روايات

رواية بك أحيا الفصل السادس 6 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل السادس 6 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الجزء السادس

رواية بك أحيا البارت السادس

رواية بك أحيا الحلقة السادسة

الفصل السادس “مقتل سارة!”
“هناك أخطاء قاتلة، زلات لا يمكن غفرها، حتى وإن كانت بدون قصد، فالنتيجة واحدة، أن الفعل قد وقع، والفاعل لا بد من أن يُعاقب حتى وإن كان غير متعمد!”
الثالث عشر من أغسطس لعام ٢٠٠٨..
ركض خارجًا من الفيلا حين استمع لصوتها المألوف موصومًا ببكاءٍ عالٍ، أبصرها تجلس في الحديقة الخلفية فوق العشب الأخضر الزاهي، ممسكة بقدمها بألم وعيناها لم تتوقف عن ذرف الدموع، وشقيقتها التي تكبرها بعامان تقف هناك أمامها تتحدث لها بشئ ما.. اسرع من خطواته حتى اقترب منها فجثى على ركبتيهِ يتفحص قدمها وهو يسألها بقلقٍ:
_ ايه الي حصل يا ديجا؟
بنبرتها الباكية كانت تجيبه شاكيًة:
_ سارة وقعتني.
وهنا عقبت “سارة” بضيق:
_ قولتلك مكنتش اقصد، انا كنت بهزر معرفش إنك هتقعي وتتعوري.
نفت برأسها وقد ارتفع بكاءها وباصرار قالت:
_ لا، هي كانت قاصدة يا مراد.. عشان كسبتها.
وبهدوء تام كان يهتف:
_ خلاص يا حبيبتي متزعليش، المهم تعالي اعقملك الجرح ده.
نهض وجذبها معه برفق تحت تأوهاتها المتألمة، حتى دلف معها للداخل أسفل أنظار “سارة” المغتاظة، ورددت لذاتها:
– عيلة مقرفة.. معرفش مهتم بيها كل الاهتمام ده ليه؟ ياربي كان لازم ماما وبابا يخلفوها يعني! كان زمان مراد مبيلعبش غير معايا ومش مهتم غير بيَّ.
رددتها بعقلية طفلة حانقة من اهتمام الولد الوحيد الموجود بحياتهما بأختها فقط دونها، رغم كونها هي الأكبر والأقرب سنًا له، فالفارق بينها وبين “مراد” ثلاثة أعوام فقط، ورغم هذا هو أقرب لشقيقتها التي تصغره بخمسة أعوام..
انتهى من تضميد جرحها وسط تألمها ووسط كلماته الحانية التي تخفف ألمها من حين لآخر، وما إن فعل حتى جلس أمامها مباشرةً ينظر لها لثواني بصمت، فأردفت هي بأعين دامعة:
_ مراد.. هي وقعتني قصد، أنا متأكدة عشان هي اتغاظت لما أنا الي كسبت اللعبة.
ابتسم بهدوء تام وهو يقول:
_ وأنا قولتلك ايه؟
قطبت حاجبيها بعدم فهم، لتسأله بحيرة:
_ في ايه؟
سكن الشر عينيهِ وهو يجيبها بابتسامة ثابتة:
_ مش قولتلك متسبيش حقك، الي يأذيكِ قراط أأذيه ٢٤.
توترت ملامحها وهي تجيبه:
_ بس دي أختي!
رفع كفه يلمس وجنتها بتروي وهو يتحدث بهدوء تام كأنه يريد أن يجعل الحديث يدلف عنوة لعقلها:
_ ولو أبوكِ يا حبيبتي.. أخد الحق مفيهوش استثنا..
من يستمع لحديث مثل هذا لن يصدق أنه يخرج من فاه طفل لم يتعدى الثا عشر بعد!
اومأت بإيجاب كأن لمسته وحديثه فيهما سحرًا، ليبتسم باتساع وهو يرى استجابتها له، ظنًا منه أنه هكذا يوجهها للصواب!
وقفت بأنفاس متوترة وهي تحدق بالباب الذي توارت خلفه شقيقتها بصحبة “مراد” وهي تقف لتراقب المكان كي لا يراهما أحد… أخبرها أنه سيبقيها لدقائق فقط في الخزانة التي تقبع في المخزن والتي هجرت منذً زمن، فقط لتشعر بالخوف وتبكي وهكذا تكون قد استردت حقها… بسهولة كانا يستدرجناها للمخزن، وبسهولة أكثر كانت تدلف معه لتلك الغرفة القديمة، لم ترى نظرة عيناه الغريبة، ولا تمريره للسانه بدائرية داخل فمه، ولا إمالته لرأسه لليمين قليلاً.. وفجأة وجدت ذاتها تُدفع عنوة للخزانة ويغلق عليها الباب من الخارج بالمفتاح دون اهتمام لصراخها المرتعد.
_ حصل ايه؟
تسائلت بها بقلق بالغ حين خرج لها، ابتسم ورد بهدوء:
_ كله تمام… خمس دقايق وهنخرجها.
توترت نظراتها أكثر وهي تسأله بخوف:
_ مش كتير؟
ذم شفتيهِ بلامبالاة:
– لا، بيقولوا الانسان يقدر يعيش من غير تنفس ل ١٠ دقايق.
واكتفى بهذه المعلومة دون إكمالها قاصدًا.. فلم يخبرها مثلاً أن علميًا بعد ثلاث دقائق من عدم التنفس قد تبدأ بعض أنسجة المخ في التلف، وأن الإنسان أقصى مدة قد يتحملها دون تنفس لا تصل للعشر دقائق بل هي لا تتعدى الخمس سوى بدقيقتان او ثلاثة.. وإن وصلت للعشر سيكون ميتًا حتمًا.
وبالداخل أخذت تضرب بقبضتيها على الخزانة برعب وهي تصرخ:
_ افتح الباب، حرام عليك هموت.. حد يلحقني انا بتخنق والله.. مرااد!!!
وبالفعل كانت تشعر بأنفاسها تثقل، وضيقها ورعبها من المكان أزادوا شعورها..
لتصرخ ثانيًة:
_ أنا أسفة، والله ماهضايقها تاني.. افتحوا الباب بقى.. خديجة.. خديجة افتحيلي بالله عليكِ، عشان خاطري..أنا أسفه.. افتحوا بقى..
ولكن لم تسمع ردًا، أو صوتًا يدل على اكتراث أحدهم.
بالخارج استمعت لحديث شقيقتها، لتدمع عيناها وهي تنوي الدلوف لها:
_ لا كفاية كده.. دي خايفة اوي.
امسك ذراعها يوقفها لتنظر له، فنظر لعيناها مباشرةً وهو يقول:
_ لما تنوي تاخدي حقك متجيش في نص الطريق وتترددي.. ومتسمحيش لقلبك ومشاعرك يتحكموا فيكِ.
ردت بتبرير وعيناها تنظر للداخل:
_ بس دي خايفة اوي حرام كده.. كمان خايفة يحصل لها حاجة.
احتدت نظرته وهو يسألها كأنه لم يسمعها:
_ سمعتِ قولت ايه؟
وبقلة حيلة كالعادة تستمع لحديثه وكأنه شيطانًا ما يوسوس لها وهي تقتنع فورًا! فأومأت برأسها وهي تقف بجواره صامتة..
مرت الخمس دقائق.. صوتها اختفى منذُ قليل جدًا فظنوا أنها تعبت من الصراخ.. اتجها للخزانة وأدار “مراد” المفتاح بها وما إن جذب الباب حتى شهقت “خديجة” صارخة بفزع حين أبصرت شقيقتها كالجثة الهامدة في أرضية الخزانة ورأسها مائلة لأحد الجانبين بلا حراك… تُرى هل ساعدت في قتل شقيقتها للتو؟!
رجعت للوراء وهي تهز رأسها بهستيرية بانكار مما توصل له عقلها، لا بالطبع لن يحدث هذا، شقيقتها بخير، لن تكون سببًا في مقتلها، لن تكون سببًا في أن يصيبها مكروهًا ما.
وعنه لم يقل صدمًة عنها، لم يتوقع أن تزهق روح الفتاة بهذه السرعة، توقع أن تصمد أكثر، حسنًا لربما فقدت وعيها فقط!
كان هو الأسرع في التحرك حين اقترب منها يتحسس نبضها، امسك معصمها لم يجد فيهِ نبضًا محسوسًا، لتصعد كفه للعرق النابض برقبتها فوجد نفس النتيجة! حسنًا لقد تيقن الآن من أن الفتاة قد زُهقت روحها..
ابتلع ريقه الجاف وهو ينظر لها بعجز عن التصرف، وأذنه تستمع لبكاء “خديجة” المصدوم الذي يأتي من خلفه، هز رأسه ينفض الصدمة عنه ليستطع التصرف وبنفس اللحظة كانت “خديجة” قد فقدت السيطرة على ذاتها فارتفعت شهاقتها، وارتفع صوتها وهي تنادي على شقيقتها:
_ سارة! س.. ساا… سارة، لا..
نهض واقفًا حين بدأ صوتها يعلو أكثر فالتفت لها ليُصاب قلبه بغصة مؤلمة من حالتها، كانت منزوية بأحد الجوانب عيناها مثبتة على شقيقتها وتذرف أنهارًا من الدموع ومقلتيها حمراء كالدماء، وجهها شاحب، ورأسها تتحرك يمينًا ويسارًا بانكار، وشفتيها المرتجفتين تردد باسم شقيقتها دون توقف.
اقترب منها بأنفاس ذاهبة من الموقف ومن حالتها، ودقاته متسارعة بعنف، وقف أمامها حاجبًا الرؤية عنها، لتحول أنظارها له بتلقائية، ووقتها وعت لِمَ يحدث لتنظر له وكأنه طوق نجاتها وهي تستنجد بهِ:
_ مراد.. سارة، هي.. هي كويسة صح؟ قول اه، قول اه أرجوك.. مر..
قاطعها وهو ينحني ليمسك وجهها بكفيهِ ليجعلها تهدأ وهو يقول بثبات يُحسد عليه في مثل هذا الموقف وبمثل هذا السن:
_ اهدي يا خديجة.. احنا معملناش حاجة، احنا كنا بنأدبها بس مكنش قصدنا نأذيها صح؟
اومأت برأسها بتأكيد سريعًا وهتفت من بين بكاءها:
_ اه، بس هي…
أخذ نفسًا عميقًا جدًا وهو يتجهز ليلقي قنبلته عليها، وقبلاً كان يبعد كفيهِ عن وجهها ويحتضن جسدها بأكمله بدلاً عن وجهها فقط، احتضنها بقوة وقد اراحت رأسها على بطنه، لينحني برأسه هامسًا في أذنها:
_ خديجة، سارة ماتت.
شعر بتصلب جسدها، شعر بتوقف أنفاسها لوهلة، وثم اختفى الدفئ الذي كان ينبعث من جسدها الملامس لجسده، حاول ابعادها ليرى ما بها، لكنها كمن ثُبت في أرضه، هتف باسمها بقلق:
_ خديجة!
وهنا هي من ابتعدت لسنتيمترات قليلة وهي تنظر له بهذيان، ثم رددت بعدم وعي:
_ ماتت! احنا قتلناها!
امسك ذراعيها وهو يهزها بعنف لتفوق من صدمتها ولسانه يردد بتحذير:
_اوعي اسمعك تقولي الكلام ده تاني، احنا منعرفش حاجة عن الي حصل سامعة يا خديجة؟ احنا مشوفناش سارة من الصبح ومنعرفش حاجة عنها سمعاني؟
كانت نظراتها تائهة، تدور في كل مكان، كأنها لا تسمعه او لا تفهم ما يقوله، وجهها يزداد شحوبًا، ثم وفجأة قررت الاستسلام، قررت أن تريح عقلها الصغير من صدمة لا يستوعبها عقل شخص بالغ، لتسقط فجأة فاقدة الوعي، ولكن لم تصطدم بالأرض ذلك الاصطدام القاسي، هذا لأنه قد التقط جسدها بين ذراعيهِ قبل أن يسقط، اراحها برفق على الأرضية ووقف يفكر فيما يجب عليهِ فعله.
لقد رأى الكثير من أفلام الاكشن والجريمة طوال العام السابق، فقد أصبحت هذه النوعية من الأفلام تستهويه، تلك الأفلام التي لربما تكن آداة ليست بهينة في الكثير من الجرائم، تلك الأفلام التي لا أعلم إن كان منتجيها يعلمون ما قد تتسبب بهِ تلك القصص التي يتناولونها أم لا، ولكن على سبيل المثال شخص ك “مراد” من أين له أن يعلم عن أمر البصمات التي تكن سببًا رئيسيًا في التعرف على المجرم إن لم يشاهد تلك الأفلام، صدق أو لا تصدق ولكن الكثير من الجرائم التي تحدث على أرض الواقع تُخفى بأحد الخدع التي تبناها ذلك البطل في فيلمه ليخفي جريمته!
وهذا ما فعله “مراد” الآن، حين أتى على خلده أمر البصمات، وأن الجثة حين تُحلل سيُكتشف أنها ماتت أثر الاختناق، إذًا ما الحل؟ وهذا ما فكر بهِ لدقائق قليلة جدًا قبل أن يقوم بالتالي:
ابعد “خديجة” عن ساحة الجريمة تمامًا، وجلب قطعة قماش وجدها في تلك الغرفة التي بها الكثير من التلفيات والاشياء عديمة القيمة، وبها جذب جسد سارة ليجعلها مسطحة بشكل مستقيم فوق الأرضية، ثم اتجه للخزانة التي كانت متوسطة الحجم لحد ما، وحاول دفعها برفق لتسقط… لتسقط فوقها! فيبدو الأمر انها اختنقت من سقوط الخزانة فوقها ولم تستطع ازاحتها، لم يقدر على دفعها وخشى إن سقطت عليها ستحدث أضرارًا بالغة في جسدها، أضرار ربما ستكن سببًا في كشف الحقيقة، فوقف بجسده أمام الخزانة بعدما فتح بابها وظل يجذبها بجسده الذي يحمل قوة مضاعفة من رياضته العنيفة التي يمارسها، حتى باتت على قرب سنتيمترات قليلة من جسد “سارة” فتركها منسحبًا بجسده بعيدًا فباتت فوقها كما أراد، وسيظهر الأمر انه اختناق من سقوطها فوقها.
وقف يلتقط أنفاسه بعنف، وعقله يفكر ماذا فعل هو؟ هل كان الأمر يستدعي أن يتورط في جريمة قتل؟ سارة، رغم انه لم يحبها يومًا إلا أنها لم تستحق أن تفقد حياتها هكذا! طيف من الدموع غزى مقلتيهِ لبرهة من الزمن، قبل أن يزفر أنفاسه بقوة مقررًا انه ليس وقته أبدًا التفكير في أي شيء، اتجه ناحية “خديجة” وحملها مبتعدًا عن المكان بحرص كي لا يراه أحد.
—————–
ساعة كاملة مرت…
وهو يجلس فوق فراشه بجوارها، كفه يمسد على خصلاتها برفق، وعيناه سارحة في ملكوت آخر، تلك الساعة سمحت لضميره بتأنيبه وجلده بقسوة على ما فعله، وسمحت لعقله بالتفكير في الأمر لأكثر من مرة من كل الجهات، من ناحية ما فعله وكيف سيتخطاه، ومن ناحية كيف سيجعل خديجة تصمت عما حدث، والأهم ماذا سيفعل معها كي تصبح بخير، فهي أصغر منه سنًا، وأرهف منه في مشاعرها، لن تتحمل ما حدث ولن يمر عليها بخير، عليهِ أن يقف بجوارها الفترة المقبلة أكثر من أي وقت مضى.
شعر ببدأ استفاقتها ليتحفز جسده لأي شيء قد يتلقاه منها.
في أول الأمر لم يفقه عقلها شيئًا عما حدث قبل اغماءها، ولكن لم يمر دقيقتان حتى بدأت تصرخ فجأة دون أي كلمة قبلها، ليسرع واضعًا كفه فوق فمها كي يمنع صوت صراخها من الصدوح، لكن هاله ما رآه في عينيها، لقد رأى الخوف يتراقص في عينيها، منهُ؟! هل بدأت تخشاه؟ هتف يحاول طمأنتها:
_ متخافيش يا ديجا، بس بطلي صريخ هيسمعوا صوتك بره.
هزت رأسها موافقة بخوف حقيقي، ليزفر أنفاسه بضيق وهو يرى خوفها لا زال يلازمها، حسنًا يبدو أن الأمر سيأخذ وقتًا، وقتًا ليس بهينًا ولكنه على استعداد لمواجهة أي شيء غير خوفها منه الذي لا يتحمله، ازال كفه من فوق فمها وحاول محادثتها بلطف:
_ خديجة أنتِ لازم تهدي يا حبيبتي، الي حصل مكنش قصدنا، الي حصل ده غصب عنا وأي كلمة منك دلوقتي هتودينا في داهية.
هوت الدموع بحرقة من عينيها، وذمت شفتيها تشهق ببكاء، وارتجف جسدها على ذكرى ما حدث وخرج صوتها مبحوحًا محملاً بالكثير من الحسرة والألم لفتاة في مثل سنها وهي لم تبلغ التاسعة بعد:
_ سارة.. سارة ماتت يا مراد، احنا الي قتلناها، هي ماتت بسببنا.
أغمض عيناه لوهلة يستدعي الهدوء قبل أن يفتحهما وهو يسألها بلين:
_ احنا كان قصدنا نموتها؟
نفت برأسها بذعر كأنها ترفض أن تلتصق تلك الجريمة النكراء بها، ليهز رأسه مشجعًا وهو يقول:
_ شوفتي، يبقى بلاش تلومي نفسك، لأنك مكنتيش تقصدي، هي لما وقعتك وعورتك كانت قاصدة تعورك؟ ولا هي بس وقعتك؟
نفت برأسها أولاً ثم عادت لتومئ على سؤاله الأخير وهي لا تكف عن البكاء، ليرفع كفيهِ محيطًا وجهها ماسحًا دموعها بحنان وقال بتحذير:
_ يبقى مش لازم حد يعرف حاجة عن الي حصل.
وكأنها استوعبت أين هي، لتنظر حولها باستغراب وهي ترى ذاتها في غرفته! فسألته بحيرة من بين بكاءها:
_ أنا ايه الي جابني هنا؟ وهي، هي عملت فيها ايه؟
ازاح كفيهِ عنها وهو يزفر انفاسه بتعب، وأخبرها:
_ هي سبتها مكانها، هم اكيد هيلاحظوا غيابها ويدوروا عليها وقتها هيلاقوها، وأنتِ اغمى عليكِ فجبتك هنا.
انخرطت في البكاء أكثر وهي تتخيل حالة والديها حين يعلمان بمقتل شقيقتها، أي ذنب ارتكبت هي لِمَ وافقته على ذلك الانتقام الجنوني؟ لِمَ استمعت لحديثه كالبلهاء ولم توقفه عن أذية شقيقتها؟ كيف ليس لهما ذنب؟ كل الذنب يقع عليهما لقد فقدت “سارة” حياتها بسببهما؟!
هزت رأسها بتأنيب ضمير وهي تقول ببكاء حارق:
_ لأ، انا هقول لبابا.. انا لازم اقوله عشان يسامحني.
احتلت السخرية وجهه وهو يسألها باستنكار:
_ يسامحك؟ هو لو والدك عرف هيسامحك؟ هيسامحك ازاي؟ محدش هيستوعب الي حصل ولا هيتفهم اننا مكناش نقصد، هيحطوا اللوم عليكي ومحدش هيسامحك.
نفت برأسها رفضًا للاستماع لحديثه مره أخرى، واصرت على موقفها وهي تقول:
_ لأ، انا لازم اقوله، انا.. انا مش هقدر اخبي عنه، مش هعرف.
طفح الكيل من حديثها وتعنتها ليمسك ذراعها كي تنتبه له وهو يقول بحزم:
_ خديجة، انا قولتلك محدش هيعرف حاجة عن الي حصل.
جذبت ذراعها منهُ بقوتها الواهية وهي تصرخ بهِ ودموعها تغرق وجنتيها:
_ ملكش دعوة بيَّ، انا مش عاوزه اصاحبك تاني، أنتَ السبب في الي حصل.. وانا مش هسكت انا هقول لبابا عشان لازم يعرف، لازم يسامحني ويعرف اني مكنتش اقصد.
احتدت ملامحه بشدة وهو يستمع لحديثها، كيف لها أن تلقي حديثها السام هكذا في وجه؟ ألم تعد تريد معرفته!! حسنًا سيتجاوز ما تقوله الآن فقط لأنها بالتأكيد غير واعية لحديثها، ضغط على نواجزه بشدة وهو يقول:
_ طب بصي بقى لو حد عرف حاجة عن الي حصل هزعلك، وأنتِ مجربتيش زعلي لحد دلوقتي بس نصيحة مني بلاش تجربية.
انفلتت منها شهقة بكاء وهي تسأله بخوف:
_ هتعمل ايه يعني هتقتلني زيها؟!
حسنًا هي تستفزه لأقصى درجة، وهو ليس بإنسان ألي ليتحكم في غضبه الذي خرج الآن وتلك النظرة القاتمة المخيفة تحتل عيناه وهو يقترب بجسده منها ويقول بفحيح بدى مرعبًا لها:
_في حاجات كتير أبشع من القتل اعتقد عقلك الصغير ميستوعبهاش!
لقد خشته حقًا، وانتفض قلبها رعبًا، من نظرته لتجد ذاتها تردد بدون وعي منها وعيناها بدت كهرة خائفة:
_ مراد أنا خايفة.
انتبه الآن فقط لغضبه الذي سيطر عليه وجعله يتفوه بحماقة كهذه لها، اغمض عيناه قليلاً ليهدأ وتنفس عميقًا جدًا، وما إن شعر أن عيناه لم تعد مخيفة، حتى فتح عيناه وهو ينظر لها بذلك الصفاء الذي عهدته، التقط كفها بين كفيهِ رغم خوفها وارتجافتها منهُ، لكنه طمأنها بربطه على كفها وهو يقول بنبرته الدافئة التي عهدتها:
– خديجة انا خايف عليكِ، صدقيني مش هاممني نفسي انا خايف عليكِ أنتِ، أنتِ عارفه لو حد عرف الي حصل هيحصل ايه؟
بدت مهتمة بما يقوله، ليستكمل حديثه:
_ هيطلبوا الشرطة، ووقتها مش هيلاقوا حاجة علينا غير كلامك بس، وكلامك مش هيكون دليل يحبسنا، واكيد ابويا هيخرجني من الموضوع بسهولة، ووقتها أنتِ الي هتعاني.. عارفه ازاي، أبوكِ وأمك عمرهم ما هيسامحوكِ، هيكرهوكِ يا خديجة وهيعاملوكِ اسوء مما تتخيلي، هتندمي إنك عرفتيهم صدقيني.. أنتِ اضعف من إنك تتحملي عقابهم ليكِ، صدقيني يا خديجة أنا والله خايف عليكِ.
صمت يحاول معرفة ما إن اقتنعت بحديثه أم لا، لكنه جهل قراءة ملامحها، لأول مرة يجد ملامح وجهها فارغة هكذا، فضغط على كفها يدعهما أكثر وهو يقول بصدق:
_ لو لسه مصممة، قوليلهم يا خديجة، بس متجبيش سيرتك في الموضوع، اوعي تقولي إنك كنتِ معايا، قولي إنك شوفتيني وانا بحبسها في الدولاب، قولي إني اتخانقت انا وهي وبعدها شوفتيني بحبسها في الدولاب وسبتها ومشيت، ولو هتقولي ده فهتقولي كمان اني شوفتك لما شوفتيني فخدتك عندي الاوضة عشان متقوليش لحد، فاهمة؟
لقد حاك لها سناريو رائع لتحكيه للجميع، وعليها فقط التنفيذ ولكن السؤال الأهم هل هي ستفعل هذا؟ هل ستوشي بهِ حقًا؟!
ظلت صامته لثواني حتى.. حتى تغلب خوفها عليها، خشت.. خشت من عقاب والديها وتدخل الشرطة إن قالت الحقيقة، وخشت أيضًا أن تستخدم السناريو الذي حاكه لها “مراد” ولا تعلم السبب!
أخفضت رأسها بيأس وانكسار وهي تقول ببكاء:
_ مش هقول.. مش هقول خلاص.
تنفس براحة حين استمع لجملتها واقترب مقبلاً جبهتها بعمق قبل أن يبتعد وهو يقول:
_ شاطرة يا ديجا، ده الصح صدقيني.
اغمضت عيناها بقهر وهي لا تعرف ما إن كان ما فعلته هو الصواب أم زادت من ثِقل ذنبها؟!
—————–
صراخ وعويل ودموع تتساقط هنا وهناك، صدمة، وقهرة، وقلوب أدماها مظهر الصغيرة التي فقدت حياتها في غمضة عين.
“دينا” لم تتحمل ما رأته وخبر وفاة صغيرتها، فأخذت تصرخ بكل طاقتها وهي جاثية أرضًا، دموعها كجمرات النار، وصوتها الذي يصرخ باسم صغيرتها ينزل على القلوب نزول السوط على الجسد.
و”محمود” سقط جالسًا أرضًا بصدمة، لم يتفوه بحرف أو بصرخة، فقط باهت، مصدوم، تائه، بمعالم أب فقد ابنته للتو.
انتشرت رجال الشرطة بالمكان بعدما أخرجوا الصغيرة، و “ليلى” جالسة على كرسيها تحمل الصغير ” مصطفى” الذي بالكاد بلغ الأربع أعوام وأصابه الذعر من الذي يشاهده أمامه، وعلى مقربة منهُ كان يقف “مراد” محتضنًا خديجة التي انهارت في البكاء وهي ترى المشهد الذي خشت منهُ، المشهد الذي يجلدها ويجلد ضميرها مرات و مرات، وهو لن ينكر أن عيناه غامت بالكثير من الدموع والتي سقطت على وجنتيهِ من المشهد الذي يراه، وتمنى لو فقط تريث قليلاً فيما فعله، تمنى لو باستطاعته العودة للوراء ليلحق بها قبل أن تزهق روحها، ولكن ليت.. لم يجني أحد منها شيئًا.
———–
قاسية هي الحياة حين تعلمنا درسًا يماثل قسوتها ونحن مازلنا صغار لسنا حمل ذلك الدرس ولا تلك القسوة،
قاسية هي الحياة التي تترك في روحنا ندوب لا تُمحى ولا يواريها الزمن،
قاسية هي الحياة التي تسلب منا عزيزًا لم نعتاد العيش بدونه، وتنفرنا من حبيبًا لم نظن أننا سننفره يومًا،
بقسوة الحياة، تقسو قلوبنا، ونقسو معها حتى وإن كنا مازلنا مجرد صبية!
نهاية نوفمبر لنفس العام..
“خديجة” لم تعد خديجة، تلك الفتاة الصغيرة، الحنونة، المرحة، النقية، لم تعد أيًا من هذا، باتت فتاة أخرى، باهتة، صامتة، لم تعد نقية بحملها لذنب قتل شقيقتها! لم تعد علاقتها ب”مراد” كالسابق أبدًا، لم تراه في الشهر ونصف المنصرمين سوى مرات قليلة جدًا، وهو تركها.. تركها تأخذ فترة نقاهة، يعلم أن الأمر صنع حاجزًا ما بينهما، لكنه سيهدمه قريبًا فقط ليترك لها بعض الوقت.
اقتربت من والدها الذي جلس بجوار حوض الزهور بضعف لم يبدو عليهِ سابقًا، فقط بدى عليهِ من بعد وفاة شقيقتها، جلست جواره بأسى على حاله، ففتح ذراعيهِ لها يحتضنها بحنانه المعهود، فبكت.. بكت وهي ترى نفسها سببًا في حالة أبيها الملكوم، لكنه لم يفهم سبب بكاءها فسألها وهو يحاول تهدأتها:
_ في ايه يا ديدي مالك يا حبيبتي؟ ماما زعقتلك؟
“ديدي” كنيتها المفضلة لدى أبيها، والدتها! وهل عادت والدتها تنهرها أو ترفع صوتها حتى، والدتها لم تعد كما كانت هي الأخرى، والدتها أصبحت أم بائسة، حزينة، فاقدة للحياة بعد رحيل ابنتها الكبرى، تعلم أن “سارة” كانت المفضلة بشكل ما لدى والدتها بالطبع لم تكن المفضلة عن شقيقها “مصطفى” لكن كانت المفضلة عنها، لذا مرارة فقدها ليست هينة.
رفعت رأسها لوالدها تستجديه بنظراتها ألا يردها خائبة وهي تطلب منه للمرة الثالثة:
_ بابا، عشان خاطري خلينا نمشي من هنا، أنتَ قولتلي هفكر، خلينا نمشي يا بابا بقى.
نظر لها بحيرة وهو يسألها مستغربًا:
_ وأنتِ ليه عاوزه تمشي من هنا للدرجادي؟
وبمكر ودهاء لم تعرفه “خديجة” من قبل لكن الأيام كفيلة أن تُعلم! كانت تقول:
_ عشان مش قادرة اعيش هنا من غير سارة، كل مكان بشوفها معايا فيه، بابا انا مبعرفش انام بليل، بخاف اوي وبحس إن سارة حوليا، غير إن ماما كل يوم تيجي تقعد قدام باب المخزن الي ماتت فيه وتقعد تعيط.
وجملتها الأخيرة كانت صادقة وشهدها “محمود” بنفسه اكثر من مرة، لذا بعد صمت دام لثواني كان يقول باستسلام وقد هداه عقله أن هذا الحل الأمثل:
_ معاكِ حق، طول ماحنا هنا مش هنقدر نخرج من حزننا أبدًا، كفاية الي حصلنا هنا لحد كده.. هنمشي يا خديجة، هنرجع بلدنا يا بنتي يمكن نقدر نتعايش.
نفسها الآن هادئ، هادئ لدرجة لم تجربها منذُ وفاة سارة، أخيرًا ما سعت له منذُ شهر كامل على وشك التحقق.. ستهرب، ستركض بعيدًا عنه، لن تستطيع تقبله بعدما كان السبب في مقتل شقيقتها، لن تستطيع البقاء في مكان واحد معه، عليها بالهرب قبل أن يورطها في جريمة أخرى وتنساق خلفه بكل حماقتها.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى