روايات

رواية أتون قلب الفصل الأول 1 بقلم ندى ممدوح

رواية أتون قلب الفصل الأول 1 بقلم ندى ممدوح

رواية أتون قلب الجزء الأول

رواية أتون قلب البارت الأول

أتون قلب
أتون قلب

رواية أتون قلب الحلقة الأولى

_جريمة احتراق

ظلامُ الدُجى يغشى المكان، ريحُ الْبَلِيلُ تنعش هذان القلبان اللذان يسيران جنبًا لجنب مستمتعان بنسمات الْبَلِيلُ، أناملهما تتعانق في وعدٍ بالبقاء أبد الدهر، بحرٍ متقلب الأمواج يسيران بمحازاته، مستمتعين بهدوئه، وسكونه، كأنما يشاركهم ويتفاعل مع همسهما الخفيض الضاحك النابع من صميم الفؤاد، وعلى الجانب الآخر ثمة حقولٌ خضراء أهدت للجو صفاءً ونقاء، ضحكة رقيقة ندَّت عن الفتاة بصوتٍ سجي، هامسةً:
مُعتز، دعنا نعود يجب أن تجلس مع والدتك قليلًا قبل السفر وترتاح لبعض الوقت.
فطل حزنُ الفراق في عيني معتز، وأسبل جفناه لثوانٍ وهو يُشدد من عناق أنامله بأناملها، وخرج صوته في هدوءٍ يقول وهو يقف قبالتها:
_لنبقَّ لوقتٍ أطول، لا يزل امامي وقت لكل هذا.
تحسس معتز وجنتها بأنامله في حنان، وهو يضيف:
_ستغيبين عن عيني لأيام، لا أدري كيف سيتحمل قلبي فُراقك، وغياب محياكِ عن ناظره.
فدنت براءة منه وضمته بذراعيه، وذرت وجنتها تستكين على صدره، وهي تقول بصوتٍ خفيض:
_منذُ ولادتي وأنت دائمًا بجواري، ومعي كنت حاضرًا طول الوقت، تذود عني، وتساندني، وتواسيني.
وأسبلت جفنيها على ذكرى تأججت وطافت من سويداء القلب لترهق أعماقها، عندما فقدت أمها.. الحضن الحنون والقلب الدافيء، حينها لم يُخرجها من بئر حُزنها إلا مُعتز.. لا تذكر إنه تخلى عنها يومًا! أو رفض شيئًا تريده كانت دائمًا طلباتها مجابة، وأمنياتها يضعها نصب عينيه فتمتثل بين يديها.
ترقرقت مقلتاي براءة بالدموع ورفعت رأسها عن صدره، وهمهمت بصوتٌ متهدج:
_من أين تأتي بكل هذا الحنان يا معتز؟!
قرص معتز وجنتها بمشاكسة، متمتمًا:
_هذا الحنان لا يخرج إلا لكِ يا ضياءُ قلبُ معتز ومبتغاه.
وضم وجهها بين راحتيه الخشنتين، متسائلًا بصوتٍ رغم صلابته إلا أنه مشوب بالعاطفة:
_لما عيناكِ حزينتين؟
طأطأت براءة الطرف، وهي تهمس بصوتٍ خافت، يقطر بحزنٍ دفين:
_تذكرت أمي رحمها الله، غيابها يُفطر قلبي يا معتز، رحلت قبل أن ترآني عروس لك.. لم انساها لحظة، فراق الأم قاس جدًا يا معتز يفقد البنت أمانها.
فتبسَّم معتز بسمة ساحرة، وحملت عيناه حنان الدنيا وتمتم بنبرة باردة تحمل دفئًا مخبوءًا:
_رحمها الله عز وجل، لا تحملي قلبك ما لا طاقة له به، إن الله قد استرد أمانته ولا نملك إلا الرضا فـ الحمدُ لله العظيم، إن ثمة ذكريات يا براءة تُرثي الرحيل، يكون بها عزاءنا الوحيد وتجعل الخطب جللًا في أعيُننا لولاها لمات المرء كمدًا فـ سبحان الله العظيم.
التقتا الأعيُن وخيم سكونٌ مهيب، وتبسمت الثغور، وهاجت نسمة هواء كالندى، وتسلط ضوء القمر المستدير عليهما، برفقة حاشيته التي تُحيطُ به من النجوم، قاطع لحظتهما الرائعة تلك صوت طفلٍ يقبل عدوًا، ينادي لاهثًا:
_معتز، يا براءة..
فأنتزع معتز نفسه من غمرة مشاعره، وأبتعد عن براءة خطوات، وهو يسأل في اهتمام، مواجهًا الطفل الذي وقف أمامه بأنفاسٍ متلاحقة:
_يوسف، ماذا هناك؟
دنا يوسف منه وهو يقول:
_أبي يريدكما أن تعودان الآن.
أجابه معتز ببساطة:
_حسنًا.
تشابكت أصابعه بأصابع براءة وهما يسيران وراء يوسف عائدون لمنزلهم.
دون أن يتفوه أيًّا منهما بحرفٍ، لكن .. بماذا تجدي الكلمات وعيون العاشقين صفحةٌ بيضاء لبعضهما، فللعينين حديث..
حديثٌ صافي جميل..
مترع بكلامٍ لا تفهمه إلا القلوب..
كانا ابناء عم، وقد عُقد قُرانهما، بعد قصة حبٍ جمعت بينهما في صمت وهم يقطنون في منزل واحد.
عادا إلى المنزل الذي يجمع العائلة جميعها بين جدرانه، و ودع معتز جُل من فيه، وضم أمّه التي بكت كأن قطعة منها ستغادرها، فمسح دمعها، ولثم جبينها بقبلة حنونة، وصافح براءة التي فاضت عيناها بالدمع وهي تشيع رحيله برفقة عمها الكبير..
أوصله عمه مهران إلى المحطة، وصافحه في وقار، قائلًا:
_انتبه إلى نفسك جيدًا يا معتز، واتقي ربك في الصغيرة قبل الكبيرة، ولا تنس أن تطمئني عليك ما أن تصل.
فضحك معتز ضحكة قصيرة، وقال بنبرة هادئة:
_لقد أصبحت رجلًا الآن يا عمي.
فربت عمه مهران على كتفه، وهو يقول ببسمة:
_وأفضل الرجال يا بني أنت تربية يداي هاتين، أطال الله في عمرك وجعلك من عباده الصالحين، وهداك إلى الصراط المستقيم.
ارتسمت راحة جمة على وجه معتز، وقال بتنهيدة عميقة:
_كم يحتاج المرء إلى دعواتك تلك يا عمي لا حرمني الله منها.
عَلا صفير القطار معلنًا عن وصوله، فهمهم معتز وهو يعانق عمه:
_انتبه لنفسك يا عمي وعلى يوسف وجدتي وبراءة ولا تنس أن تطمئني على الجميع كل يوم.
وصعد القطار ولوح لعمه بود وعلى وجهه ابتسامة حنون، انطلق القطار وجلس معتز يراقب الطريق.
بنظرة حزينة قبعت داخل عينيه عما عانى عمه مهران ذو القلب الكبير في حياته.
كان عمه الكبير مهران قد فقد ثلاث أبناء ذكور وزوجة في حادث سير رهيب أدمى قلبه، وأورثه فوق عمره أعمار، فتزوج مرة أخرى وأيضًا ماتت وهي تلد طفلهُا الأوَّل والذي كان ذكر..
ربما ما صبَّر عمه على نوائب الدهر تلك هو إيمانه بالله العلي العظيم، وكان هو قد فقد أباه منذ سنتين، وعمه الأوسط لا يملك إلا براءة.
كانت أم معتز (بهية) تتلفت حولها في حذر، ثم دخلت إلى حجرتها وهاتفت أحدٍ ما وهي تغدو وتروح داخلها، ولم تكد تسمع صوت محدثها، حتى غمغمت في ارتباك:
_جابر، لقد سافر معتز الليلة، يجب أن ننهي ما اخبرتك به قبل شروق الفجر، وحتى قبل أن يعود مهران فقد ذهب ليوصل معتز وسيذهب للجلوس مع صديقه.
وتوحشت عينيها التي تتلظى بنيران الحقد، فبدتا مخيفتين، وهي تردف:
_يجب أن يموت يوسف الليلة، لن أدع مهران يتهنى بولده ويلتهم هو كل الثروة هذه.
فبلغها صوت جابر، يهتف في توتر متردد:
_هذه الثروة كلها والأراضي هي من الأساس ملك مهران يا ام معتز.
صاحت فيه بهية وهي تنتفض في حدة:
_كلها لمن يا جابر؟! اسمع يا هذا نفذ ما أريد وساعدني وإلا لتعيد ليّ الأرض التي بعتها من وراءي.
وصمتت لهنيهة، ثم أردفت تقول:
__قابلني الآن وراء البيت قبل أن يعود أحد.
ثم أغلقت الهاتف وفي عينيها نظرة مبهمة مخيفة، لم تلبث تلك النظرة الرهيبة إن زالت وهي تتقدم إلى غرفة جانبية فتحت بابها وطلت برأسها من فرجة صغيرة منه، إلى طفلٍ لا يتعد السبع سنون، وتنهدت في ارتياح، وهي تدلف مغلقة الباب وراءها، واستندت بظهرها عليه، وراقبت جسد الصغير الراقد على الفراش بعد ما سقته كوبًا من العصير ممزوجٌ به حبة منوم، وأسرعت على عجلٍ إليهِ وهزته بضع مرات منادية بصرامة:
_يوسف، يوسف..
وعندما تأكدت إنه يغط في نومٍ عميق إثر الحبة المنومة، إذ جاست حدقتيها في إنحاء الغرفة متحيرَّة في كيفية إخراجه من الدار دون ان يراها أحد.
سحبت (بهية) نفسًا عميقًا في ظفر وقد وصل عقلها الشيطاني إلى فكرة قاضية، فحملت الصغير بين كفيها ووضعته على السجاد المفروش على الأرض ولفته عليه وحملته على كتفها وخرجت من المنزل متخفية في حذر وترقب، وذهبت إلى بقعة ذراعية وراء المنزل وكان في انتظارها شابٌ يرتدي جلباب أسود، غمغم بحدة ما أن رآها:
_لِمَ كل هذا التأخير؟ وأين الولد؟!
لكنها لم تجبه بل ألقت السجادة على الأرض بإهمال فانفصل طرفاه ليظهر الصغير، فاتسعت عينا الشاب حتى بلغا الذروة، وقال بعدما رمق ساعة معصمُّه:
_يا لكِ من داهية يجب أن يهابها المرء، والآن ماذا سأفعل به؟
لاح على شفتيها بسمة ساخرة وهي تجيبه في تهكم:
_سنوقظه بتأنٍ ونعتذر له ثم نعيده للمنزل..
وهتفت بغتة في ثورة من الغضب:
_سنقتله بالطبع، سنحرقه حرقًا حتى يصبح رمادًا تذروه الريح.
شحب وجه الشاب والتفت يمينًا ويسرًا، وازدرد لعابه وهو يسأل في حذر:
_نحرقه؟
فهتفت فيه بعينين تشعان بوميض مخيف:
_نعم، والآن فقد حانت الفرصة للتخلص منه، هذا هو العائق الوحيد في حياتي، لن أسمح له بإن يشارك ابني في الورث يا جابر.
ران عليهما الصمت للحظات، بدأ القلق يستبدّ بجابر، الذي ارتعدت فرائصه، وهو يقول في خوفٍ جلي:
_أتنوين قتله بالفعل؟! ظننتك ستجعلينني أخطفه فقط وتطلبين ما تشائين من المال.
هبت ريح قوية أصابته بقشعريرة اقترنت بصوتها القوي:
_خطف ماذا يا هذا هل تهذي الآن؟! سأقتله شر قتلة.
وتابعها جابر ببصره وهي تسير جهة إحدى الشجيرات الوارفة، وتلتقط دلوٌ من البنزين، وسكبته فوق الغلام دون ذرة رحمة، ولم يختلج قلبها وهي تشعل عود ثقاب وتلقيه على جسد الصغير الذي امتلأ بالبنزين وإنعكست النيران التي أوقدتها في عينيها وهي تراقبها بابتسامة راضية، وكأن همًا وإنزاح عن عاتقها، خمدت ألسنة اللهب، وأصبح الصغير رمادًا، ركلته هي بساقها في تشفي، ثم رفعت وجهها إلى جابر المرتجف، وسألته ضاحكة:
_ما لك ممتقع الوجه هكذا؟! لا تخف لن أؤذيك أبدًا، ما دمت طوع بنانِ.
فطالعها جابر بنظراتٍ مرتابة، وهمس بصوتٍ متهدج:
_يجب أن تعودي قبل أن يلاحظ أحد غيابكِ عن المنزل.
فتبسَّمت له في سرور، وأردفت:
_معك حق، يجب أن أعود قبل أن يأتي مهران.
خفق قلبه في هلع، وقفز الأرتياع إلى عينيه، وهي تستطرد بفحيح بعدما اقتربت بوجهها منه:
_وحذار يا جابر أن يعلم أحد بما حدث الآن، هذا سيظل سرًا بيننا سيموت معنا ويدفن.. ولو علمت إنك لمَّحت لأحد ولو سهوًا لأقتلنك كما قتلته وأحرق قلبك بأولادك قبل أن أحرق جسدك.
فهز جابر رأسه، والرعب منها دب في قلبه.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أتون قلب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى