روايات

رواية بك أحيا الفصل الثاني عشر 12 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل الثاني عشر 12 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الجزء الثاني عشر

رواية بك أحيا البارت الثاني عشر

رواية بك أحيا الحلقة الثانية عشر

الفصل الثاني عشر “دهاء”
بالمخبأ السري:
كان قد طلب “مراد” من أحد رجال والده أن يترجل معه للاسفل كي يعينه على الخروج بالاطفال إن لُزم الوضع، ولكن لغباء الأخر حين استمع لصوت تبادل النيران يقترب من مكانهم ظن الشرطة قد علمت بالمخبأ، فقرر إطلاق النيران كي يمنع نزولهم للاسفل وهو يصيح ل “مراد” :
_ شكلهم نازلين هنا ياباشا..
صرخ بهِ “مراد”:
_ بس يا غبي وقف ضرب..
اوقف الضرب مؤقتًا حتى استمعوا لصوت خطوات تقترب بسرعة وبدأ اطلاق النيران من أعلى السلم..
في الأعلى:
تتبعوا مكان إطلاق النيران حتى وجدوه يأتي من نفق يشبه القبو أسفل المبنى المتواجدين بهِ وفيهِ درج تؤدي لأسفل التفوا حول الباب المؤدي لأسفل وبدأوا في تبادل إطلاق النيران..
عاد الرجل يتبادل معهم اطلاق النيران، وفي وسط انشغاله بما يفعله التقط “مراد” سلاح من فوق الأرض وخفيًة كان يطلق عليه النار لتصيب طلقته منتصف ظهره، هذا بعد أن جعل الأطفال تلتف لتواجه وجوههم الحائط كي لا يصابهم الرصاص ولخوفهم من الوضع اقتنعوا وامتثلوا لطلبه.
سقط الرجل جثًة فوق الأرضية لينظر له “مراد” برضا فأولاً لقد ارتكب فِعلة حمقاء ببدأه لاطلاق النيران، وثانيًا لو استطاعت الشرطة الإمساك بهِ ربما يعترف ان “مراد” هو أحد اعضاء المنظمة! ورغم ان كل من ينضم لهذه المنظمة يكن الموت خياره الأول عن أن يوشي على أحد اعضاءها ولكنه “مراد” الذي لم يعتاد ترك شيء للاحتمالات.. هو “مراد” الذي لا يثق في ذراعه حتى..!
بجانب الباب المؤدي للدرج السفلي..
التقط آدم قنبلة يدوية وقام بقذفها لتصل للقبو وقد ظن ان من بالاسفل اثنان او ثلاثة من رِجال تلك المنظمة القذِرة .. ولكن حدث هو ما لم يتوقعه حين أمر الجميع بالخروج من المصنع المهجور ولكن أثناء ركضه للخروج هو الآخر توقف وجحظت عيناه بشدة حين أبصر طفلاً صغيرًا يقف في المقدمة وحوله عدة أطفال أخرى بينهما وبين القنبلة عدة سنتيمترات…
وفي نفس الوقت كان “مراد” منشغلاً في سحب جثة الرجل بعيدًا في مكان متواري عن الانظار كي لا يراه الاطفال حين يلتفون، فدخل لزُقة في أحد جوانب المخزن والقى جثة الرجل بهِ..
وعند “آدم”
اتسعت عيناه دهشةً وخوفًا حين رأى القنبلة التي قذفها أصبحت تمامًا بين كم كبير من الأطفال، ليشعر بالتلجم ولم يحسن التصرف لثواني كانت كفيلة ل “مراد” للخروج من أحد الجوانب وهو يصرخ بالأطفال أن يهرعوا لأحد الممرات التي يعلمها جيدًا والتي تؤدي للخارج، وما إن أدرك “آدم” ما يحدث حتى ركض هو ومن معه للخارج بعدما صرخ بهم أن يخلوا المكان، وحين وصل الجميع للخارج دوى الانفجار، ليرى “آدم” الأطفال بصحبة ذلك الشاب من بين الأتربة ورماد الانفجار، فاتجه إليهِ بحرص مشهرًا سلاحه قبل أن يرفع الشاب ذراعيهِ وهو يصيح بارتعاش خائف اتقنه:
_ أنا مأذيتهمش كنت بساعدهم والله.
_ انزل على ركبك.
جملة صرخ بها “آدم” ليفعل “مراد” فورًا، وحضر “سيف” ليسحب الأطفال بعيدًا، طالعه “آدم” بتفحص قبل أن يسأله:
_ أنتَ بتشتغل معاهم؟
نفى برأسه ثم أومئ بتردد وقال بتلعثم:
_ مش زي ما أنتَ فاهم.. أنا.. هم أجبروني، بقالي معاهم كام يوم بس.. بس هم أجبروني، أنا مكنتش عاوز.
صراخه، تردده، خوفه الواضح، ارتعاش جسده، نحيبه الخافت الذي بدأ، كل هذا أكد ل”آدم” صدقه، فعلى صوته وهو ينادي:
_ حاازم.
أتى “حازم” بعد ثواني، ليكمل:
_ شوف السجلات الي معاك فيهم صوره للواد ده.
_ ارفع راسك.
رددها “حازم” بقوة، ليفعل “مراد” رافعًا رأسه وعيناه الخضراء التي تلونت بسحابة رمادية بنفس الوقت لتعطي لونًا رائعًا ترتعش نظراتها بخوف، تفقده “حازم” ثم قال:
_ لا مش موجود.. ممكن يكون انضم ليهم قريب.
عقب “آدم” :
_ ماهو ده الي قاله فعلاً..
نظر له مليًا يفكر في أمره حتى تسائل أخيرًا:
_ اسمك ايه؟
بنفس النبرة المرتجفة أجاب:
_ محمد.
زفر أنفاسه قائلاً بحسم لقراره:
_ ماشي يا محمد.. هتروح معاهم القسم يخلصوا بس الاجراءات وهتمشي على طول كده كده مفيش حاجه عليك، بس قولي أنتَ قابلت زعيم الليلة دي؟
نفى برأسه وعيناه تنضح صدقًا:
_ لا، مشفتوش ولا مرة.
اومئ برأسه بلامبالاة فيبدو أن هذا الشاب لن يفيده، ليهتف ل “حازم” :
_ خده على العربية.
نهض يسير أمام “حازم” بخطى مذبذبة وجسد يرتعش، وعينان مسلطتان على الأرضية، عينان ظهر بهما الآن مدى الشر الكامن بداخلهما، عينان تلونتا بالخبث والدهاء، يبتسمان بسخرية على حماقة رجال الشرطة الذين صدقوه بسهولة، وكيف لا وهو من يتقن كل شئ.. الكذب، والتصنع، يتقن جيدًا تقمس أي شخصية تطلبها الظروف ليخرج كالشعرة من العجين كما يقولون..
شاب لم يقل اسمه الحقيقي، لم تكن نظراته حقيقية، لم يكن خوفه حقيقي، لم تكن حتى ارتعاشة جسده صادقة.. شاب أثبت أن “آدم الصياد” مجرد ضابط سابق أحمق!! وللحق إن أثبت هذا على ضابط من أكفأ الضباط في مجاله.. إذًا يجب الخوف منهُ!
___________________
بعد ثلاث ساعات من السفر والانتظار كانت تجلس أمام ذلك الطبيب وجسدها يسكنه التوتر.. رجل في منتصف الأربعينات ربما تلونت بعض خصاله باللون الأبيض، وجهه بشوش، ويشعرك بالألفه، طريقته ودودة ولبِقه، لم يبدو شخص غير مريح، لكن التوتر يأتي من كونه غريبًا وكونها تجلس معه لأول مرة وبمفردهما بعدما طلبَ من والدها بتهذيب أن ينتظر بالخارج، رأت ابتسامته الودودة قبل أن تستمع لصوته يقول بينما ينظر لها بهدوء:
_ لا فُكِ كده مالك متوترة ليه؟
اذردت ريقها بصعوبة وهي تقول:
_ لا مفيش انا كويسه.
قطب حاجبيهِ باستغراب متسائلاً:
_ بتتكلمي قاهري؟ غريبة والدك بيتكلم صعيدي وفكرتك زيه.
اخفضت رأسها وهي تردد بخفوت:
_ بعرف اتكلم الاتنين.. بس قولت اكلم حضرتك باللهجة الي تفهمها.
ابتسم وهو يقول:
_ يا ستي انا بفهم كل اللهجات، اتكلمي باللهجة الي تريحك ومتشغليش بالك بيَّ.
اومأت برأسها ولم تتحدث زيادة، ليبدأ هو بالحديث وهو ينهض جالسًا على الكرسي المقابل لها ويفصل بينهما طاولة صغيرة، نظر لها بتقييم أولاً ينظر لكنزتها الوردية الهادئة وتنورتها السوداء التي نزلت باتساع حتى نهاية ساقها، وحجابها المنقوش باللونين الاسود والوردي الذي لم تظهر منهُ شعرة واحدة، بدت بسيطة بشكل مريح حتى ملامحها التي لم تتكلف وتضع عليها اي شيء يخفي ارهاقها والهالات التي زينن عيناها كانت لطيفة وجميلة، تسلل صوته الهادئ الي مسامعها وهو يسألها أول سؤال في جلستهما، سؤال اظهر مدى ذكاءه وحنكته كطبيب:
_ قوليلي الأول ازاي بتعرفي تتكلمي قاهري؟
رفعت عيناها له متفاجئة، هل علمَ بمربط الفرس؟ مين علمَ أن البداية تكمن هنا! بداية كل شيء حدث لها بدأ من هذه النقطة تحديدًا.
لم تشاء أن تكشف أوراقها أمامه فبحذر تام اجابته وهي تخفض بصرها مرةً أخرى:
_ لما جينا مع ابويا وامي القاهرة من كذا سنة وفضلنا فيها لحد ما رجعنا بلدنا من ٧ سنين.
وضع المسجل فوق مكتبه بعدما قام بتشغيله وهو يعتمد على هذه المسجلات في علاجه لمرضاه بدلاً من التدوين خلفهم، الذي يشعرهم أحيانًا وكأنهم في تحقيق ما.. لذا استعاض عنها بذلك المسجل الصغير الذي لا يلاحظه معظهم من الأساس، شعرَ بخبرته ان الحديث عن عمل والدها هنا بالقاهرة يخفي خلفه شيء، بدى هذا من اختصارها في الرد، وتحول ملامحها للضيق على ذِكر عمل والدها، لذا سألها مرة أخرى محاولاً معرفة أكبر قدر من المعلومات:
_ جيتوا ليه؟
بخفوت اجابت:
_ عشان بابا كان بيدور على شغل، وتقريبا حد قاله ان في راجل محتاج حد يشوف طلبات البيت ومحتاج كمان ست تنضف البيت تطبخ كده يعني…
فهمَ محاولاتها لعدم ذِكر المسمى الوظيفي لوالديها ألا وهو “خدم” يبدو أن الأمر فيهِ حزازية لديها، وبالطبع هذا راجع لموقف ما أو ربما عدة مواقف!
_ وقتها كنتِ كام سنة؟
ضغطت على شفتيها بضيق وهي تجيبه:
_ كنت لسه مولودة.
_ ورجعتوا بلدك وانتِ عندك كام سنة؟
_ ٨ سنين.
_ ايه سبب الرجوع؟
رفعت رأسها لهُ وقد سكنَ الغضب ملامحها البريئة، لتردف بضيق واضح:
_ ايه لازمة كل الاسئلة دي؟ ملهاش لزمة، انا عندي مشكلة معينة جاية لحضرتك تحلهالي.
طالعها بهدوء مبتسمًا وهو يقول:
_ ينفع اجيب مريض وادخله العمليات من غير ما اعرف كل حاجه عن تاريخه المرضي! ده نفس الشيء، عشان اعالجك من الهلاوس الي حكالي والدك عنها، لازم اعرف اي الي وصلك إنك تشوفي حاجه زي كده اصلاً، فلازم نبدأ الموضوع من أوله، خصوصًا وانا ملاحظ انك مش حابة تتكلمي عن الفترة الي عشتيها هنا في القاهرة، واكيد ده له سبب قوي.
اهتزت حدقتيها واخفضت نظرها مرة أخرى وهي تضغط على كفها بقوة، تشعر بضغط كبير بدأ يُوجه لها منهُ، وتخشى أن يتمادى بهم الأمر لكشف سرها.
_ يلا نكمل أسئلة؟
اومأت بهدوء وقد قررت أن تكون حذِرة في أسئلتها قدر المستطاع، لتسمعه يسألها ثانيًة:
_ قوليلي بقى كنتِ حابة ترجعي البلد؟
هزت رأسها ايجابًا، ليسألها مرة أخرى:
_مكنتيش حابة العيشة في القاهرة؟
ومرة أخرى اومأت برأسها، ليتابع اسئلته:
_ ليه؟
صمتت لثواني ترتب أفكارها كي لا تخطئ في الحديث وتقول ما ليس عليها قوله، حتى قالت:
_ عشان.. عشان سارة كانت ماتت وانا مكنتش حابه افضل في مكان هي ماتت فيه.
_ سارة ماتت فين!؟
_ في الفيلا الي بابا وماما كانوا بيشتغلوا فيها.
_وماتت امتى!؟
اغمضت عيناها بارهاق مجيبة:
_ قبل رجوعنا البلد بفترة قليلة، يمكن شهر.
_ هي ماتت ازاي؟ ويا ترى فاكرة تفاصيل اليوم ده؟
اعتصرت عيناها بألم وهي تسمع حديثه، وارتعشا كفيها المقبضان على التنورة، حتى ملامحها شحبت أكثر وهي تجيبه بالحقيقة في عقلها ولم يجرأ لسانها على قولها، قتلت بسببي! قتلت وقد شاركته في الجريمة بموافقتي! قتلت وتسترت على المجرم وكأنني أصر على أن اكوان طرفًا في قتلها! وكأنني رفضت أن يحمل الذنب بمفرده فتقاسمته معه!
_ هي.. هي اتخنقت.. كانت بتلعب تقريبا وقفلت على نفسها الدولاب، واه فاكره تفاصيل اليوم كأنه امبارح.
ضيق عيناه بحِنكة يسألها:
_ مش غريب طفلة في سنك وقتها تفتكر تفاصيل وفاتها؟
اذردت لعابها بتوتر وفركت كفيها ببعضهما تلقائيًا وقالت:
_ اا.. اصل انا.. لا مش انا الي فاكره.. قصدي اقول ان اهلي حكوا قدامي الي حصل يومها كذا مرة.
رفع حاجبه ساخرًا وعقب بهدوء:
_ غريبة انتِ لسه قايلة انك فاكرة تفاصيل اليوم كأنه امبارح!
رفعت رأسها تهرب بنظرها بعيدًا عنه وقد تعرق جبينها وقالت بنبرة مرتجفة:
_ لا.. قصدي هم مش انا..
هز رأسه باستسلام وهو يعلم انها تكذب وبنفس الوقت يعلم انها لن تقول الحقيقة طالما قررت ألا تقولها من البداية، فتغاضى عن الأمر وهو يكمل:
_ تمام، يعني بسبب موتها حبيتِ تسيبي القاهرة، وبسبب طريقة موتها حبستِ نفسك في الدولاب، يعني بنفس الطريقة الي ماتت بيها.
ادمعت عيناها وهي تنظر له مرددة بتعب:
_ انا محبستش نفسي.. انا بشوفها، بشوفها وهي الي جرجرتني وحبستني، صدقني يا دكتور، يعني انا هجرجر نفسي واحبس نفسي!
عدل من نظارته الطبية التي التقطها مرتديًا اياه للتو بعدما شعر بضعف الرؤية، وهو يقول:
_ خديجة العقل البشري محدش ممكن يتخيل تصرفاته، الهلاوس يا خديجة لما بتتحكم بالعقل مستحيل تتخيلي الي ممكن يحصل وقتها.. قوليلي بتشوفي ايه؟
سقطت دموعها بوهن وهي تقول بنبرة مختنقة:
_ سارة.. بشوفها قدامي بتكلمني وبتتخاتق معايا ومرة جرجرتني لحد ما حبستني في الدولاب، بس بعدها اتفتح وباب قال انه مكانش مقفول.
_ هي سارة عايشة يا خديجة! ولا ميتة؟
نظرت له بحيرة التمعت في مقلتيها، وكأنها لا تعلم إجابة للسؤال! حركت رأسها مرة بالايجاب ومرة بالرفض، ليتنهد بهدوء وهو يسألها ثانيًة:
_ قوليلي طيب، لما بتشوفيها بتكون صغيرة ولا كبيرة؟
أجابته على الفور:
_ صغيرة، بتكون زي اخر مرة شوفتها.
ابتسم حين وصلَ لمبتغاه:
_ شوفتي! يبقى مش حقيقة، سارة لو حقيقة كان المفروض تكون كبرت زي مانتي كبرتِ كده مش هتفضل صغيرة.
رفعت عيناها للسقف وهي تبكي بانهيار، وشهقاتها تتعالى:
_بس انا بشوفها.. والله بشوفها، بحسها حقيقة، بحسها واقفة قدامي بجد.
_ طيب ممكن تهدي؟
قالها محاولاً تهدأتها ولكنها لم تستجيب، ربع ساعة مرت حتى تمالكت ذاتها وقد انتفخت عيناها بشكل مقلق من كثرة البكاء، فلم يحبذ الضغط عليها أكثر، وقال:
_كفاية كدة النهاردة.. هكتبلك أدوية، وهتجيلي كمان ٣ ايام تقوليلي الموضوع قل ولا لأ، ودايمًا اقنعي نفسك يا خديجة إن سارة مش حقيقة، كل ماتشوفيها قوليلها انتِ مش حقيقة، مهما حاولت تقنعك انها حقيقة قوليلها لأ انتِ مش حقيقة، ماشي؟
اومأت برأسها بتعب وهي تمسح دموعها بارهاق بالغ، اعطاها الروشتة المكتوب بها الأدوية وأشار لها بابتسامة:
_ نورتي يا خديجة، انتظمي على الأدوية واشوفك تاني، اتفضلي.
التقطتها ونهضت بارهاق متجهة للخارج بخطى بدى عليها التعب النفسي قبل الجسدي، قابلها والدها بلهفة وهو يسألها:
_ ها دكتور كمال جالك ايه؟
ابتسمت بالكاد كي تطمئنه وهي تجيبه بهدوء:
_ كتبلي أدوية وجال إن الحالة متجلجش، وعاوزني اجي بعد ٣ ايام.
اومئ لها رغم عدم اطمئنانه وقلقه لكنه لم يرد اظهاره لها وهو يمسك كفها بحنو ويسحبها لخارج العيادة.
وبداخل مكتب دكتور “كمال شاكر” كان يدون في ملف جديد:
_ الاسم/ خديجة محمود الدالي
البلد/سوهاج
السن/١٥ سنة
التشخيص/ ذُهان مصحوب بهلاوس سمعية وبصرية..
اغلق الملف ووضع القلم بجواره قبل أن ينظر امامه بشرود متحدثًا لنفسه:
_ السر في الفيلا الي سكنوها في القاهرة.. ده بداية كل الي هي فيه.
ويبدو أن “محمود” قد أصاب اختيار الطبيب المعالج لابنته!
_________________
عاد من مهمته وهو بمزاج رائق، بعدما خرج من القسم دون شائبة، لم يجدوا عليهِ شيئًا بالطبع، اخذوا أقواله الزائفة وتركوه، اتجه لأحد العمارات السكنية وصعد بالمصعد الكهربائي حتى وصل لشقة في الدور العاشر، فأخرج المفتاح وفتحها بهدوء دالفًا للداخل..شقته! تلك الشقة التي اشتراها منذُ عام مضى، لعدة أسباب اولهم انه لا يأمن الوضع بينه وبين والده، فربما يقرر ترك المنزل له يومًا!! من يعلم!؟ كل شيء وارد، وثانيهم مهمات كتلك يعود منها بثياب لن تصلح للذهاب بها لمنزله فهو لا يتحمل سؤالاً من والدته، او شكًا بهِ، واخرهم انه أحيانًا يرغب في الانعزال عن الجميع فيأتي هنا وتكن هذه مخبأه، إضافًة لاستطاعته لوضع صورة خديجة على جدران المنزل، واحدة لها بمفردها وضعها على حائط الصالة، وواحده لهما الاثنان وهو يحتضنها من رقبتها ويضحكان بمرح وهذه وضعها أمام الفراش تمامًا، غير أخرى لها بمفردها وهي لا تتخطى ثلاث سنوات وُضعت على الحائط الموجود عليه شاشة التلفاز، وكأنه يشاهدها هي وليس التلفاز، بالطبع هناك لم يكن يستطيع فعل هذا ليس لشيء سوى انه لا يريد لأحد يرى صورتها ويحدقها بنظرة كارهة! ك”حسن” مثلاً! لذا اشترى هذه الشقة لكل الأسباب السابق ذِكرها.
استحمَ وبدل ثيابه لبدله رمادية انيقة، وصفف شعره بطريقته المعتادة وهي للوراء وكالعادة بعد دقائق تبدأ خصلاته في التساقط على جبينه، ورشَ عطره المفضل قبل أن يرتدي حذاءه ويخرج قاصدًا الشركة.
بخطى ثابتة، وجسد شامخ، ونظرات واثقة، لا تمت أبدًا لعمر حاملها، كان يسير بتروي وهو يضع لفافة من التبغ البني الفاخر في جانب فمه فقط، وعيناه تطوف حوله بتقييم أثار الذعر في من يقفون باستواء وكأنهم في محكمة ما، أو يؤدون أحد صلواتهم بخشوع!
انتهى الممر ليقف أمام الباب المعني فاتحًا إياه بهمجية بحتة نبأت من بالداخل بهويته، فمن سيدلف بهذه الطريقة غيره!
_ welcome بالفاشل.
قست ملامحه وهو يجلس بارتياح شديد على أحد المقاعد ومدد قدميهِ بمنتهى قلة الذوق فوق الطاولة الصغيرة، بينما أزال بإصبعيهِ اللفافة قائلاً بصوت رخيم:
_ الفاشل ده لولاه كان زمانك مش عارف تقعد في البلد لحظة، لولاه كان زمان مصر كلها عرفت هويتك.
رفع الأخير حاجبه المجعد يبدو أنه أثر لحرق ما لم يمر عليهِ طويلاً ولم تنجح عمليات التجميل في معالجته وهو يقول:
_ احنا كده معملناش حاجه مع الدكتور.
حدقه بجانب عيناه بينما ردد بجدية بحتة:
_ فُكك منه، ده شكله دكتور شريف بلاش نوسخه، شوف الدكاتره الي هتجري تنفذ اول ما تطلب منها وترميلهم قرشين.
هز رأسه بضيق قبل أن يقول:
_ كل حاجه لازم تعصلج كده.
_ انا مش قولت مية مرة، صفقات أعضاء بناس كويسة او اطفال لأ.. قولت ولا مقولتش! مقصر معاك انا في ايه! مانا لما بتحتاج صفقة بجبهالك.
نظر له ليجده يضغط اسنانه بقسوة، وعيناه بدت مخيفة حقـًا فردد بتوتر:
_ مقصدتش يعني اداري عليك، بس شوية كدة وشوية كده، انتَ هتخلص على كباريهات البلد!
بنفس النبرة القاسية أردف وقد ارتفع صوته قليلاً:
_هو اكل وبحلقة! بتنوع!! بعدين مين عينك مدافع عن كباريهات البلد ولا تكونش الراعي الرسمي لهم!
ضحكه ساخرة خرجت من فاهه وهو يقول:
_ المشكله يا مراد إن مبادئك غريبة ياخي.. يعني تقتل وتتاجر في الاعضاء اه، لكن بشرط الأطفال والناس الغلابه ملهمش دخل، ناخد الناس القذرة الو***** ونخلص منهم.. تشرب خمرا اه، وتروح كبارية، لكن تعمل علاقة مع واحدة لأ، تتاجر في المخدرات والدع*** والسلاح والأعضاء وتقتل وتعمل كل حاجة شمال، والنقيض مبلغ شهري بيتوزع على المستشفى والملجأ.. ياخي ده انتَ مخصص مبلغ شهري لمصحة ادمان! ايه ده!؟ لا بجد! غريب انتَ برضو!
رفع منكبيهِ يقول بلامبالاة:
_ مش احسن ما اشيل قلبي خالص، على الاقل باقي فيَّ حبة بني آدم.
سخرَ بحديثه وهو يقول متهكمًا:
_ لا وانتَ الصادق ده عشان حبيبة القلب، لسه بتحاول متوصلش لمرحلة تحس نفسك متنفعش لها مش كده؟
بهدوء تام كان يجيبه:
_ بالضبط.
هز رأسه يائسًا، وقرر عدم التطرق لحديث عن تلك الفتاة اللعينة التي احتلت عقل ولده ولصقت بهِ كالغراء رغم غيابها! وسأله:
_ قولي خرجت منها ازاي؟ سابوك عادي كده من غير تحريات؟
التقط نفس عميق من لفافته وزفره بتروي وهو يقول بهدوء ثلجي:
_ ما يدوروا! أنا تحرياتي نضيفة ولا نسيت إني مبسبش ورايا هفوة.
رفع الأول حاجبه بتمعن وهو يقول باعجاب لم يخفيه:
_ شوف رغم إنك يدوب مكمل ٢٠ سنه بس مخك ذري وهيبقى ليك مستقبل باهر.
نهض بغتًة وهو يقول بقلة ذوق:
_ ميهمنيش ابهرك، حقي فين؟
_ وصل قبل ما توصل أنتَ هنا، الفلوس اتحولت على البنك.
اطفأ اللفافة في أحد الطفائات قبل أن يومئ بإيجاب متجهًا للخارج، لينظر “حسن” لأثره مرددًا بشرود وباستهزاء:
_ غبي.. هيضيع نفسه بسبب الحب وسنينه، اما نشوف اخرتها معاك يا… يا إبرام..
بدوري كأب.
رفع “مراد” جانب شفتيهِ قائلاً بسخرية:
_ حقك ده فقدته من زمان.
وما إن أنهى حديثه حتى هرول مسرعًا للخارج بعدما شعر بأنه لربما يتأخر دقيقتان أضاعهما مع هذا التافه في الجدال عن خروجها من المدرسة الثانوية.
نظر لطيفه باستهزاء مرددًا لذاته:
_ غبي.. هيضيع نفسه بسبب الحب وسنينه، اما نشوف اخرتها معاك يا… يا إبرام..

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى