روايات

رواية سجينة جبل العامري الفصل الرابع عشر 14 بقلم ندا حسن

رواية سجينة جبل العامري الفصل الرابع عشر 14 بقلم ندا حسن

رواية سجينة جبل العامري الجزء الرابع عشر

رواية سجينة جبل العامري البارت الرابع عشر

سجينة جبل العامري
سجينة جبل العامري

رواية سجينة جبل العامري الحلقة الرابعة عشر

“ركضت بين دروب القسوة ولم أجد يومًا مأوى يحتويني بحب”
انقبض قلبها وأخذت وتيرة أنفاسها تتعالى أكثر وهي تقف خلف الشجرة تحاول مداراة نفسها عن أعينه تتمسك بالهاتف بين يديها الاثنين بقوة شديدة..
لحظات مرت والأخرى وهي تقف كما هي ثم استدارت بجسدها وقدمت رأسها من خلف الشجرة تنظر عليهم من بعيد فوجدتهم كما هما وعاد “جبل” ينظر إليهم يتابع ما يحدث معهم، يحملون الصناديق على السيارات المفتوحة يهمون بالرحيل..
بعدت بعينيها إلى ذلك الرجل الذي كان يقوم بتصويرهم لتجده كما هو يقف يكمل ما بدأ به يسجل كل ما يصدر عنهم..
قامت بحفظ كل ما سجلته الكاميرا وأخفت الهاتف داخل جيب بنطالها.. نظرت إليهم نظرة أخرى ثم ركضت سريعًا تعود إلى المكان الذي أتت منه..
أخذت طريق العودة إلى القصر كله ركضًا خوفًا من أن ينتهي مما يفعله ويعود هو الآخر ليراها في الخارج ويدري بما فعلته.. إنه حذرها أكثر من مرة لا تعتقد أنه سيصمت أمامها..
وقفت على بعد خطوات من القصر بعد أن وصلت إليه أخذت تلهث بعنف وصدرها يعلو ويهبط تحاول أن تُعيد انتظام أنفاسها وتهدأ كي تستطيع التفكير كيف ستعود إلى الداخل دون أن يعلم أنها خرجت ودون أن يراها أحد..
كان الهلع يُسيطر عليها، فحاولت السيطرة على نفسها بعدما أصبح الارتجاف في سائر جسدها، طردت كل الأفكار من عقلها، وحاولت أن تصب تركيزها في الشيء المهم الآن والأصعب..
وقفت لحظات تحاول أن تجد طريقة سريعة للولوج إلى الداخل قبل عودته.. في لحظة طرأت على عقلها فكرة فـ أخرجت هاتفها من جيب بنطالها وضغطت عليه عدة مرات ثم وضعته على أذنها تتحدث مع شقيقتها قائلة بجدية:
-إسراء.. أنا بره.. بره القصر كله انزلي تحت مافيش حرس كتير حاولي تعملي أي حاجه تبعد الحارس اللي عند البوابة وافتحيلي من غير ما حد يحس
ضيقت الأخرى حاجبيها وهي تفتح شرفة الغرفة لتنظر إلى الأسفل تجد أن حديثها صحيح لا يظهر أحد من الحرس من الأساس إلا هو.. سألتها باستغراب مُستفسرة:
-كنتي بتعملي ايه بره
صاحت الأخرى منفعلة ثم أخفضت صوتها سريعًا:
-هو ده وقته انزلي بسرعة الأول
أومأت برأسها وهي تغلق الهاتف قائلة:
-طيب طيب
بعد دقائق قليلة للغاية خرجت من البوابة الداخلية “وعد” تركض مبتعدة عن القصر متجهة إلى الحديقة و “إسراء” خلفها تهتف بصوت مرتفع تناديها للعودة:
-وعد ارجعي هنا بلاش تروحي بعيد
لم تجيبها الصغيرة بل ركضت سريعًا تتجه إلى خلف القصر وهي تضحك بصخب حتى يظهر أن ما يحدث ما هو إلا مزاح..
حاولت “إسراء” أن تنادي عليها عدة مرات متتالية ولكنها لم تستجيب إلى أن اختفت خلف القصر..
تقدمت من ذلك الحارس قائلة له بهدوء محاولة الثبات:
-لو سمحت ممكن تجيبها.. ورا القصر ضلمة
أومأ برأسه لها وأتجه سريعًا تاركًا إياها ليأتي بالصغيرة حبيبة رئيسه ومدللته..
وقفت إلى أن اختفى هو الآخر وعلمت أن “وعد” ستجعله يتأخر في العودة كما اتفقت معها لتقوم بفعل ذلك..
فتحت البوابة وأخرجت رأسها منها تبحث عن زينة فلم تجدها.. تقدمت قليلًا إلى الخارج وخرج صوتها وهي تهتف بصوتٍ خافت:
-زينة أنتي فين
ظهرت الأخرى حيث أنها كانت بعيدة متخفية في الناحية الأخرى من السور حتى لا يراها أحد.. ركضت سريعًا وولجت إلى داخل القصر تُشير إليها أن تأتي خلفها..
أغلقت “إسراء” بوابة القصر الخارجة ونظرت إلى الداخل لتجد “زينة” قد دلفت إلى القصر واختفت.. صاحت إسراء بصوتٍ عالٍ وهي تتجه إلى مكان “وعد” مع التحفظ بعدم الاقتراب منه..
استمعت “وعد” إلى صوتها الصارخ باسمها ففهمت أن عليها العودة الآن.. تنحت عن رفضها القاطع للحارس في العودة وتقدمت صامتة تعود معه..
أخذتها “إسراء” إلى الداخل بعد أن تمت المهمة بنجاح..
صعدت معها إلى الأعلى مُتجهة إلى غرفة والدتها، دقت “إسراء” عليها الباب، ففتحت لها شقيقتها وأقتربت منها ابنتها تحتضن قدميها، هبطت “زينة” إلى مستواها وقامت بمبادلتها العناق تستنشق عبيرها الناعم الرقيق.. وطفولتها البريئة المذاعة للجميع..
بقيت لحظات تضمها إليها بكل حب وحنان وهي تفكر في مصيرها معها هنا في هذه الأرض.. على هذه الجزيرة بين “جبل العامري” وعائلته..
أصابتها الفجعة، وتمكن الخوف منها مرة أخرى، اقترابها من ابنتها والشعور بأنها لا تملك غيرها يصيبها برجفة غريبة تغطي سائر جسدها، تلعن ذلك اليوم الذي فكرت به بالقدوم إلى هنا..
تلعن كل شيء قادها إلى جزيرة العامري والوقوع مع ذلك الجبل، الوقوع مع من يرحم ولا يرحم، من يقتل ويداوي.. مع شخص لا تفهم لحياته ملامح ولا ترى لشخصيته هوية ولا تدري أهو ذلك نفسه الذي كان في الأمس واليوم! الذي كان في البداية وما قبل النهاية؟
عادت للخلف ووقفت أمامهم، ولجوا إلى الداخل فسألتها “إسراء” تنظر إليها بهدوء واستغراب:
-كنتي فين بره
أجابتها كاذبة بفتور:
-كنت خرجت اتمشى والبوابة مفتوحة لما رجعت اتقفلت وخوفت جبل يعرف إني خرجت لوحدي علشان منبه عليا
أومأت إليها برأسها متفهمة ما قالته تنظر إليها بجدية فقالت “زينة” بهدوء:
-أنا هدخل أخد دش روحوا انتوا
أخذت “إسراء” “وعد” وخرجت من الغرفة فأغلقت “زينة” من خلفها الباب وهي تتقدم إلى الداخل تجلس على الفراش تنظر في الفراغ المحيط بها تحاول أن تمسك بطرف الخيط ربما من هنا.. فهي لم تعثر عليه سابقًا والمحاولة الآن مستحيلة ولكن يكفيها المحاولة..
هل هو حقًا ذلك الرجل تاجر الأسلحة! هل هو حقًا قاتل البشر وقابض أرواحهم!.. هل هو حقًا نفس الشخص الذي قال عن نفسه أنه لا يعرف للرحمة طريق ولم تدق بابه يومًا!
الإجابة المنطقية لكل هذه الأسئلة نعم! أنه هو ذلك الشخص المجرم.. أنه الجلاد والقاتل أنه القاضي المحتل الحاكم بالعدل.. الذي يسمع إلى الشكوى ويلبي الطلب.. أنه سارق الحرية وسجان الهروب، أنه الذي يحبس التفكير والأنفاس وهوايته ترويض العاصي.. أنه “جبل العامري”
ما الذي تنتظر أن تعرفه بعد! إلى الآن لم تدرك ذلك جيدًا؟ إلى الآن تفكر هل هو ذلك الشخص أو لا؟ ما الدليل الأكبر من كونه يقف يسلم الأسلحة بيده! يخرج كمية هائلة معبأة داخل الصناديق ستكون هي المدمرة لكل من وقع قتيلًا بطريقة غير مشروعة..
ما الذي تنتظره من شخص مثله؟ ولما يأخذ أكبر من حجمه داخل عقلها ولا تصدق أنه يفعل ذلك!..
رأته بنفسه ليس أحد غيره يقف بشموح وكأنه يدافع عن البلاد، رافعًا أنفه عاليًا واقفًا صلب شامخ! كيف له أن يكون هكذا وهو قاتل مجرم!
كيف له أن يكون واثقًا من نفسه إلى تلك الدرجة؟
إنها إلى الآن لا تصدق ما تراه أعينها قلبها يقول شيء غير كل ذلك، يُملي عليها أنه شخص آخر حنون محب غدرته الأيام وذاق فراق الأحباب.. قلبها يقول أنه اشتاق وقتلته لوعة الاشتياق.. يخبرها أنه ليس بقاتل وليس بمجرم بل عادل حاد..
لما؟ لما تراه بهذه الهيئة، لا تستطيع أن ترى أي هوية حقيقة له؟ كلما رأت ظلمه لها وغدره بها رأت عدله وحكمته مع غيرها، كلما تذكرت قسوته عليها وتجبره الذي أودي بقلبها إلى الحسرة والأسى تذكرت نظراته الغريبة نحوها الدالة على وجود ما يبتغي إياه لتكن من في سكن قلبه..
أليس كل هذا غريب؟ أليس تفكيرها هذا غريب؟ أليس عدم تصديقها بإجرامه بعد معاشرته هذا غريب!..
رأت كل ما هو قاسي وعنيف داخله رأت عنجهيته وغروره.. تكبره وحدته، ظلمه وكرهه، رأت عدم الرحمة في قلبه، صدقت كل هذا وحاولت الفرار منه بأي ثمن.. ولكن بعد أن عاشرته تكذب كل هذا.. تكذب الهالة الوهمية الذي يحيط نفسه بها وهي ليست شخص غبي إلى هذه الدرجة كي تنخدع إلى هذا الحد..
الآن ازداد إصرارها على معرفة ما يحويه قلبه، ما يخبئه عقله عنها وما يدفنه أسفل أرض الجزيرة..
ازداد إصرارها في معرفة ما المكنون بين الناس وما الخبايا في شخصيته.. وستعرف، ستعرف من هو وإن كلفها هذا موتها.. ستعرف أهو “جبل العامري” القاتل.. أو “جبل العامري” العادل
شردت تتذكر ما حدث معها وهي في الجبل، ضيقت عينيها بشدة محاولة أن تصل إلى إجابة سؤال آخر.. من ذلك الرجل الذي كان يقف يقوم بتسجيل كل شيء كما كانت تفعل هي..
هل يعلم جبل بوجوده؟ هل كان شخص آخر يغدر به؟ أم ماذا؟
تلك الصدمات التي أتت واحدة تلو الأخرى أشعلت هواء العاصفة الهوجاء التي كانت خامدة داخلها، غيرت مشاعرها بين يوم وليلة وشعورها الذي كانت تدركه جيدًا أصبحت لا تعلم ما هو من الأساس وإلى أين يتجه.. جنون فضولها أوصلها إلى طريق أصبح مكشوف للغاية من ناحية ومخفي للغاية من ناحية أخرى.. وما توصلت إليه لم يكن إلا أنها خسرت حياتها السابقة وذكرياتها الراحلة وما لا تعلم عنه شيء هو مستقبلها المجهول كليًا..
أتت الضربة من شخصك الأقرب والأحب إلى قلبك، أتت من خليل روحك وملاذ فؤادك ورأيت الحقيقة الكاملة الذي كانت مخبأة عنك بهيئته المحبة الحنونة، لحظة واحدة أدركت بها أن لحظاته الحميمية والسعادة الخالصة التي مرت عليكما معًا ما كانت إلا احتلال.. وعند إدراك ذلك تشعر بأن قلبك إناء كثرت به المياة الموضوعة فوق النيران ففارت وتناثرت حوله مخلفة من وراءها دمار غير طبيعيًا.. هذا حال قلبك الذي خُدع بالحب والغرام..
كما كل مرة تفكير لا حدود له وأسئلة دون إجابة، ومازال الطريق مغلق، الخيط كله لم تعثر ليه..
رفعت وجهها عندما شعرت به يفتح باب الغرفة يهم بالدخول، نظرت إليه وهو يتقدم للداخل يغلق الباب ناظرًا إليها بلا مبالاة وهدوء رُسم على وجهه بحرافية..
جلس في مكانه على الفراش يعطي ظهره إليها يعبث بهاتفه لفترة ليست صغيرة، تركه على الكومود ثم وقف متجهًا إلى المرحاض فباغتته بسؤالها:
-أنت كنت فين يا جبل
سألته دون النظر إليه وبقيت على وضعها، فاستدار إليها يرمقها بنظرات ساخرة متحدثًا:
-بتسألي ليه!
حركت وجهها ناحيته بعد أن دق قلبها بعنف، توترت نظراتها نحوه وكانت ظاهرة بشدة، ابتعلت غصة وقفت بحلقها وقالت:
-حرام السؤال؟
ضيق عينيه عليها يراقب حركاتها المتوترة قائلًا ببساطة:
-غريب
سألته باستغراب غير مدركة أنه يتحدث عن سؤالها وقد اعتقدت أنه رآها ويراوغ في الحديث معها:
-ايه اللي غريب
أجابها وهو يتقدم منها ليقف أمامها فرفعت رأسها لتنظر إليه حيث أنها كانت جالسة على الفراش:
-السؤال.. أول مرة تسأليني كنت فين
انزاح القلق عن قلبها وارتخت أعصابها وهي تتحدث قائلة ببرود ونبرة عادية واثقة:
-اتعود بقى لما أسألك كل يوم..
مرة أخرى يسألها وعيناه متعلقة بعينيها السوداء:
-وده من ايه بقى
ابتسمت ساخرة وهي ترفع وجهها إليه تسأله بتهكم:
-هو أنت متعرفش
حرك رأسه نفيًا ورفع كف يده إلى وجهها يسير بإصبعه عليه بنعومة ورقة ونظرتها نحوها حميمية للغاية:
-لأ معرفش
فسرت له حديثها بوضوح تام وجدية ظاهرة محاولة الثبات إلى النهاية:
-مش أنا قررت إني هعيش حياتي معاك عادي.. زي أي اتنين
ما قالته الآن كان نتيجة تفكير أتى على عقلها في أقل من ثانية، تنحت عن فكرة استدراجه والحديث معه ووضع حياتها معه مقابل اعترافه بكل شيء، ستتبع طريقة أخرى علها تأتي بفائدة..
ابتسم بزاوية فمه وهو على علم تام بأن حديثها ما هو إلا هراء هي لا تبتغيه من الأساس ولكنه بادلها:
-ده شيء كويس
عادت تسأله مرة أخرى ناظرة إلى عينيه الخضراء:
-كنت فين بقى
تحول البريق اللامع في عينيه إلى آخر مخيف معتادة عليه هي ولكن في كل مرة تراه ينتابها الذعر منه وكأنها المرة الأولى، هبط بجذعه العلوي إليها ليبقى وجهه مقابلًا لوجهها وقال بفحيح أمام شفتيها:
-كنت بسلم سلاح
عاد للخلف برأسه قائلًا ناظرًا إليها بعمق بعدما صدمت من حديثه، فهي لم تكن تتوقع أن يعترف بهذه السهولة على الرغم من اعترافه الدائم أنه تاجر أسـ ـلحة..
سخر من نظراتها المصدومة نحوه وقال بتهكم مراوغًا:
-ايه مالك.. بقولك الحقيقة طالما هنعيش زي أي اتنين محبش أكدب على مراتي.. أحسن بعدين تفتكري إني بخونك ولا حاجه
بادلته نفس السخرية، وما سيرهق كلاهما أنهم يفهمون بعضهم جيدًا:
-لأ متقلقش مش هيجي على بالي حاجه زي كده ولو جت.. هكدبها
عاد يقترب منها مرة أخرى ليبقى أمام وجهها دون فاصل بينهم أنفه تمر على ملامحها مستنشقًا أنفاسها يقول بلوعة:
-اتمنى.. يلا بقى حضري نفسك
استغربت ما قاله فعادت إلى الخلف لتنظر إليه متسائلة:
-احضر نفسي لايه
ابتسم وظهرت أسنانه من خلف شفتيه وهو يقول واثقًا:
-مش قولتي هنعيش زي أي اتنين.. وعلشان نعيش هنبدأ من هنا
أنهى حديثه مشيرًا إلى الفراش برأسه فنظرت إليه محركة رأسها ثم عادت ببصرها إلى الواثق من حديثه القابع أمامها.. ابتلعت ما وقف بحلقها وهي تنظر إليه متوترة ثم قالت برفض:
-أنا مقولتش كده.. أنا..
قاطع حديثها وهو يقترب منها يميل عليها بجسده حتى أنها مالت إلى الخلف فقبع فوقها مستندًا بذراعيه على الفراش ينظر إليها بعينين جائعة ولن تشعر بالارتواء إلا منها:
-دي مبتتقالش.. بتتحس
غطت السخرية نبرتها وملامح وجهها وهي تسأله:
-وأنت بتحس
أشار عليها بعينيه الخضراء غامزًا لها متفوهًا بحديث ذات مغزى:
-أسأل مجرب.. ومش هنلاقي مجرب غيرك
دفعته للخلف بيدها فلم يتزحزح عن مكانه ناظرًا إليها بثقة تامة رافعًا أحد حاجبيه متحديًا إياها فلم تطل النظر إليه بنفس الحدة فيقوم بالعناد أكثر ويفعل ما يريد.. أخفت وجهها عنه وهي تبتعد به لتنظر في الفراغ فكبت جوعه داخله ورغبته الملحة للاقتراب منها وعاد للخلف يقف شامخًا مبتعدًا عنها..
نظر إليها وهو يتجه إلى الحمام يمازحها قائلا بثقة:
-بمزاجي..
غمزها بعينه مرة أخرى وظهرت وقاحته معها:
-المرة الجاية مش هصبر
تركها مبتعدًا ذاهبا إلى المرحاض ليحبس مشاعره الهوجاء التي أرادت الفرار منه وتحطيم كل الحواجز الموجودة بينهم ليستمتع بعبير قربها ولهفة الالتحام معها، ولكنه لم يسمح لها عائدًا بها مرة أخرى تاركًا إياها بجانب خيباته السابقة إلى أن يحين موعد خروجها بكل جوراحها، إلى أن يحين ظهور الحب معلنًا أنه سيكون عنوان كل شيء قادم عليه ليستطيع الاستمتاع أكثر من كونه ذلك الذي يرهبها..
بينما هي بقيت نائمة على الفراش مبعثرة المشاعر حائرة في عالمه، لم تجد شط تقف عليه ولم تستطع الوصول إلى كلمات تعبر عما بها فلا طريق عودة ولا طريق ذهاب تقف معه في درب ملئ بالجوى والقسوة الخالصة فباتت لا تدري ما مصيرها من الاثنين وهي كل يوم متقابله مع إحداهما إلى أن شتت عقلها وغاب قلبها عن الواقع تحتاج إلى كلمات صريحة صادقة ولن تفكر ثانية ستأخذها برحابة صدر وتغلق قلبها عليها..
❈-❈-❈
أتدري كيف يجتمع الأشرار سويًا؟ بنظرات الأعين، هل رأيت سابقًا عاشقًا يشعر بأنه ينجذب بطريقة سحرية إلى محبوبته من عينيها! وهو كذلك، اجتماع خبثاء النوايا ومفرقين الأحبة معًا يأتي عن طريق الأعين ينجذب كل منهما ناحية الآخر بطريقة مفعمة بالحقد والخبث وتبدأ من هنا العلاقة في البدء والتطور، ويزداد معها الحزن والذعر وآنات الألم وسهام الخيانة..
جذب “جلال” “فرح” من ذراعها بقوة ضاغطًا عليه بطريقة مؤلمة جعلتها تتأوه وهي تحاول جذب يدها منه قائلًا بانزعاج وغضب:
-بقى بتغفليني يابت.. بتصوريني وتبعتي لعاصم الفيديو
حاولت العودة للخلف في الظلام الدامس خلف القصر ومكان إلتقائهم السري في كل مرة، تجذب يدها منه بعنف وقوة وهي تقول بجدية ولا مبالاة:
-بقولك ايه أهدى كده علشان منزعلش من بعض.. أنا كان غرضي أقوله أنه بمزاجها
ضغط أكثر على ذراعها ولم يجعلها تفلت منه وكأن قبضته عليها حديدية يصيح أمام وجهها وملامح وجهه متغيره للغاية متجهة إلى العنف والقسوة وخرج صوته خشنًا عنيفًا:
-مزاج مين يا روح أمك ماهو عارف أنها قطة مغمضة
أكمل بحرقة وهو يرى نفسه غبي فعل ما أرادت منه دون أن يعترض فقط لأجلها ولكنها غدرت به والقته في أول طريقها:
-وده مكنش اتفاقنا يابت.. أنتي قولتلي أنها مزعلاكي اقرص عليها وأخوفها منه من بعيد لبعيد علشان تبعد.. مقولتيش إنك هتغدري وتصوري وتبعتي لعاصم
حاولت أن تعود عما كانت ستفعله وتكبت حديثها المتهور داخلها فقالت محاولة إظهار الندم:
-اللي حصل حصل بقى كانت لحظة تهور
نفض جسدها بعنف بذراع واحد والآخر معلق على الرباط الطبي أثر رصاصة “عاصم” التي اخترقت لحمه، يكمل قائلًا بثقة:
-لأ يا روح أمك مكانتش لحظة تهور أنتي كنتي عارفه كويس أوي هتعملي ايه بس أنا المغفل اللي سمعت كلامك وادي أخرتها
دفعته بعنف وشدة وهي تعود للخلف مبتعدة عنه قائلة بوقاحة:
-أخدت رصاصة وايه يعني ما تسترجل
جذبها من رأسها واضعًا يده خلف عنقها يجذبها ناحيته فوقع وشاحها عن خصلاتها قائلّا أمام وجهها بنبرة ذات مغزى:
-أنا راجل غصب عنك يا بت وأنتي عارفه كده كويس ولا لسه عايزة تجربي
حاولت دفعة في صدره ولكنه لم يبتعد فقالت بنفاذ صبر وهي غير قادرة على مجاراته فقد فعلت ما أرادت وانتهى الأمر:
-بقولك ايه يا جلال أقف عوج واتكلم عدل
سألها بسخرية وقحة:
-وأنا كده بتكلم إزاي.. بقولك لسه عايزة تجربي لو مش مقتنعة إني راجل
نظرت إليه نظرات نارية مشتعلة قائلة بتساؤل وحرقة:
-ده أنت مصمم بقى تقفلها كده
دفعها للخلف بعنف أكثر، ارتضم جسدها في سور القصر تنظر إليه بقوة متألمة من دفعته لها، باغتها بحديثه قبل أن تتفوه بحرف واحد:
-وأقفلها ليه مش مراتي.. لا قولت حاجه حرام ولا عيب
خرج صوتها عاليًا نسبيًا ثم عندما أدركت ذلك اخفضته:
-أنت هتفضحنا ولا ايه.. ما تخرس بقى
أقترب منها بعيون جائعة للشر والقسوة وما فعلته به ينهش ما بداخله يشعر أنه يود لو يقوم بقتلها الآن ودفنها أسفل ما تضع قدميها وهي تعلم جيدًا من هو:
-لسانك بدل ما اقطعهولك.. هو أنتي فكراني ساكتلك علشان سواد عيونك.. لمي نفسك معايا يا بت
حركت شفتيها بسخرية تشعل نيران قلبه أكثر وهي تقول بشماته:
-أظهر وبان.. بقى كل ده علشان عاصم علم عليك
تقدم يعود جاذبًا خصلاتها الظاهرة أمامه قائلًا بقسوة:
-علم على مين يا بت.. اظبطي بدل ما اظبطك
دفعته ثانيةً تتحدث بجدية تنظر إليه بنفاذ صبر:
-اوعا كده وأعرف مصلحتك فين
أجابها بقوة وعنف واثقًا من حديثه بعدما تدفقت الدماء بعروقه فكلما تذكر ما الذي كان من الممكن أن يحدث يشعر بفوران دمائه وغباءه الغير طبيعي كي يستمع إلى حديث واحدة مثل هذه:
-أكيد مش معاكي من بعد اللي عملتيه ده.. ماهو كان ممكن سي عاصم بتاعك يوري الفيديو لجبل والبت تعترف إني عملت فيها كده وأنها مكانتش موافقة ومن غير ما تعترف كانوا هيصدقوها وتقولي عليا يا رحمن يا رحيم..
قالت بلا مبالاة وبساطة:
-مكانتش هتوصل لكده
هتف قائلًا بجدية مغتاظًا من برودها:
-أنتي عرفتي منين أنها مكانتش هتوصل لكده.. البت دي أكيد هي اللي وقفت عاصم علشان هي عملتها على روحها مني.. لكن لو عليه هو يولع فيا
أكمل شامتًا بها يبادلها ما تفعله يشعرها أنها من دونه لا تساوي شيء:
-كنتي بقى وريني شطارتك وشوفي مين هيتجوزك
وضعت يدها الاثنين في وسط خصرها تتمايل بهم قائلة بتهكم مقلله منه:
-كنت هطلعك من قبرك تتجوزني يا سي جلال بيه
ابتسم بزاوية فمه فهي تحاول مدارة خوفها أمامه حتى لا يكون نقطة ضعف لها يتمسك هو بها تفوه ساخرًا:
-اتريقي اتريقي.. أنتي من غير سي جلال بيه هيتقال عليكي يا رحمن يا رحيم بردو متقلقيش
نظرت للأمام نظرة شيطانية مفكرة فيما قد تفعله وأردفت قائلة:
-وقتها هيبقى عندي الحل
أومأ برأسه إليها وهو ينظر إليها باشمئزاز متناسيًا نفسه وقال متأكدًا وهو يتابع نظراتها الغريبة:
-قادرة وتعملي أي حاجه
ابتسمت إليه بثقة عالية فأكمل وهو يكرمش ملامحه غير قادر على تكملة النظر إليها بعدما فعلته به فصاح بها قائلًا:
-أمشي غوري من وشي
بقيت تنظر إليه وعلى شفتيها تلك الابتسامة رفعت وشاحها أعلى رأسها تغطي خصلاتها الظاهرة ثم وضعت يدها مرة أخرى في وسط خصرها تسير متغنجة وكأن لم يحدث شيء منذ قليل.. لم يصرخ عليها لم ينفعل لم يهتف بحديث مهين لأي امرأة غيرها وكأنه لم يذكرها بأنها لا تستطيع الزواج إلا منه لأن شقيقها حاكم الجزيرة إن علم أحد أن شقيقته فعلت ذلك كباقي الفتيات التي يحاسبهن هو على اخطائهن سيكون أضحوكة للجميع في أيامه القادمة جميعها ولن يستمع إليه أحد من بعدها.. هذا أن جعل “جبل” أحد يعلم فلو علم هو لنقرأ عليها سورة الفاتحة توديعًا ووداعًا.. ولنتذكرها بالخير دائمًا وأبدًا فمن بعدها ستكون في مكان آخر لا ينتمي لعالمهم بشيء..
بصق بقوة من فمه على الأرضية بعدما رحلت لاعنًا نفسه على التوريط في هذا الأمر..
توجهت إلى القصر لتعود إلى الداخل دون أن يراها أحدًا ولكنها عندما وجدت “عاصم” هنا بين الحرس غيرت رأيها وذهبت لتجلس على أحد المقاعد المقابلة له تنظر إليه وهو يتحدث مع أحد الحراس..
بقيت تتأمله وتنظر إليه بعيون محبة إلى درجة الأنانية، تابعت حركاته واللمعة تزداد داخل عينيها تظهر الشر الذي قبع داخلها.. عيون تطالب الحب منه ولكنه قابله بالرفض!..
شردت وهي تنظر إليه عائدة إلى ذكرى راحلة حدثت بينهم منذ سنوات..
“كانت استدعته إلى خلف القصر ذلك المكان الذي يحدث به أي شيء لا يريد أحد أن يعلم به، ولكن في ذلك الوقت لم يكن كالآن بل كان مضي بالأنوار مثله مثل القصر كله وبه كثير من الحراس في فترة كانت الاغتيالات بها كثيرة والجواسيس تملأ الجزيرة..
وقف أمامها قائلًا بجدية يسألها مستفسرًا عن سبب استدعائها له:
-نعم يا فرح عايزة ايه
تغنجت وهي تتمايل أمامه بدلال وابتسامة هادئة فعلتها:
-مافيش ازيك الأول
ابتسم يبادلها الهدوء والبساطة وقال متأسفًا يسألها:
-معلش أنا آسف.. ازيك عامله ايه
أجابته برقة وهدوء متسائلة عن أحواله:
-كويسه.. أنت عامل ايه
أجابها ولم يعطي إليها الفرصة للحديث مرة أخرى باغتها متسائلًا عن سبب طلبها له هنا:
-تمام كويس.. ها في ايه
تصنعت الحزن وهي تقول مغيرة تعابير وجهها وصوتها هادئ ولكنه عابس بسبب سرعته وإرادته في الرحيل عنها:
-مالك أنت مش عايز تقف معايا ولا ايه.. أنا حلوة على فكرة
ابتسم بهدوء يسألها ثم يصحح لها حديثها يغازلها باحترام حتى لا تحزن من حديثه واستعجاله معللًا لها سبب ذلك:
-حد قال عليكي وحشه؟ أنتي ست البنات بس أنا عندي شغل
تلهفت وهي تقترب منه خطوة متعلقة بعينيه ترتفع على أطراف أصابعها لتنظر إليه عن قرب:
-أنت شايفني ست البنات بجد؟
أكد ما قاله بجدية شديدة ولم يكن يقصد الغزل حقًا ولكنه لم يكن يريد أن تعبث ملامحها وتحزن بسببه وهي من قالت أنها ليست بشعة فكان من المفترض أن ينفي ذلك:
-أكيد يا فرح أنتي جميلة
اتسعت ابتسامتها وظهرت من خلفها أسنانها البيضاء معتقدة أن مهمتها بهذه الطريقة ستكون أسهل بكثير:
-عاصم أنا.. أنا كنت عايزة أقولك حاجه مهمة أوي
أومأ إليها متعجلًا يسألها:
-تمام قولي مالك في ايه
حاولت الحديث متعلثمة:
-أنا بجد.. حاسه..
لم تستطع أن تكمل وتخرج كل ما كان في جوفها فوقفت صامتة تنظر إلى الأرضية خجله مما تريد قوله
أخذ الحديث منها بطريقة أخرى وصب تركيزه في عمله فسألها بقوة وتمعن:
-حاسه ايه؟. في حركة مش مظبوطة في القصر ولا ايه
نفيت سريعًا مشيرة بيدها معقبة بانزعاج وضيق:
-لأ لأ قصر ايه بس
اقتضبت ملامحه بسبب تأخيرها وحديثها المتقطع أو الذي بدون فائدة فقال بحدة:
-اومال ايه بس يا فرح ما تتكلمي
أخذت نفسٍ عميق وأخرجته ثم نظرت إليه تحاول دفع نفسها في الحديث قائلة له ما تشعر به في الأيام الماضية وقلبها يرفرف لأنها تعترف له بمكنونه:
-أنا.. أنا مش مركزة في حاجه.. طول الوقت بفكر وبالي مشغول.. قلبي وعقلي مشغولين بحاجه واحدة بس مش قادرة أبطل تفكير فيها
انزعج أكثر من اللازم وهو ينظر إلى تفاهاتها وهذا الهراء الذي تقوله له، وما دخله من الأساس؟ تحدث يسألها بجدية والضيق يظهر على ملامحه:
-أنتي جيباني هنا علشان تقولي الكلام ده؟ حاجه ايه يا فرح انجزي
باغتته بقولها السريع المتلهف ونظرة عينيها نحوه حالمة طائرة فوق السحاب وكأنه استمع إلى ما قالته وأجاب بالموافقة:
-أنت
أشار إلى نفسه بعدم فهم ولم يربط الحديث ببعضه متسائلًا:
-أنا حاجه؟ أنا حاجه إزاي يعني
أقتربت منه أكثر تبحر بعينيها داخل عيناه ترتفع على أطراف أصابعها لتقابله بذلك الطول الفارع:
-أنت اللي بفكر فيه يا عاصم.. بالي مشغول بيك دايمًا وقلبي لما بيشوفك بيدق أوي لحد ما بحس أنه هيقف بعد كده.. حتى عقلي
تابعت تكمل حديثها الحاني ونبرتها الرقيقة تتردد في أذنه ينظر إليها باستغراب تام غير مصدق أنها تجرأت وقالت له هذا الحديث:
-عقلي مش مبطل تفكير فيك.. وخيالي كل شوية يسرح ويفتكرك.. بجد مش عارفه أعيش كده
تصنع عدم الفهم على الرغم من أن أي حد يستطيع فهم المبتغى مما قالته ولكنه كي يبعث إليها رسالة أن هذا مرفوض تمامًا قال مبتسمًا:
-أنا عملت ايه لكل ده
اعترفت بها صريحة وواضحة وشعورها نحوه بالحب يزداد ويكبر أكثر من اللازم.. تنظر إليه بهيمنه وافتتان:
-عاصم أنا بحبك.. بحبك أوي وبموت فيك كمان، مافيش واحد على الجزيرة كلها زيك مافيش أحسن منك ولا حتى يشبهلك
قضبت ملامح وجهه بالانزعاج والضيق وأظهر إليها الجدية الخالصة قائلًا:
-فرح.. أنتي عارفه أنتي بتقولي ايه
أقتربت منه تتمسك بيده تضغط عليها بقوة تحسه على التحرك نحوها والاعتراف بما داخله تبعث إليه نظرات شاعرية لو أحد غيره لانتهز الفرصة وسرقها:
-بقولك الحقيقة أنا بحبك وعايزاك
عاد للخلف مبتعدًا عنها سريعًا باعدًا يدها التي أقتربت منه وصاح قائلًا بقسوة وغلظة شديدة وهو يُشير إليها لتذهب من أمامه:
-أنتي لسه صغيرة ومش فاهمه أنتي بتقولي ايه.. انسي الهبل ده واطلعي يلا
استغربت ما قاله وضيقت حاجبيها تعقب:
-صغيرة؟ صغيرة إزاي بقى كل ده صغيرة
التفت حول نفسها وهي تقول تلك الكلمات تظهر إليه جسدها الأنثوي ومفاتها لتستطيع أن تغريه بها
ارتفع صوته بعدما اغضبته بشدة بسبب هذه الفعلة الجريئة والدنيئة للغاية:
-اطلعي يا فرح يلا
أشارت إلى نفسها ترفض ما يأمرها به موضحة له مصرة على موقفها معه وتريد لو يبادلها ما تشعر به لتلتحم معه في عناق قاسي تشعر داخله بأنها ملكه:
-عاصم أنا مش صغيرة ولا حتى أنت صغير.. أنا عارفه أنا بقول ايه وبعمل ايه
مرة أخرى بغضب وقسوة قال:
-لأ أنتي لسه صغيرة ومش فاهمه حاجه..
تغيرت ملامح وجهها إلى الانزعاج والضيق هي عندما وجدته لا يريد التنحي عما قاله بعد أن جعلته يرى فتنتها وحاولت الإقتراب منه لاغراءه:
-تلاته وعشرين سنة مش صغيرة
أشار إليها بيده لتذهب من أمامه:
-اطلعي يا فرح يلا وتنسي كل اللي قولتيه ده
أقتربت منه ثانيةً محاولة التأثير عليه وهي تتحدث برقة:
-طب قولي.. أنت بتحبني ولا لأ
بمنتهى السهولة والقسوة، وبكل الإخلاص داخله، واللا مبالاة بمشاعرها قال:
-أكيد لأ.. أنتي أخت صاحبي مش أكتر، وأنتي بكرة تعقلي وتنسي كل ده
نظرت إليه نظرات نارية محتقرة، واشتعل فتيل الغضب داخلها بسبب رفضه لها بتلك الطريقة المهينة القاسية تقول غير مصدقة:
-ايه؟
أجاب ببرود:
-اللي سمعتيه
أبصرها بقوة وعنجهيته ظهرت في نظرته فبقيت بالنسبة إليها تكبر عليها ومن بعد هذه النظرة رحل وتركها تقف وحدها ولم يفكر لحظة فيما قد يمر بها أو تمر به.. تاركًا خلفه أنثى مطعونة بقسوة وغرور، ملقاة أسفل قدمه بعد أن قدمت نفسها إليه وهو من قام برفضها..”
خرجت من شرودها وهي مازالت تنظر إليه، إلى تكبره وعنجهيته، إلى ثقته من نفسه وغروره الواضح، إلى قوته وعنفوانه، تنظر إلى رجل لن يتكرر ولكنه رفضها.. وهي لن تنسى ذلك ولن تصمت عنه ولكن لكل شيء موعد..
❈-❈-❈
جلست “زينة” في حديقة القصر نهار اليوم التالي تنظر إلى ابنتها التي كانت تركض هي وشقيقتها يتمازحون سويًا..
شعرت بمن يجلس جوارها فـ أدارت رأسها لتبصر “تمارا” هي من أتت إليها.. ابتسمت لها بعملية وعادت تنظر إلى شقيقتها وابنتها غير مبالية بتلك التي أتت لها ولم تعيرها أدنى اهتمام..
ابتسمت “تمارا” بسخرية وهي تلاحظ عدم اهتمامها بها أو بالأحرى تجاهلها لها وكأنها لم تراها من الأساس..
استمعت “زينة” إلى صوت “تمارا” يخرج بسخرية واستهزاء:
-مش أنا عرفت يا زينة سبب جوازك من جبل
استدارت معتدلة تنظر إليها باستغراب ثم سألتها قائلة:
-وايه هو السبب.. تصدقي إني لحد دلوقتي معرفش السبب
حركت “تمارا” حاجبيها بطريقة تدل على عدم تصديقها قائلة بسخرية:
-ده بجد؟
أغاظتها “زينة” بقوة وهي تردف:
-أكيد مش مصدقة.. حقك بصراحة أصل الأسباب كانت كتيرة، منها أن جبل مقدرش يخليني اسيبه وأمشي
ألقت كلمات ذات مغزى بتهكم واستعلاء:
-وأنا بصراحة مش زي حد.. مقدرتش أبعد عنه
كتمت الأخرى غيظها منها ونظرت إليها بعمق ونظراتها مشتعلة بنيران الغيرة والحقد عليها ولكنها شددت على نفسها قائلة:
-غريبة.. أصلي عرفت إنك حاولتي تهربي
ابتسمت إليها وأكملت على حديثها بالكذب لتشعرها بالغيرة أكثر:
-آه حاولت بس الحمدلله إني معرفتش أهرب.. كنت هعيش ندمانه طول عمري.. إزاي اسيب جبل واسيبه لمين
اتسعت ابتسامة “تمارا” وهي تدري أنها كاذبة فقالت بجدية شديدة:
-ما تيجي معايا دوغري يا زينة..
سألتها “زينة” باستغراب:
-أكتر من كده
عقبت قائلة ما حدث وملامح وجهها تشير إلى أنها تعلم كل شيء قائلة من خلالهم لا مجال للكذب:
-أنا عرفت إنك كنتي عايزة ورثك مش أكتر بس مرات عمي وجبل عايزين وعد ومكنش فيه حل غير إنك تتجوزيه وأنتي كنتي رافضة واتجوزتي غصب
حركت كتفيها بدلال وقالت بنبرة هادئة ترفرف بعينيها السوداء:
-ده كلام حقيقي.. بس مافيش حاجه بتفضل على حالها يا تمارا.. كل حاجه وارد تتغير
صمتت قليلًا وهي تراها مصرة على الكذب وإظهار أن كل ما بينها وبينه على ما يرام وأكثر من ذلك، متجهة إلى طريق الحب تأخذ مكانها بقلبه وحياته..
قالت بجدية وعمق دون سابق إنذار:
-ولو سمحتلك الفرصة تهربي.. وارد بردو كل حاجه تتغير من تاني
بادلتها النظرات المستفهمة واعتدلت في جلستها تصب تركيزها عليها متسائلة:
-قصدك ايه
ابتسمت عندما جذبت انتباهها إليها بهذه الطريقة وأدركت أن ما أرادته سيحدث لا محال فهي كاذبة كبيرة فقط عندما أتت على ذكر الهرب عمقت تركيزها نحوها وكأنها طوق النجاة..
قالت بنبرة جدية تحمل داخلها الثقة والتأكيد على كل حرف يخرج من بين شفتيها:
-أنا أقدر اهربك من الجزيرة من غير نقطة دم ولا طرفة عين.. أنا بس اللي ممكن أعمل كده عارفه كل مكان فيها وإزاي تخرجي بسلام من غير ما مخلوق يشوفك.. كفاية إني من عيلة العامري عندي حصانة
وجدت “زينة” تنظر إليها دون حديث يعبر عما يجول بخاطرها فقالت مستفسرة:
-قولتي ايه؟
كانت هي في عالم آخر تفكر في تلك الفرصة الذهبية التي أتت إليها على طبق من ذهب، هذه هي الفرصة التي كانت في انتظارها.. الهروب والفرار من جزيرة العامري دون أن يمسها سوء هي وعائلتها.. كانت في انتظار أن يقوم أحد من قلب العائلة أو الجزيرة بعرض عليها هذه الفكرة لمساعدتها في النجاة بحياتها ومن معها..
لطالما كانت تتوق لخوض هذه التجربة والمرور بهذه اللحظة.. لا مجال للرفض أو التفكير..
هو الفرار وليس غيره.. لا محال
مررت بأبشع الطرق المؤذية، عبرت ممرات الخيانة، وجلست بين ازقه الحزن، ركضت بين دروب القسوة ولم أجد يومًا مأوى يحتويني بحب، تُربت جُدرانه على أكتافي بحنو، و لم أحصُل على كتف يمتص آلام روحي وعناء قلبي، مكثت وحيدة للياليٍ طويلة أُعاني من كثرة آنات الغدر المُصاحبة للقسوة والعنف، وأن سمحت الفرصة بالفرار من بلدة لم يشهد قلبي بين شوارعها سوى الأسى والتعاسة فلن يكُن هُناك قرار آخر ولن أدع الحكم لقلبٍ أو لعقل.. إما الفرار أو الفرار…
❈-❈-❈

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية سجينة جبل العامري)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى