روايات

رواية أتون قلب الفصل الثاني 2 بقلم ندى ممدوح

رواية أتون قلب الفصل الثاني 2 بقلم ندى ممدوح

رواية أتون قلب الجزء الثاني

رواية أتون قلب البارت الثاني

أتون قلب
أتون قلب

رواية أتون قلب الحلقة الثانية

2_اختفاء نبضة
قلقٌ عظيم دب في بدن براءة، حين لم تجد زوجة عمها بهية في المنزل، وخامرها شعور بالاضطراب تموج به نفسها، وأخذت تعدو وتروح في أنحاء المنزل في توتر استبد بكل خلية من خلاياها، سمعت صوت الباب يُدفع من خلفها، فالتفتت في لهفة، ليطالعها وجه بهية التي دلفت في رزانة وهي تغلق الباب وراءها، كأن شيئًا لم يكن، كأنها لم تقتل روحًا هي ملك لرب العالمين، توارت عن أنظار الناس، وتناست إن الله عز وجل بصير بها، انبعث صوت براءة، تسأل زوجة عمها في لهفة:
_عمتي بهية، أين كنتِ في هذا الوقت، لما كنتِ في الخارج؟ هل أنتِ بخير؟
أرتجُ على بهية لثوانٍ قليلة، وقالت على غير أُهبة للمناقشة:
__وأين سأكون! كنت اقف ثوانٍ في الخارج استنشق بعد الهواء وأبكي والدي الذي سافر.. هل تظنين فراقة هين يا وجه الفقر أنتِ.
واندفعت مغادرة المكان، بعدما ضربتها بكتفها في حقدٍ، وشيعتها براءة بنظراتٍ حزينة.
لم تكن تدرِ لما تكن لها زوجة عمها بهية كل ذاك الكره..
ولما تعاملها بحقدٍ لم تحاول أن تواريه إلا أمام معتز..
ثم تنهدت في أعياء، وتوجهت إلى حجرتها، وآوت إلى فراشها، وهي تتصل بمعتز، وأخذت تستمع للرنين ببسمة تزين ثغرها، اتسعت ما أن تسلل صوت معتز أذنها:
__سلام الله عليكِ يا براءة، كيف حالك؟
فتبسَّمت تجيبه بنبرة مرحة:
_بخير حال حمدًا لله، لا ريب إنك تموت مللًا الآن، أليس كذلك؟
فأغلق معتز الكتاب الذي كان منكب على قراءته وقد أتخذه أنيسًا في رحلته، وهو يقول بصوتٍ خفيض:
_أوحشتي قلبي يا براءة.
فتخضب وجهها بحمرة الخجل وهي مطرقة الرأس كأنما يرآها، ثم سألته مغيرة مجرى الحديث:
_أكنت تشعر بالملل؟
٠دُهشت براءة عندما أجابها بضحكة قصيرة، وقال:
_هيهات، ومن هذا الذي قد يشعر بالملل برفقة صحابة رسول الله؟
فأستلقت براءة على ظهرها، وهي تغمغم في اهتمام:
_كُنت أشعر إنهم يؤنسوا وحدتك لا ريب.. ألا تزل بك تلك العادة! ألن تنتهي؟
لم يجيبها معتز فورًا، بل دار عينيه لينظر خلالهما عبر النافذة، وهو يردف في صوت خافت يشوبه الوجد:
__إنها ليست مجرد عادة يا براءة، إنه حب، أتعلمين؟ إذ مر بيّ يومًا دون أن أقرأ قصة أحدهم تكدر يومي، ولشعرت بشيءٍ ينقصني ويمر اليوم ثقيلًا بهمٍ جاثم على صدري.
غمغمت براءة مأخودة:
_يا الله، ومن الصحابي الذي برفقتك هذا اليوم؟
تأمل معتز لبرهة الكتاب الذي بين يديه، وقال:
_جُليبيب.
فهتفت براءة مذهولة:
_جليبيب! ما هذا الاسم الغريب؟ من يكون .. وما قصته؟!
فصاح معتز مستنكرًا:
_يا إلهي، ألا تعرفين حقًا جليبيبًا؟
هزت براءة رأسها كأنما يرآها، بينما أتبع هو يقول بنبرة رخيمة تتسلل إلى القلب:
_إن لم يأتيكِ نبأ جليبيب، فإليكِ قصته…
جليبيب؟!
هذا شخصٌ قال عنه الرسول هذا مني وأنا منه!
صحابي مقدام مات في سبيل الله فحمله الرسول بين يديه الشريفتين حتى وضعه في القبر.
صحابي أحب رسول الله وحبه الرسول حتى إنه إن غاب كان يفتقده ويسئلُ عنه.
جُليبيب هذا كان فتى دميم الوجه، حسن الخلق، لا يُعرف له أهل، فأتخذ من أهل الصُّفة أهلًا و خلانًا، أسلم جليبيب ولامس الإيمان شغاف قلبه.. وأحب جليبيبٌ رسول الله حبًا جمًا وحل في السويداء من قلبه.
وصمت لثوانٍ، وقال متبسمًا باش الوجه:
_وقد أحبه رسول الله ﷺ.
ردت براءة وهي مندمجة بتلقائية:
_اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وسيدنا محمد.
خيم عليهما سكونٌ مهيب منبعه ذكر رسول الله، ثم استرسلَ معتز، بصوتٍ سجيٌ:
_في ذات يومٍ سأل رسول الله جليبيب لما لا يتزوج، فأخبره إنه شاب دميم الوجه، فقير الحال، من سيزوجه.
فطلب رسول الله زوجة لجليبيب من رجلٌ من الأنصار بعدما لم يُعرض عليه لفترة أي بنت يريدون تزويجها وقد كان الصحابة إذا أرادوا أن يزوجوا البنت أو المراة التي مات زوجها عرضوها على رسول الله أن كان يرغب في زواجها، فلما لم يأتيه أحد خطب بنت من رجلٌ من أهل الأنصار، وقد رفضا جليبيب لفقره ودمامت وجهه أما البنت حين علمت تمسكت بالزواج منه ولم تبغ رد طلبٍ لرسول الله..
ودعا لها الرسول قائلًا : (اللهم صُبَّ عليها الخير صبًا، ولا تجعل عيشها كدًا.. كدًا )
سكت معتز بمقلتين مترقرقتين بالدمع، واستطرد يقول بحزنٍ:
_دعا لها رسول الله فَيا هناها ويا سعدها، طوبي لقلبها دعوة الرسول لها.
فغمغمت براءة:
_وافرحاهُ لها، يا حظها.
قال معتز:
_يا حظها حقًا، لم يمر على فرحة جليبيب بزواجه غير أيامٍ قلائل، حتى دعا رسول الله ﷺ الناس لغزوة يغزونها معه، فلما سمع جليبيب بادر إلى تلبية دعوة النبي والجهاد في سبيل الله.
ولما انجلت الحرب، وانفرق الفريقين، وأنعم الله على رسوله بالنصر، سأل أصحابه ثلاثًا إن كانوا يفقدون أحد، فأخبروه إنهم لا يفتقدون أيُّ أحد.
فأخبرهم الحبيب إنه يفتقد جليبيبًا.
جليبيب الذي لم يذكره احد، فذكره رسول الله.
ولم يفتقده احد فأفتقده رسول الله.
كم كان قلب النبي كبيرًا؟
أطرق معتز وقد سال دمعه، فنادته براءة بتأثر:
_معتز، هل.. هل تب..
فقاطعها قائلًا:
_لا شيء، طفق الصحابة يبحثون عن جليبيب في ارض المعركة، حتى وجدوه قد قتل سبعة من المشركين، ثم قُتل وخر صريعًا إلى جانبهم، فرجعوا إلى رسول الله ﷺ وأخبروه، فوقف رسول الله فوقه وقال: قتل سبعة ثم قتلوه هذا مني وأنا منه هذا مني وأنا منه.
سكت معتز وفاضت عيناه بالدمع، وتابع كاسف البال حزين النفس وبداخله كان يتمنى لو رأى رسول الله، لو نصر دين الله معه، لو كان من تلك الأيام:
_آه لو تدرين ماذا تفعل تلك العبارة في صدري يا براءة، عندما تلتهمها عيناي ويتذوقها فؤادي، ويتردد في نفسي (هذا مني وأنا منه) فكم أغبط جليبيب.
_حفروا لجليبيب قبرًا وقام النبي الكريم الأعظم وحمله على ساعِديه و وضعه بيديه الشريفتين في مثواه.. وأهال عليه التراب.
يا سعد جليبيب آثر الله ورسوله فنال الشهادة..
كان ذا قلبٍ جميل وإن كانَ دميم الخلقة فقد نال ما لا يطله مسلم بحب رسول الله، يقول الحبيب أن جليبيب منه وهو منه يا الله من تلك الكلمة، ترَ كيف كان شعور جليبيب والرسول يخطب له بنفسه
يا الله من ذاك الشعور!
يا فرحة قلبه
وسرور روحه
وافرحاه يا جليبيب فقد حملك رسول الله بين ساعِديه و وضعك في القبر، فهل نرزق نحنُ رأيته في الجنة وصحبته مثلما نالوها هم في الدنيا؟!.
أغلق معتز الأتصال، ثم شردة عيناه عَبر النافذة، متطلعة إلى السماء الصافية التي تتوسطها قمرٌ مستدير، وانبعث من داخله صوتٌ، يهمس ببسمة كالطيف الحزين:
_لا ريب يا جلبيب إنك عانيت كثيرًا لدمامتك، لكنها والله ودون أن اراك فإن دمامتك أحب الأشياء لقلبي، لم تكن فقيرًا يا جلبيب فوالله كنت أغنى الناس بحب رسول الله، لم تكن وحيدًا بلا أهل يا جلبيب فأنت منا ونحنُ منك
دخل مهران المنزل بعد ما أدى صلاة الفجر في المسجد القريب، وكان الصبح قد تنفس، فدخل إلى حجرة والدته، وهو يقول ببسمة رزينة:
_صباح الخير يا حجة، هل استيقظ يوسف؟
ولم يتلق ردًا، بل بدت له أمه غريبة، تجلس مشخصة البصر في الفراغ كأنما لا تراه، فضيق عيناه في قلق وتوجه إليها، وهو يسألها في وجوم:
_ما لكِ يا أمي، هل أنتِ بخير؟
ولم يحر جوابًا، عندئذ استمع إلى صوت براءة، تقول في نبرة هادئة رقيقة:
_صباح الخير يا عماه.
فالتفت إليها، مرددًا:
_صباح النور يا براءة، كيف حالك يا بنيتي؟
_في خير حال حمدًا لله.
ثم استطردت في اهتمام يشوبه القلق:
_ما بها جدتي يا عمي، منذُ استيقظت وهي على هذا الحال.
فهز مهران كتفاه في حيرة، قائلًا:
_لا أعلم يا بنيتي، ربما هي مريضة، سأخذها إلى المستشفى.
هزت براءة رأسها موافقة عما يقول، ثم همهمت في تساؤل حائر:
_ألم ترَ يوسف يا عماه؟ فإنه ليس موجود في غرفته!
ضج البيت بعد ذلك بالبحث عن يوسف، الذي لم يكن له أدنى أثر، وطارَ صواب الحج مهران عندما لم يجد والده الوحيد في غرفته ولا في أي مكان من المنزل أو خارجه، وتصنعت بهية الجزع وهي تنوح باكية وترغي وتزبد في الجميع باحثةً عنه.
الحقد عندما يتفعم به قلب المرء ولا يداويه يتشرب منه القلب فيصبح هو غذاؤه الوحيد ويكون أذية الناس هي بغيته دائماً، فبئس القلبُ هذا.
أبلغ الحاج مهران الشرطة عن اختفاء ابنه، وسأل في المستشفيات رغم مُحال ذلك وابنه لا يخرج من المنزل دون إذن أو أحد..
لكن ماذا يفعل المرء عندما يفقد نبضة من نبضات قلبه بها الحياة، فيظل كل شيء بالنسبة له طوق النجاة الذي يتعلق به ليرسوا على أي مرفأ بها سلواه.
أخذ يجوب الآفاق، يبحث عن والده في كل حيّ وناحية، ويسأل عنه القريب والغريب، وشرع يهيم على وجهه في كل فَج وقلبه يتلظى من لوعة واحتراق، لم يعد يعود إلى المنزل..
لا يتصور أن يخطو داخله وابنه لا يدرِ عنه شيئًا.
أحي فيرجوه أم ميت فييأس من لقائه.
وعندما ضاقت بهِ الدنيا، ولم يجد له أي أثر، وأصاب قلبه الذي لم يرقأ له دمع من بكائه عليه الإعياء عاد إلى المنزل كاسفِ البال، متكدر النفس، غائب وما هو بغائب، حاضر وما هو بحاضر..
كأنه جسدٌ وقد نُزعت منه الروح..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أتون قلب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!