روايات

رواية غوثهم الفصل الحادي عشر 11 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الحادي عشر 11 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الجزء الحادي عشر

رواية غوثهم البارت الحادي عشر

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الحادية عشر

أين هو عُمري قبل تلك الليلة ؟ أين أيام حياتي وأين أحلامي ؟ أين ما حفظته في قلبي وبنيت به أيامي؟ كل ما مر عليَّ ورقة فارغة بدون هويةٍ معلومة، بقيت لي فقط حياة شاغرة و عزيمة مكلومة، فقدت أسمىٰ ما فيا من معاني و وباتت أحلامي مهدومة، لأتفاجأ في نهاية الأمر بي وأنا الصادق الذي كذبته الحياة، أنا الحُر الذي كبلته دنياه، أنا الطير الذي غادره جناحاه.
بدا وكأن الصفعات تتوالى على وجهه، حياته الماضية بأكملها كذبة !! لم يرأفوا بحاله وطفولته ؟؟ حُكِمَ عليه باليُتم والقهر وكأنه يحلم بالمرسىٰ وهو الغريق في وسط البحر، وكأن الدنيا تخبره أن ما يطلبه أكثر بكثير مما يستحقه هو، نزلت دموعه على وجنتيه وهو ينظر في اللاشيء أمامه حتى اخترق صوت صرخات عمته لأذنه وهي تنادي على أُمها، حينها حرك رأسه جهتها وتكرر أمامه موت والديه وصرخاته وكأنه وقع أسير الماضي، لم يكن في تلك اللحظة “يوسف” الرجل الذي أشتد عوده وتصلب جسده، إنما هو طفلٌ صغير العمر، خرج من الغرفة كما الإنسان الآلي وصوت صرخات عمته خلفه يخالطه البكاء وهي تكرر:
_مــامــا….لأ.
دلف غرفته ودموعه كما هي تسيل بدون هوادة وكأنها انتظرت الانفجار لتخرج كما البركان، لم يكن البكاء لأجلها فهي لا تعنيه من الأساس، لكن البكاء لأجله هو، لأجل حياته ولأجل حزنه الذي عاشه وسطهم، خشى أن يتصرف بدون تعقل لذا دلف غرفته وأغلق بابها على نفسه يحاول فهم إن كان في يقظةٍ أم أن ما أخبرته به ماهو إلا كابوسًا وسيفيق منه.
ارتمى خلف الباب ينفجر في البكاء كما الطفل الصغير وصوت بكائه يتردد في أذنه حينما فاق على خبر وفاة أسرته بالكامل ليبقى معهم يعاني الويلات، ازداد صوت نحيبه بقدر كتمانه لعمرٍ بأكمله مضىٰ عليه صامتًا، وحينما أدرك وضعه انتفض واقفًا يخرج غضبه كما الوحش المسجون على الغرفة بأثاثها، وركل كل ما قابله بل كسره بالكامل، لم يرتاح بل ازداد الأمر سوءًا حينما قابلته صورته مع أسرته، حينها ركض نحوها يجلس على ركبتيه يتلمسها بأطراف أصابعه ونطق بصوتٍ مختنقٍ ودموعه تنهمر على وجهه وهو يمرر أنامله على زجاج الصورة:
_ليه؟؟ مخدتنيش معاكي ليه؟؟ صممتي ليه أفضل معاهم؟ لـــيـــه ؟؟ هـــا !! سيبتيني معاهم ليه؟! طلعوا مبيحبونيش، والله طلعوا مبيحبونيش، حتى هي طلعت زيهم وألعن منهم، داسوا عليا كلهم….والله داسوا عليا…
احتضن الصورة وهو يبكي جالسًا على ركبتيه وكأنه خيلٌ ضُرب في مقتلٍ ليذهب شموخه سدىٰ وتُنكس رأسه بعدما اعتاد على الاعتزاز بالنفس، فهل سيقف من جديد كما الخيل الأصيل أم أنه هجين وأصله مختلط بأخرٍ ليس له أساس.
_______________________
“في حارة العطار”
ركض “بيشوي” وخلفه “أيهم” بعدما أخبرهم الصبي بمشاجرة “مهرائيل” مع “أماني” فوصل الأول عند أكثر المشاهد المستفزة لرجولته وهو يرى “شكرى” يحاول الاقتراب منها ليصفعها و “أماني” تحاول الانقضاض عليها لكن نساء الحارة وقفن كما الرادع لها وقبل أن تطل يد “شكري” لها رفع “بيشوي” صوته بنبرةٍ جامدة:
_إيــدك عندك يا روح أمك !! هتخيب ولا إيه ؟؟
بمجرد وصول صوته حل الصمت محل همهماتهم، بينما “مهرائيل” حينما وجدته أمامها بدت وكأنها وجدت الملاذ الآمن لها فركضت نحوه بلهفةٍ وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_”بيشوي” الحقني علشان خاطري.
نظر لها بدهشةٍ من خوفها، فيما اقترب “أيهم” بنبرةٍ جامدة:
_مين اللي جه جنبك ؟؟ وبتعيطي ليه؟؟
تدخل أحد رجال الحارة ينطق بنبرةٍ هادئة في محاولةٍ منه للملمة شتات الأمور التي تفاقمت عن حدها:
_مفيش حاجة يابني خلاص حصل خير، الحمد لله سوء تفاهم وعدىٰ على خير.
تحدث “بيشوي” بنبرةٍ جامدة بعدما حرك رأسه له:
_أنتَ بتقول إيه ياعم “هاني” ؟؟ واحد عاوز يمد أيده على واحدة عيني عينك وتقولي سوء تفاهم ؟؟ اصرفها منين دي؟؟.
رد عليه “شكري” بتبجحٍ وكأنه صاحب الحق:
_وهي المحروسة تضرب أختي دا حلو ليها يعني ؟؟ ملهاش دكر يحميها ؟؟ اللي ييجي جنب أختي أنا أقطع وش أمه.
اقترب “أيهم” يسحبه من تلابيبه وهو ينطق من بين أسنانه:
_تقطع وش مين بروح أمك ؟؟ لو سيرتها جت على لسانك أنا هقطعه، مش كان ربنا تاب علينا من النسب العِرة دا ؟؟ مالكم بينا بقى ؟؟
تحدث “شكري” بتهكمٍ:
_ابنك يا حبيبي هو اللي جه يتمسح فينا، احنا احترمنا الكلمة اللي بيننا وخرجنا إيدينا منه خالص، هو اللي جه لحد هنا وأنا علشان راجل قد كلمتي خليته يمشي، عيط بقى وعمل حوار، مش بتاعتي دي يابا.
ارتخت قبضة “أيهم” والتفت لابنه الذي وقف يبكي بصمتٍ وكأنه شعر بالذنب بسبب فعله دون أن يفهم مجرى الأمور، فيما قالت “مهرائيل” مسرعة بعينين باكيتين:
_أنا الغلطانة مش هو، أنا اللي اندفعت وضربتها.
انتبه لها كلاهما، فتحدثت هي بصوتٍ باكٍ بدا عليه الارتباك:
_هو جه يسلم عليها بس هي والحيوان دا مرضيوش و….
قطع “شكري” حديثها حينما أصدر صوتًا من حنجرته يدل على استياءه وهو يقول بطريقةٍ سوقية:
_شوف برضك بتغلط إزاي ؟؟ طب واللي خلق الخلق أنا اللي مسكتني عليكي إنك بت.
اقترب منه “بيشوي” بُغتةً وهو يهدر في وجهه:
_ بت تلعب في مصارينك…طب فكر تقرب علشان أخليك مرحوم الليلة دي، شكلك متعرفش إنها تبعي، ولو عاوز تعرف أنا جاهز بس مترجعش تزعل.
تدخل الرجال يفصلون بينهما حتى تحدث “أيهم” بغلظةٍ:
_كملي يا “مهرائيل” ؟؟ حصل إيه تاني؟؟
مسحت وجهها ثم نطقت بنبرةٍ مُحشرجة:
_جيت اكلمها لما هو عيط لقيتها بتقولي انها ماضية على ورقة وأنها مش هينفع تقرب منه، محسيتش بنفسي غير وأنا بضربها، بس هي عصبتني و “إياد” كان صعبان عليا أوي.
أغمض جفونه وشدد قبضتي كفيه ثم اقترب من “أماني” يقول بتحسرٍ وهو ينظر لها بحزنٍ وانكسارٍ أظهرته مقلتاه بدون قصدٍ منه:
_لو كنتي حضنتيه عمري ما كنت هقولك عملتي كدا ليه، ولو كنتي فكرتي مرة واحدة تيجي تسألي عنه عمري ما كنت هردك من غير ما تشوفيه، بس كدا أنتِ جيبتي نهايتها، علشان لو شوفتك في مكان تاني أنا هموتك في أيدي، عارفة ليه ؟؟ علشان الغريب أحن عليه وعلى قلبه منك.
التفت يحمل صغيره ثم عاد يقف أمامها من جديد وهو يقول برأسٍ مرفوعٍ بشموخٍ وثقةٍ زائدة عن الحدِ:
_الفرصة الزبالة اللي جمعتنا سوا أنا عمري ما هندم عليها علشان “إياد” عندي بالدنيا، يلا يا “بيشوي” متوسخش إيدك بالعالم العرر دي، خلينا احنا أصلنا نضيف.
ابتسم “بيشوي” بتهكمٍ ثم نطق يقلل منهما بقوله:
_وعلى رأيك يا “أيهم” قليل الأصل لا يتعاتب ولا يتلام وفي أول بيعة تقابلك قوله سلام….
بتر حديثه ثم اقترب يربت على كتف “شكري” وهو يقول برسالةٍ مُبطنة حملها حديثه وأظهرتها طريقته:
_ســلام….يا “شُـكري”
تحرك “بيشوي” نحو “مهرائيل” يشير لها ناطقًا بجمودٍ:
_قدامي….يلا.
تحركت بعدما انتظمت أنفاسها وهدأت ثورة بكائها، بينما هو أخذ “أبانوب” ابن شقيقته ثم تحرك خلفها محاولًا تهدئة نفسه قبل أن يثور ويعود لذلك الوغد الذي تطاول عليها.
وصل “أيهم” بيته فدلف للمندرة أولًا وخلفه البقية فركضت لهم “آيات” تسأل بتعجبٍ من هيئتهم المريبة تلك:
_مالكم ؟؟ شكلكم عامل كدا ليه ؟؟ هي “مهرائيل” معيطة؟
حركت رأسها موافقةً فنزلت دموعها من جديد وفي تلك اللحظة دلف “عبدالقادر” بلهفةٍ بعدما وصله الخبر وانتشر في الحارة بأكملها كما انتشار النار في الهشيم ونطق بعدما وزع نظراته على البقية:
_إيه اللي حصل دا والناس بتقوله برة؟؟ فهموني.
وجهوا أنظارهم نحوه بصمتٍ فلحقه “أيوب” نحو الداخل وهو يسأل بقلقٍ:
_حصل إيه ؟؟ ومين اتخانق مع مين؟؟
تنهدت “مهرائيل” ثم نطقت بنبرةٍ مهتزة باكية:
_أنا السبب والله، أنا اللي اندفعت من غير تفكير ومديت أيدي عليها، بس أنا مفكرتش ثانية واحدة.
سألها “عبدالقادر” بثباتٍ:
_إيه اللي حصل ؟؟ احكيلي كله مرة واحدة.
قامت بسرد الموقف بأكمله لتنزل دموع “إياد” من جديد مُـرثيًا حاله على أمه التي نُزعت الرحمة من قلبها، فيما وقف “أيوب” مصدومًا بعينين مُتسعتين، حتى أضافت هي من جديد:
_أنا آسفة لو عملت مشكلة بس أنا عملت كدا علشانه.
رد عليها “بيشوي” بعدما فلت منه ذمام التحكم في صبره:
_نفسي مرة تبطلي تهور زي العيال الصغيرة، بتتصرفي من غير تفكير في الخطورة اللي حطيتي نفسك فيها، وأخرتها عمالة تعيطي وتتأسفي، طب كان ليه من الأول.
سألته بنبرةٍ باكية بعدما أحزنها حديثه:
_بتعاتبني ليه؟؟ أنا قولت إن دا كان غصب عني.
اقترب منها يقف مقابلًا لها وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_علشانك أنتِ، واحد صايع زي دا كان عاوز يمد أيده عليكي، تفتكري أنا كنت هسكت لو دا حصل؟ أكيد كنت هموته فيها، ودي أصولها، اللي يرفع أيده على ست تتقطع، واحدة زي دي واقفة عاوزة تمسكك من شعرك ؟؟ وأنتِ انضف من أصلهم كله، أنا ضيقتي علشانك مش منك.
على الرغم من جمود طريقته وقسوته في الأسلوب إلا أن مُجمل حديثه طمئنها وجعل ترتاح من تأنيب الضمير، فيما اقترب “أيوب” من الصغير يجلس أمامه على ركبتيه ثم نطق بنبرةٍ هادئة:
_طبعًا إحنا رجالة والعبط دا مياكلش معانا صح ؟؟ بابا عندك هنا أهو وأنا معاك وكلنا هنا رهن إشارة واحدة منك تطلب حاجة فيها ننفذهالك، أوعى تزعل نفسك، قولنا لما تحصل حاجة تزعلنا بنعمل إيه ؟؟.
مسح الصغير دموعه بظهر كفه ثم نبس بنبرةٍ مختنقة:
_نقول الحمد لله علشان ربنا يكرمنا بالأحسن.
ابتسم له “أيوب” ثم قربه منه يُلثم جبينه ثم نطق يفتخر به:
_صح، قولها من قلبك بقى علشان ربنا يكرمك بالأحسن ليك في كل حاجة وافتكر وعود ربنا ليك عارفهم ؟؟
أبتسم “إياد” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_يلا نقولهم سوا إحنا الاتنين.
ارتسمت البسمة على وجه “أيوب” وضع كفه على كتف الصغير يشدد من أزره ثم نطق كلاهما مع الأخر:
_أربعة وعود ربانية :
‏الوعد الأول “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ”.
‏الوعد الثاني “فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ”.
‏الوعد الثالث “لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ”.
‏الوعد الرابع “وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ”.
كُن مع الله يكون معك، أحفظ دينك يحرسك.
ارتمى “إياد” عليه يحتضنه ويشدد بذراعيه الصغيرين مسكته لعمه وهو يقول بنبرةٍ طفولية:
_أنا بحبك اوي يا “أيوب” كفاية إنك معايا.
ربت على خصلات رأسه وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما لثم جبينه:
_أنا اللي بحبك أوي وروحي فيك كمان، أنتَ أحلى هدية ربنا كرمنا بيها نورت علينا البيت دا.
ابتسم البقية من موقفه مع الصغير، فيما نطق “بيشوي” بنبرةٍ هادئة:
_عن إذنك يا حج، هروح أوصلها قبل ما أبوها يتكلم.
حرك “عبدالقادر” رأسه موافقًا وما إن وقفت أمامه “مهرائيل” قال بنبرةٍ أظهرت امتنانه لها:
_ألف شُكر يابنتي، تسلمي، كدا أنتِ تربية بيت العطار بصحيح.
سألته بلهفةٍ تمحي الظنون التي سكنت عقلها:
_يعني حضرتك مش زعلان مني ؟؟.
ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة يُطمئنها:
_لأ طبعًا، أنا مقدر موقفك وحبك لـ “إياد” اللي عملتيه دا كان بدافع الحُب، أنا اللي بقولك حقك عليا لو حد زعلك، أنتِ مقامك عندنا كبير ومن مقام بنتي.
اتسعت ابتسامتها أكثر وهي تقول بفرحةٍ أظهرت صوتها مختنقًا:
_شكرًا لحضرتك بجد، أنا كنت فاكرة إنك هتزعل.
التفت بوجهٍ مبتسمٍ يقول لـ “بيشوي”:
_روح وصلها زمان أبوها عرف وهيعمل مشكلة.
أومأ له موافقًا ثم أشار لها ومعه “أبانوب” و “كاتي” ورحل بذويه من بيت “عبدالقادر” فيما وقف “أيوب” وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما شبك كفه بكف الصغير “إياد”:
_أنا هاخده ونطلع نلعب دورين ملاكمة كدا وأعلمه شوية، إيه رأيك ؟؟
هتف الصغير بحماسٍ ومرحٍ وكأنه نسىٰ حزنه فور حديث عمه الحبيب الذي بخر ألامه:
_بجد ؟؟ هتعلمني ؟؟
حرك رأسه موافقًا ثم حمله و وضعه على كتفيه وهو يقول بزهوٍ:
_هعلمك وأربيك وأربي أبوك كمان.
أبتسم “أيهم” لهما فيما قال “عبدالقادر” مُغيرًا مجرى الحديث:
_المهم خلونا في الحاجة اللي تفرح وسيبوا الحزن دا على جنب، عاوز أعرف رأيكم في الموضوع دا علشان مهم.
انتبهوا له فيما توجه لابنته يسألها بنبرةٍ هادئة:
_فيه حاجة بخصوصك عاوز أعرف رأيك فيها.
انتبهت له وهي تقول بأدبٍ:
_أنا ؟؟ خير إن شاء الله يا بابا، اتفضل.
تابع حديثه بدون مقدمات للموضوع قائلًا:
_ “تَـيام” اتقدملك وعاوز يخطبك موافقة عليه ؟؟
اتسعت عيناها من هول الصدمة عليها لم تتوقع حدوث هذا ولو حتى بأحلامها، لاحظ “عبدالقادر” صمتها لذا هتف من جديد بنبرةٍ أقوىٰ:
_هـا !! قولتي إيه ؟؟.
تنهدت مُطولًا ثم اخفضت رأسها بخجلٍ لا تعرف سببه، فيما تشدق هو من جديد هاتفًا بثباتٍ:
_على العموم أخواتك معاكي أهم أنا عارف إنك بتثقي في رأيهم، اتكلموا سوا وقولولي القرار الأخير، عن اذنكم.
تحرك وترك لهم المكان لينظر كلٌ مِن “أيوب” و “أيهم” لها ثم نظرا لها وهي تفرك كفيها ببعضهما وتنكس رأسها للأسفل.
______________________
في منطقة الزمالك.
انقلبت أوضاع البيت وتم تجهيز الجثمان للدفن في حالةٍ غريبة وكأن البيت خاليًا من الأرواحِ، لاحظ “عاصم” اختفاء “يوسف” لذا اقترب من الممرضة يحدثها بتعالٍ:
_تعالي ورايا.
حركت رأسها موافقةً ثم سارت خلفه حتى وقف بها في حديقة البيت الصغيرة وسألها باهتمامٍ جليٍ اتضح على معالم وجهه:
_أمي قبل ما تموت، اتكلمت مع حد ؟؟ “يوسف” تحديدًا !!
ارتبكت وهي تقول بصوتٍ مهتزٍ:
_معـ….معرفش يا بيه، هي مكانتش قادرة تتكلم أصلًا، وملحقتش تقول حاجة، بس هي كانت عاوزة أستاذ “يوسف” وهو كان برة….ولما وصل وعرفته أنها فاقت كانت للأسف ماتت.
لاحظ هو اهتزاز وتيرة صوتها وارتباكها وحركة بؤبؤيها المهتزة وكأنها تهرب من نظراته لذا هتف بنبرةٍ جامدة:
_شوفي عاوزة كام وبزيادة كمان، بس افتكري إذا كانت كلمته ولا لأ، وايه اللي حصل خلاه يختفي كدا ؟؟
زاد خوفها وقالت بنبرةٍ متقطعة من فرط قلقها:
_مانا….مانا قولتلك يا “عاصم” بيه هي ملحقتش تكلمه أصلًا…. وباقي حسابي أنا خدته الصبح، وهمشي بعد العزا إن شاء الله، تؤمرني بأي حاجة ؟؟
أشار بعينيه نافيًا لتفهم هي مقصده وتحركت من أمامه بخنوعٍ وكأنها لاذت بالفرار من الموت المحتوم، فيما وقف هو يتابع أثرها بنظراتٍ غامضة جعلته يزفر بقوةٍ ثم دلف البيت من جديد.
دلفت الممرضة غرفتها فوجدت “فيصل” و زوجته بها، اقتربت منهما بلهفةٍ تنبس بخوفٍ:
_سألني يا عم “فيصل” وقولتله معرفش حاجة، خوفت لاحسن يصمم، بس كويس إنك حذرتني.
رد عليها مؤكدًا بقوله:
_الله يباركلك يا بنتي، الواد دا طلع عينه وسطهم هنا من صغره، وكويس إني سمعتهم بيتكلموا أنه مينفعش يتكلم معاها، يمكن تكون عملت حاجة كويسة علشانه قبل ما تموت، ربنا يكرمك إن شاء الله.
هتفت بلهفةٍ تُدلي أمامه بنيتها:
_والله ما عاوزة حاجة غير أني بس أبعد عن المشاكل وخلاص، هما عيلة يتصرفوا سوا لكن الغلابة اللي زيي بيروحوا في الرجلين.
حرك رأسه موافقًا وهو يوافقها الأمر فيما تحركت هي نحو الخارج وخلفها زوجته وعقبهم في الخروج هو الأخر ليقوم بتجهيز البيت لواجب العزاء.
وقف “سامي” أمام “عاصم” يسأله بخوفٍ:
_متأكد يا “عاصم” ؟؟ أمك لو كلمته قبلها هتبقى مصيبة وحلت على راسنا، مش بعيد ياكلنا بسنانه.
هتف “عاصم” باقتضابٍ:
_ما تبطل خوف بقى !! هتكلمه إزاي هي إذا كانت بتوه وبتنسى احنا مين ساعات، يبقى هتفتكر حاجة عدى عليها العمر دا ؟؟ بعدين هي مستحيل تعمل كدا لأنها عارفة إن دا هيفتح علينا باب احنا مش قده.
رد عليه الأخر بنفاذ صبرٍ ويأسٍ تمكن منه:
_مش يمكن مثلًا أمك قالت تعمل حاجة عدلة لأخرتها ؟؟ وساعتها تبقى لبستنا كلنا في الحيطة؟؟ لو دا حصل أنا ماليش دعوة بأي حاجة.
رمقه “عاصم” بسخطٍ ثم زفر بقوةٍ وتشدق بنذقٍ:
_بعدين…بعدين، خلينا بس نشوف العزا.
تحرك “عاصم” من أمامه فيما قال “سامي” بسخريةٍ:
_وهي أمك عمرها عملت حاجة كويسة علشان حد ييجي عزاها ؟؟ دي أمي كانت صاحبة واجب عنها.
أتاه من خلفه صوتٌ يقول:
_طول عمرها صاحبة واجب و مغرقة الكل بخيرها.
اتسعت عيناه بدهشةٍ والتفت فوجد “يوسف” يقف من جديد أمامه بشموخٍ لم يتوقعه فيما رفع “يوسف” حاجبه وهو يقول بسخريةٍ:
_كدبت أنا يعني ؟؟ مش أمك طول عمرها صاحبة واجب؟
سأله “سامي” باندفاعٍ لم يحسب له نتيجةً:
_أنتَ كويس ؟؟ أنا قولت حصلك حاجة!!
اقترب منه يرفع رأسه ثم نطق بزهوٍ:
_دا بعينك وعين تماسي أمك، أنا زي الفل بعدين واحدة ماتت الله يرحمها هزعل عليها ليه؟؟ دي حتى ملحقتش تقول كلمة سامحني.
ظهرت علامات الارتياح على وجه “سامي” وقد زالت بقايا ظنونه عن عقله خاصةً وهو يرىٰ “يوسف” أمامه بثباتٍ يرتدي حلةً سوداء اللون، فيما ابتسم الأخر وهو يقول بعدما لاحظ تفحصه له:
_دي علشان واجب العزا، هيبقى فيه بنات حلوة بصراحة أهو أي حاجة عدلة تيجي من المرحومة.
مزاحه وسخريته كلاهما يدل على عدم معرفته بأي شيءٍ يدينهما، لذا اقترب منه يقول بنبرةٍ آسية:
_البقاء لله يا “يوسف” المرحومة كانت والدتي بالظبط وليها فضل كبير عليا، ورغم طريقتها الصعبة بس قلبها كان طيب أوي.
رد “يوسف” مؤكدًا بطريقةٍ تهكمية:
_أنتَ هتقولي ؟؟ كانت متتخيرش عن المرحومة أمك.
تحرك “سامي” من أمامه بعدما رمقه بيأسٍ فيما تتبع “يوسف” أثره بنظراته ثم تنهد بعمقٍ وضغط على قبضته في محاولةٍ يائسة للتحكم في غضبه وانفعاله، فلولا علمه أن غيابه سيثير فضولهم لكان جلس في غرفته يعاني الويلات، لكنه كما عادته رجح الحل الأذكى في حل مشكلته حتى وإن كان على حساب قلبه المتألم.
__________________________
جلست “آيات” أمام أخويها بخجلٍ تشعر وكأن حرارة الغرفة أصبحت نيرانًا تحاوطها، فيما تصنع كلاهما الجمود والنظرات الغامضة لينطق “أيهم” بنبرةٍ جامدة:
_ما تخلصي يابت !! نقول للواد إيه ؟؟
زفرت بيأسٍ وضغطت على شفتها السفلى ثم نطقت بحيرةٍ ونفاذ صبرٍ:
_مش عارفة….مش عارفة والله، أنتم رأيكم إيه؟؟
رفع “أيهم” حاجبيه مستنكرًا فيما علق “أيوب” مُصححًا:
_لأ مش رأينا إحنا، رأيك أنتِ، دي حياتك وانتِ اللي هتعيشيها، اختيارنا إحنا ملكيش دعوة بيه.
زادت حيرتها أكثر فيما تحرك “أيهم” يجاورها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_بصي أنا مش هقولك الجواز زفت ولا أي كلام ناتج عن تجربتي، لأننا مش واحد وكل واحد فينا بظروف خاصة مش هقدر أحكم على حد ولا تجربة تانية، بس هقولك لو احساسك مريحك من الأول أمشي وراه، وصلي استخارة، متعمليش زيي، عيل صغير فرح أنه بقى فيه واحدة في حياته قالك اتجوزها وخلاص، بس قوليلي احساسك إيه؟؟
ابتسمت بخجلٍ و زاد تورد وجهها وهي تقول:
_ انتوا صحابي مش هكدب عليكم يعني….بس أنا حاسة أني مرتاحة، المرة اللي فاتت ساعة “أيمن” كنت خايفة بس المرة دي أنا حاسة أني مبسوطة.
سألها “أيهم” بخبثٍ:
_يعني عينك كانت على الواد يا سوسة؟؟
رفعت عينيها المُرتبكتين له فقرأ هو ارتباكها لذا كتم ضحكته فيما تدخل “أيوب” يقول بهدوءٍ كعادته:
_على فكرة عارف من بدري أنه عاوزها، بدليل أنه محضرش الخطوبة وقعد في المحل، وبدليل أنه فضل أسبوع زعلان مننا، بس هو غبي حط اعتبارات ملهاش أي لازمة و وقف قدام السعي بنتيجة مشروطة، نسي أن دا نصيب ومكتوب.
تنفست “آيات” بعمقٍ ثم نطقت بتقريرٍ:
_مش هاخد أي خطوة غير لما أستخير ربنا الأول، أنا لسه خارجة من تجربة فاشلة وأكيد مش عاوزاها تتكرر تاني، غير كدا هو لو مش ملتزم دينيًا والخطوبة تكون شرعية أنا مش هوافق كفاية تهاون زي اللي حصل مع “أيمن”.
تحدث “أيهم” بسخريةٍ يقول:
_تهاون ؟؟ كدا كنتي متهاونة معاه ؟؟ الواد كلمك مرة الساعة ١٢ بليل فضحتيه أنتِ وفضيلة الشيخ، منكم لله يا بُعدا، هتبوري بسببه.
نطق “أيوب” بنبرةٍ جامدة بدلًا عنها:
_أيوا هي معاها حق، مفيش رابط شرعي بينهم، هو المفروض يفرح بيها ويحترمها، وهي كويس إنها عارضته في حاجة زي دي، هو نيته كانت شر علشان كدا ربنا بعده عنها، إنما “تَـيام” محترم، رغم حبه ليها بس محاولش حتى يعمل حاجة غلط ولو بنظرة عين.
تدخل “إياد” يقول بنبرةٍ مُلحة:
_وافقي عليه يا “آيات” أنا بحبه أوي وكلنا بنحبه.
تحدث “أيهم” بنبرةٍ ضاحكة:
_وافقي علشان الغلبان دا، بيقولك بحبه، الواد حلو و مسمسم أوي وأنتِ مسمسمة يعني هتبقوا جوز عصافير، طب والله هتكونوا عاملين زي نجوم السما بالقمر.
عند ذكر “القمر” انتبه له “أيوب” وحضر أمامه قمره متجسدًا بهيئتها هي، فلاحت على شفتيه ابتسامةٌ حزينة حينما تذكر أمر خطبتها، فقرر الاختلاء بنفسه قائلًا بنبرةٍ خافتة:
_عن اذنكم هطلع اوضتي اريح شوية كدا وهنزل ليكم تاني، استناني يا “إياد” هرجعلك ونقعد سوا.
حرك رأسه موافقًا فيما لاحظت شقيقته تغيره فسألت الأخر بقولها:
_هو ماله ؟؟ فيه حاجة مزعلاه؟
حرك “أيهم” كتفيه بحيرةٍ ثم أخذ صغيره وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_تلاقيه تعبان ماهو حاطط نفسه في مليون حاجة، هبقى أشوفه بس هاخد “إياد” أغيرله هدومه علشان ينام شوية.
حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم لهما، فودعها الصغير ثم توجه مع والده للأعلى فيما تنهدت “آيات” مطولًا وهي تتذكر عرض والدها عليها لتتأكد أن ما ظنته هي وهمًا كان حقيقةً غير ملموسة لكنها موجودة بالفعل علم قلبها بوجودها.
_________________________
في شقة “فضل” بعد عودته وجلوسه بمفرده يفكر قليلًا طلب “قمر” له ومعها “أسماء” حتى دلفت كلتاهما له، فأجلسهما أمامه وهو يقول بنبرةٍ قصدها جامدةً:
_محدش فيكم ينكر إن اللي حصل دا كان غلط وغلط كبير كمان، غلطكم دا ورطكم في مصائب اكبر منكم، غير كدا كدبتوا عليا، مش مالي عينكم أنا؟؟ عويل مش هعرف احمي بيتي ؟؟ بتلجئوا للغريب في وجودي ؟؟ خالك مقصر معاكِ يا “قمر” ؟؟
حركت رأسها نفيًا ودموعها تنهمر على وجنتيها، فيما قالت “أسماء” بمعاندةٍ:
_لأ مغلطناش، أنا واحدة عرفت إن خطيب بنتي ابن ستين *** واطي ملهوش أصل، وبيرسم على “قمر” يبقى اتصرف ولا استنى المصيبة تقع؟؟ لو كنت قولتلك كنت هتعمل ايه ؟؟ مكانش معانا دليل وكان ممكن يكذبنا، وبنتك تشك فينا، ومتقوليش لأ، إحنا مش ملايكة يا “فضل” أحنا بشر بدليل إنك شكيت في “قمر” و “أيوب” لما الزفت دا جالك، بس أنتَ بقى سكت علشان صدقت ولا علشان كلام “أيوب” اقنعك ؟؟
أخفض رأسه للأسفل يهرب من الجواب _المعلوم أساسًا_ لكنه حاول التحدث بقوله:
_حطي نفسك مكاني، هو يعرف “أيوب” منين؟؟ يعرف محل المعز منين ؟؟ “قمر” كدبت ومقالتش ليا، ودا غلطها، وغلطي أنا أني موثقتش في تربيتي، بس الغلط الأكبر عليكِ يا “أسماء”.
رفعت “أسماء” حاجبها بشرٍ، فيما قال هو يغير مجرى الحديث الدائر بينهم:
_المهم “قمر” جالها عريس النهاردة وعريس أنا فرحان بيه أوي وكنت اتمناه ليها من زمان.
توترت “قمر” بسبب حديث خالها وقفزت لعقلها فورًا رؤيته تتعلق بأملٍ ربما يُحييها من جديد، فيما هتفت “أسماء” بحماسٍ وقد فكرت مثلها:
_مين يا “فضل” حد نعرفه؟؟
ابتسم لها وهو يقول:
_حد نعرفه كويس أوي أوي، وهو عارف “قمر” كويس أوي.
ابتسمت “قمر” وقد تزايد الأمل لها وبات تأكدها من هويته محتومًا، فتحدث هو يضرب بخيالها عرض الحائط ويُلكم وجهها بالحقيقة ناطقًا بفرحةٍ:
_العريس يبقى “محمد” ابن “ربيع” بتاع الفراخ اللي جنب ورشتي، فاتحني في الموضوع النهاردة وقالي عاوز “قمر”.
نظرت كلتاهما للاخرى وتلك المرة بدهشةٍ وملامح وجهٍ سكنها الوجوم، لينطق هو قائلًا بتفسيرٍ يحاول اقناعهما:
_الواد بصراحة طيب ومحترم وتحت طوع أبوه ويعتبر تربيتي، يعني ابن حلال وأكيد “قمر” عرفاه.
نظرت له بعينين باكيتين، فيما قالت “أسماء” بمعاندةٍ:
_بس أنا بقى مش موافقة.
تشدق “فضل” بنذقٍ مُعلقًا عليها:
_ليه إن شاء الله ؟؟ خير ياختي؟؟
ردت عليه بثباتٍ وإصرارٍ:
_أمه ولية رخمة وحشرية أوي، أنا مبحبهاش.
تحدث بتهكمٍ وهو يرمقها من أعلى لأسفل:
_هي برضه اللي حشرية ؟؟ حِكم والله.
زفرت بقوةٍ ثم نطقت من جديد بضجرٍ منه:
_دي واحدة مش عاوزة عروسة لابنها، دي عاوزة خدامة عندها، واحدة تصحى الصبح تفطر البيت كله وتطلع السطح تأكل طيور وتروق البيت كله، ما مرات ابنها الكبير طلعان عينها وغضبانة، قولت لأ ومش موافقة.
تحدث “فضل” بنبرةٍ جامدة وقد نفذ صبره من عنادها:
_بصفتك إيه بترفضي ؟؟ أنتِ يدوبك مرات خالها، الحكم ليها ولأمها وليا يا “أسماء”.
حديثه جعلها تنفجر في وجهه بقولها:
_غصب عنك وعن أمها بنتي يا “فضل”، أنا ربيتها من صغرها على أيدي، أمها أهيه برة متعرفش عنها اللي أنا أعرفه، غرقانة في زعلها على اللي حصل و”قمر” معايا أنا، حتى لو كنت مرات خالها، بس أنا صاحبتها، ومحدش ليه دعوة بعلاقتي بيها.
علم “فضل” أنه أخطأ في حديثه، لذا هتف بنبرةٍ هادئة:
_عارف إنك بتعتبريها زي “ضحى” بس برضه القرار مش لينا هي اللي تقرر وتقول عاوزاه ولا لأ، ها يا “قمر” ؟؟
ارتبكت بسبب سؤاله ثم نظرت لزوجة خالها تتلمس منها العون حتى فاجئتها الأخرى بقولها:
_مش هتوافق ومش موافقة، ريح نفسك علشان دا مش هيحصل، بقولك أمه ست صعب أوي، ارميلها البت؟؟.
تنهد بقلة حيلة ثم قال بأسفٍ:
_خلاص وعلى إيه، هقوله مش موافقة دلوقتي، بس هي تفكر وتحاول تحسبها صح، الواد طيب أوي، صحيح أنا مزعلها وهتاخد وقت تسامحني فيه، بس أنا طمعان في قلبها الكبير يسامحني.
ابتسمت له ثم مالت على كتفه تضع رأسها وهي تقول بشرودٍ باكيةً على أملها وحظها:
_مش زعلانة منك يا خالو، مقدرش ازعل منك.
ربت على ظهرها مبتسمًا ثم سأل زوجته بمشاكسىةٍ:
_وأنتِ يا ست “أسماء” ؟؟ زعلانة
_آه…ومش طايقاك
رد عليها بنبرةٍ ضاحكة:
_أحسن ياختي، أنا هاخدهم كلهم وأخرجهم، خليكي قاعدة هنا.
رمقته بغيظٍ وهي تقلد طريقته فاقترب منها يقبل رأسها حتى يكسب رضاها فابتسمت هي له رغمًا عنها.
__________________________
جلس “ايوب” في غرفته في ركن العبادة الذي صممه هو حيث سجادة الصلاة والإضاءة الخافتة و المصحف الشريف و بجواره كتب الدين الإسلامي، جلس يبتهل بصوته العذب الذي ملأ الغرفة يميت سكونها:
_ما في الوجود سواك رب يعبد كلا ولا مولى سواك فيقصد
يا من له عنت الوجوه بأسرها وله جميع الكائنات توحد
أنت المؤمن في الشدائد كلها يا سيدي ولك البقاء السرمد
يا منتهى سؤلي وغاية مطلبي من ذا الذي عن باب حبك يطرد
امنن على بتوبة يا من له قلب المحب مقدس وموحد.
تنهد بعمقٍ ولاح على ذاكرته ذكرى سيئة سظل ساكنة في عقله وأثره القاتل في روحه، تلك الفترة التي قُتل بها ألف مرة في اليوم الواحد.
(منذ عدة أعوامٍ)
جلس “أيوب” حبيسًا مكبل الأيادي في غرفةٍ مُظلمة مساحة الغرفة تتسع عن القبر بنسبة قليلة، الروائح الكريهة تملأ الغرفة و الظلام و الظلم كلاهما يحاوطه، وجهه ملئته الكدمات وكذلك جسده، عيناه مُغطاة بقماشة متسخة من المفترض أن يكون لونها أبيض، لكن أثر دماءه غطاها لتصبح طينية اللون.
في تلك الغرفة وُجِد صنبور مياه أسفله دلوٌ تقطر فيه المياه بقطراتٍ صغيرة لها أثرًا كبيرًا على أعصابه تجعله مُشتتًا دومًا وكأنه يلقى حتفه بذلك الصوت.
فتحت الغرفة ودلف أكثر الأشخاص الذي تسبب في إيذائه نفسيًا، شعر به يقترب منه و وجه كليهما ملاصقًا للأخر فنطق الضابط بتشفٍ:
_ها يا “أيوب” مش ناوي تحترم نفسك ؟؟
رفع “أيوب” رأسه بشموخٍ ناطقًا:
_مش هيحصل، أنا مبزلش نفسي غير للي خلقني، مفيش إنسان زيه زيي يستاهل أني اركلعه، ريح نفسك.
اقنرب منه الضابط يمسك خصلات شعره وهو ينطق من بين أسنانه قائلًا:
_أنتَ بروح أمك رافع راسك ليه ؟؟ اللي زيك ملهوش دية، هتفضل هنا لحد ما تموت وتعفن كمان ومحدش هيعرف عنك حاجة، بقالك هنا شهر ونص، ولسه بتكابر ؟؟
ابتسم “أيوب” بتهكمٍ ثم قال بثباتٍ:
_لو سيدنا محمد مكانش صبر على إيذاء الكُفار وسلم لأذاهم من غير ما يحاول مكانش زماننا دلوقتي مسلمين، أنا راجل مسلم قدوتي سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، أنتَ داخل جايبني من مسجد مش قابض عليا وأنا بقتل حد، أنا مش هما اللي بتدور عليهم، اللي عاوزهم دول الإسلام بريء منهم ليوم الدين، أي حد يستغل الإسلام وصورة المسلمين، الإسلام في براءة منه، ومع ذلك مش هترجاك برضه، أنا مسلم وعندي عبادة اسمها الدعاء، وربنا هيستجيب ليا إن شاء الله.
انتفخت أوداج الأخر بغضبٍ لذا اخفض رأس “أيوب” بيده يضعها على الأرض وكأنه يخبره أنه يقدر على اذلاله وإخضاعه مهما كانت قوته وإصراره، بينما الأخر كان قلبه يتضرع للمولىٰ طالبًا منه فك كربته واللُطف في قضاء أمره على الرغم من فرحته بابتلاء المولىٰ له، لكنه لازال بشريًا يحزن و ينكسر من أفعال الدنيا به.
خرج من شروده على تلك الدمعة الساخنة التي شعر بها على وجنته فتنهد بعمقٍ ثم مسح وجهه وقال بنبرةٍ خافتة:
_‏﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾
ردد تلك الآية لنفسه ليذكرها أن كل شيءٍ بإرادة خالقها وهو فقط عليه حسن الظن بالله و التوكل عليه.
_________________________
في اليوم التالي بعد دفن “حكمت” صباحًا والعودة إلى البيت حينها اختفى “يوسف” عن الأنظار لكن هذا لم يثير فضولهم سوى فقط “شهد” تلك التي كانت تحاول رؤيته وسط البقية حتى دلفت “رهف” البيت فركضت لها تسألها بلهفةٍ:
_”رهف” !! مشوفتيش “يوسف” ؟؟
سألته بجمودٍ تقصده معها:
_وأنتِ مالك بيه ؟؟ سيبيه في حاله لو سمحتي.
تحدثت “شهد” بتوترٍ:
_على فكرة أنا كنت عاوزة اتطمن عليه…علشان…علشان هو اختفى مرة واحدة كدا، أكيد مش عاوزة حاجة يعني.
هتفت “رهف” بنفس الجمود وهي ترمقها بغيظٍ:
_أحسن، علشان هو مش شايفك أصلًا.
تحركت من أمامها “شهد” بغيظٍ فيما نظرت “رهف” في أثرها بضيقٍ بسبب ما فعلته في قلب رفيقها، أحزنته بقدر ما أحبها وضحىٰ لأجلها، أخبرها ذات يومٍ أنه يرى نفسه فيها وكأن كل الطرق أصبحت تأخذه إليها وأول ما خانته كانت عينيها.
بعد مرور ساعة تقريبًا في سيارة “نعيم” كان “إسماعيل” يقودها ويجواره “إيهاب” و في الخلف يجلس “نعيم” و معه “محي”، يذهبون بحجة تقديم واجب العزاء بعدما علم “إسماعيل” من مواقع التواصل الاجتماعي وخاصةً “شهد” تلك التي لازال يتابعها منذ أن تعرف عليها مع “يوسف”.
تحدث “إسماعيل” مستفسرًا بقوله:
_يا حج، هنروح نعمل إيه؟؟ أكيد هي مش فارقة مع “يوسف” مش كنا استنينا أحسن ؟؟
تحدث “نَـعيم” بنبرةٍ جامدة يقول:
_رايح علشانه هو، الاستاذ مش بيرد عليا من يومين، قلبي واكلني عليه حاسس أنه مش مرتاح، هو بس يعبرني، خايف يكون حصله حاجة، دي عيلة جرابيع كان انضفهم “مصطفى” الله يرحمه.
تدخل “إيهاب” يقول بنبرةٍ خشنة:
_ورب الخلق كلهم، لو لقيت فيه خدش صغير لأكون هادد البيت على دماغ كبيرهم قبل صغيرهم، أنا مش هسكتلهم يا حج، بس نطمن عليه ونبقى نشوف الحوار دا بعدين.
حرك “نَـعيم” رأسه موافقًا ثم نظر أمامه يقول بنبرةٍ خافتة:
_ربنا ميوجعش قلبي عليك يابني، ألطف بيه يا رب.
دلف “نَـعيم” أولًا وخلفه الشباب الثلاثة إلى وسط البيت فوجدوا “عاصم” و “سامي” و “نادر” ينتظرون قدوم الرجال لتقديم العزاء، عرفهم بنفسه فظهر الضجر على ملامحهم فيما نطق “عاصم” بتقديرٍ:
_نورت يا حج، اتفضل ارتاح من المشوار.
جلس وبجواره الشباب، فيما دار “إيهاب” في المكان بعينيه ثم نطق مستفسرًا بقوله:
_لامؤاخذة يعني “يوسف” فين ؟؟ احنا جايين هنا علشانه هو، أصل إحنا منعرفكمش علشان نيجي نعمل معاكم الواجب.
تدخل “نادر” ينطق بجمودٍ:
_مش هنا والله، أكيد اختفى زي ماهو متعود، لو زعلان اوي كدا اتفضل واجبك وصل وزيادة.
انتفض “إيهاب” بعدما استشف الإهانة في حديث الأخر:
_أنتَ قد كلامك دا ياض ؟؟ تحب أعرفك مقامك هنا ؟؟
وقف “سامي” يقول بتعالٍ:
_إيه شغل الهمج دا ؟؟ هما دول الناس اللي كان قاعد وسطهم ؟؟ طبيعي تكون دي أخلاقه.
تحدث “إيهاب” يهدده بقوله:
_تحب أوريك التربية و الأخلاق بحق ؟؟ طب أخويا لو مخرجش من هنا واطمنت عليه أنا ههد البيت على دماغكم، الواد فين بقاله يومين ؟؟
اقترب منه “نادر” يقول بثقةٍ:
_طردناه، ملهوش مكان بيننا، ارتحت ؟؟
أمسك “إيهاب” فكيه يضغط عليهما ثم قال من بين أسنانه:
_بلاش أنتَ علشان لو جت فيك مش هسمي عليك، احترم نفسك يا روح أمك وقولي أخويا فين بدل ما اقطع وشك.
كانت “فاتن” تجلس بمفردها تتابع ما يحدث يعينين باكيتين لا تريد التدخل أو التحدث، حتى وقف “نَـعيم” يقول بنبرةٍ جامدة:
_لو “يوسف” مخرجش أو اطمنت عليه أنا هولع فيكم كلكم.
نظرت له “فاتن” بعينين دامعتين ثم وقفت أمامه وهي تقول بنبرةٍ خافتة وكأنها تخشى التحدث:
_”يوسف” مش هنا، “يوسف” راح يزور قبر أبوه.
نظر لها “نَـعيم” بتفرسٍ ثم نطق يهددها بقوله:
_لو طلعتي بتقولي حاجة غير الصدق، متلوميش غير نفسك.
تنهدت بعمقٍ ثم تجاهلته وجلست على المقعد مرةٍ أخرىٰ، فيما دفع “إيهاب” ابنها وهو يقول بخشونةٍ في نبرته:
_الليلة دي لو أخويا مظهرش أنا هخليك تحصل ستك بدل ما تبقى لوحدها، واهو تاخدوا بونس بعض، واعتبره وعد مش تهديد، داير معاك الحوار سكة يا عمنا ؟؟ اللهم بلغت.
استمرت حرب النظرات بينهم جميعًا سائدة انهاها “نَـعيم” بتحركه خارج البيت ليتبعه الشباب فيما تحدث “نادر” بغضبٍ:
_كل المصايب من تحت راس الزفت دا، عمره ما هييجي من وراه حاجة عدلة أبدًا.
__________________________
غريبٌ، هو حقًا غريبٌ وطأت قدماه إلى هنا، لم يجد وصفًا مناسبًا لحاله وهو يصل لهُنا، يبدو وكأنه كما الغريب يزور مدينة لم تكن له ذات يومٍ، أو يشبه المحارب الذي فقدته قبيلته ليعود لهم من جديد، ربما ليثأر لهم أو يحرقهم كما سبق وتسببوا في إحراق قلبه، ربما يكون غريبًا عاد لموطنه وربما يكون عدوًا أتى لغريمه، ولم يبقى فقط أمامه سوى التمهل.
أوقف سيارته الحديثة عند مقدمة الحارة ثم نزل بشموخٍ مرفوع الرأسِ يرتدي حلِةً سوداء اللون، عيناه تشعان بالاحمرار وقد وارى محيطهما بنظارةٍ شمسية تخفي نظراته القاتلة حتى مر عند بداية مفترق طرق فسأل الجالس بنبرةٍ جامدة:
_لو سمحت، فين محل الحج “عبدالقادر العطار”
انتبه له الجالس صاحب المحل ولم يكن سوى “سـعد” صاحب محل الهواتف لذا سأله بتكهنٍ:
_خير عاوزه ليه ؟؟ فيه حاجة؟؟
هتف “يوسف” في وجهه بخشونةٍ:
_مش شغلك، عارف ولا لأ ؟؟
رد عليه مستسلمًا:
_خلاص يا باشا، امشي علطول واكسر يمين هتلاقي نفسك عنده، كل اللي جاي دا ملكه وبتاعه، ناس ليها الهنا وناس تلطم طول السنة.
تركه “يوسف” وتحرك حيث إشارات الأخر وقد تجاهله وتجاهل طريقته الغريبة ثم دلف أول زقاق قابله باسم “محلات العطار”.
كان “عبدالقادر” يسير وبجواره “أيهم” و “بيشوي” فسأل الاخر بقوله:
_عملت إيه امبارح مع “جابر” ؟؟ كلمك ؟؟
رد عليه بوجهٍ مبتسمٍ:
_كان برة الحارة محدش قاله حاجة، عدت على خير.
حرك “عبدالقادر” رأسه مستحسنًا ليسأله “بيشوي” بسخريةٍ:
_أنا عاوز أفهم مش عاوز تجوزني ليه؟؟ هي دي وصية “جرجس” ليك ؟؟ مش قالك عيالي أمانة في رقبتك؟؟ مش عاوز تجوزني ليه يا حج؟؟؟
رد عليه بنبرةٍ ضاحكة:
_مش أنتَ اترفضت ٥ مرات ؟؟ لسه قدامك مرة كمان نقفل نص دستة بعدها نخش في نص جديد، يلا ياض على شغلك امشي.
تحرك “بيشوي” وهو يحدث رفيقه يحذره بقوله:
_خليك شاهد على أبوك علشان لما اخطفها لو حد سألني هقول هو اللي سلطني، براحتكم بقى.
ضحك كلاهما عليه، فيما وضع “أيهم” ذراعه في ذراع والده وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_العيال دي إزاي مكرهتش الجواز لحد دلوقتي ؟؟ مش واخديني قدوة إزاي بس؟؟
ضحك “عبدالقادر” ولم يرد عليه حتى وصلا سويًا عند المحل الكبير الخاص بـ “عبدالقادر” وقبل أن يلج أيًا منهما وصلهما صوتٌ من الخلف يقول بنبرةٍ جامدة بدت غليظة:
_أنتَ الحج “عبدالقادر العطار” ؟؟
التفت كلاهما له فيما تحدث “أيهم” بنبرةٍ جامدة:
_ما تتكلم بالراحة يا عم أنتَ !! داخل خناقة؟؟
أمسك “عبدالقادر” يده يمنعه من التشابك معه ونطق بنبرةٍ هادئة مراعيًا غرابة هذا الشخص عن المكان:
_أيوا يابني أنا الحج “عبدالقادر العطار” اؤمر.
اندفع “بوسف” يسأله بنبرةٍ جامدة:
_أنا “يوسف مصطفى الراوي” ابن المرحوم “مصطفى الراوي” الأمانة اللي ليا عندك فين يا حج ؟؟
اتسعت عيناه حينما استمع لاسمه واسم والده، فابتسم “يوسف” بتهكمٍ وهو يقول بنفس الطريقة الجامدة:
_اقولهالك بصيغة الصراحة ؟؟ أمــي و اخـــتي فين يا حج “عبدالقادر” ؟؟؟
بجملته تلك يبدو وكأن أبواب الجحيم فتحت عليهم جميعًا وهو وحده من يملك مفاتيح الأبواب الموصدة.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى