روايات

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الرابع عشر 14 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الرابع عشر 14 بقلم رضوى جاويش

رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء الرابع عشر

رواية احذر من يطرق باب القلب البارت الرابع عشر

رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة الرابعة عشر

١٤- بملء القلب، وإرادة الروح..
هللت خيرية ما أن طلت سلمى على باب الشقة، وضمتها بين ذراعيها مرحبة في فرحة، جاذبة إياها نحو حجرتها القديمة، هاتفة في حنو: تعالي ارتاحي، ادخلي أوضتك تلاقيها وحشتك.
وهتفت ببناتها المحتلات للحجرة، أمرة في حزم: ياللاه بره منك لها، سيبوا عمتكم تاخد راحتها وترتاح.
هتفت سلمى معترضة: لا يا خيرية، سبيهم دول واحشني أوي، خليهم معايا، اتونس بيهم، وادفى فحضنهم.
تطلعت إليها خيرية في تفهم، ثم هزت رأسها في طاعة، تاركة سلمى مع بناتها في الحجرة، هاتفة في مرح: طيب، يعني أخرج منها أنا! ع العموم خليكي معاهم يونسوكي لحد ما أشوف اللي ع النار، ده أنا عملالك كل الأكل اللي بتحبيه.
هتفت سلمى في ود: تسلمي يا خيرية، ليه التعب ده بس!
كانت تتطلع لخيرية في تعجب من تغير حالها، والتي أكدت وهي تندفع صوب المطبخ: مفيش تعب ولا حاجة، ده حلاوة رجوعك لنا بالسلامة.
أنهت خيرية ما كانت تصنع، ودخلت لصبحي حجرة نومهما، كان جالسا في شرفتها، شاردا في اللاشيء، لتهتف به خيرية في تساؤل: بقولك يا صبحي! إيه اللي حصل لأختك! بقى دي سلمى اللي كانت ماشية من كام شهر، وشها زي البدر!
همس صبحي وهو ينفث دخان سيجارته في حزن: والله أول ما شفتها، اتخضيت زيك كده، بس بلعت لساني وسكت، وهي محكتش حاجة، مقلتش غير كلمة واحدة بس، إنها اتطلقت.
ضربت خيرية على صدرها في صدمة: اتطلقت! لا حول ولا قوة إلا بالله، لهي راحت ف إيه وجت ف إيه! وليه أصلا الطلاق، في إن كبيرة فالموضوع.
هتف صبحي محذرا: أكيد فيه، بس بقولك ايه! خفي عليها بلاش شغل كرومبو ده، هي مش ناقصة، اديكي شيفاها عاملة إزاي!
همست خيرية متعاطفة: آه والله عندك حق، دي خست النص، أكيد اللي شافته مكنش هين.
أكد صبحي، وهي يضغط على عقب سيجارته، ليطفئها: هي لو حكت اسمعي منها، اكيد عايزة تفضفض، لكن لو متكلمتش متسأليش، أنتِ عارفة سلمى طول عمرها كتومة وحمالة أسية، ومبتقولش آه إلا لما يفيض بها، فبلاش تلحي عليها فالسؤال، متقلبيش عليها المواجع، إلا لو هي اللي حكت بنفسها.
هزت خيرية رأسها في إيجاب، ليستطرد صبحي أمرا: ياللاه بقى حطي لنا العشا، خلينا ناكل اللقمة وننام مطمنين، بعد ما كنا مبنمش من قلقنا عليها.
أطاعت خيرية في سرعة، متجهة للمطبخ لتكمل إعداد العشاء.
*******************
كانت الفيلا ترفل فالصمت، فلا مخلوق قد استفاق من نومه بعد، في مثل هذه الساعة المبكرة من النهار، حتى أن مالو حارس البوابة، نهض ليفتحها وهو يفرك عينيه في نعاس شديد، لكن أيوب كان تام اليقظة، على الرغم من أنه لم يغلق جفتيه منذ ليلتين تقريبا، لكن النشوة التي تسري بعروقه أشبه بمكيف طبيعي، حرمه النوم وأهداه هذه اليقظة الحلوة، لمجرد علمه أنها أضحت في متناول يده، قادرا حتى ولو بعد حين، على الوصول إليها ونيل وصلها..
مر بغرفة ساجد، فاتحا بابها في حرص، متطلعا نحوه، مطمئنا أنه يغط في نوم هاديء بلا منغصات، أغلق الباب خلفه، وأكمل المسير صوب غرفته، اغتسل من وعثاء ساعات طويلة من السفر، ذهابا وإيابا، وما أن تمدد على فراشه في راحة، حتى ابتسم في حبور، وهو يتذكر نظرتها المصدومة حين رأته وهي بالسيارة مغادرة بصحبة أخيها، ولم تفته هذه الابتسامة التي ارتسمت على شفتيها، ودموع سالت على وجنتيها، التقطتهما عيناه المترصدة قبل أن يغيب محياها عنه.. مد كفه صوب هاتفه، ودخل أحد التطبيقات، جاعلا حالاته لها هي فقط، لا يشاهدها سواها.. وكتب في صبر نافد:
أيا تسعين المر، متى تمرين!
والله ضاق الصدر بصبري، لو تعلمين!
شارك الحالة، تاركا الهاتف، متعجبا من حاله، فقد أضحى أشبه بفتى مراهق، يخبر النساء للمرة الأولى، وكأن الهوى ما دق باب قلبه من قبل، مر بحياته الكثيرات، الرائعة القد، الجميلة الابتسامة، الراجحة العقل، المنطلقة الحرة، كل هؤلاء، كلهن .. ما لمست إحداهن وترا حساسا بروحه كما لمسته هي، بل إنها قبضت على مجامع روحه وسلبت منه المنطق والعقل، بلا أدنى مجهود منها، كان يكفي أن تكون هي، بكل بساطتها وانطلاقها.. حتى يتعامل هو بكل أريحية الحياة وتلقائيتها..
حتى تجربته مع هيفاء، بكل زخمها وعنفواتها، لم تكن إلا تجربة واهية باهتة، إذا ما قورنت بما يستشعره تجاه سلمى، تلك الشهية البهية، التي علمته أن الحياة في بعادها أقسى من أن تُحتمل، وأن بقربها كل صعب يهون.
وضع الهاتف جانبا، معاودا التطلع لسقف الحجرة في هيام، ودون أن يشعر، جذبه النعاس لأعتابه، ليسقط في سبات عميق..
******************
حاول وضع كأس الخمر الفارغة من كفه، على الطاولة المقابلة له، لكن رؤيته المشوشة، بفعل الخمر التي لعبت برأسه، جعلت يده تحيد عن موضعها الحقيقي، ليضع الكأس بعيدا عن طرف الطاولة، فيسقط مهشما بدوي قوي، أثار استيائه، تنبه من غفلته قليلا، على صوت إشعار برسالة على أحد التطبيقات، وقد أخذت شاشة الهاتف تسطع بشكل متتالي، جعله يسب في حنق، لكنه بالآخير، أمسك بالهاتف، محاولا أن يقرأ ما هو مرسل، فإذا بها رسالة من ثناء، فضها في سرعة، معتقدا أنها تبعث إليه ببعض أشواقها، كما كان يحدث من قبل، وكان هو يتجاهل رسائلها، ولا يرد إلا حين يغلبه الشوق لصحبة امرأة تحبه، يستشعر معها للحظات أنه إنسان، يمكن أن يجد الحب غير المشروط، المنزه عن الغرض والحاجة، فتح الرسالة بلهفة للمرة الأولى، وبدأ يجهد ناظره للتركيز على كلماتها، يقرأها بصوت عالِ، كأنما يجبر عقله على استيعابها: ” إزيك يا مجدي.. أنا ببعت لك الرسالة دي، عشان أقول لك كل اللي فنفسي، اتجوزنا واطلقنا فساعتها، ومخدتش فرصتي إني اسمعك كلام كتير كان نفسي من زمان اقولهولك، أنا بكرهك، على أد ما حبيتك وافتكرت إنك الإنسان اللي هيصوني، على أد ما بقولك دلوقت إني بكرهك، وبحمد ربنا مليون مرة إني خلصت منك، أنت واحد متستاهلش تتحب أصلا، بعد اللي عملته فيا، واللي اكتشفت إنك بتعمله في بنات الناس، قلت لا يمكن تكون بني آدم، أنا اه غلطت يوم ما امنت لك، بس عملت كده عشان كنت بحبك، وكان لسه عندي عشم، إني أكون مراتك وأم عيالك، بس سبحان الله، عشان ربنا عالم أد إيه كانت نيتي من ناحيتك خير، وأد ايه كنت بموت عشانك وأنت فالمستشفى، على أد ما ظهر لي حقيقتك الواطية، وعرفني إني بعت نفسي بالرخيص، لواحد مبيقدرش الغالي..
آه، عايزة اقولك صحيح، أنا مش حامل، ومكنتش حامل، أنا قلت كده للست رياحين عشان يبقى فيه سبب أوي عشان تساعدني، لأنها كانت هتعمل أي حاجة واللي فبطني ميضرش، كتر خيرها.. والحمد لله إني ربنا وقفهالي عشان أعرف أخد حقي منك، وكل البنات اللي كانوا ضحيتك هياخدوا حقهم منك يا مجدي.. حساب الدنيا جالك.. ولسه جايلك.. لكن حساب رب العالمين.. هو اللي الكل مستنيه، روح .. ربنا لا يسامحك.. ويفضحك.. زي ما أنت بعت واشتريت فأعراض الخلق.. ”
ترك مجدي الهاتف بكف مرتعشة على المقعد جواره، متطلعا للفراغ في صدمة، وكأنه لتوه استفاق على حقيقته القذرة، كلام ثناء كان أشبه بدلو من الماء المثلج، سقط على رأسه، دافعا إياه للاستفاقة عنوة، من أثر الخمر، يتردد صدى كلماتها بعقله، لقد خسر كل شيء.. كل شيء بمعنى الكلمة.. خسر المرأة الوحيدة التي أحبته.. خسر طفلا كان قد اعتبره عوضا عن عدم قدرته على الإنجاب بعد ما حدث من تداعيات الحادث، فقد كان يعتقد أن ما جرى مع سلمى مجرد عرض سريع وينتهي، لأنه لم يستعد كامل لياقته بعد شهور من التعافي، لكن كلام الطبيب المعالج له، والذي أسرع إليه مستفسرا، أكد أن ذاك حقيقة، وأنه فقد قدرته بشكل كامل على إتيان النساء..
لقد خسر كل ما كان يملك، ماذا بقى له! ..
تطلع من جديد حوله، كأنما فقد عقله، يحادث الفراغ قبالته، هاتفا في زعيق: أنا.. أنا خلاص.. أنا انتهيت، معدش باقي لك حاجة يا مجدي.. كله بح.. المولد انفض..
تطلع لكفيه، اللتين كان يقبضهما ويبسطهما في تكرار وبطء، هاتفا في تساؤل بلا إجابة: كان فيه ايه! وبقى معاك ايه! .. هااا.. كان فيه ايه!! وبقى معاك ايه!! رد يا مغفل! .. قول .. سمع نفسك.. ولا حاجة.. ولا حااااجة..
طرقات على الباب، لم تثر انتباهه، أو تخرجه من استغراقه في حديثه مع نفسه، متجاهلا الطرق الذي ارتفعت وتيرته، حتى بدأ من بالباب، يدفعونه رغبة في الدخول، وخاصة أنهم أدركوا وجوده، من صرخاته وزعيقه لنفسه، والذي وصل لموضعهم..
دفعوا الباب، ليجدوه على حاله، ما زال يزعق في حنق، كأنما يحدث شياطينه، اقتربوا منه، وهتف به أحدهم.. مؤكدا أنه من قوة تنفيذ الأحكام.. وجاء للتأكد من ترحيله خارج البلاد..
تطلع نحوهم في تيه، متسائلا: ترحيل!.. على فين! ..
ما عاد يملك بلدا تقله إلا هذه التي قضى فيها سنوات طوال.. حتى أن بلاده الأصلية لفظته منذ زمن بعيد، وما عاد يربطه بها أي رابط..
زعق من جديد: لااا.. مش همشي من هنا.. لااا..
أمسكوا به لدفعه خارج الشقة، لكنه غافلهم، وتملص من بين أيديهم، ممسكا قطعة من شظية زجاجية، وصلت لها كفه، من أثر الكأس المكسور، ليقطع بها سريانه في سرعة وبلا أي تردد.. لتفيض روحه بين ذراعي رجال الترحيل، الذين حاولوا إنقاذه، لكن دوما قدر الله نافذ ..
*****************
فتحت حقيبتها، لم يكن بها إلا النذر اليسير من الملابس، وبعض الاغراض البسيطة التي سافرت بها، وها قد عادت محملة بها، لا شيء جديد بالحقيبة، لكن حقيبة الذاكرة، امتلأت بالكثير والكثير من الذكريات، التي لا تعتقد أنها قادرة على نسيانها أو حتى تناسيها، ذكريات شكلت جزء من ماضِ قريب، وستظل تحمل بصماتها بروحها ما حيت.
تنهدت وهى تخرج حاجياتها من الحقيبة الصغيرة، لتصدم كفها بشيء معدني، أخرجته من بين طيات الملابس في هوادة، متطلعة إليه في تعجب، إنه هاتفها الذي اشتراه أيوب في أول أيام عملها بفيلته مع ساجد! ماذا يفعل هنا! .. أما تركته عند مغادرتها الفيلا، فالمرة الأولى للحاق بمجدي!
ضغطت زر فتح الهاتف، لتطالعها صورتها وساجد ساطعة بالشاشة الرئيسية، دمعت عيناها، فكم اشتاقته!.. لم ترغب في يومين رجوعها المؤقت للفيلا، مقابلته أو حتى إلقاء السلام عليه، فما رغبت في تعريضه من جديد لصدمة اللقاء على أمل البقاء، ثم الرحيل مبتعدة من جديد، هذه صدمات لن يكون عقل ساجد قادرا على تحليلها بشكل سليم، ما دفعها للضغط على نفسها، وايثار سلامته على الشوق لمرآه وهو بالحجرة المجاورة، لا يفصلها عنه إلا جدار واحد..
فتحت الجهاز، لم يتغير شيء، كأن ما مسه أحد بعد رحيلها، قفزت بنات أخيها بالقرب منها، متطلعات للهاتف في فضول، لتهتف إحداهن في تردد: ممكن يا عمتي، ناخده نلعب به شوية!
ابتسمت سلمى مؤكدة: آه ممكن يا روح عمتك، بس هو قرب يفصل شحن، العبوا لحد ما يفصل، عقبال ما أشوف فين الشاحن!
قفزت البنات في سعادة، وبدأن في العبث بالهاتف لاستطلاع الألعاب التي تحويه، لتهتف إحداهن متعجبة: هو مين أيوب ده يا عمتي!
انتفض قلب سلمى ما أنا ذُكر اسمه، متسائلة في اضطراب: ده الراجل اللي كنت شغالة مع ابنه هناك، ليه ماله!
هتفت الصغرى، فصيحة اللسان: مش عارفة كاتب إيه كده على حالة الواتس بتاعته! كلام ملخبط كده .. هو ده عربي يا مرسي!
قهقهت أختها، بينما اندفعت سلمى في ذعر، منتزعة الهاتف من بين أيديهن، معاتبة في اضطراب: بتفتحوا التطبيقات ليه! انتوا مش قولتوا هتلعبوا بس!
تطلعت للحالة التي كان يضعها، وقرأت أبيات الشعر في هوادة، متسائلة في نفسها: يا ترى يقصد إيه!
لم تعلق بالطبع، وانقطع الهاتف عن العمل، فوضعته جانبا، محاولة الانشغال عن تفسير كلماته..
*****************
استيقظ من سباته العميق لا يعرف كم مر على نومه!.. تطلع صوب هاتفه، ليدرك أن الوقت قد تعدى الظهر بقليل، فقرر النهوض، تطلع بدافع من الفضول صوب التطبيق، لينتفض في سعادة، عندما أدرك أنها شاهدت حالته، وتمنى من الله أن تكون وعت ما كان يقصده.
نهض في انشراح من فراشه، اغتسل واندفع في حماس نحو غرفة والده، الذي تناهى له صوت أم كلثوم من حجرته كالعادة، ليجعله أكثر انشراحا وهي تترنم في عشق:
رجعوني عينيك لأيامي اللي راحوا
علموني أندم على الماضي وجراحه
الله شفته، قبل ما تشوفك عنايا..
‏عمر ضايع، يحسبوه إزاي عليا!
تطلع الشيخ صوب أيوب، في نظرات متفحصة، متسائلا في تخابث ودود: وصلت الأمانة! يا رب تكون هديت نفسك!
ارتفعت ضحكات أيوب، مؤكدا بإيماءة من رأسه: إيه هديت نفسي، ما كان ينفع اتركها لحالها.. ما بيصير يا شيخ!
قهقه الشيخ هاتفا في مزاح: والله اللي ما بيصير لهفتك ع الزواج من البنت وما مرت عدتها، خبلت راسك، وطاح عقل أيوب المزيون.
قهقه أيوب ولم يعقب، ليهتف الشيخ في محبة: اااايه يا ولدي! لهالدرجة عاشقها!
لم ينطق أيوب حرفا، ليستطرد الشيخ باسما: يقولون الصب تفضحه عيونه، وعشقه بيطل من نظرته، لكن أسأل مجرب، العاشق تفضحه ضحكاته، الضحكة اللي بتخرج من عاشق لها صوت ورنة مخالفة، لأنها ضحكات خارجة من عمق روحه، بتهز قلبه، ضحكة لها طعم الأنس، ضحكة فضاحة، مهما حاول إنه يداري عشقه، ضحكاته بتدل عليه، وهو في أجمل من إن قلبك وروحك تضحك! أنا عشت هاد الإحساس مرة بالعمر، وما زلت عايش على ذكراه الباقي منه، ربنا ما يحرمك من هالاحساس أبد.
اتسعت ابتسامة أيوب، فقد أجاد أباه بكلمات بسيطة، وصف ذاك الشعور الذي يعتريه، منذ تأكد أنها أبصرت حالته على الواتساب، وكأنما حاز الدنيا بكل أطايبها، فانحنى مقبلا هامة أبيه في محبة وتقدير، هاتفا يشاكسه: أم كلثوم كلامها يسعد القلب.. صح يا شيخ!
هلل الشيخ مؤكدا: إيه أكيد، أسمع يا صاحب القلب الطيب!
وأخذ الشيخ يترنم بصحبة أم كلثوم وهي تشدو:
إبتديت دلوقتي بس أحب عمري..
إبتديت دلوقتي أخاف، أخاف لل العمر يجري..
واستطرد الشيخ هائما: والله ما بيعي هالكلام، إلا اللي مس قلبه العشق، وايش خوفنا ع العمر، لو العمر ما فيه أيام يتعاشوا بالمحبة! وبايش العمر يتحسب يا ولدي، إلا بتقويم الحب، وأيام ارتاح فيها القلب، وصفيت الروح!
دمعت عينى أيوب لكلمات الشيخ المفعمة بالحنين، فمال معاودا تقبيل جبينه، قبل أن يستأذن مندفعا لخارج الغرفة، مخرجا هاتفه، ليكتب حالة جديدة،
والتي شاركها، وهو في حالة من النشوة والترقب، ينتظر حتى يتأكد أنها قرأت حالته، ووصلتها رسالته، وأم كلثوم لا زالت تبدع مقررة:
أهل العشق صحيح مساكين .. صحيح مساكين..
‏ ‏
*******************
كانت تقف بشرفة بيت أبيها، تتطلع للذاهب والآيب، لا رغبة لديها في مخالطة البشر، بعد كل ما لاقته منهم، لم تعد ترغب إلا في بعض السلام الداخلي، لا صراعات ولا نزاعات، فقط .. أن تعود لما كانت عليه قبل هذه التجربة القاسية، تنحنحت خيرية وخرجت تشاركها الحيز الضيق الموجود في شرفة البيت المتهالك، المطلة على هذا الضجيج الصاعد من جنبات الحارة الرطبة، واضعة كوب من الشاي، على السور الأسمنتي، جوار سلمى، هاتفة في ود: عملت لك كباية شاي بالنعناع إنما ايه! فل..
ابتسمت سلمى، وقد رفعت الكوب ترتشف منه رشفة صغيرة، هاتفة في ود مماثل: تسلم ايدك، زي الشهد.
ساد الصمت بينهما، وكلتاهما تتشاغل عن الآخرى في محاولة من خيرية العمل بنصيحة صبحي، وألا تثير مكامن الوجع داخل نفسها، تاركة لها حرية اختيار وقت التعبير عن دواخلها، وذكريات لحظات المعاناة مع ذاك المدعو زوجها.. أو بالأدق طليقها..
لكن سلمى كانت تحفظ خيرية وتصرفاتها عن ظهر قلب، وتعرف أن ذاك الصمت ليس من طبعها، لذا هتفت متسائلة: أنتِ متغيرة يا خيرية، ولا أنا متهيء لي! .. يعني شوفي أنتِ متجوزة صبحي من امتى! يجي اتناشر سنة وزيادة اهو.. لكن عمرنا ما وقفنا، وشربنا شاي فالبلكونة مع بعض!..
هتفت خيرية مبررة في اختصار: أهو كان شيطان وراح لحاله، وبصراحة، عرفت بعد ما سافرتي، إنك بت جدعة وبميت راجل، وبتحبي أخوكِ وولاده، وأنا اللي يعز صبحي، ويحب عيالي، اشيله فعنايا، كفاية جدعنتك معانا فمرض الواد اللي لولا الفلوس اللي بعتيها، كان زمانه راح مننا.
هتفت سلمى في اعتراض: بعد الشر عليه، وبعدين متقوليش كده! هو أنا وصبحي مش واحد، وولادكم والله دول عيالي اللي ربنا مقسمليش بهم! هتفت خيرية دامعة العينين: خلاص بقى اللي فات مات، متقلبيش فالقديم..
تنهدت سلمى هاتفة: على رأيك، خدنا إيه من التقليب فالقديم إلا الوجع!
هتفت خيرية في فضول لم تستطع كبح جماحه: صحيح أنتِ اطلقتي ليه يا سلمى! يعني روحتى ف إيه! ورجعتي ليه! ده مفيش كام شهر.. إيه اللي حصل عشان الموضوع ما بينكم يوصل للطلاق!
هتفت سلمى مؤكدة: اللي حصل كتير يا خيرية، لو حكيته مش هتصدقيه، بس أنا ساكتة عشان موجعش قلب صبحي، خلاص زي ما قلتي، بلاها نفتح فالقديم، وكفاية إني وسطكم من تاني.
هتفت خيرية تتجاذب أطراف الحديث، غير راغبة في إنهاء الحوار: بس باين على الناس اللي كنتي شغالة عندهم، إنهم ولاد حلال ومحترمين، صبحي بيشكر فالشيخ اللي كلمه أوي..
أكدت سلمى، بصوت متحشرج تأثرا، ما أن جاءت خيرية على ذكر الشيخ: الشيخ عدنان ربنا يطول فعمره، كان فعلا أب، وأول ما طلبت سفري لمصر، بعد الطلاق، متأخرش لحظة..
هتفت خيرية في فضول: طب واللي اسمه أيوب ده! مش ده اللي كنتي بتعالجي ابنه!
أكدت سلمى، بإيماءة من رأسها، لم تشأ أن تنطق حرفا، رغبة في إخفاء اضطرابها عن إدراك خيرية، والتي استطردت: ده جه وراكِ لحد هنا، ومرتحش إلا لما اتعرف على أخوكِ، واتأكد أنه استناكِ فالمطار، وقال له كلام عجيب كده..
هتفت سلمى متعجبة: كلام ايه!
حاولت خيرية التذكر، هاتفة: أنا اهو سلمت الأمانة، حافظ أنتِ بقى على الأمانة دي لحد ما يجي وقتها..
هتفت سلمى مستغربة: ايه الألغاز دي!
هتفت خيرية في تخابث: أقولك يا بت يا سلمى أنا فسرت الكلام ده ب ايه!
تطلعت سلمى صوبها ولم تعقب، لتستطرد خيرية في ابتسامة مفسرة: الراجل ده عينه منك، اه والله.
شهقت سلمى تنفي ما تؤكده خيرية: لا، عينه من مين! مينفعش يا خيرية.. ده جنان رسمي، أنتِ عارفة ده مين! ومعاه ايه! وبيشتغل إيه!.. دول ناس فحتة تانية غيرنا خالص يا خيرية.. ده طليقته لو شفتيها! جمالها يحل من على حبل المسنقة، قمر اربعتاشر، تقولي عينه مني ويبص لي أنا! بمناسبة إيه!..
هتفت خيرية في حماس: اديكي قولتي طليقته! يعني راجل فاضي لا وراه ولا قدامه إلا ابنه، اللي بيحبك وحالته بقت كويسة معاكِ..
واستطردت خبرية مازحة، وهي تضرب كتف سلامات في عشم: الظاهر الواد وأبوه بيحبوكي يا بت!.. أنتِ مش واخدة بالك، ولا بتستعبطي! ده جه وراكِ وقال لأخوكِ حافظ ع الأمانة، هو ايه اللي بينه وبين صبحي! مداين صبحي من ورانا مثلا!.. مفيش بينه وبين صبحي إلا أنتِ يا خايبة!
هزت سلمى رأسها بعدم تصديق، لا رغبة لديها بعد كل ما قاساه قلبها، في الانجراف صوب وهم جديد، قد يكلفها هذه المرة الكثير، أكثر من مجرد قلب مكسور وذكريات مريرة وأيام ضائعة من العمر، لكنها روحها هذه المرة، والتي حاولت الحفاظ عليها كل هذه المرات الماضية، احاطتها بكل ما استطاعت من حماية، وضربت حولها بسور من صبر، حتى لا يطالها ما يمسها، لكن مع أيوب الوضع مختلف، لقد تركت روحها هناك بالفعل، بلا حواجز أو اسوار حماية، روحها هائمة هناك بين جنبات داره، وبكل ركن وموضع كان لها ذكرى فيه..
هزت رأسها رافضة الفكرة من جديد، لتهتف بها خيرية، في إصرار الواثق: طب الأيام ما بينا، وهتشوفي أول ما تخلص عدتك، هتلاقيه جاي يطلبك.
هتفت سلمى في صدمة: عدتي! أنا إزاي مفكرتش في موضوع العدة ده!
هتفت خيرية متسائلة: مفكرتيش إزاي! مش فاهمة!
لم تشأ سلمى الرد على سؤال أطلقته بعفوية، وقد أنقذها صبحي من محاولات الالتفاف حول الإجابة، بندائه لزوجته: يا خيرية! .. يا خوخة!
قهقهت سلمى في مزاح: من امتى بقى الدلع ده، خوخة مرة واحدة!
اتسعت ابتسامة خيرية هاتفة: متكسفنيش بقى!
ارتفعت ضحكات سلمى من جديد، أمرة في محبة: طب روحي يا ست خوخة، شكله عايز قطمة!
قهقهت خيرية وهي تندفع للداخل، ملبية نداء زوجها، تاركة سلمى وحيدة، تتلاعب بها ظنونها، عن رسائله المبهمة، التي بدأت تدرك مدلولاتها، لكن شيء ما، ربما خوف أو بعض الرهبة، من احتمال خطأ الظن، يجعلها تكذب ما توصلت إليه من حقيقة جلية.
فتحت هاتفها، وتطلعت لرسالته الأولى، التي حفظتها في ملف خاص، لا لسبب إلا لأنها منه، ودخلت التطبيق، الذي يضع عليه حالاته، لتفاجأ بنشره حالة جديد، قرأتها في قلب وجل:
“٨٦ يوما باقية، ليت الأيام ساعات، والساعات ثوانِ، والثواني فانية.. ليصبح وصلك هو أمنية العمر الباقية.”
شهقت، ودمعت عيناها، وقد أدركت أخيرا أنه يعد أيام العدة، حتى يلتقيها من جديد..
****************
صعد إلى الطائرة، عاد من جديد لممارسة شغفه وعشقه الأول بعد الحادثة التي أودت بحياة مساعده، دخل قمرة القيادة، متنهدا في راحة، متطلعا حوله في سعادة، وهمس حامدا الله، وما أن ظهر مساعده الجديد، حتى ابتسم له في ود، رابتا على كتفه مشجعا، كان المساعد يتطلع إليه في فخر، فهو سيعمل مساعدا لذاك الرجل، الذي كان حس تصرفه، وإدارته لموقف الحادث الشهير بحكمة، سبب في إنقاذ أرواح العديد من الرها*ئن..
رفع أيوب كفيه للسماء، وبدأ في قراءة الفاتحة على روح فهد، مساعده السابق، قبل أن يتحرك، محتضنة روحه السماء من جديد..
كان قد قرر أن لا يعود للطيران، تاركا خلفه كل ذكرياته، والتركيز على العمل بمجموعة شركات العتيبي، لكن الجلوس في الفيلا، تحاصره ذكرياتها، يكاد يدفعه للجنون، ما عجل من اتخاذه قرار العودة، لعل الأيام الباقية تهون ما بين سفرة وآخرى..
مر على المسافرين، وهذا لم يكن من عاداته، ما أثار تعجب طاقم الضيافة، الذي كان معتادا على عزلته، تناوب الحديث مع أكثرهم، ثم عاد للقمرة ممسكا الميكرفون الداخلي، معلنا المباركات لهذا الزوج السعيد، الذي اكتشف وجوده ضمن ركابه، دافعا إحدى المضيفات لتقديم كعكة خاصة للعروسين، لتتحول الطائرة إلى حالة من البهجة، بوجود العروسين، المسافرين لرحلة شهر العسل،
عادت المضيفة لزميلاتها، تتعجب هامسة: هو ده أيوب النمرسي بجد! انتوا متأكدين إن اللي طاير بينا ده، هو كابتن أيوب!
أكدت زميلتها: فعلا لكِ حق تتعجبي، كلنا مستغربين التغيير اللي حاصل، ده بيهزر يا جماعة!
معقول الحادثة أثرت فيه للدرجة دي!
هزت زميلتها كتفيها في شك: احتمال، ليه لأ! ..
اندفعت إحدى زميلاتهن صوب موضعهن هاتفة: شوفتوا اللي حصل، هو مين اللي جوه ده!
قهقهت زميلاتها، لتسألها إحداهن: إيه اللي حصل تاني!
أكدت زميلتهن: دخلت لكابتن أيوب أشوف يكون محتاج حاجة، لقيته بيسألني عن خطيبي، والفرح امتى! ومستني الدعوة! خرجت من عنده مستعجبة، ويا دوب رجعت بالقهوة اللي طلبها، لقيته فتح أم كلثوم، .. وأد إيه من عمري راح وعدى يا حبيبي!
قهقهت احداهن مؤكدة: كده يبقى وضحت خلاص، أيوب النورسي طب ولا حد سما عليه..
نفت إحداهن بالإنجليزية: أيوب يحب! نو واي! بس الصراحة.. كل اللي بيحصل يأكد ده.
هتفت إحداهن في حقد: أموت وأشوف مين دي اللي قدرت على قلبه! أكيد ممثلة، أو عارضة أزياء، أو يمكن سيدة أعمال!
هتفت زميلتها: مش مهم مين! المهم إنه حصل! وده في حد ذاته حدث تاريخي.
قهقهن على ما يحدث، غير مدركات أن تلك التي تهفو إليها روحه، واحدثت هذا التغير الرهيب في شخص أيوب النورسي، لهي امرأة من خارج حدود توقعاتهن، بل خارج حدود توقعاته هو شخصيا، امرأة ظهرت من خلف حجب الغيب، لتسرق قلبه في غفلة من تعقله..
*****************
طالت فترة بقاءها بين جدران المنزل، وعلى الرغم من أن علاقتها بخيرية تحسنت كثيرا، وأصبح البقاء معها لا يشكل عباء على كاهلها، لكنها حنت إلى أيام العمل، ورغبت في تخفيف الحمل المادي قليلا عن صبحي، فقررت النزول للبحث عن عمل، وضعت أوراقها في أكثر من مركز للتأهيل، بعد أن وجدت أن مكانها في المركز السابق قد تم شغله بغيرها، وانتظرت أن يتصل بها أحدهم، لتعود للعمل من جديد، بعد انتهاء فترة العدة، التي طالت مستشعرة أنها ثلاثة دهور، لا نهاية لها.. وما من شيء خفف وطأتها على نفسها، أكثر من رسائله، التي يبعث بها يوميا، وكأنه عداد تنازلي، وكم أسعدها ذلك! على الرغم أنها لم ترد بحرف، فقط كانت تقرأ الرسالة اليومية، في سعادة منقطعة النظير، وهو ما تخلف يوما عن إرسالها..
أوشكت العدة على نهايتها، وفترة الانتظار طالت، وما من مكان بعث إليها رغبة في توظيفها.. نامت على أمل، أن الله سيبعث فرجه، لكنه ربما يؤجله لما بعد انتهاء العدة، استيقظت في تيه على صوت الهاتف، اعتقدت أن واحدة من بنات أخيها قد ضبطته من أجل الاستيقاظ لمدرستهن، في مثل هذه الساعة المبكرة من الصباح، والتي لم تتخط السابعة على أقصى تقدير، ضغط على زر ايقاف الرنين في تيه، لكنها تنبهت أخيرا أنه اتصال، فردت على عجل، بصوت متحشرج من أثر النعاس: ألو!
لحظة صمت خيمت، كأن ذاك الذي ينتظر على الطرف الآخر يلتقط أنفاسه، وكأنه كان تحت سطح الماء لفترة طويلة، ولتوه خرج، يجذب نفس الحياة لرئتيه، ما دفعها لتهتف من جديد، متسائلة: ألووو! مين معايا!
هتف محدثها، بعد أن جمع شتات نفسه: أنا أيوب..
انتفضت موضعها، ولم تنطق، لكنها سرعان ما لملمت المبعثر من ثباتها، هاتفة في جزع: ساجد بخير يا أيوب بيه!
أكد في نفاذ صبر: ساجد بخير، من ساعة دخولك لحياته وهو بخير، أبوه اللي مش بخير يا سلمى.
تعثرت الأحرف على لسانها، ماذا عساها أن تجيبه!..
ليستطرد هو، بنبرة ما عرفت كيف تفسر حال صاحبها، الذي همس بتردد ملهوف، ولهفة مترددة: أيوب عمره ما كان بخير يا سلمى، عمره ما كان مرتاح، ولا مبسوط، عمره ما ضحك من قلبه، ولا شاف الدنيا حلوة، إلا لما دخلتي أنتِ حياته..
شهقت وأمسكت دموعها، ليستطرد وكأنما يلقي ثقل جبال كانت راسية فوق كاهلي روحه، مؤكدا في نبرة عاشق: أنا!.. أنا مش عارف الأيام اللي فاتت دي عدت عليا إزاي! رجعت للطيران بس عشان ألاقي كل يوم نفسي في بلد، كنت بهرب من الفيلا، اللي كل ركن فيها كان بيفكرني بكِ، واللي لولا وجود الشيخ وساجد فيها، ما كنت دخلتها إلا وياكِ، سلمى .. تتجوزيني!
ساد صمت مقطوع الأنفاس، لم يقطعه إلا شهقات بكائها، ليهمس هو محاولا تلطيف اللحظة: سلمى! ليه البكا! شكلي مكنش المفروض اتجنن واتصل دلوقت أطلب إيدك، واضح إن مودك مش بيبقى تمام الساعة ٧ الصبح!
اتسعت ابتسامتها من بين دموعها، ليستطرد في اضطراب: بس لو تعرفي! أنا منمتش أصلا، قاعد بصبر نفسي، منتظر الساعة تعدي ١٢ عشان أعرف أكلمك، وأنا متأكد إنك مش على ذمة راجل تاني، عشان ارتاح واقولك اللي جوايا.. أنا لولا الرسايل اللي كنت بحطها على حالة الواتس، واللي كنت بقعد استنى امتى تشوفيها، واللي كانت خاصة بك، محدش بيشوفها غيرك، كان زماني اتجننت.
همست سلمى باضطراب، عندما استشعرت أنه ينتظر منها جوابا: أنا!.. أنا..
قاطعها أيوب متعجلا ردها: أنتِ إيه! .. هو الطلب صعب شوية، والتوقيت عجيب، ومعاشرة راجل زيي شيء صعب، أنا عارف، لكن أنا..
هتفت سلمى تقاطعه في تردد وخجل: أنت راجل تستاهل كل محبة الدنيا.
هتف أيوب مضطربا: أنا! ..
لم تحر جوابا، فاستطرد متسائلا في لهفة: يعني أنتِ موافقة!
همست باضطراب: كلم صبحي أخويا وأنت تعرف..
هتف متعجلا: طيب حالا، هروح أكلمه دلوقت..
هتفت سلمى تستوقفه ضاحكة: دلوقت! الساعة ٧ الصبح! ده تلاقيه لسه نايم! حد يطلب أيد حد على غيار الريق!
أكد أيوب ضاحكا: ايوه دلوقت وحالا .. واللي نايم يصحى، وسواء وافق ولا لأ.. هتلاقيني عندكم النهاردة بقرا الفاتحة، ومش راجع إلا بكِ..
همست في خجل: للدرجة دي سلمى فارقة معاك!
همس أيوب في عشق: سلمى دي عوض رب العالمين اللي كان شايلهولي، عوض عن وجع وابتلاءات، ربك وحده عالم عدت عليا إزاي!
لم تنطق حرفا، دموعها تنساب في سعادة، لا تصدق كل هذه الاعترافات الرائعة التي ما كانت تتوقع سماعها ولا في أكثر أحلامها ابهارا..
استطرد هو في عجالة: أقولك سلام دلوقت، رايح اقلق منام أخوكِ.
قهقهت، ليهتف مسترسلا: هو ايه نظامه بالظبط وهو صاحي من النوم! عصبي .. ولا ايه!!
ما زالت تضحك غير مصدقة أن ذاك أيوب، لقد فقد عقله كليا، ردت من بين ضحكاتها: أنت وظروفك!
هتف أيوب: طب سلام بقى، أما أروح أكلمه..
أنهى المكالمة متعجلا، لتسمع بالفعل صوت تليفون صبحي يرن، تصلها صوت رناته، فيرقص قلبها طربا، فما بين طرفة عين وانتباهتها، أضحى أقصى أحلامها بعدا، أقربها واقعا، بل أصبح حقيقة ماثلة بين كفيها.. تنتظر أن يأتِ صبحي ليسألها رأيها، لتعلنها صريحة .. نعم.. نعم بملء القلب، وإرادة الروح..
*****************
على الرغم من استشعار صبحي لصلاح أيوب، وأنه لا يمكن مقارنته بمجدي، بأي حال من الأحوال، لكنه أحس أنه لا يرغب في إعادة التجربة من جديد، هو لا يدرك شيئا عن تفاصيلها حتى اللحظة، لكنه لا يرغب في وضع أخته بنفس التجربة التي يحدثه حدسه بمدى فظاعتها، مرة آخرى.. ما جعله يماطل أيوب قليلا في الرد.. ولم ينطق بالموافقة سريعا.. بل طلب وقتا للتفكير.. لتنتفض خيرية بجواره على الفراش، هاتفة في حنق: ليه كده يا راجل! أختك ربنا يكرمها بعريس محترم زي ده وتقوله نفكر وناخد وقتنا! ده أنت نفسك شكرت فيه، يبقى مالك!
هتف صبحي متعجبا: وايه المشكلة لما أعزز أختي! مش كفاية اللي حصلها لما اتسربعنا فالجوازة الأولانية، واللي جه من وراها!
همست خيرية: اه والله صدقت، ده شافت منها اللي محدش شافه..
هتف صبحي في فضول: هي حكت لك حاجة!
هزت خيرية رأسها تأكيدا، هاتفة له في تردد: بس قالت لي مقلكش، مكنتش عايزة تشيلك الهم، وهي حكت من باب الفضفضة، بس أنا هقولك، عارف ليه! عشان تعرف إن أختك تعبت، وربنا بعت لها أيوب ده، عشان يكون عوضها عن كل اللي فات..
هتف صبحي يتعجلها: طب ما تقولي اخلصي، ايه اللي حصل!
بدأت خيرية تسرد له ما كان، منذ أن وطأت سلمى أرض مطار تلك البلاد البعيدة، حتى جاء بها أيوب لمصر، ساعة أن قابله فالمطار.. مستطردة: دي مكنتش تعرف إنه معاها ع الطيارة، رفضت حد يجي يوصلها، لكن هو مخلصهوش، وركب معاها من غير ما تدرى، لحد ما أتأكد إنها معاك، اتعرف عليك وقالك صون الأمانة.. عرفت ايه هي الأمانة يا سي صبحي.. الراجل شاري أختك.. وكان مستني عدتها تخلص عشان يطلبها.. وبيني وبينك .. أنا حاسة إن أختك ميالة له..
هتف صبحي في صدمة، ما أن استجمع تفاصيل ما حدث: سلمى حصل لها كل ده، دي راحت تتبهدل مش تتجوز، وبعد ده كله، كان عايز ابن..
قاطعته خيرية: اهو غار، سلمى بتقولي إنه وصلها خبر موته، عرفوا مصايبه وكانوا هيرحلوه، راح مموت روحه..
هتف صبحي: في داهية، ربنا لا يسامحه.. ده البت لا اتجوزت ولا شافت جواز.. منه لله..
هتفت خيرية: عشان كده بقولك، أيوب شاريها بجد، رد عليه بالموافقة، بعد ما تسألها.. أهي عندك جوه، بتساعد العيال عشان يا دوب ينزلوا مدارسهم..
هز صبحي رأسه موافقا، وقد قرر في قرارة نفسه، أن يتصل بأيوب معلنا موافقتها بعد أن يأخذ رأيها، فأخته تستحق الهناء مع رجل حقيقي يصونها، بعد كل ما عانت..
****************
لا تصدق أنها جواره اللحظة، تجلس معه على الطائرة المتجهة لبلاده، بعد أن عُقد قرانهما منذ ساعات، يمسك كفها بأحضان كفه، كأنما يؤكد لها أنها لن تبتعد عنه مطلقا، يتطلع إليها بنظرات كأنه حاز الدنيا وما فيها، حتى أنها بدأت تشعر بالحرج من تطلع البعض صوبهما، وذلك لاصراره على ارتدائها ذاك الثوب الرائع من الشيفون الأبيض، الذي جعلها أشبه بالأميرات، واضعا عليها عباءته، ما أن وصلوا المطار، مستشعرا الغيرة، عندما أدرك في خضم التهائه بها، نظرات الناس نحوها، ما أشعرها ببعض الراحة، تطلعت لتفاصيل قاعة الوصول، وتذكرت ما كان، عيناها سقطت بلا إرادة منها صوب ذاك المقعد الذي شاركها أوقات وحدتها، وذاك الآخر المنزوِ هناك، الذي كان مجلسها حين قابلت أيوب للمرة الأولى، وبدأت من عنده قصتهما، شعر أيوب بتيه نظراتها، واضطراب مشاعرها، ما دفعه ليهمس بالقرب منها: حبيت تنزلي المطار وأنتِ لابسة فستان أبيض، يمكن مش فستان فرح بالمعنى المفهوم، لكن حبيت إنك تنسي اللي فات، وتكون لكِ ذكريات جديدة، ذكريات حلوة، بعيد عن كل اللي كان.
ضمت كفه في امتنان، حتى ظهر سعدون الذي كان في انتظارها بالعربة، مهللا في سعادة..
انطلقوا صوب الفيلا، التي ما أن وصلوا لأعتابها، حتى دمعت عيناها، مستشعرة أنها عادت بالفعل إلى حيث تنتمي، إلى المكان الذي ولد فيه حبها لأيوب، والذي تعتبره وطن حقيقي، ضم كل أحبابها، وذكرياتها الحلوة معهم.. هلل مالو في فرحة، ما أن عبرت السيارة البوابة الحديدية، ليعلو نباح هزاع في فرحة غامرة، أشاروا له من موضعهما مرحبين، قبل أن تقابلهما نفيسة بالزغاريد المدوية، والمتعاقبة في حماس، حتى تحشرج صوتها تأثرا، فاكتفت مندفعة تجذب سلمى لأحضانها في محبة خالصة، تطلق الدعوات والمباركات، قبل أن يمسك أيوب بكفها من جديد، ليسيرا في اتجاه حجرة الشيخ، الذي ما أن انفرج باب حجرته على محياهما معا، حتى دمعت عيناه وهو يتطلع لهما في سعادة طاغية، هاتفا في تهليل: الله أكبر، والله سيد الرجال، وعدت واوفيت..
تقدمت سلمى نحو الشيخ في محبة، وانحنت مقبلة ظاهر كفه، ليتبعها أيوب، ليستطرد الشيخ مازحا: والله يا سلمى، كنت واخد عليه العهد، ما يدخل هالدار إلا ويدك في يده، وطلع رجال ووفى بالعهد.. مبارك يا بنتي، حطي أيوب بعيونك، هاد الولد يستاهل من المحبة ملء الأرض والسما، وأنتِ كريمة، ما عمرك هتبخلي عليه أبد.. روحوا يا ولاد، الله يبارك لكم ويسعد أيامكم يا رب ..
قبل أيوب جبين الشيخ، ممسكا بكف سلمى، مغادرا الغرفة في هدوء، لتشدو أم كلثوم خلفهما:
الليل وسماه، ونجومه وقمره.. قمره
وسهره.. وأنت وأنا.. يا حبيبي أنا.. يا حياتي أنا..
صعدا لحجرتهما، مارين بحجرة ساجد، طلا عليه للحظة، وغادرا مستكملين المسير صوب جناحهما، دفع أيوب باب الجناح، لتدخل إليه بقلب وجل، متطلعة حولها في تعجب، لقد بدل أثاث غرفة الاستقبال كليا، تعجبت: غيرت شكل الاوضة خالص..
جذبها للداخل، صوب حجرة النوم مؤكدا: طبعا مش عروسة ولازم اجيب لك أحسن حاجة، تعالي شوفي، يا رب يعجبك ذوقي..
تطلعت للغرفة التي دخلتها لمرة واحدة، يوم مناوبتها مع سعدون، بعد عودته من حادثته المشؤومة، لقد تبدل شكل الغرفة تماما، أصبحت حميمية بشكل دافيء، مخالف لطبيعتها الأولى، والتي كانت تتسم بالبرود بعض الشيء..
أكدت في اضطراب: حلوة أوي.. تسلم ايدك..
جذبها أيوب في هوادة نحوه، فازداد وجيب قلبها، وما أن وضع كفيه حول خصرها، يقربها صوب صدره، إلا وبدأت ترتجف في ذعر، وقد تداعى على فكرها، كل ما مر بها من أحداث ببيت مجدي، رفع أيوب كفيه عنها، وهي تقف أمامه في استكانة، منكسة الرأس، لا تنطق حرفا، فقط ترتعش كورقة في مهب ريح ذكريات قاسية، تكاد أن تعصف بثباتها..
مد أيوب كفه، رافعا ذقنها، متطلعا في عشق لعمق عينيها الدامعتين، هامسا في نبرة حانية: سلمى! أنا أيوب..
أخذ يكررها، لتهدأ نفسها، متطلعة نحوه في تيه لحظي، لتتذكر رويدا كيف كررت اسمه حين أنقذها من بين يدي الرجل الحقير الذي حاول الاعتداء عليها، لتجد نفسها بلا وعي، تندفع صوب أحضانه، مؤكدة من جديد، أن ذاك الرجل كان وسيظل، مظلة أمان لها من خطوب الزمن، وأمطار الوجع..
طوقها بذراعه، وهي ما تزال تردد اسمه، ليزيد من أسرها بأحضانه، هامسا في عشق: اااه يا سلمى، أنا أيوب، أيوب اللي لقى بقربك دوا روحه من علل كتير، روح أيوب كانت ماتت من زمن بعيد أوي، مكنتش فاكر إني هحس إني عايش من جديد، إلا لما ظهرتي بحياتي، كأنك الضي اللي نور بعتمة روحي، خلاني أشوف الدنيا من تاني.. وخديها عهد من راجل عمره ما خلف لا عهده ولا وعده، أنا عمري ما هكون إلا أمانك، وعوضك عن كل اللي راح، بحبك يا سلامات..
شهقت بين ذراعيه، لسماعها تلك الكلمة التي ما ظنت أنها قد تسمعها صدقا من مخلوق، لكن ها هو يتهجى أحرفها.. حرفا ..حرفا.. ويبث معناها .. شوقا وهياما.. وهي بين ذراعيه طائعة .. تمنحه محبة بحجم الكون.. وعشق مبذول بسخاء، لا يقدر على هبته، إلا قلب في مثل صفاء قلبها.. ولا يستحقه إلا روح في جسارة روحه.. يتسلل صوت أم كلثوم من حجرة الشيخ.. والتي ما زالت تشدو في عذوبة:
خدتني بالحب في غمضة عين..
وريتني حلاوة الأيام فين!
الليل بعد ما كان غربة، غربة مليته أمان..
والعمر اللي كان صحرا، صحرا صبح بستان..
***************

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!