روايات

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وتسع عشرة 119 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وتسع عشرة 119 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الجزء المائة وتسع عشرة

رواية أغصان الزيتون البارت المائة وتسع عشرة

رواية أغصان الزيتون
رواية أغصان الزيتون

رواية أغصان الزيتون الحلقة المائة وتسعة عشر

____________________________________
إنها واحدة من اللحظات الأقسى على الإطلاق، مغادرة الوطن والسعي وراء الغربة، ترك الأرض بما رحُبت، الفِرار من الأحبّة، تعيش كل تلك المشاعر بين طيّات نفسها ولا سبيل للتجاوز والنسيان.
أول لحظة في كل شعور تكون المختلفة دائمًا، وهي تعاني ويلات التضارب العنيف داخلها وحده.
وضعت “سُلاف” أصابعها على زجاج الطائرة، وكأنها توُدع (مــصر) في لمستها تلك، مستشعرة وجوده في مكانٍ قريب منها، سحبتها خيالاتها إلى اعتقاد إنه أتى يودعها، بينما كان عقلها الحكيم يجاهد لإصراف تلك الفكرة المرهقة عن رأسها. أغمضت “سُلاف” عيناها، وأسندت ظهرها للخلف قبل أن تنصهر بتأثرٍ من وهج مشاعرها الفياضة، معتقدة إنها بذلك تسير في أولى خطوات النسيان.
************************************
دخل المنزل.. ذلك المنزل الذي أخذته عنوةً ونسبته إلى ولدهِ، وإذا به كئيبًا موحشًا، يحمل بين جدرانهِ ذكريات كثيرة معها، نعم أغلبها ذكريات محفورة بالألم؛ لكنها كانت ضمنها، أما الآن فهي سراب ليس له وجود، لم تعد تسير على الأرض التي يمشي عليها، ولم تعد بين حدود الوطن الذي يعيش فيه، أصبحت غريبة في بلدٍ غريب، فقط من أجل الهروب منه.
وقف “حمزة” في باحة البيت الفسيح، يتأمل زواياه وأركانهِ بنظراتٍ فارغة، وطفلهِ بين ذراعيهِ، ليردف بخفوت :
– خلاص يا زين، بقينا هنا انا وانت لوحدنا.
أخفض بصره نحو الصغير الذي كان يمصّ أصابعه، ثم تابع :
– لآخر وقت كان عندي أمل إنها تيجي.. مش مصدق إنها خلاص مبقتش موجودة معانا، كأنها مستكفتش عقاب فيا ولسه عايزة تكمل.
شق “حمزة” طريقه نحو الدرج كي يصعدهُ، وسط نظرات “زيدان” المراقبة التي تتفحصه شاعرًا بالشفقة عليه، ثم تأفف منزعجًا وهو يغمغم :
– عيني على حظك!.. ربنا أدالك كل حاجه وخد منك الراحة، ياحول الله يارب!.
*************************************
*******************************
*مرورًا بثلاثة أشهر متتابعة*
كان “مصطفى” ينتظر في ردهة المشفى برفقة “عِبيد”، ينظر نحو الباب في لهفةٍ حتى انفتح، فـ تنفس الصعداء لدى رؤيته لـ “نضال” يشير في اتجاهه مبتسمًا، ليعيطيه الخبر قائلًا :
– خلاص الدكتور سمح إنها تخرج من المستشفى بعد يومين.
زفر “مصطفى” زفيرًا مرتاحًا، بينما بدأ “عِبيد” يتنفس أخيرًا :
– يـاه.. بقالنا زيادة عن شهر في المستشفى أخيرًا الكابوس هيخلص.
عادت ملامح “مصطفى” تأخذ شكل الجدية مرة أخرى وهو يسأله :
– عملت اللي قولتلك عليه يا نضال ولا لسه؟.
أشاح “نضال” بوجهه بعيدًا ليقول بلهجة معترضة :
– إحنا خلاص هناخد سُلاف من هنا ونخرج ياعم مصطفى، لزومه إيه اللي عايز تعمله ده!!.. احنا ما صدقنا خلصنا.
نفخ “مصطفى” في إنزعاج، وحاول أن لا يظهر صوته مرتفعًا بين أرجاء المشفى :
– يابني مفيش حاجه رجعت لطبيعتها من ساعة ما سابت مصر!.. سُلاف عمرها ما هترتاح هنا أنا حاسس ببنتي.. دي وشها مضحكش مرة واحدة من ٣ شهور!، ويوم ما قررت ترجع مصر عملت حادثة كبيرة زي ما انت شايف!.. بقالها شهر وأكتر راقدة في أوضة في المستشفى، هستنى إيه تاني ؟.. لما تضيع مني خالص!.
تدخل “عِبيد” في الحوار مُبديًا رأيه :
– عندك حق ياعمي، الوضع اتحول من سئ لأسوأ.. وللأسف محدش فينا عرق يسد الفراغ ده.
قبض “مصطفى” على مقبض مقعدهِ المتحرك وهو يؤكد على قرارهِ للمرة الأخيرة :
– أسمع كلامي واعمل اللي قولتلك عليه يا نضال.. ودلوقتي.
أطرق “نضال” رأسه بإنهزام، ثم أومأ رأسه قائلًا :
– حاضر.
************************************
طرقات على الباب تلاها صوتها وهي تسمح بالدخول :
– أتفضل.
دخل إليها “عِبيد” ليراها تترك كأس الماء البارد بشرائح الليمون جانبًا وتنظر نحوهِ، فـ ابتسم إليها وهو يردف :
– خلاص هتخرجي بعد بكرة.
– الحمد لله.
قالتها وهي تتحسس ذراعها حبيس الجبيرة الطبية، ثم سألته :
– محدش قال هفك الجبس ده أمتى!.
– لسه الأسبوع الجاي.
أشارت إليه “سُلاف” نحو الكمود قائلة :
– أفتح الدرج يا عِبيد، هتلاقي ظرف جواه محتاجة أبعته دلوقتي ضروري.
نظر إليها “عِبيد” بنظراتهِ الثاقبة، ثم سألها بتشككٍ :
– انتي فعلًا لغيتي فكرة السفر لمصر!.
أسندت “سُلاف” ظهرها للخلف، مخبئة تآوه متألمة بين ضلوعها :
– أكيد اللي حصل مكنش صدفة، اليوم اللي كنت هسافر فيه هو اليوم اللي عربيتي اتقلبت بيا فيه، تفتكر في إشارة أكبر من كده تمنعني عن السفر!.
قطب “عِبيد” ما بين حاجبيه مذهولًا من تفكيرها في الأمر بهذا الشكل المتشائم:
– معقول فكرتي بالطريقة دي!؟.
لم تجد سوى الشئ الذي اعتادت عليه بالفترة الأخيرة، الفِرار من الحديث، فـ بدلت تجاه حديثهم
على الفور رفضًا منها البوح بأي شئ يخص الأمر :
– عرفت هتعمل إيه في الظرف ده؟.
حرر “عِبيد” نفس عميق من صدره وقد فهم رغبتها في عدم التحدث :
– متقلقيش فهمت كل حاجه.. وهعملك اللي انتي عوزاه بالظبط.
************************************
كانت الأمور قد أخذت طريقها في الإستقرار -مهنيًا-، عاد كل شئ إلى نِصابهِ، واستعاد مكتب المحاماة خاصتهِ قوتهِ المعهودة وعملائهِ القُدامى بجانب تعيين فريق جديد كُليًا للبدء في العهد الجديد.
ذلك على الصعيد المهني الذي استقر تقرييًا؛ أما على الصعيد الآخر فـ حياتهِ باتت گفوهة البركان التي تنتظر ألسنة اللهيب المسعّرة لتصعد في أي وقت مُشكّلة حريق هائل. صحيح إنه التهى في العمل وصبّ كل مجهوداتهِ فيه، إلا أن ضجيج قلبهِ لا يتركهُ ينام الليل، يأوى إلى فراشه فتهاجمهُ بأحلامهِ، يشم رائحتها، يسمع صوتها تحادثه، يراها أمامه گطيفٍ كاذب حتى بدأ يشك في قواه العقلية، لا ينأى ولا ينسى، إنها تسير في عروقهِ گالسرطان الذي عجز كافة الأطباء عن علاجهِ.
هُنا حيث الغرفة الأكثر ضجيجًا في المكتب كله، بعدما أنهى اجتماعهِ بهم وبدأ الجمع يتفرق، رفع أنظارهِ نحو مديرة مكتبهِ الجديدة ليأمرها بخشونتهِ التي بدأت تعتادها :
– انا مش قولت ١٠٠مرة البريد كل يوم يبقى على مكتبي الصبح!.. لو محتاجة Reminder “تذكير” جمبك في كل حته دي مش مشكلتي!.
أطرقت رأسها في حرج وهي تعتذر عن نسيانها :
– حالًا يافندم.
خرجت من الغرفة وهو في أعقابها، تحرك نحو مكتبه وهو يحرك أصابعه على شاشة الهاتف، ثم وضعه على أذنهِ وهو يقول :
– أيوة يا نيسا.. زين عامل إيه النهاردة؟.
انخرط في مكالمته دون انتباه لها وهي تضع البريد على سطح المكتب وتخرج، بينما هو مندمج في الإطمئنان على طفله من المربية التي عثر عليها أخيراً بمساعدة أحد الأصدقاء القدامى :
– طيب، خلي بالك معاد التطعيم بتاعه قرب، هيلغك تجهزيه قبلها عشان آخده و……..
توقف كل شئ من حوله، صوت عقارب الساعة، صوت المربية، صوت السيارات وأبواقها بالخارج، لم يبقى سوى صوت نبضاتهِ المرتفعة العالية وأنفاسهِ المتهدجة. تيقّظت حاسة الشم خاصتهِ مثيرة قشعريرة قوية أربكتهُ بالكامل، فـ تلفّت حوله بتوترٍ وهو ينظر يمينًا ويسارًا، ترك هاتفه دون إغلاق، وراح يبحث عن مصدر الرائحة في أرجاء غرفتهِ وحتى في دورة المياة الملحقة بالغرفة، إلى أن وقعت عيناه على ذلك اللون الأحمر المثير للنظر على سطح المكتب، فـ أسرع نحوه ليرى ذلك المظروف ذا الشكل المميز، مظروف أحمر ذا حجم أكبر من العادي، اختطفهُ وكأنه سيلتهمهُ من فرط الحماس الذي تدفق مع اندفاع الأدرينالين في دمائهِ، فـ اشتد ظهور الرائحة أكثر وأكثر كأن المظروف قد تعبّق برائحتها المثيرة التي لم ينساها ما حيا، فتحهُ وكُل الشوق في نفسه، إلى أن وجد بطاقة دعوة رقيقة ذات شكل ناعم، إنها دعوة خاصة جدًا لزيارة جزيرة سانتوريني في اليونان، مرفقة بتذكرة الطائرة التي ستقلع صباح الغد الباكر، والأهم من ذلك إنها مرفقة برائحتها التي أغرقت بطاقة الدعوة، وظهر ذلك في بعض البقع الصغيرة التي تسبب فيها نثر العطر عليها. قرّبها من أنفهِ، استنشق عِطرها حتى ملأ به صدرهِ، وأغمض عيناه بهيامٍ بعدما تدفئت أضلعهِ بعد بردٍ قارس طويل. مفاجأة غير متوقعة بالمرة، أن تدعوه للبلاد التي اختارتها للمنفى، وأن تقرر بنفسها موعد اللقاء ومكانهِ، إنها العلامة الوحيدة على المصير الذي تقوده إليه، وهذه المرة بطواعية كاملة منها. ترك جسدهِ الثقيل ينحطّ على المقعد، ومازالت الدعوة موضوعة على أنفهِ يستنشق عبقها، وسط كل ما يحيطهُ من مشاعر قبول ورفض وشوق وكبرياء وحنين ورغبة وتمرد، وبين حيرةٍ لم يتخيل أن يستشعرها يومًا بعد ما كل عاناه من ويلات الفراق، أيُلبي الدعوة؛ أم ينساق خلف جزء مكابر مقاوم يدعوه للتخلّي؟!.
***********************************
كان ينتظر الخبر على أحرّ من الجمر، يتلهف لسماع التأكيد الذي ينتظره منذ أن نفذ ذلك المخطط، ولم يخطر على ذهنهِ أبدًا قد يرفض الدعوة أو أن يتخلى عن فكرة الذهاب إليها. رنّ هاتفه برقم “نضال”، إنها المكالمة الأكثر انتظارًا، فـ أجاب على الفور دون تضيع أي وقت :
– أيوة يا نضال.. طمني نزل في المكان اللي حجزناه عشانه؟.
فآتاه الرد الذي لم يكن ينتظره :
– حمزة مجاش اليونان يا عمي.. أنا في المطار وأتأكدت بنفسي إنه مجاش على الطيارة اللي حجزناها عشانه، مش قولتلك إن الكِبر هيملى دماغه؟!.
لم يكن في متسعه أن يستمع لأي لوم أو عِتاب الآن، فأنهى المكالمة وهو يمزّق نفسه من شدة الندم على خطو خطوة گهذه من وسعها التقليل من شأن ابنة أخيه الدُرّة المصون؛ لكنه كان يراها بين أحضان الموت، وقد نذر نذرًا أن يعيدها إليه إن أراد الله أن تعيش، كي لا يوخزهُ ضميره الذي دفعهُ لجرّها خلفه في بلدٍ غريب فقط من أجل الهروب من الحُـب الذي عَلق بها، وها هو يرّد الصفعات التي تلقاها حين تركته مرارًا وتكرارًا.
تنهد “مصطفى” بتحيّرٍ وهو يفكر بشأنها، تُرى هل أخطأ بالفعل حينما حاول إعادتها للحياة بعدما فقدت كل معانيها؟.. أم إنه تعجّل بتصرفه قبل أن يتأكد من رغبة الطرف الآخر إن كانت قد تغيرت أو بقيت كما هي؟.. وفي أوج تفكيرهِ بشأن الأمر المزعج خالط صوت الهاتف صوت رأسه المرتفع، فـ تناوله ليجيب بقنوطٍ :
– أيوة ياعِبيد، زي ما توقعت بالظبط.. مجاش على الطيارة.
فآتاه صوت “عِبيد” بخبر غيّر كل الموازين :
– هو فعلًا مجاش على الطيارة دي.. بس جه ترانزيت امبارح بالليل.. لسه مبلغيني في الفندق إنه بايت هناك من امبارح.
************************************
********************************

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى