روايات

رواية بك أحيا الفصل الثالث 3 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الفصل الثالث 3 بقلم ناهد خالد

رواية بك أحيا الجزء الثالث

رواية بك أحيا البارت الثالث

رواية بك أحيا الحلقة الثالثة

“ماذا ستفعل إن وجدت ذاتك في كذبة كبيرة، وأن كل ما مرَ عليكَ مجرد خدعة، حياتك لم تكن كما عشتها، والشخص الذي كنت معه لم يكن كما تظنه، تستفيق فجأة لتدرك أنك مجرد مغفل عاش أكذوبة رسمها لك الآخر باحترافية حتى لم تشك يومًا في الحياة التي تعيشها، وحين يُرفع الستار وتكتشف ما جهلته عمرًا، تكن الفاجعة! ”
لم تبرح مكانها، لم تصدر فعلاً آخر غير أنها جالسة أرضًا مستندة بظهرها على باب الخزانة، وبيدها تقبع الكارثة” البطاقة الورقية” التي قلبت حياتها رأسًا على عقب، وعيناها تائهة رغم احتقان الدموع بها لكنها أبت أن تنسدل، وعقلها لم يتوقف برهة عن التفكير حتى شعرت بهِ يكاد ينفجر، ظلت هكذا لساعة ونصف كاملين حتى أتى زوجها المصون أخيرًا الذي لم تعد تعرف له اسمًا أو دينـًا! ها هو أتى واقفًا أمامها باستغراب بدى على وجهه وهو يطالع حالتها، استغراب لم يدم طويلاً حين وقعت عيناه على بطاقته الورقية التي تقبع في يدها، وللعجب لم يصدر ردة فعل، فقط تحرك ببرود يخلع عنه سترة بدلته ويضع أشياءه الخاصة في مكانها دون اهتمام لها ولحالتها! وهذا ما دفعها لأن تستفيق فهي لديها كامل الحق في أن تفهم كل شيء الآن وهو لديهِ الحق في التبرير، نهضت واقفة خلفه وهو يخلع قميصه ببرود، أجلت حلقها لتحاول التحدث بصعوبة فهي تشعر بأن حجرًا ما قد وُضع في حنجرتها يحرمها من التحدث او حتى ابتلاع ريقها، ولكنها قاومت كل هذا وهي تسأله بنبرة مختنقة وبها بحة واضحة:
_ أنتَ مين؟ مين حسن ومين جورج؟
ظل صامتًا كما هو وكأنه لم يسمعها أساسًا، فاهتاجت أعصابها وجذبته من ذراعه بقوة ليستدير لها وصرخت بقدر استطاعتها:
_ رُد عليَّ.. أنا متجوزة مين؟ وليه كل ده؟ أنا.. أنا مش فاهمة حاجة، معقول تكون خدعتني كده؟ معقول تكون حياتي كلها كانت كدبة!؟
_عاوزه تفهمي ايه؟
هكذا فقط؟ وبهذه البساطة! يا لبرود أعصابه! كيف يمكن أن يكون هادئًا هكذا وهناك كارثة قد تنهي حياتهما، أم أن الأمر ليس كما تظن؟ إذاً كيف هو الأمر!!؟ نفضت رأسها من كل هذه الأسئلة البائسة والتي لن تجد لها اجابات، وقررت أن تحصل على اجابتها منه هو، فأردفت بضعف:
_ عاوزه افهم أنتَ مين؟ ايه البطاقة دي؟ وأنتَ جورج ازاي؟
أغمض عيناه لوهلة ثم فتحهما وهو يجيبها بهدوء:
_ دي بطاقة مزورة.
كشخص كان على وشك التقاط آخر أنفاسه في قاع المحيط وفجأة وجد يد تجذبه للسطح فارتاح صدره حين وجد متسع من الهواء، هكذا شعرت، شعرت بجثم هائل أُزيل من فوق صدرها، ولكن مازالت هناك أمور مجهولة لابد لها من معرفتها، أخذت نفسًا عميقًا تهدأ من ذاتها قبل أن تسأله:
_ وليه؟ ليه يبقى معاك بطاقة مزورة؟ وباسم شخص مسيحي، بتعمل بيها ايه يا حسن؟
تحرك من أمامها للخزانة يخرج ثيابًا بيتية مريحة له، وهو يجيبها ببرود:
_ مش شغلك، أنتِ كان يهمك تعرفي إذا كنتِ متجوزة مسيحي ولا مسلم وعرفتي يبقى غير كده مش من مصلحتك تعرفي.
صرخت بهِ ببحتها التي تلازمها الآن:
_ بس من حقي اعرف، ازاي عاوزني اتجاوز الموضوع كده؟ ازاي عاوزني اعمل نفسي مشوفتش حاجة ويا فرحتي إنك طلعت مسلم واسمك حسن! من حقي اعرف مين جورج وليه موجود في حياتك؟
القى الثياب التي بيده بعصبية ومسد بكفه على وجهه يستدعي بعض الهدوء ورغم خوفها من غضبه إلا أنها لم تتراجع، أزال كفه ونظر لها لبرهة كأنه يتغلغل لأعماقها ثم هتف بغموض:
_ متأكدة إنك عاوزه تعرفي؟
ابتلعت ريقها الجاف بأنفاس متسارعة وأجابته رغم رعبها الداخلي:
_ اه، متأكدة.
التوى جانب فمه مبتسمًا بتهكم وبدأ في الحديث بنبرة باردة تمامًا وكأنه لا يلقي عليها بحمم بركانية تحرقها من قسوة ما تحمله الكلمات من معنى:
_ طيب.. جورج ده شخصيتي في الشغل، محدش يعرف حسن غيرك أنتِ هنا، لكن بره أنا جورج وبس.. ولو حابة تعرفي ليه، فهو عشان شغلي مبيسمحش للمسلمين أنهم يكونوا فيه، كان لازم اغير ديانتي عشان يقبلوني، وبالمناسبة أنا بقالي معاهم اكتر من ١٧ سنة، ها في حاجة تانية حابة تعرفيها؟
لم تستوعب كل ما يخبرها بهِ دفعة واحدة، لكنها رددت بتساؤل تائه:
_ شغل ايه؟ أنتَ مش شغال في المقاولات؟؟ شغل ايه الي مينفعش مسلمين يدخلوه؟!
وبجمود تام كان يوضح لها الرؤية وهو يقول بسأم:
_ شكلك مُصرة تعرفي حاجات هتتعبك، As you like (كما تحبين)، أنا شغلي ملوش علاقة بالمقاولات، وأنتِ متعرفيش عنه حاجة أصلاً، ورافضين المسلمين لأن البيج بوص بتاع الشغل كله في عداوة كبيرة بينه وبين الإسلام والمسلمين عمومًا، عشان كده اي حد بينضم ليهم لازم يغير ديانته.
قطبت حاجبيها بحيرة شديدة، لا تفهم عن أي عمل يتحدث، أي عمل هذا من يرفض الإسلام بهذا الشكل؟ ورغم أن قلبها يحذرها من التمادي في الأسئلة، وعقلها يشعر بالخطر حيال القادم، لكن المواجهة حتمية لا بد منها:
_ انا عاوزه افهم دلوقتي اي نوع الشغل ده؟
رفع حاجبيهِ ساخرًا وردد بتهكم:
_ فضول الستات ده غريب! عمومًا هقولك عشان بس تتعلمي إنك متنبشيش في حاجة ممكن تفضل مجهولة بالنسبة لك وده احسنلك..
نظراتها المرتقبة لا توازي أبدًا انتفاضة قلبها، رأسها الشامخة لا تحاكي حدقتيها المهتزتين، ولكن شحوب وجهها هو ما ماثل ريقها الجاف.. تعلم جيدًا أن ما هي على وشك سماعه لن يكون هين، وبعده سيكون عليها الاختيار إما أن تستمر معه إما أن تكون هذه الليلة هي نهاية قصتهما، والأمر يتوقف على ما ستسمعه الآن.. ولكن ما جهلته أن دلوف وقر “الشيطان” لا يمكن الخروج منهُ!
أُعجب بشجاعتها وإصرارها على معرفة المستتر، فلم يجد مفرًا من الإقرار:
_ بشتغل مع كوزا نوسترا.
هزت رأسها بعدم فهم، وطالعته صامتة، لكنها رأت في عيناه نظرة تعلمها جيدًا، أنه يتلاعب بها! صاحت بضيق وهي تشعر بشيء يطبق على عنقها كاد يخنقها:
_ قولي حاجة افهمها! حسن بلاش طريقتك المستفزة دي!
ابتسم بسماجة وهو يجيبها:
_ ماشي.. كانت آخر محاولة يمكن تبطلي نبش، بس زي ماتحبي! بشتغل مع مافيا إيطالية يا ليلى، ها، ارتاحتِ؟ فضولك هدي؟
دار رأسها فجأة وشعرت أن الأرض تميد بها، استندت بوهن على السراحة التي كانت قريبة منها لحد ما، ونظرت بعيناها أرضًا بعد أن اخفضت رأسها قسرًا من شدة ما أصابها من دوار، لا تستوعب ما سمعته، ولوهلة تمنت لو لم تصر على معرفة الحقيقة، لكن قد فات آوان الندم الآن، رفعت عيناها التائهة له وقالت في حين تتمعن في ملامحه الجامدة:
_ يعني ايه؟ يعني عيشت كل السنين دي مع واحد شغال مع المافيا! عيشت كل السنين دي باكل من حرام أنا وابني؟ عيشت مع واحد مش مسلم!؟
رفض جملتها الأخيرة وهو يعقب بهجوم:
_ مش مسلم ايه؟ قولتلك البطاقة دي مزورة عشان الشغل بس لكن أنا…
لا تعلم من أين أتتها القوة الآن، لكنها وجدت بها قوة تكفي لأن تنهال عليهِ بالضرب حتى تخور قوته أو قوتها! فانتفضت واقفة مقتربة منه حتى أصبحت تواجهه تمامًا وأخذت تشيح بيدها بلا هوادة وصوتها يصرخ:
– مسلم؟ مسلم فين؟ ايه الدليل على إسلامك؟ أنا كل السنين دي ساكتة وبتغاضى وبقول بكره ربنا يهديك، لكن دلوقتي بس فهمت.. المسلم ميقبلش أنه يتقال عليه مسيحي حتى لو تزوير، المسلم مايروحش يشتغل في المافيا ويقتل ويسرق ويأذي الناس، بتقولي مسلم بناءً على أيه؟ امتى صليت؟ امتى صومت؟ انا ولا مرة شوفتك بتعمل حاجة تدل على إسلامك، وكل ما كنت اكلمك في المواضيع دي يا تتعصب عليَّ وتقولي ملكيش دعوة، يا تقولي مش لازم تشوفيني انا معظم اليوم بره وبصلي وبصوم عادي.. ودلوقتي بس عرفت إنك كداب.
اغاظه طريقتها وصراخها ووقوفها أمامه بلا خوف هكذا، لتحتقن عيناه وهو يهتف ببرود رغم غضبه الخفي:
_ ايوه كداب.. يهمك في ايه إذا كنت مسلم ولا مسيحي ولا ملحد حتى؟ الي يهمك الي مكتوب في ورقي عشان جوازنا يبقى سليم، وورقي مكتوب فيه إني مسلم.. حتى شغلي ملكيش دعوة بيه، المهم أنه بعيد عنك أنتِ وابنك ومأمنلكم حياة زي دي.
نفت برأسها بهستيرية وهى ترى أمامها رجلاً لم تعرفه قط، ترى رجلاً لم يكن هو من تخلت عن كل شيء من أجله، ليس نفس الرجل الذي كان يتغنى في حبها، وفعل المستحيل كما كان يقول ليحصل عليها، هل كان ما يقصده بالمستحيل هو عمله مع المافيا؟
_ أنتَ مين؟ مش أنتَ حسن الي سيبت كل حاجة عشانه.. مش أنتَ الراجل الي بيعت جوزي وقبلت يتقال عليَّ ست خاينة عشانه.
خطوة واحدة كانت ما اقتربها منها حتى أصبحت بين قبضتيهِ وهو يمسك ذراعيها بقسوة مرددًا من بين أسنانه والشر يسكن عينيهِ:
_ أنتِ كنتِ حقي أنا من الاول، لولا إن ابويا رفضك ووقف قدامي مكنتيش اتجوزتِ حد غيري، جوزك مين الي بتفتكريه دلوقتي؟
هتفت بصلابة رغم ما بها من ألم أثر قبضته عليها:
_ جوزي الي كان بيشتغل وبيكسب بالحلال، جوزي الي كان مقدرني ومحترمني، بس أنا الي عملت كده في نفسي، انا الي كنت على ذمته وقبلت اتواصل معاك تاني لما عرفت توصلي وجريت زي الهبلة اطلب الطلاق منه عشان اتجوزك.. واهو ربنا بيخلص ذنبه.
ومع آخر كلمة نطقت بها تبعها تأوة عنيف خرج منها جراء صفعته القاسية على وجنتها وهو يهدر بها بعنف:
_ ايه البجاحة دي! واقفه تذكري محاسن البيه قدامي وناسية إنك قدام جوزك! لا وكمان ندمانة إنك سبتيه! أنتِ شكل خبر شغلي أثر على مخك ومبقتيش عارفة بتقولي ايه.
طالعته بحسرة وقالت بمرارة بينما أنزلت كفها من فوق وجنتيها المحمرة:
_ مش بقولك ذنب وبخلصه..
ابتلعت ريقها بصعوبة وهي تلتقط أنفاسها الهادرة:
_ أنا مش هكمل معاك، من دلوقتي حياتنا مع بعض انتهت، مش هقبل يتصرف عليَّ أنا وابني من حرام، ولا هقبل أعيش مع شخص زيك كفاية الي عدى.
_ هعمل نفسي مسمعتش حاجة عشان مزعلكيش.
هكذا أردف قبل أن يلتقط ثيابه ثانيةً متجهًا صوب الحمام، لكنها أوقفته حين أمسكت ذراعه وهي تصر على موقفها:
_ لا سمعت، وهتنفذ.. انا هاخد ابني وامشي.
انهت حديثها متجهة صوب الخزانة الخاصة بها تخرج ثوبًا ملائمًا للخروج، لكنها لا تعلم متى وكيف وجدت ذاتها ملقية أرضًا وقد اصطدم جانبها بحافة السرير لتطلق تأوهُا خافت وهي تمسك بجانبها، وما كادت ترفع رأسها حتى شهقت بفزع حين انحنى عليها ووجهه أصبح مواجهًا لوجهها تمامًا، نظرته وقسوة ملامحه، تقسم أنها رأت لمحة من الشيطان الآن، وصوت الذي استرسل يقول:
_ خروجك من هنا يبقى بتكتبي لنفسك الموت، وابنك هيبقى تحت تصرفي أنا وبس، ووقتها صدقيني لو شايفاني وحش قيراط، فاوعدك إن ابنك هيبقى العن مني.
تهاوت دموعها بعد أن أصبحت عيناها حمراء كالدماء، وهزت رأسها نافية بعنف:
_ لأ، ابني لأ يا حسن ملكش دعوه بيه.
التوى فمه بابتسامة قاسية وهو يقول بلامبالاة:
_ خلاص يبقى تعقلي وتقعدي تراعي ابنك، ووقتها هتطمني إني ماجيش جنبه، لكن لو عندتي صدقيني عِندك هينتهي بموتك وإن ابنك هيكون تحت ايدي.
ولم يكن أمامها خيارًا آخر، تلك الليلة كانت بداية الجحيم بالنسبة لها، ولكن جحيم محيطه لا يتعدى أبواب الفيلا التي تقطنها، أبت أن تترك له طفلها ليشكله مثلما يريد، ولكن لم يعد شيئًا كما كان، هجرته تمامًا ولم تعد هناك علاقة خاصة بينهما، ورغم محاولته أكثر من مرة لكي تكف عن هذا لكنه لم ينجح أبدً في ارغامها.. إلا حين مارس هوايته المفضلة ألا وهي الإجبار والتهديد، وبالطبع كان المقصود “مراد” الذي تحملت الويلات لأجله، حتى أنها تحملت أن تعود زوجة له مرة أخرى بعد عامين من الهجر من أجله هو فقط.. حاولت لأكثر من مرة الهرب، وتحديدًا ثلاث مرات، وكان في كل مرة يُمسك بها، والعقاب لم يكن منصفًا أبدًا، فكان عقابها يكمن في عقاب طفلها “مراد”.. مرة بحبسه بغرفة مظلمة، ومرة بضربه، والمرة الأخيرة كانت بجعلة يظل مستقيظًا يومان متتاليان وإن حاول النوم سيسقط في بركة من المياة الساخنة حد الغليان والتي أعدها “حسن” خصيصًا من أجل عقابه، وحينها كفت هي عن المحاولة، فكل مرة تجني الفشل الذي يعود بالخسارة على صغيرها الذي أصبح يعانى الويلات على يد والده، أُجبرت أن تظل معه، وتبقى زوجته وبنفس ذات المنزل فقط من أجل فلذة كبدها “مراد”..
__________________
منتصف يونيو لعام ٢٠٠٦..
” مبقاش غير بنت الخدامة وتلعب معاها”
جملة رغم اسمتاعها لها بوضوح وشعورها بالحزن جرائها، لكنها كانت تشعر بالحزن أكثر عليهِ هو، وتخشى أن تكن سببًا أن يعاقبه أبيهِ عقابًا قاسيًا ذات مرة كما هدده إن لم يبتعد عنها، ولهذا تسللت بخفة على أطراف أصابعها الصغيرة لتصل لغرفته قبل أن يراها أحد من ساكني المنزل، فتحت الباب بحرص كي لا تصدر صوتًا، ودلفت وهي تتلفت حولها تتأكد أن لا أحد يتبعها، رأته يجلس فوق الفراش محتضنًا ساقيهِ لجسده ومستندًا عليهما بذقنه وعيناه شارده أمامه بحزن طفل برئ، لم يشعر بدلوفها لهذا لم يتحرك، فاقتربت منهُ وهي تقول بصوتٍ منخفضٍ:
_مراد أنتَ كويس؟
رفع رأسه فورًا وأشاح نظره لها حين استمع لصوتها، لينهض واقفًا أمامها وتبدلت ملامحه كليًا عما كانت منذُ قليل وهو يسألها مبتسمًا:
_ أنتِ أول مره تيجي أوضتي!
رفرفت بأهدابها الصغيرة وهي ترد ببراءة:
_ ماما قالتلي عيب اطلع اوضة ولد.. بس أنا خوفت تكون زعلان عشان باباك زعقلك وقولت لازم اشوفك.
تنهد بحزن وهو يردف:
_ عادي، مش أول مرة.
_ انا مش عوزاه يزعقلك بسببي، هو قالك أنه مش عاوزك تلعب معايا، خلاص اعمل كده.
أنهت جملتها بدموع ترقرقت في عيناها الصغيرة التي تحمل كمًا هائلاً من البراءة، نظرة حزينة، منكسرة، امتزجت مع دموعها ليرق لها أي قلبٍ حتى لو كان غليظًا.
قطب حاجبيهِ ضيقًا من حالتها ومعرفته لاستماعها لحديث والده المهين عنها، أمسك كفها بكفه الصغير وهو يقول بلطف:
_ بس أنا مش هقدر ابعد عنك، هو عاوزني مكلمكيش حتى، وأنتِ صاحبتي الوحيدة.
تهاوت دموعها وقد بدأت في البكاء بينما قالت بتذكير:
_ بس هو قالك لو عرف إنك بتكلمني هيعاقبك، وأنا مش عوزاك تتأذي بسببي.
رفع أنفه بكبرياء وهو يعقب بضيق جلي:
_ أنا مش صغير عشان يعاقبني، أنا عندي ١١ سنة، هو مش هيقدر يجبرني ابعد عنك، والي عاوز يعمله يعمله.
نظرت له بقلق فهي تعلم جيدًا أنه يخشى والده حتى وإن أراد إثبات العكس لها، لكن ارتجافته أمامه، وخوفه من صوته العالي، واهتزاز مقلتيهِ حين يكذب في حضوره، يعلمها جيدًا أنه يخشاه.. هو فقط يحاول أن يظهر أمامها بصورة الشاب الذي كبرَ فلم يعد يهاب أحد.
تنهدت بيأس فإن أدخل هذا برأسه إذًا لن يتراجع، فحاولت الوصول لحل وسط وقالت مقترحة:
_ طب اي رأيك نتكلم ونلعب وهو مش هنا، ولما ييجي منتكلمش خالص قدامه.
ضيق عيناه بغضب طفولي وهو يردد معاندًا:
_ قولتلك مش خايف منه.
وبأسلوب أكبر من عمرها كانت تستهويه وهي تقول بتبرير كاذب:
_ انا عارفه، بس ممكن يضايق ماما، او حتى يمشينا من هنا، مش بقول عشانك.
من الأساس هو يرتعب من أن يعلم أنه مازال يتواصل معها، لكنه كان يحاول أن يحافظ على ماء وجهه بعد أن علم أنها رأت توبيخ والده له، فيكفي الكم الهائل من المرات التي شهدت فيهم انهياره وبكاءه بسبب والده أيضًا، ودومًا كانت خير مواسية، وخير يد حنونه تترك لمستها بقلبه بمثل هذه الأوقات.
تنهد هادئًا وقال:
_ خلاص ماشي.. بس متخافيش حتى لو عرف مش هسمحله يأذيكِ.
انهى حديثه وهو يمد كفيهِ ليزيل دموعها برفق وحنو بالغين، في حين ابتسمت هي له ببراءة وامتنان لدفاعه عنها رغم ضعفه وقلة حيلته.
وفجأة احتل الحزن وجهها رغم محاولاتها لتبدو طبيعية أمامه، لكنه كان يعرفها أكثر من ذاتها فلم يكن عسيرًا عليهِ أن يلاحظ حزنها، فأردف متسائلاً بصوته الدافئ وهو يمد كفه ليحتضن كفها الصغير:
_ أنتِ زعلانة ليه؟ في حاجة تانية حصلت؟
وفي هذه اللحظة تحديدًا انسحبت من كانت تراقبهما من على باب الغرفة عبر فتحته الصغيرة، انسحبت بعد ان اطمئنت أن ولدها وجد من يربط على قلبه ويهون عليهِ قسوة والده، ولكن هي لن تجد من يفعل هذا.. لقد بلغ اليأس منها مبلغه ولا تجد للفرار سبيلاً، وأكثر ما تكرهه في حياتها البائسه هذه هو جسدها حين يلمسه غير مهتمًا بعدم رضاها، تتمنى بعدها لو تبدل جلدها بجلدٍ آخر، تكره أنفاسه، ولمساته، تكره كل شيء يتعلق بهِ.. وأحيانًا تتعجب كيف للإنسان أن ينتقل من منتهى الحب لمنتهى الكره هكذا! والسؤال لم يعد مهمًا بقدر أنها فعلت، تشعر أن كل يوم يمر يضيق الخناق حول رقبتها ولولا “مراد” لتخلت عن الدنيا بكل مُرها..
علمت أنه كشف حزنها فلا داعي للمراوغة، فأجابته بحزن طفولي:
_ ماما مش موافقة تجبلي فستان جديد عشان عيد ميلادي، بابا وافق بس هي الي رفضت.
قطب حاجبيهِ بضيق من أفعال والدتها التي لا يفهم بعضها أحيانًا، ولكنه لم يرضيه أبدًا أن يراها حزينة هكذا وأن تتمنى شيئًا ولا تناله:
_ عاوزه فستان بينك، وجزمة بيضا، وتوكة فيها ورد بينك..
اتسعت عيناها بذهول طفولي أثار ضحكته وهي تسأله:
– أنتَ عرفت ازاي؟ أنا مقولتش قبل كده.
وبذكاء كان يجيبها:
_ مقولتيش اه، بس متعلقة اوي بآخر عروسة أنا جبتهالك، وكتير قولتِ إن عاجبك الفستان البينك بتاعها والجزمة البيضا، يبقى أنتِ حابه تلبسي زيها.
اومأت برأسها عدة مرات بحماس، سرعًا ما اندثر وهي تتذكر قرار والدتها فقالت بشفاة مزمومة بحزن:
_ بس خلاص بقى ماما قالت إن مش هيجيلي فستان عشان كمان شوية المدرسة هتبدأ وهيجبولي لبس المدرسة.
ابتسم لها بحنانه المعهود واستطاع كالعادة صرف انتباهها عن حزنها حين قال:
_ كبرتِ يا كتكوتي وهتروحي المدرسة؟
عقدت حاجبيها ضيقًا وهي تعقب:
_ مراد، قولتلك مبحبش كتكوتي دي… بعدين أنا خايفة اوي عشان معرفش حد في المدرسة وهبقى لوحدي.
أردفت جملتها الأخيرة بخوف لمع بمقلتيها، ليمسد على كفها الذي مازال أسيرًا لكفه وقال بهدوء:
_ بصي انا كمان لما روحت المدرسة أول مرة كنت خايف، بس بعد كده هتتعودي، المهم انك متخافيش، وكمان مش اي بنت تتكلمي معاها، البنت الي تحسي انها طيبة هي بس الي تكلميها وتبقوا صحاب، وكمان زي ما قولتلك قبل كده ملكيش دعوه بالولاد خالص عشان عيب.
هزت رأسها بتفهم وهي تقر:
_ ماما كمان قالتلي مكلمش ولد عشان عيب.
اومئ برأسه تأكيدًا:
_ ايوه عيب خالص، وكمان انا اتفقت مع مامي أول يوم مش هروح مدرستي وهاجي معاكي.
شهقت بطفولية وهي تقول:
_بجد؟ طب.. المدرس مش هيزعقلك لو مروحتش مدرستك؟
نفى برأسه قبل أن يخبرها:
_مامي هتكلمهم تستأذن، اصلاً اقنعتها بعد كتير اوي مكانتش راضية، بس انا مش عاوز اسيبك اول يوم لوحدك عارف إنك هتكوني خايفة.
اومأت برأسها تأكيدًا، وأقرت:
_ ايوه، رغم إن سارة معايا، بس هي اصلاً بتتريق عليَّ لما بقولها إني خايفة وبتقعد تقول لماما إني بتدلع.
_ سيبك منها أنتِ عارفة إن سارة مبتحبكيش، كمان انا هقول لمامي ونروح نجيبلك فستان لعيد ميلادك.
أردف الأخيرة بحماس وهي ينظر لها بتمعن ليرى ردة فعلها والتي كانت صيحة فرحة وعناق مفاجئ منها لهُ وهي تردد بسعادة:
_بجد! ثانكس يا مراد، انا بحبك اوي، أنتَ افضل صديق بالعالم.
بادلها العناق وثغره يعرف الطريق للابتسام معها هي فقط كالعادة وقال:
_ انا مبعرفش اشوفك زعلانة، وأنتِ كمان افضل صديقة بالعالم.
ابتعدت عنه وابتسامتها تكاد تصل لأذنيهِ، ورددت بنفس السعادة:
_ هنزل أنا بقى قبل ما حد يشوفنا، وعشان ماما شوية وهتخلص شغلها وهترجع الأوضة.
اومئ برأسه موافقًا وهو يبادلها الابتسام:
_ تمام، good night .
ردت له التحية برقة تناسبها:
_ good night.
وانسحب من الغرفة كانسحاب النسيم البارد فجأة تاركًا خلفه السخونة تتسلل مرة أخرى للأجواء، ارتمى بظهره فوق الفراش ناظرًا لسقف الغرفة بشرود، وللعجب لم يقضي ليلته في تذكر قسوة والده والبكاء! بل قضاها يتذكر المشهد الذي دار بينه وبين صغيرته “خديجة “! ضحكتها، حزنها، حماسها، فرحتها، كل هذا صرفه تمامًا عن التفكير في افعال أبيه أو الحزن حتى وهذا ليس بجديد، فهذا ما يحدث كل مرة تكن فيها خديجة هُنا.. في كل مرة اختتم يومه بها، يكن هادئـًا، صافي الذهن، رائق البال.. ولولاها لكان النقيض تمامًا..
————–
“لم يقتل الحزن أحد” هذه أكثر مقولة خطأ على الإطلاق، من قال أن الحزن لم يقتل أحد؟ فالحزن مدمر، يمكنه أن يقتل وبجدارة، كثيرون لقوا حتفهم أثر أزمة قلبية حادة، أو ارتفاع مفاجئ في ضغط الدم، أو هبوط مفاجئ في الدورة الدموية، أو ذبحة صدرية،أو جلطة دموية أو….، وكل هذا إن بحثت خلفه، فستجد أن تسعين بالمئة من تلك الحالات كان جراء حزن شديد أصابهم، إذًا كيف لم يقتل الحزن أحد؟!
تسللت من جواره بعد أن شعرت بهِ قد خلد لنوم تدعو الله ألا يستفيق منهُ، لفت جسدها بروب قميصها حتى دلفت للحمام، وقامت بغسل جسدها جيدًا، جيدًا للحد الذي يترك أثرًا خلفه من كثرة خدشها له، لكنها لا تهتم، فقط يكفيها الشعور بأن لمساته لها قد أُزيلت، خرجت من الحمام بوهن بدى عليها، ودموعها لم تتوقف، ثلاث سنوات للآن ودموعها لم تتوقف يوم واحد، منذُ تلك الليلة التي كانت بمثابة فتح لأبواب الجحيم لها وهي لم تذق للراحة طعمًا.
جلست فوق الأريكة الموجودة في الغرفة، مطأطأة الرأس ومستندة على ذراع الأريكة بجسدها وصدرها بوهن تام، ودموعها تلازمها، حتى غمغمت بقهر تخاطب ربها:
_ يارب، يارب أنا تعبت، مبقتش قادرة اعيش كل ده، يارب مبقتش قادر اتقبله وأنا عارفه إنه مش مؤمن ولا مسلم حتى، أنا عارفة إنه مش مهتم بالدين أصلاً، يعني عايشه مع واحد كافر ومضطره اكمل وكمان اسمحله يلمسني عشان ابني.. يارب ترحمني وتبعتلي النجدة من عندك، حاسة إن قلبي بيتخنق، وده وجع مش قادرة اتحمله.. يارب الرحمة من عندك، ترحمني بالطريقة الي تشوف فيها رحمة ليَّ، ارحم عبدتك الضعيفة يارب، ضاقت بيَّ السُبل ومبقاش عندي غير رحمتك يا رحمان.
جهشت في بكاءٍ مريرٍ بآخر مناجتها لربها، ولكنها حرصت على ألا يصله صوتها، انتفض جسدها عدة انتفاضات أثر شهقاتها، حتى.. حتى شعرت فجأة بأن قلبها يختنق أكثر كما وصفت منذ قليل، شعرت بأنفاسها تحبس في صدرها وتأبى الخروج ولا تعلم متى وجدت ذاتها أرضًا بعد أن سقطت من فوق الأريكة محدثه ضجة بسقوطها أثر تلك التحفة الفنية التي كانت تُوضع فوق الطاولة الصغيرة التي صدمتها بسقوطها.. وآخر شيء استمعت له للأسف صوته الكريه وهو ينادي باسمها… تُرى هل أتت رحمة ربها بهذه السرعة؟!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى