطريقتي ؟
التفت الرقاب حول بعضها يناظرون بأعين بعضهم بضيق وحقد ، منهم من يريد التمرد ومنهم من يريد قتله في الحال ومنهم من يريد نزع مفاتيح سيارته ونهبها ولكنهم أضعف من تنفيذ أفكارهم فهم يدركون جيداً عواقب المساس به ، لقد انحنوا له لسنوات ورحبوا بفرعونه أن يتملكم ليصبح الأقوى بينهم جسدياً ومادياً وسلطةً وسمعةً أيضاً .
جلسوا بعد ثورتهم يتجرعون كؤوس الحسرة والعجز والتوعد بالثأر فأمره وصل لحنجرتهم وبات يخنقهم لذا فالانتقام في طريقه إلى عقولهم المريضة .
نظر لهم بعجرفة وانتشاء من ارتخائهم المخزي وتحدث معايراً ولسانه يجوب شفتيه قائلاً بتسلية كأنه يراضي أطفالاً صغاراً طائعين :
– وبعدين دلوك نسيتوا رامي السيوفي عيعمل إيه علشانكم ؟ ، داني فلوسي كلها ضايعة عليكم يا واكلين خيري ، قصرت مع مين فيكم علشان تهيجوا عليا إكدة ؟
تآكلهم الغضب والتصقت بأفواههم ألصقة المهانة والذل ولم يتحدثوا بل فقط نظراتٍ بينهم ليجلس هو بعدها بينهم ويتحدث بتعالي وهو يتطلع لهذا الذي باغته بلكمة حادة :
– هراضيك يا فارس وهعزمك على سهرة حلوة في مكان تاني ، وفيها حريم كمان .
قالها غامزاً له ليمسح الآخر أنفه بظهر يده ثم يومئ له بتخابث كأنه ارتضى وداخله نيران تتأجج ولن تهدأ حتى تنتقم وتلتهم شرفه المعدوم .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية اضغط على : (رواية عشق بين هشيم مشتعل)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى