روايات

رواية بك أحيا الفصل السادس عشر 16 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل السادس عشر 16 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الجزء السادس عشر

رواية بك أحيا البارت السادس عشر

رواية بك أحيا الحلقة السادسة عشر

الفصل السادس عشر “من الماضي!”
“إليك أربع معلومات عن الماضي
لا يندثر، لا يُنسى، يومًا ما سيعود، ومهما طال الزمن سيصر على إكمال القصة التي تُركت مفتوحة دون نهاية مُرضية!”
نظر لها بهدوء بعدما فتح المسجل وبدأ بالحديث:
_ قوليلي يا خديجة حاسة إنك مرتاحة؟
اومأت برأسها باستنكار وهتفت بملل:
_ دكتور انا قولت لحضرتك من فترة طويلة إني كويسة ومبقتش محتاجة الجلسات كمان بس حضرتك مُصمم!
ابتسامة باردة زينت ثغره وهو يقول:
_ انا اعرفك بقالي ٣ سنين يا خديجة، اول ما شوفتك حسيتك بنت بريئة وطيبه، لدرجة إني متوقعتش إنك في يوم تبقي كدابة شاطرة كده.
فاجئها بحديثه، فرفعت حاجبيها بذهول وهي تسأله باستغراب شديدٍ:
_ كدابة! انا؟ ليه حضرتك بتقول كدة؟
لوى فمه مستنكرًا وهو ينهض ملتفًا حول مكتبه وجلس أمامها مردفًا بغيظ خفي:
_ يعني بقالك سنة منيماني وعمالة تكدبي وبتتمادي في كدبك، قولت بعد فترة هتعقلي وتفكري صح وتبطلي الحوارات الي دخلتِ نفسك فيها برضو مفيش فايدة، انا مصدقتكيش من يوم ما جيتِ فجأة قبل وفاة والدك بشوية تقوليلي انا بقيت تمام يا دكتور، مبقتش اشوف سارة ومبقتش احلم بيها في كوابيسي، وخرجتِ من دور الاكتئاب الي جالك فجأة، كل ده مدخلش عقلي ولا صدقته، بس كنت عاوز اجيب اخرك، كنت عاوز اعرف عقلك بيفكر ازاي عشان تقرري تعملي الي عملتيه فجأة ده، لكن للأسف أخرك طول قوي وبوخ، وانا عشان خايف عليكِ مش قابل اسيبك في الي بتعمليه اكتر من كده.
تحفزت في جلستها بعدما شعرت بأنها باتت مكشوفة أمامه، لقد ظنت أنها استطاعت اقناعه بأحاديثها المخادعة، ظنت انه اقتنع بأنها أصبحت بحال جيد وانه يصر على استمرار الجلسات لزيادة الاطمئنان ليس إلا! رمشت باهدابها بتوتر بالغ استطاعت عيناه رصده بوضوح، فابتسم بثقة وهو يتأكد من شكوكه، اذردت ريقها بارتباك ولكنها حاولت رسم الثقة وهي تردد بعدم فهم مصطنع:
_ ليه حضرتك بتقول كده؟ يعني ليه انا هكدب وهعمل كل ده؟
رفع منكبيهِ بجهل حقيقي وأجابها:
_ مهو ده الي مستني اسمعه مِنك.
كادت تعقب ناكرة مرة أخرى أن يكون ما تخبره بهِ ليس حقيقي، لكنه قاطعها حين رأى الكذب يلون مقلتيها قائلاً:
_ بصي يا خديجة، انا اتعلمت في مهنتي كطبيب نفسي، إن المريض الي عندي ده عشان يتعالج لازم يمر بكذا مرحلة اقولهملك؟
هزت رأسها مستنكرة وقالت برفض مُهذب:
_ حضرتك انا مش شايفة إن في داعي اعرفهم، أنا مش بخطط اكون دكتورة، بعدي….
قاطعها للمرة الثانية بهدوء مستفز لها:
_ هقولهملك، اول حاجة ان المريض يعترف أنه عنده مشكلة ومحتاج حد يساعده، تاني حاجه انه لم يروح للشخص ده الي هو انا مثلاً يكون صريح معاه فعلاً، يقوله ايه سبب انه بقى عنده المشكلة دي، وايه الصراع النفسي الي حاصل جواه وهكذا، بعدها يتبع تعليمات الدكتور وينتظم على الادوية، وكده يكون ماشي في طريقه الصح للعلاج.. والأهم يتحلى بالصبر ويعرف ان مش بين يوم وليلة مشكلته هتتحل!
اغمضت عيناها لوهلة بنفاذ صبر قبل أن تفتحهما وهي تعقب على حديثه:
_ جميل، وانا عملت كده، اعترفت ان شوفتي لسارة دي مشكلة ومحتاجة حد يساعدني عشان مشوفهاش تاني، وجيت لحضرتك وحكيتلك حكايتي و…
قاطعها ساخرًا وقد وصلت للنقطة التي أرادها تمامًا، فاعتدل في جلسته بعدما كان يستند بظهره على ظهر الكرسي باسترخاء وخلع نظارته يضعها جانبًا فوق المكتب وقال بضيق ظهر في نبرته:
_ حكتيلي؟ حكتيلي ايه يا خديجة؟ قولتيلي الي اي واحد جاركوا هيكون عارفه مش الي المفروض يعرفه الدكتور الخاص بيكِ، الي هيساعدك زي ما بتقولي، اساعدك ازاي وانتِ حذِرة جدًا في كلامك معايا، بحس إنك بتفكري في كل كلمة قبل ما تقوليها، قولتيلي عن مراد..
صمت لوهلة ليتبين رد فعلها على ذِكره فابتسم متهكمًا وهو يشير لوجهها مرددًا:
_ شوفتي؟ اول ما بذكر اسمه بس وشك بيصفر وملامحك بتتوتر، ونفسك بيبقى مش مظبوط، زي دلوقتي كده، حكتيلي بقى ليه الشخص ده مجرد ذِكره بيضايقك؟ حكتيلي عملك ايه الطفل الي مكملش ١٣ سنة وقت ما بعدتي ورجعتي بلدك عشان متبقيش حابه تفتكريه كده؟ لأ، كل الي قولتيه حاجات عادية جدًا وانه كان صديق طفولتك وكان بيهتم بيكِ، مذكرتيش اي حاجة عنه مهمة يعتبر، حتى لما كنت بسألك علاقته بسارة كانت ازاي كنتِ بتتوتري وتتهربي! حكتيلي سبب ان سارة تظهرلك؟ وانا متأكد إنك عارفة السبب، والاغلب يا خديجة في حالات الهلوسة بالشخص الي مات او مبقاش موجود في حياتنا بتكون لسببين ياما كنا متعلقين بيه اوي وموته او فراقه كان صدمة متحملنهاش، يا ذنب عملناه فيه ولسه شايلينه جوانا مش عارفين نسامح نفسنا عليه، وبما إنك بنفسك قولتيلي إنك مكنتيش قريبة لسارة قوي، يبقى السبب التاني، ذنب ايه بقى الي مش قادرة تتخطيه؟ عملتِ فيها ايه عشان تظهرلك على شكل هلاوس؟ عارفه ليه مصدقتكيش انها مبقتش تظهرلك؟ عشان ببساطة مشكلتك مش هتتحل من غير ما تواجهي نفسك باسبابها وتكوني قادره تتكلمي عنها، معرفش أنتِ قررتي تتجاهلي
وجودها ولا بقيتِ تتعاملي معاها كأنها شخص طبيعي موجود، بس في كلا الحالتين، عقلك مش هيتحمل كتير ونهايته هتبقى مأساوية.
كان وجهها باهت من كثرة ما سمعته منه، صُدمت من انها باتت كالكتاب المكشوف أمامه هكذا! كل ما قاله حقيقة، لم يخطأ في شيء، ولكنها لم تريد أن تصبح شفافة هكذا، لم تريد أن تعود لتلك الدوامة مرة أخرى، ولكن جملته الأخيرة أرعبتها، ماذا يقصد بنهاية مأساوية؟ وهذا ما جعلها تذدرد ريقها بخوف قبل أن تسأله بخفوت من كثرة شعورها بالضياع:
_ يعني ايه؟ قصدك ايه؟
شعر بأنه قد حصل على الحصان الرابح في حديثه معها، فتنفس بهدوء وهو يقرر استغلاله اسوء استغلال ألا وهو ترهيبها، فقال بأسى:
_ بصي يا خديجة للاسف مكنتش حابب اقولك الكلام ده قبل كده عشان متخافيش، بس دلوقتي وأنتِ بتتهربي من العلاج وبتتجاهلي مشكلتك بالشكل ده لازم احذرك.
اخذ نفسه مرة أخرى ببطئ متعمد ليتآكلها التوتر أكثر، ثم قال:
_ العقل لما الضغط بيزيد عليه اوي بيقرر يهرب، والهروب بيكون بطريقتين.. يا انهيار تام فنضطر نعيشه على المهدئات، يا بيوصل أحيانًا للجنون.. وفي كلا الحالتين بيصبح الشخص مغيب عن الدنيا، خصوصًا لو كان الضغط ده نفسي، زي هلاوس، كوابيس صعبة ومتكررة، انفصام، وما شابه ذلك.. يمكن انتِ دلوقتي بتتجاهلي الهلاوس الي بتشوفيها وبتنجحي في ده، برافو.. بس الوضع ده مش هيستمر كتير صدقيني، وعقلك ده من كتر الضغط هيهرب بطريقة من الطريقتين، وفي كلا الحالتين هتغيبي عن الواقع ووقتها اسألي نفسك بقى اخوكِ هيجراله ايه،خصوصًا وانتِ قايلالي ان في مشكلة كبيرة حصلت مع اهلك في البلد، يعني اخوكِ مش هيعرف يروحلهم، المشكلة الي دخلتك في اكتئاب اسبوعين وبرضو معرفتش ايه هي.
حسنًا لقد نجح، نجح في بث الرعب بداخلها تجاه مصيرها مع تلك الهلاوس اللعينة والكوابيس الألعن، نجح في جعل عقلها يضطرب ويتوه غير مدركًا ما عليهِ فعله، لكن ما تدركه جيدًا ان القلق تملكها على مصير شقيقها أكثر، فماذا سيحدث إن غابت عنه لأي سبب؟ ماذا سيحدث له إن أصبح بمفرده؟ هل سيطلب مساعدة باهر أم سيكون ذو كبرياء أحمق مثلها، وحينها بالطبع سيترك دراسته ويعمل، والرب وحده أعلم بمن سيقابلهم في طريقه لربما يضلونه ويصبح شاب سيء الخُلق! كل هذا طاف برأسها بلحظة قذف “كمال” لكلماته القاسية عليها، ليست قاسية المعنى لكنها قاسية الوقع، رفعت عيناها التائهة له وقد التقط حيرتها وخوفها من القادم بوضوح، فأدرك أن حديثه قد أصاب الهدف، وهذا ما جعله ينهض واقفًا وهو يبدأ في تجميع أغراضه بينما يقول:
_ عمومًا براحتك يا خديجة، الجلسة انتهت، بما إن مفيش عندك حاجة جديدة تقوليها.
التفت لها بعدما انتهى وابتسم لها بهدوء مكملاً:
_ قفلي العيادة وامشي.
انهى جملته وخرج من الغرفة تاركًا اياها في دوامة لا تنتهي وقد بدأت تساؤولات جديدة تغزو عقلها، تساؤولات أكثر رعبًا من سابقتها، تساؤولات جعلتها تشعر بخطأها حين قررت تجاهل مشكلتها واهمالها، ولكنها هل هي كفيلة لجعلها تقرر النبش في حطام الماضي من جديد؟
________________
مساءً..
في أحد فيلل القاهرة..
اطفأت التلفاز وهي تزفر باختناق تشعر بملل كبير وهي تجلس وحيدة هكذا، تشعر بفراغ لغياب والدتها، لم تكن والدتها فقط بل وصديقتها المفضلة، والدتها هي اهم واغلى شخص بحياتها، ولا تنسى والدها أيضًا، لكنه لم يكن دومًا معها لكثرة مشاغله، وبرغم هذا لا تنكر حبها الشديد له، والدها الحنون المتفهم دومًا لها ولاحتياجتها رغم مشاغله الكثيرة، وكأنه جاء على ذِكره، فوجدت هاتفها يرن برقمه، التقطته بابتسامة واسعة وهي تهتف فور إجابتها:
_ دادي وحشتني اوي.
اتاها صوته الرخيم يجيبها بنبرة حنونة كعادته:
_ حبيبتي انتِ كمان وحشتيني، قوليلي عاملة ايه وأنتِ قاعدة لوحدك؟ اكيد زهقانة وزعلانة وكل المشاعر السلبية صح؟
التمعت عيناها لتفهمه لها وقالت بتأكيد:
_ ايوه، بصراحة مش قادرة اقعد لوحدي ومامي مش موجودة، حتى الدادة بنتها تعبانة اوي فراحت تشوفها.
اتاها صوته الذي تبدلت نبرته للقلق فورًا وهو يسألها:
_ أنتِ لوحدك في الفيلا يا چِسي؟ ازاي متعرفنيش حاجة زي دي؟
_ يا دادي مانا هعمل ايه بس، بعدين حضرتك عارف إن الكمبوند متأمن كويس.
رفض رفضًا قاطعًا وهو يخبرها:
_ مفيش الكلام ده سامعه؟ تقومي حالاً دلوقتي تروحي لناناة وتخليكِ عندها، قومي يلا من غير جدال.
تعلم نبرته هذه جيدًا فلن يتراجع بعدها أبدًا، فنهضت بضيق وهي تخبره:
_ حاضر يا دادي، هلبس واروحلها، رغم إن ناناة لو روحتلها وعرفت إن مامي في المستشفى هتصر تروحلها وحضرتك عارف صحتها متتحملش بس زي ماتحب بقى.
لعبت على الوتر الحساس لديهِ ظنًا منها أنه سيتراجع، لكنه أخبرها ببرود:
_ قوليلها إن أنا ومامتك روحنا نحضر حفلة عمل ضرورية في الجونة، وانا هكلمها.
صعدت درجات السلم الداخلي وهي تسأله:
_ وحضرتك هتيجي امتى؟
اجابها بهدوء:
_ بكره بليل هكون عندك، حجزت الطيارة خلاص.
ابتسم ثغرها بتلقائية وهي تهمس له:
_ توصل بالسلامة يا حبيبي، يلا جود باي.
اغلقت الهاتف واتجهت لغرفتها الواسعة التي لوُنت حوائطها باللون الرمادي الهادئ، يتوسطها سرير رمادي اللون ذو تصميم رائع، وبجواره كومود من نفس اللون، وعلى بعد قليل أريكة كبيرة تصلح للنوم، وُضعت أمام شاشة تلفاز كبيرة، وأمامها طاولة حديثة الطراز، غير المكتبة الضخمة الي تحتل الحائط المقابل للباب، والغرفة ملحقة بغرفة لتبديل الملابس ومرحاض، دلفت لغرفة تبديل الملابس والتي حوت عدد هائل من ملابسها وأحذيتها وحقائبها، كل هذا دلَ على رفاهية عيشتها، وتيسر حالتهم المادية لدرجة كبيرة… جدًا.
ارتدت بنطال اسود ضيق للغاية، وكنزة رمادية من لونها المفضل مفتوحة الصدر قليلاً وبنصف أكمام، ورفعت شعرها على هيئة ذيل حصان قبل أن تضع ملون شفاة باللون الوردي وعطرت جسدها بعطرها المفضل ببزخ، ثم ارتدت حذاء ذو كعب عالي اسود اللون والتقطت حقيبتها الصغيرة، وقد قررت المرور بوالدتها أولاً ورؤيتها رغم أنها رأتها عصرًا، ولكن لا يمنع أن تراها مجددًا بما أنها ستخرج.
__________________
كانت خارجة من منزل خالها بعدما اعطته الاوراق اللازمة كي يبقيها معه لحين قدوم موعد ذهابهم للقاهرة أخر الاسبوع المنصرم، وقد أخبرها أنه هاتف “باهر” ليقابلهما هناك، بل وجعله يبحث لها عن شقة سكنية مجاورة له كي لا تكن بمفردها، فهو لن يأمن عليها العيش في سكن جامعي لا يعلم ما أخلاقيات ساكنيه، ولم يمرر “باهر” الفرصة قبل أن يذُكر والده بتلك الحادثة المشؤمه، فعقب ساخرًا:
_ دلوجتي هتآمن عليها وياي؟ مخايفش يحصل كيف ما حصل مع خديجة ولا ايه؟ على الأجل اهنه مهيبجاش غيري انا وهيَ.
زفرة خانقة هي ما خرجت من فاه والده قبل أن يعقب بضيق حقيقي:
_ اباه عليك يا باهر وعلى حديتك الي كيف السم! انتَ ليه مُصر تجلب في الجديم يا ولدي؟
اتاه رده المتهكم رغم المه الداخلي:
_ الجديم؟ الجديم ده الي بسببه خيك هج وساب البلد، الي بسببه مش طايج انزل البلد، الي بسبه خيك مات وانتوا بعاد ومهتتحدتوش “مهتتكلموش”، وبرضك بسببه بنته رفضت ترجع تجعد في البلد وتايهه في بلاد الله محدش خابر طريجها.
تجمع الألم في رأس “منصور” وهو يتذكر تلك الأحداث الغابرة والتي قلبت حياتهم رأسًا على عقب بسبب تلك الحية المسماة بشقيقته، نكس رأسه بوجع وهو يتذكر كيف مات شقيقه وهو غاضبًا منهُ حتى وإن أخبره قبل ذهابه بالعكس، فهو يعلم جيدًا أن الأمر لم يخرج من قلب شقيقه، همس بتعب:
_ بكفياك تفكرني بحاجات منسيتهاش، بلاش تجلب عليا المواجع الله يرضى عنيك، وعن بت عمك، فانا خابر زين انك خابر طريجها بس مارايدش تريحني، ويمكن هي الي طالبه اكده، مهضغطش عليك بس مسيري اعرفه في يوم، الي مطمني هبابة انك اكيد معاهم ومسايبهمش، ولاه مهخافش على فريال منك يا باهر، انا خابرك راجل وميطلعش منك العيبة.
ولم يرد “باهر” الإطالة في الأمر أكثر فانهى الحديث في ذلك الموضوع واخبره انه سيبحث لها عن شقة قريبة له، فاخبرها “منصور” ان تتجهز آخر الاسبوع للذهاب للقاهرة لتقديم الاوراق ورؤية الشقة، والمكوث هناك يومان او ثلاثه لتجهيز كل شيء لها قبل بدأ الدراسة، توقفت ودق قلبها بنبضاته الصاخبة وهي تبصره قادم باتجاهها بعدما صف سيارته في موضعها في ذلك الفناء الواسع أمام المنزل، فركت كفيها بتوتر بالغ يصيبها دومًا حين تراه، وزين ثغرها ابتسامة تلقائية بلهاء، ولا تعلم ما عليها فعله حين يصبح أمامها، هل تلقي تحية وتذهب، أم تلقيها وتنتظر رده وربما يعطف عليها ويتخلى عن صمته المقيت ويسألها عن شيء ما فيطول الحديث بينهما قليلاً!
بينما هي في افكارها الحمقاء البريئة، كان هو يكتم تأفأفه ما إن رآها أمام باب منزله، ماذا آتَ بها لهنا هذه! أنه لا يطيقها في العموم، ولا يطيقها أكثر بعدما اخبره والده عن إكمالها للتعليم ويبدو أن الأمر برغبة والده أكثر من رغبتها هي شخصيًا وهذا ما جعله يصمت مرغمًا، وقف أمامها مبتلعًا امتعاضه منها وهو يردد بتحية باردة:
_ السلام عليكم، كيفك يا بت عمتي؟
حركت رأسها في توتر واضح وهي تخفض نظرها غير قادرة على النظر لعيناه التي تحيرها، فتارة تقع في عشقها وتارة تثير خوفها! بللت شفتيها وهي تجيبه بصوتها المنخفض على استحياء:
_ وعليكم السلام ورحمة الله، أنا زينة، كيفك انتَ؟
_ بخير يا بت عمتي.
رددها ببرود، فقطبت حاجبيها بضيق طفيف لا تعلم لِمَ لا يناديها باسمها يومًا! اهو ثقيل أم لا يدركه؟ ما مشكلته هو بحق الله؟!! ابتلعت ضيقها هي الآخرى وهي ترفع رأسها قليلاً ومازالت تطالع كفيها بتوتر حين سمعته يقول بنبرة لم تتبين هويتها:
_ سمعت إنك هتدخلي الجامعة، جامعة ايه بجى ان شاء الله؟
أخذت حديثه بنية جيدة وهي تجيبه بابتسامة جميلة ولمعة حماس بعينيها لسماع رده على ما ستقوله الآن:
_ جالي طب أسنان جامعة القاهرة.
وهنا اشتعل الغيظ بداخله اكثر، فرفع شفته العليا بسخرية واضحة وهو يردد بنبرة مستنكرة أدركتها الآن:
_ طب اسنان حتة واحدة! وبعد ما تجعدي ٥ سنين في الجامعة هتروحي لفين في الآخر؟ هنتجوز وهتخدميني وتخدمي بيتك وعيالك لزمتها ايه بجى وجع الجلب والكلام الفارغ ده؟
اختفت ابتسامتها، وماتت لمعة الحماس في حدقتيها، وارتجف فكها ضيقًا مما يقوله ومن طريقته المستهزأه بها وبأحلامها، ولكنها تنهدت بهدوء وهي تعقب وقد رفعت عيناها لتواجه عيناه الساخره:
_ العلام مش كلام فارغ يا وِلد عمي، ولو كان كلام فارغ اتعلمت ليه؟ بعدين مش ضروري بعد الجواز ميبجاش ليا حاجة غير خدمة بيتي وعيالي كيف ما بتجول، مين جالك اصلاً إني مهعملش فايدة بعلامي؟ أنا ناوية افتح عيادة اهنة و…
قاطعها بحاجبان مقطبان ولمعت حدقتيهِ بضيق واضح:
_ ايه يا ختي؟ عيادة؟ وناوية؟ ده مين الي ناوي؟ مين انتِ عشان تنوي ولا متنويش؟ اياك فاكرة بعد الجواز هيكونلك رأي عشان تجرري “تقرري” من راسك اكده؟ بعدين معندناش حريم تشتغل، فانسي الموضوع ده واصل، ولولا ان ابوي مصدر رأيه في حكاية الجامعة مكنتيش طبتيها من اساسه.
ترقرقت عيناها بالدموع وهي تستمع له يقلل من شأنها بهذا الشكل، نتيجة حديثه واضحه للأعمى، ألا إنها بعد الزواج لن يكن لها رأي أو كلمة حتى فيما يخص حياتها هي، ما قاله الآن يدل على معانتها معه في المستقبل، لن يكن الزوج اللين الذي يسهل التفاهم معه، ودومًا ستُجبر على فعل أي شيء لا تريده والتنازل عما تريد، وكأن زواجها منه تنازلاً منها عن حقوقها كأنسانه ليس إلا!! ولكن ماذا تفعل إن كان حبه يسكن ثنايا قلبها فيجبر أعينها على العمى والسير في طريق زُين باشواك الورد بدلاً منهُ، وللعجب انها ترى الاشواك واضحة كبزوغ الشمس ولكنها تتجاهلها وتنوي السير بهِ مُمنية ذاتها بانتهاء الاشواك رويدًا والشعور بملمس الورد الناعم ليعوضها لحظات الشقاء، فهل ستظهر الورود أم أنها اعتمدت على أمل ربما لن يصيب وتكمل سيرها على الاشواك؟!
اخفضت نظرها كي لا تخدعها دموعها وتسقط أمامه، وغمغمت بنزق:
_ الكلام ده سابج لآوانه وجتها نبجى نشوف، هروح عشان امي.
انهت حديثها وهي تذهب من أمامه بخطى سريعة وقد سمحت لدموعها بالتهاوي، لم تتوقع رد فعله هذا، تمنت لو رأت سعادته وفخره بها مثل خالها، تمنت لو لم يخذلها هكذا، لكنه “إبراهيم” الذي كالعادة لم يدعمها يومًا فهل يفعل الآن؟!
____________________
جلس خلف مقعد السائق بعدما انهى عمله وقرر العودة للمنزل، فك أزرر قميصه جميعها وهو يسمح للهواء بترطيب جسده أكثر، هذه الحركة التي دومًا ما يفعلها حين يشعر بالضيق او يتعمق التفكير في شيء ما، والآن هو يصب جم تفكيره عليها، ويحسب خطواته القادمة معها، عليه أن يكون حذِراً جدًا، فالأمر لا يحتمل خطأ صغير.
تعالى رنين هاتفه بتلك النغمة المخصصة ل “مينا”، فضغط على السماعه اللاسلكية المثبته في أذنه ليجيب على المكالمة، ارجع رأسه للوراء باسترخاء تام فور سماعه للأخر يقول:
_ تم ياباشا المطعم بقى مِلك سعادتك، تقدر من بكرة تعمل فيه الي تحبه.
تحركت شفتيهِ الغليظتان بحركات بطيئة، رتيبة، وهو يقول بهدوء:
_ تمام، والمعلومات؟
اتته اجابة “مينا” يقول:
_بص ياباشا هقول لحضرتك المعلومات الي قدرت اجمعها لدلوقتي، وهكمل بحث ولو وصلي حاجات تانية هبلغ سعادتك.
همهمة خافتة هي كل ما خرجت منه لتدفع الآخر للحديث، فتنحنح وهو يبدأ:
_ الي عرفته انها جت المنطقة من سنتين وكام شهر كده، وكان معاها ابوها واخوها، ابوها اشتغل نجار مع واحد هنا من المنطقة، وهي كانت وقتها في الثانوي وكان اخوها في الابتدائي، وحياتهم كانت ماشية طبيعي لحد ما مات ابوها في حادثة من سنة وشهرين بالضبط، وقتها راحت دفنته في البلد ومفضلتش هناك يوم واحد رجعت في نفس اليوم، والي عرفته ان في مشاكل كبيرة بينها وبين اهل ابوها، لدرجة انهم مجوش لها ولا مرة من وقت ابوها ما مات، وغالبا عشان كده ابوها ساب البلد ولنفس السبب لما راحت دفنته مقعدتش هناك، من بعد ابوها ما مات اشتغلت في عيادة الدكتور، الي كانت بتروحله ومتابعة معاه من اول ماجت القاهرة، بس ومن وقتها وحياتها مفيهاش جديد، الصبح الساعة ١١ بتروح العيادة، وبترجع الساعة ٤ العصر، والي عرفته برضو انها بقالها شهر مكلمة صاحب المطعم الي اشتريناه عشان يشغلها، عشان الحالة المادية يعني صعبة شوية، عرفت انها بعد موت ابوها بشهرين اضطرت تبيع حاجات من عفش البيت، ومن وقتها وهي حتى الحاجات الي بتشتريها من اهالي المنطقة بالدين وبتسدد الفلوس وقت ما يبقى معاها وكده، وفي ناس منهم معندهمش مانع وبتصعب عليهم عشان يتيمة وبتصرف على اخوها، وناس تانية مبتوافقش وناس مبتستناش على فلوسها، كده يعني.. عرفت برضو ان كان في واحد من المنطقة اتقدملها من قبل ابوها ما يموت بشهر بس هم رفضوا وقتها عشان كانت لسه مكملتش تعليمها وصغيرة.
نفسه الخارج والدالف هو فقط ما يدل على أنه جسد حي، غير هذا بدى وكأنه تمثال منحوت! ملامحه الجامدة بشكل مخيف، وعيناه الثابتة دون أن يرمش حتى، وكفه المثبت فوق المقود، وذراعه الموضوع باهمال فوق نافذة الباب المجاور له المفتوحة، هل يستمع للمتحدث؟ هل استمع لكل ما قيل أم أنه شارد؟؟؟ للوهلة الأولي تهاجمك تلك الاسئلة، ولكن في الوهلة الثانية تدرك أن الجحيم المستعر يكمن في جسده، فجسده المشدود بتلك الطريقة ليس شيئًا طبيعيًا، وكيف لا بعد كل ما سمعه؟ كيف لا بعد فظاعة ما سمعه؟! بدءاً من معانتها وحالتها المادية المفتقرة لذلك الأبله الذي تقدم لخطبتها! وكان أول ما نطق بهِ سؤال خرج من بين أسنانه:
_ عرفت هو مين؟
اتاه الرد سريعًا:
_ طبعًا يا باشا، طلع شاب كده ابن صاحب مكتبة هنا في الحي، واسمه جمال.
ضغط على أسنانه بقوة طاحنة حتى كاد أن يتسبب في كسرهم وهو يستمع لاسم ذلك الحقير، فلقد استمع لها تهتف باسمه حين دلفت تلك المكتبة المقيتة، حرر اسنانه وهو يهتف بجملة مختصرة:
_ بكرة تفتح المطعم عادي وانا على الساعة ٤ هكون عندك.
واغلق المكالمة دون كلمة أخرى، ضرب بقبضته على المقود بضربات هادئة رتيبة، تثير الأعصاب، وهو يتذكر كل ما اخبره بهِ “مينا” منذ قليل، وضغطه على نواجزه يظهر بوضوح من تحرك عضلات وجهه، حتى هتف بعد فترة وقد توقف عن تلك الطرقات فوق المقود:
– ماشي… ماشي.
رددها بنبرة لم تظهر أهي توعد أم ماذا!؟ قبل أن يشغل السيارة وينطلق بها بسرعته العالية كالعادة، والهواء يعبث بقميصه المفتوح كيفما يشاء.
__________________
خرجت من غرفة العناية المركزة بعدما رأت والدتها لدقيقتين مثلما سمح لها الطبيب، عدلت من وضع حقيبتها فوق كتفها وهي تسير قاصدة الخروج من المستشفى، لكنها تفاجأت بمن يقول:
_ بقينا ندخل من غير وسايط اهو.
التفتت على ذلك الصوت المألوف، لتبتسم تلقائيًا وهي تجيبه بعدما أصبح أمامها فقد كان خارجًا من أحد الغرف حين رآها وقرر محادثتها:
_ الحمد لله، عشان مسمحش لحد يكون له فضل عليا.
التوى فمه بابتسامة طفيفة فبدى أكثر جاذبية وهو يعقب:
_ مش لم تسدي الفضل القديم الأول!
وهنا تذكرت ما حدث بينهما، لتقول بضيق وقد اختفت ابتسامتها:
_ مش أنتَ قولت عليا مجنونة، خلاص بقى.
رفع أصبعه شارحًا:
_ أولاً مقولتش مجنونة، قولت اثر الصدمة، ثانيًا كنت بخرج من الموقف مشوفتيش الناس كانت بتبصلنا ازاي.
رفعت رأسها بأنفه وهي تقول بإباء:
_ أيًا كان، دي قصاد معروفك كده خالصين.
كتم ابتسامته وهو يقول بضيق مصطنع:
_ ياساتر عليكِ، مستخسرة فيا فنجان قهوة حتى تعزميني عليه!
تغيرت ملامحها في ثانية واحدة وقد بدت حزينة وهي تخبره:
_ هعزمك بس عندي طلب.
تعجب من تغير ملامحها، وشعر بجدية الأمر فسألها:
_ ايه هو؟
اجابته بنبرة غلفها الرجاء:
_ عاوزاك تشوف والدتي وتعرفني حالتها ايه بالضبط، حاسة ان الدكتور مخبي حاجة عني.
_ هو دكتور مين الي متابعها؟
_ دكتور محمد المصري، دكتور القلب.
اومئ برأسه متفهمًا وقال:
_ حاضر، بس احب اعرفك إن دكتور محمد مبيحبش حد يدخل في المرضى بتوعه، فمش هعرف دلوقتي لأنه موجود، ممكن بكره الصبح ان شاء الله.
ابتسمت بامتنان حقيقي وأردفت:
_ مفيش مشكلة، مرسي اوي بجد.
رفع سبابته مرة أخرى مذكرًا إياها بمرح:
_ متنسيش فنجان القهوة.
ضحكت بخفة وهي تقول:
_ مش هنسى don’t worry, “لا تقلق”، يلا جود باي.
انهت حديثها مشيرة له بتوديع، ليجيب وداعها قبل أن يتحرك هو الاخر:
_ مع السلامة.
____________________
_ ناناة!
انتفضت بخفة على صوت حفيدتها، لتنظر لها بعتاب وهي تخبرها:
_ كده تخضيني يا چسي؟
بررت “جاسمين” وهي تجلس بجوارها محتضنة إياها بود:
_ يا حبيبتي والله فتحت الباب بالمفتاح ودخلت، وناديت من الصالة، ولحد ما وقفت قدام باب الاوضة أنتِ الي مش سمعاني، بصالي في الصورة وسرحانه خالص.
قالتها وهي تبتعد عنها مشيرة لتلك الصورة المنقلبة على ظهرها الممسكة بها جدتها بين كفيها، ابتسمت الجدة لتظهر تجاعيد وجهها أكثر، وهي تقول:
_ باباكي كلمني وقالي إنك جاية، بس أنا فعلاً سرحت شوية.
ابتسمت “جاسمين” لجدتها الحنونة التي تحمل حبًا خاصًا لها، ولكن فضولها تجاه من في الصورة جعلها تقول بمشاكسة:
_ مين بقى الي سرحانة فيه اوي كده؟ ها؟ اعترفي يلا صورة لجدو صح؟
نفت برأسها وهي تضحك على مشاكستها:
_ لأ يا غلبوية مش صح.
لمع الفضول اكثر في مقلتيها تسألها:
_ اومال مين ها؟
لمعت العبارات في أعين الجدة وهي تبتسم بحنين:
_ ده ابني، وعمك.
قطبت “جاسمين” حاجبيها بتعجب وعقبت:
_ عمي أنا؟ بس أنا مسمعتش عنه قبل كده!
عدلت الصورة ليظهر من بها، وهوت دموعها وهي تطالعها وقد شاركتها “جاسمين” في النظر للصورة:
_ عشان محدش يعرف عنه حاجة.
تذكرت أنها قد رأت تلك الملامح من قبل فقالت:
_ اه، انا شوفته قبل كده في صوره له مع دادي، شوفتها بالصدفة في درج مكتبه، بس فكرته صاحبة من زمان.
لم يأتي رد من الجدة لتكمل “جاسمين” تسائلها:
_ يعني ايه متعرفوش عنه حاجة يا ناناة؟ وهو اسمه ايه؟
رفعت الجدة عيناها الباكية وشردت بنظرها وهي تقول بقهر:
_ بعد ما اتجوز ماعرفناش عنه حاجه، بقاله ٢٤ سنة دلوقتي بعيد عننا، نفسي اشوفه، اعرف اخباره، المحه حتى قبل ما اموت… كان اسمه حسن، عمك حسن وكان اصغر من نبيل بسنتين.. انا… انا حتى معرفش هو عايش ولا ميت.. عشان كده مش عاوزه اسيب بيتي رغم ان نبيل اتحايل عليا كتير اوي بس لسه عندي أمل يرجع في يوم.. لسه عندي أمل بابي يدق ويكون هو..
انهت جملتها باكية بشدة، فاحتضنتها “جاسمين” وقد ادمعت عيناها بتأثر شديد….

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى