روايات

رواية أزهار بلا مأوى الفصل الثالث عشر 13 بقلم نورا سعد

رواية أزهار بلا مأوى الفصل الثالث عشر 13 بقلم نورا سعد

رواية أزهار بلا مأوى الجزء الثالث عشر

رواية أزهار بلا مأوى البارت الثالث عشر

رواية أزهار بلا مأوى الحلقة الثالثة عشر

– أعيش معاكِ فين؟
كانت خائفة من رده، مسكته من معظمه لكي تبث له شعور الأمان وهي تردف:
– في البيت، عايزة أتكفّل بيك يا “ياسين” وتكون معايا على طول.
ملامحه تحولت، بعد يدها عن معظمه وتراجع للخلف وهو يقول سريعًا وبملامح فازعة من تلك الفكرة :
– لا…مش عايز، مش عايز أروح لحد، مش عايز..
غصة مريرة شعرت بها، هل هو يرفضها؟ حتى هو يرفض المواصلة معها، يرفض أن يواصل حياته معها، لم يشعر مثل ما تشعُر بهِ نحوههُ، هل هي خُلقت لكي تُستنزَف مشاعرها فقط؟ وقبل أن تأخذها رأسها في تلك الدوامة أقتربت “ليلى” من الطفل لكي تصِل لقامته، وبصوتٍ مُختنق سألته:
– ليه؟؟ أنت مش بتحبني؟
طبقة رقيقة حاوطت عيناه، وبصوتٍ باكي قال:
– بحبك…بس مش عايزك تعملي فيا زيهم.
رهبته من التبني، كيف نست أنه في الأصل لديه رهبة من التبني بسبب ما حدث لأصدقاءهُ؟ الابتسامة عادت تُزين ثغرها من جديد، الحُزن تلاشى من مقلتيها، وبنبرةٍ تحمل في طياتها الآلاف من المشاعر المُخبطة قالت:
– أنا عمري ما هكون زيهم يا “ياسين”…بالعكس أنا عايزاك تكون معايا عشان أحميك من الدُنيا، ومش معنى كده أن أنت بس اللي محتاجني لا؛ أنا أكتر وحدة محتاجاك يا “ياسين” محتاجاك تأنس وحدتي، عايزة أحس أن حياتي ليها معنى!
دمعة مُتمردة فرت أمام الصبي، وبحركة تلقائية مِنه كان يرفع أصابعه الصغيرة نحو وجنتيها ويمسح لها تلك الدمعة وهو يبتسم لها ويقول:
– بس أنتِ حياتك كلها حاجات حلوة، كفاية إنك جيتي هنا عشانا وساعدتي كل واحد فينا بطريقة مختلفة! أحنا لازم نقولك شكرًا على وجودك.
هل هو يشعر بما قدمته لهم؟ هو لم يظن أن ما تقدمه هو شء فارغ كما المُعظم؟ هو يشكرها على وجودها؟ كلمات بسيطة ولكنها كانت قادرة على خلق أجنحة لتلك المسكينة لكي تُرفرف في السماء من السعادة، كلماته البسيطة داوت لها جروحًا تسببت فيها كلماتٍ أخرى قاسية، ودون شعور كانت تسحبه بهدوء نحو أحضانها لكي تقول له بكُل صدق العالم:
– أوعدك أني عمري ما هأذيك أو هقسى عليك، أوعدك أني هكون ليك النور اللي هينور ليك حياتك زي ما أنت هتملالي حياتي كلها .
هذا ما كان يحتاجه “ياسين” كلمات مُطمئنة ليس إلا، سكن في أحضانها ويده مُتشبثه بها وكأنه يقول لها لا تتركيني، وبالفعل لبّت له نداءه وضمته أكثر لها لكي يكون مُلتصق بها، وكأنه أصبح جُزاءً مِنها .
********
– دي شوية خطط يا مدام “سهام” لازم ننفذها مع الأولاد من الأسبوع ده.
هذا ما قالته “سلمى” وهي تقدم للسيدة ملفًا يشمل الخطوات القادمة التي تخُص الأطفال في العموم، وكل طفلّا بصفة خاصة، أخذته منها السيدة وهي تنظر فيه وتقول لها:
– تدريبات من أنهي نوع اللي ذكرتيها دي؟
هذا ما قالته وهو ترفع وجهها من على الملف، وببساطة قالت لها:
– الولاد يومهم فاضي؛ فبالتالي مُتعرضين لأي أذى من خلال الوقت، زي “سمير” كده.
تفهمت السيدة كلماتها، أومأت لها وهي تخلع نظراتها وتسألها:
– وإيه التدريب اللي عايزة الولاد يبدأوا فيه؟
– الكورة هي أنسب حاجة عشان يخرجوا الطاقة اللي جواهم فيها.
كان أقتراح هائل، ابتسمت لها السيدة وهي تقول لها:
– هايل، شوفي نادي كويس وأنا هدبر ليكِ الفلوس في أسرع وقت.
ابتسمت لها وهي تقول لها بحماسٍ شديد:
– أنا بالفعل شوفت نادي، وكمان كلمته على تخفيض المصاريف عشان دول أولاد دار أيتام وكده وكل حاجة بقت جاهزة وبكرا هدفع المصاريف.
ضحكت السيدة في المُقابل على حماسها الشديد وهي تنهض وتقول لها:
– ده أنتِ ظبطتي كل حاجة بقى، أومال جاية تاخدي رأيّ في إيه؟
حُرجت الأخرى، حكت في خصلاتها وهي تقول لها بحرج:
– أصل يعني عارفة أن حضرتك مش هترفضي حاجة تفيد الولاد .
نجحت في إخراج حالها من هذا المأزق المُحرج، ابتسمت لها السيدة وهي تترجل في الغرفة وتقول لها:
– وفعلًا أنا موافقة، وشوفي أول يوم في التدريب أمتى لحد ما أجهز ليكِ الفلوس.
وبفرحة عارمة خرجت من مكتبها وهي تتجِه نحو غرفة الأطفال لكي تخبرهم بذلك الخبر.
********
بعد خروج “سلمى” من المكتب ترجلت “ليلى” هي الأخرى للمكتب والسعادة تغمرها بشِدة، تشعر أن الدُنيا لا تُسيع أجناحتها من فرط سعادتها، استقبلتها السيدة ببشاشةٍ كالعادة وهي تسألها:
– خير في إيه تاني؟
وبتردد تقدمت منها “ليلى” كانت تفرك في كف يدها بتوتر شديد، وقفت على مسافة صغيرة من السيدة وهي ترفع عينيها لتقابل خاصتها وهي تقول لها:
– أنا عايزة أتكفّل “بياسين” كفالة ذاتية يا مدام “سهام”
صدمة! صدمة وقعت على مسامعها، تلاشت بسمتها في ثوانٍ، ضيقت حاجبيها وهي تسألها بتعجب شديد:
– تتكفّلي “بياسين”؟ ليه يا “ليلى”؟ صعِب عليكِ؟
كانت كلماتها نابعة من غرابة الموقف؛ فهذه المرة الأولى التي تطلب فتاة تعمل معها بالتكفّل بطفلٍ من أطفالهم، كانت “ليلى” مُتفهمة تعجبها؛ فهي لا تعلم أي شيء عن حياة “ليلى” ولا يوجد لديها عِلم بمشكلتها مع الإنجاب، لذلك مسكتها من يدها برفق وهي تتجِه بها نحو المكتب وتقول لها بهدوء:
– أنا هفهمك أنا ليه بطلب منك طلب زي ده.
تابعتها السيدة باهتمام وبالفعل جلست على رأس المكتب و”ليلى” مقابلة لها، شبكت يديها أمامها أعلى سطح المكتب وهي ترمقها بنظراتٍ مُشتتة ثم سألتها:
– سمعاكِ.
أخذت الأخرى نفسًا عميقًا وهي تستدير بكامل جسدها نحوها وهتفت قائلة:
– أنا عارفة أنك متعرفيش حاجة عن حياتي؛ وعشان كده أنتِ مستغربة.
وقبل أن تعلق السيدة واصلت هي:
– أنا متجوزة بقالي ٥ سنين، أتجوزت في التلاتينات فكنت كبيرة مش صغيرة.
أومأت لها وهي تُستشف من نبرتها ما سيأتي، وبنبرةٍ أكثر أهتزاز واصلت:
– لما أتجوزت أكتشفت أن عندي مشكلة في التبويض وصعب يحصل حمل، وبعد سنتين من العلاج الدكتور قالي الحمل من المستحيل أنه يحصل بشكل طبيعي؛ وأنه لو حصل أحتمال يحصل إجهاض.
لانت ملامح الأخري، توقعت ما قِيل، ابتسمت لها برفق وهي تحثها على المواصلة؛ وبالفعل استطرد قائلة:
– كان لازم وقتها نعمل عملية حقن مجهري، بس اللي حصل…
شعرت أن الكلمات وقفت في حلقها، تسللت الدموع لوجنتيها ولكنها واصلت والغصة تضرب موضع قلبها:
– اللي حصل أن جوزي مكنش فاضي عشان نعمل العملية، دايمًا كان في الشغل، ٣ سنين مش فاضي ليا ولا أنه يروح للدكتور ولا أنه يسعى عشان يكون عنده طفل!
حزنت السيدة عليها، تشعر بها جيدًا؛ فهي في الأصل حُرمت من نعمة الأطفال لمدة خمسة عشر عام وبعد كل تلك السنوات المريرة مَنَّا الله عليها بطفلًا جميلًا؛ وبعد ذلك قررت هي أن تكون أم لخمسة وعشرون طفلًا؛ وليس أمًا لطفلًا واحد فقط، سيطرت على مشاعرها وابتسمت لها برفق لكي توافق حديثها، وبالفعل أخذت “ليلى” أنفاسها بارهاق ثم واصلت:
– وبعد الفترة دي الدكتور قالي أن خلاص، فُرصتي في الخِلفة بقت مستحيلة، حتى لو عملت العملية؛ متهيألي كل دي أسباب تخليكِ تكوني فاهمة أنا لية طلبت منك طلب زي ده.
ختمت كلماتها بنبرة تُقطر وجعًا، أومأت لها السيدة وهي تبتسم لها وتقول لها بهدوء:
– لازم تكوني عارفة يا “ليلى” أن الموضوع كله تدبير من ربنا، ربنا هو اللي عمل كده وحطك في طريق “ياسين” يمكن عشان هو فعلًا محتاجك.
كلماتها ربطت على قلبها، كانت كلماتها صحيحة؛ فكل ما حدث وما سيحدث لنا هو من تدبير الله، ولا للعباد دخل في شئونه، نحن فقط لنا حُرية الأختيار؛ ولكن في نهاية كل خيار جبر خاطر وسعادة نفس، ابتسمت “ليلى” باتساع بعدما كانت تُجفف دموعها، وبحماسٍ سألتها:
– عايزاكِ تقوليلي يا مدوم “سهام” إيه الأوراق المطلوبة، أنا عايزة التكفل يحصل في أسرع وقت.
ضحكت على حماسها وتقلب مزاجها السريع، نظرت لها وهي مازالت مُبتسمة ثم قالت لها:
– بلاش الحماس ده كله متنسيش أنه ورق حكومة.
ضحكا الأثنين ثم وضحت لها السيدة الأوراق المطلوبة، وما سيحدث معها لكي تتم الأجراءات إذا كان من ز يارة خارجية من الشئون المختصة أو من خلال الدار هُنا، وبعدما فرغت من حديث ثم قالت لها ما كانت الأخرى تتوقعه ولا مفر مِنه.
– أنتِ عارفة أن لو جوزك رفض كل شيء هيقف يا “ليلى”؟
قالتها لها السيدة بقلق شديد، تشعر بفرحتها وبحماسها وشوقها لذلك الطفل؛ وفي ذات الوقت تخشى على الولد من الصدمة إذا حدث أي شيء، ولكن جاء صوت “ليلى” الواثق وهو يقول لها:
– متقلقيش، هيوافق، المرة دي مفهاش أختيارات.
نبرتها الواثقة طمئنت الأخرى رغم جهلها بما قالته، نهضت “ليلى” ثم ودعتها ورحلت هي وصديقتها لأن جاء موعد الانصراف.
********
مر اليوم عليهم بسلام، كانت “سلمى” تترجل نحو غرفة “سمير” بحماسٍ شديد؛ فهي كانت عِند الطبيب المُشرف على حالته وقال لها أخبار جيدة تخُص الطفل، كانت مُتحمسة للغاية لكي ترى فرحته بما هي آتية لتقوله له، وقفت على أعتاب الغرفة وهي تطرق على الباب بطريقتها المشاكسة ثم دخلت، كان الولد يتسطح أعلى الفراش بتكاسل، وبحماسٍ ركضت له لكي تدغدغه وتقول له بسعادة كبيرة:
– أنا جيبالك النهاردة خبر إنما إيه مفيش زيه.
تحمّس الأخر، أعتدل في جلسته وفي شغفٍ سألها:
– حصل إيه؟ قولي بسرعة.
ابتسمت له وهي تداعب خصلاته، جلست أمامه وسألته أولًا بهدوء:
– قولي الأول أنت حاسس بإيه دلوقت وصحتك عاملة إيه؟
وبكلٌ نشاط وحيوية غير متوقعة كان يقف سريعًا أمامها وهو يرفع ذراعه في حركة رياضية وهو يقول لها بسعادة:
– أنا بقيت قوي أوي وبتغلب على العلاج يا مِس “سلمى” زيما قولتيلي، أنا مبقتش بدوخ خالص وباكل كويس؛ كنت الأول برجّع أي شيء بكله بس دلوقت بقدر أكل وعشان كده مبقتش بدوخ خالص، وكمان بقيت بعرف أنام كويس ومش بيجيلي حاجات وحشة تصحيني، أنا حاسس أن بقيت فايق خلاص.
كلمات بسيطة عفوية جعلت قلبها ينبض بشِدة، شعرت أن قلبها على وشك القفز من موضعه، لا تصدق أن هذا ما حصدته يدها العزيزة! فهي أول مرة تشعر بلذة أن تجني ثمارك بعد تعب ومشقة وإستنذاف مشاعر! ترقرقت الدموع في عينيها ولكنها دارتها سريعًا وهي تقترب مِنه وتحاوط رأسه بيدها وتبتسم له، كان يمنحها ذات الابتسامة ولكنها أكثر نقاءً وصفو، وبنبرةٍ سعيدة مشاكسة كانت تقول له:
– وأنا جاية أقولك أن الدكتور قالي أنك وصلت للمرحلة الأخيرة يا “سمير” وأن دي أسهل مرحلة، ودلوقت تقدر تخرج مع أخواتك وتشوفهم عادي.
تهلل الولد بسعادة كبيرة، كان يسقف بيده وكأنه حصل على جائزة، وبسعادة مُفرطة كان يقول:
– دول… دول وحشوني أوي، بقالي كتير خالص مشوفتهمش.
أشفقت عليه؛ فهو منذ ثلاث أشهر وهو يجلس في تلك الغرفة بمفرده، و “سلمى”فقط هي من كانت تعتني بهِ عناية كاملة؛ ودائمًا كانت تأخذه دائمًا للحديقة العامة الخاصة بالدار لكي يستنشف هواءً نقيًا، أقتربت منه وهي تداعب خصلاته بحُب وتقول له:
– خلاص يا عم خدنا أفراج وهتخلص مِني خلاص.
وبحركة عفوية مِنه كان يفتح ذراعيه ويرتمي في أحضانها وهو يقول لها:
– بس أنا حبيتك أوي ومزهقتش منك أبدًا.
بادلته الحضن بأمتنان شديد لذلك الشعور اللطيف الذي يغمرها ويتسلل لأوردتها بفضله، وقبل أن ترد عليه أقتحمت “ليلى” الغرفة عليهم وهي تنضم لهم وتقول بمشاكستها المُعتادة:
– أنا عرفت كده أن في هنا بطل جميل واحنا قررنا أننا نكافأهُ عشان هو أشطر كتكوت وخَف خلاص .
ختمت كلماتها وهي تطلق صوتًا من تلك الصُفارة التي كانت تضعها في جيبها، تهلل الولد بسعادة وهو يقفز هنا وهناك وهو يُهلل فرحًا، وقبل أن يسأل على أي شيء قالت “سلمى” بحماسٍ:
– وهي دي المفاجأة يا سيدي، أحنا هنروح دلوقت أحنا وأخواتك تدريب كورة.
تعالى التهليل في الغرفة أكثر وأكثر، وفي ثوانٍ كانوا الأطفال جميعهم يقتحمون الغرفة ويهللون مع “سمير” لأنهم سمعوا ما قِل، وبمشاكسة كانت “ليلى” تقول لهم:
– حرقتوا المفاجأة يا عفاريت.
ثم وقفت في المنتصف سريعًا وهي تسقف بيدها وتواصل:
– يلا بسرعة كلوا يروح يلبس، عشر دقايق وهنمشي.
وسريعًا اختفوا الأطفال لكي يبدلون ملابسهم، والفتيات يقفون في المنتصف ينظرون لبعضهم بفخرٍ على هذا الإنجاز الكبير الذي حققوه بمفردهم! فأن تلك الأطفال تصل لهذه المرحلة؛ فهذا هو الإنجاز.
********
وصلوا جميعهم النادي الذي قامت “سلمى” بحجزه لهم، كانوا يلعبون ويمرحون هُنا وهناك، وكأنهم كأنوا أسرى حرب وأنفك أسرهم للتو، كان المُدرب سعيد بهم كثيرًا؛ فهم لديهم طاقة لكي يهدون العالم ويشكلوه من جديد كما يناسب الجميع من وجهة نظرهم المحدودة، كانت “ليلى” تمسك هاتفها وتلتقط لهم بعض الصور التذكارية المُبهجة، ولكن “سلمى” فكانت تترجل في المكان تحاول الوصول لذلك المُشرف؛ فالمُدرب بلغها في صباح اليوم أن تأتي هي والأطفال وأن المُشرف لم يأخذ منهم مال لأنها مؤسسة خيرية؛ فكانت تريد أن تقابل ذلك المُشرف النبيل لكي تشكره، ولكنها لم تعثر عليه، يقولون أنه في المكان ولكنها لا تعلم أين هو بالتحديد! ودون سابق أنذار كان يوجد من يقف خلفها وهو يُنادي عليها قائلًا:
– يا أنسة سلمى؛ حضرتك بتدوري عليا مش كده؟
استدارت له سريعًا ولكنها تفاجأت من هويته، هل من الممكن أن الصُدفة تضعها في موقف مُحرج كهذا! ضيقت عينيها وهي تسأله بشك دون الأهتمام بالرد على كلماته:
– هو أنت صاحب “حسين؟” كنت معاه في الخناقة صح؟
تذكر أنها هي؛ فهو كان لا يتذكرها من الأساس ولا كان لديه علم باسم البنت الذي كان زميله ينوي خطبتها، كانت علامات الصدمة تعلو وجهه، وبنبرةٍ مُتعجبة قال:
– آه أنا، أنتِ إيه اللي جابك هنا، قصدي إيه علاقتك بدول، قصدي…أنتِ مين؟
كانت كلماته مُشتتة غير مُرتبة بالمرة، ولكن الأخرى لم تفهم ذلك؛ هي ظنت أنه يستهزء بها وبعملها مثل صديقه الأحمق، وبعيون حادة كانت تصيح عليه قائلة:
– والله؟ وأنت بقى عاملي الشويتين دول ومش هاخد فلوس عشان تقول لصاحبك أني مبقشش عليها هي وشغلها؟؟ أنت عبيط ياض ولا إيه؟
كانت تتحدث بانفعال شديد، غير مُدرجة بما تتفوه بهِ! هي فقط رأت شياطين ذلك “الحسين” تتراقص أمامها وهي قررت أن تحرقهم بكلماتها، ولكنها تفاجأت برد فعل الأخر الهادئ الذي كان في وجهة نظرها بارد! فضحك لها برفق وهو يقول لها بهدوء:
– حِيلك حِيلك عليا بس؛ أنا أصلًا مليش علاقة “بحسين” ده، خ هو معايا في التدريب وكانت عربيته في الصيانة وطلب مِني أوصله وللصدفة شافك وحصل اللي حصل.
موقف مُحرج تضع حالها بهِ من جديد! هل هي للتو هزءته لسبب في رأسها هي فقط؟ رائع موقف أخر يُذيد من الطين بلّة؛ فهي الأن تقف أمامه كالفأر الذي أصتاده الصياد الماهر بعدما هشم له بيته على رأسه! ابتسمت له بحرج وهي تعبث بخصلاتها وتقول:
– آه … يعني أنت متعرفوش؛ أنا بس أفتكرتك صاحبه فأكيد واخد من نفس تفكيره يعني وبتاع.
حاولت أن تبرر سبب انفعالها عليه، ابتسمت لها بهدوء وهو يقول لها:
– ولا يهمك، أنا تشرفت بيكِ، والحقيقة أني كنت عايز أعتذر ليكِ على أسلوبه الغير حضاري اللي أتعامل بيه معاكِ يومها.
كان لبق في حديثه كثيرًا، يختار كلماته بعناية، تشعر أن ذلك الشاب و”حسين” هم الشيء ونقيضه، مناحته ابتسامة ودودة وهي تتحرك معه وتقول:
– أنا اللي بعتذر عن تسرعي في كلامي، الحقيقة أن أفتكرت حاجات غريبة كدة وزعقت عشانها يعني.
ضحكت بخفوت وهي تتذكر ذلك السناريو الذي رسمته في ذهنها، كان الأخر يراقب تعابير وجهها بهدوء شديد، فقط ينظر لها وهو مُبتسم، وضعت الأخرى خصلة من شعرها خلف أذنها وهي تنظف حلقها وتقول:
– شكرًا على أستضافتك لينا في النادي بدون مقابل، كنت بدور عليك عشان أشكرك.
– أسمي “ذياد” صحيح.
وكأنه للتو لاحظ أنه لم يعرفها على نفسه، ابتسمت له وهي تقول له أول شيء جاء في ذهنها:
– منا عرفت من كابتن “عادل”.
أحرجته الحمقاء، شعرت بحالها عندما حك في ذقنه ودار بعيناه في المكان، تنحنحت هي وأضافت:
– وأنا “سلمى” أتمنى مقابلتنا الأولى متسبش في ذهنك أنطباع سيء عني.
ختمت كلماتها وهي تضحك برفق؛ كانت تستهزء بأفعالها؛ ولكنه فاجأها عندما أخذ كلماتها على محمل الجد وقال لها مُتفهمًا بجدية شديدة:
– لا خالص، ده أنتِ شكلك مهذبة، وعندك خبرة كبيرة أوي في مجال عملك، أنا الحقيقي أعجبت بالبنت اللي كلموني عنها وأنها كانت بتسعى بكل جهدها عشان تخلي أولاد الدار اللي هي بتدرب فيه ينزلوا تدريب؛ أنا عارف اهمية النقطة دي في حياة كل طفل، وكنت جاي النهاردة عشان أقابل البنت دي وأشكرها بنفسي، والحقيقة أنها كانت صدفة لطيفة أوي.
كلماته جعلتها تتلكّم، لا تعرف بماذا تُجيب، ولكنها ابتسمت له ثم قالت:
– شرف ليا الكلام الكبير ده.
– قوليلي بقى أنتِ كنتِ بتعملي إيه في الشارع، أكيد كنتِ بتتكلمي مع الولاد اللي هناك مش كده؟
أخذها وترحل بها من موضوعًا لموضوعًا بكل سلاسة ويُسر، نست لماذا جاءت وهي مع من هنا، كل ما كانت تشعر به الآن هو السعادة، تذوقت لذة الفخر، كانت تتحدث معه على أعمالها وهو يُشيد بها كلما تنتهي من الحديث، ولكنها لم تنتهي، لأن ما فعلته وجانته في هذا العمل لم يكن قليل على الإطلاق؛ فهي منذ تخرجها وهي في سوق العمل، رأت السجناء، والأيتام والمُسنين، كانت تراعي أطفال الأحداث والذين على وشك الموت بسبب تنفيذ حكم الأعدام، قصت له أشياء كثيرة عن عملها الذي لم تتحدث فيها مع أحد من قبل؛ فلم يهتم أحد على معرفة كل ذلك العبث من وجهة نظره، ولكن هو كان يقدر ما كانت تقصه له، كان يشعر بكم الطاقة الإيجابية التي تقتنيها تلك الفتاة، لم يتوقفوا عن الحديث غير مع سماع صفارة الكابتن ليعلن انتهاء التدريب، نظر لها وهو يخرّج هاتفه من جيب سرواله ويقول لها:
– ممكن أخد رقمك.
نظرت له وهي تضيق عينيها ولكن الأخر تدارك سريعًا الموقف وهو يواصل قائلًا:
– عشان يعني لو حصل أي حاجة في التدريب أكلمك، وكمان أنا بفكر أجي الدار قريب زيارة، وأكيد أنتِ الوحيدة اللي هتعرفي تساعديني في حاجة زي كده.
– أكيد طبعًا يا كابتن، عن أذنك أنا بقى.
استأذنت منه ثم رحلت من أمامه، كان شعور لذيذ يغمرها، ولكنها نسيته فور رؤيتها للأولاد وهم يركضون نحوها ويخذوها من يدها لكي تلعب معهم.
ولكن “ليلى” فكانت سحبت “ياسين” من يده لكي تخبره أمر هام، أخذته بعيدًا عن أصدقاءه وكست على ركبتيها أمامه، ثبتت عينيها على خاصته تحت نظراته المُتعجبة ثم سألته بتردد:
– “ياسين” أنا هبدأ أجهز ورقك، أنا عايزاك تعيش معايا.
لم يتوقع الولد ما قالته، أنكمش على حاله بعدما كان مُنطلق، وبملامح فازعة سألها:
– ليه عايزة تعملي كده؟ هتزهقي مِني وأنا بحبك.
ترقرقت عينيها بالدموع، رفعت كف يدها ومررته على وجهه وهي تقول له بحُزنٍ وغصة مريرة:
– عشان أنا محتاجاك أكتر من العالم كله يا “ياسين”
تأثر الطفل بدموعها، زحفت دموعه هو الأخر لوجنتيه، رفع أنامله وكفكف لها دموعها وهو يقول لها:
– خلاص أنا هكون معاكِ، بس أوعديني تفضلي جمبي طول العمر.
فتحت له ذراعيها وهي تأخذه بعيدًا عن أعيون الجميع، وكأنها تحميه من البشر والعالم، هُنا فقط وأقسمت أنها على أستعداد أن تُحارب العالم جميعه لأجل أن يكون “ياسين” هو مؤنس حياتها الباقية، وبسعادة ورضا انتهى اليوم على جميع أبطالنا ولا يدرون ما تُخفيه عنهم وحاشة الأيام.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أزهار بلا مأوى)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى