روايات

رواية غوثهم الفصل الثمانون 80 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثمانون 80 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثمانون

رواية غوثهم البارت الثمانون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثمانون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثـمـانـون”
“يــا صـبـر أيـوب”
________________________
يا واهب النعم وصاحب الكرم..
بكرمك أهديني وفي طريقك ابقيني،
أعلم أنكَ السميع الرحيم
ومن غيرك يسمعني ولطريقك يهديني
ربي هُب لي من لدنك رحمة
ترحمني من نفسي ومن موتي تُحييني.
إلهى رحمتك وسعت كل شيءٍ
وأنتَ الرحيم السميع، لكَ أهديني.
_”غَـــوثْ”
__________________________________
دعيني مُجددًا أعتذر لكِ..
فأنا لم أقصد بتاتًا أن تشتعل الحرب بيننا،
لم أقصد أن يتبدل حالي في عينيكِ من مجرد مُحاربٍ لأجل الحصول على عينيكِ؛ لأصبح محاربًا لأجل البقاء بداخل مُقلتيكِ، أنا لم أقصد أن أكون ضعيفًا لكن العالم وضعني معه في خصومة لم استحقها ذات يومٍ، العالم لم يرأف بي كوني صغيرًا وكبرت على القسوة وأنا أتجرعها كمن يتناول المياه من الكؤوس، لا أعلم إن كان يتوجب عليَّ الاعتذار أم عليَّ أن ألقي بنفسي بين ذراعيكِ وأحتمي بكِ وأتخذ من مجاورتك ملجئًا دائمًا لي؟ لا أعلم إن كان الاعتذار سيفيد ولا حتى سأعود لكِ من جديد، لكنني أخبرتكِ أن اللقاء دائمٌ بين قلوبنا، وأتمنى أن يبقى الود في دروبنا، لكن أعذريني لأنني ضعيفٌ، والحرب تفتك بمقاتلٍ لم يملك أي سلاحٍ
سوى سهم عينيك الأسود..
فإلىٰ اللقاء يا عزيزة قلبٍ إلى أن أعود لكِ،
أو أعود لنفسي معكِ، وفي نهاية الخطاب دعيني أخبرك أن بمجرد العودة لكِ أعلمي حينها أن وقتها وفقط عادت لي نفسي..
<“أيقتل العالم صبيًا وحيدًا والوحدة هي سلاحه؟”>
أغمض “مُـنذر” عينيهِ يحاول اقتباس السلام من الهدوء المحاوط له ليجد فجأة سكينًا وضِعَ على عنقهِ جعله يفتح عينيه فجأةً لتتسع كلتاهما حتى وصلتا لمرحلة الجحوظ فيما تحدث هذا الشخص المُلثم بنبرةٍ مكتومة:
_بالشفا وأبقى سلم على أبـوك وابن عمك.
لم يأمن ولن يأمن وحقًا يبدو كأن الدنيا اعتبرته غريمًا لها لكي تحارب لأجل التخلص منه منذ أن وضعته أمامه طفلًا رضيعًا وحتى أصبح شابًا يافعًا، وكأن مهمة قتله والتخلص منه هي المعضلة الأكبر في الحياة ليكون كمن قيل عنهم “ابن موت” وهو منذ أن وُجِد نُضفةً بداخل رحم أمه كُتِبَ عليه الموت..
طالت السكين عنقه وقبل أن تقوم بأداء مهمتها تمامًا، حينما جرحت عنقه كان خرج هو من مرحلة ذهوله المفروضة عليه بفعل دهشته وركض من الفراش يُخلص نفسه من هذا المعتدي وهو يبحث عن سلاحهِ لكي يدافع به عن نفسه، وقتها لم يَطل الخزانة حتى يفتحها فوجد الأخر يهجم عليه من الخلف يقبض على عنقهِ بكلا كفيه معًا، يبدو أنه حارب لأجل مهمته هذه فلم يكن أمامه سوى القضاء على هذا الضعيف الذي حارب لأجل البقاء حيًا، لأول مرة يتمسك بحياتهِ بعدما ألقاها مرارًا وتكرارًا في وجه المخاطر لعل حياته تنتهي ذات يومٍ…
حينها استغل التدريبات التي تلقاها على أيدي أفراد العائلة الملكية التي قامت بخطفهِ وقام بضرب الرجل في منطقةٍ ما وهو يعلم أثر فعلته جيدًا وتيقن من ذلك حينما نجح في إبعاد الأخر عنه وهو يتألم بنبرةٍ مكتومة فيما سحب “مُـنذر” السكين وأقترب من الأخر لكي يضربه في كتفهِ بها وقبل أن يطوله صفعه الأخر ثم دفعه حتى أرتطم بالطاولةِ، ونظرًا للفارق الجسدي تغلب الأخر عليه بكل سهولةٍ ثم خرج من الشقةِ ركضًا كمن لاذ بالفرار..
تركه أرضًا عنقه ينزف بسبب الجرح الذي توسطه وعظامه تؤلمه بشدة كما أن الصفعة أدت إلى اختلال توازنه وألم بسائر جسده، في الطبيعي هو يملك القوة للرد على ذلك، لكن عنصر المفاجأة هو الذي بعثر كل هذا الثبات، بكى رغمًا عنه حينما أشتد الألم عليه ولم يجد يدًا تسعفه..
بكى وهو يتسطح الأرض دون أن يستند على ذراعٍ يشدد من أزرهِ، وحينها حارب لأجل أن يعتدل بمفرده وهو يحاول أن يساند نفسه بنفسهِ وما إن نجح في ذلك والعبرات تنساب على وجنتيهِ ألقى جسده على الفراش، لم يكن البكاء لأجل ألم جسده، بل لأجل روحه المُعذبة، يبكي لأجل حياته التي كتب عليها الموت منذ أن وُلِدَ في هذه الحياة، وقد سحب هاتفه يطلب الرقم الذي يعلم أنه لن يتأخر عن معاونته..
أخرج رقم “أيـوب” الذي أخبره وجعله يقسم له أن يهاتفه حينما يحتاج إليه، في هذه اللحظة لم يجد غيره مُنقذًا له، وبالطبع هو لازال حكيمًا وهادئًا في تصرفهِ والتهور لم يكن من صفاته، وهو حاليًا في أشد الحاجة إليه لذا هاتفه بأنامل مرتعشة بسبب ألم جسده وقد جاوبه الأخر بنبرةٍ ظهر بها أثر النعاس:
_السلام عليكم خير يا “مُـنذر”.
رد الأخر موجزًا بنبرةٍ جامدة حتى لا يُظهر بها ألمه وضعفه بالرغم من أنه شعر بتوقف ضربات قلبه:
_أنا محتاجك دلوقتي، ممكن تيجي؟.
انتبه الأخر لصوتهِ الذي بدا على عكس طبيعتهِ وقد أخبره بسرعة المجيء إليه وحينها أغلق الهاتف ثم ترك غرفته وابن شقيقه بها ثم حمل سترته يضعها على جسده بحركاتٍ سريعة وما إن فتح باب الغرفة وجد حينها والده في وجههِ فهتف الأخر بنبرةٍ قلقة يسأله:
_رايح فين كدا؟ وبتجري كدا ليه؟.
التفت برأسه يخبره بنفس العُجالة:
_معلش يا بابا، “مُـنذر” كلمني وشكله تعبان، دا أمانة في رقبتي، عن إذنك ومتقلقش الموبايل معايا وهكلمك ولو مجيتش هنا تعالى ورايا على المسجد، السلام عليكم.
رحل وترك والده الذي نظر في أثره بمشاعر مختلطة نطقتها عيناه ما بين الفخر والفرح بقلب ابنه وبين الخوف والقلق عليه، لكنه يعلم في قرارة نفسه أن ابنه يُعد غوثًا بفضل المولىٰ وحده عز وجل، لكن ثمة شيئٍ أنبئه بخطرٍ ما لذا ترك موضعه وخرج خلف ابنه لكنه تمهل في خطواته لكي يترك لهما حريتهما.
__________________________________
<“لا تتحدث مع فردٍ قد يستخدم حديثك لقتلك”>
في نفس التوقيت بمكانٍ أخرٍ
تحديدًا ببناية “العطار” الخاصة بسكن “يـوسف”..
صدمة قاتلة ألقتها “شـهد” أمام الجميع وخاصةً “عـهد” و “قـمر” اللاتي نظرتا لبعضهما فيما وقف “يـوسف” أمامها لا يصدق ما فعلته هذه الحرباء الملونة، أكان يعطيها سره يومًا لكي تُفشيه أمام الجميع دون رأفةً به؟ توتر بشدةٍ وتنفس بحدةٍ ووقف يفكر في موقفه ليجدها أقتربت من زوجته تسألها بتهكمٍ:
_ياترى البيه اللي خاطف جوزي عنده قالك إنه مريض وكان في مستشفى أمراض عقلية؟ ولا ماشي يسوق الهبل على الكل وخلاص وسيادتك مخدوعة فيه؟.
حسنًا هي هنا لكي تنتقم وليس إلا…
اللعنة عليها وعلى لسانها وعلى رأسها الفارغة هكذا سبها بداخلهِ، وقد حرك رأسه بعيدًا عن “عـهد” لكي يهرب منها وأغمض عينيه حينما وُضِعَ في أكثر المواقف التي لا يُحسد عليها، يود الآن أن يصبح كل ماهو به حلمًا وليس واقعًا، فهاهي تتحقق أكبر مخاوفه أمام مرأى عينيه، أرتفعت حركة صدرهِ صعودًا وهبوطًا وقد رفعت “عـهد” صوتها ردًا عليها بانفعالٍ أجج غضبها داخل قلبها:
_أنتِ مجنونة !! محدش هنا مجنون غيرك أنتِ، جاية تخربي كل حاجة علشان الغل مالي قلبك، لو فيه حد يستاهل مكان زي دا هو أنتِ مش حد غيرك.
رفعت “شـهد” حاجبيها باستنكارٍ قاصدة التقليل من الأخرى وهتفت بنبرةٍ تهكمية ترد عليها بنفس الاستهتار:
_والله !! وخطفه لجوزي دا إيه؟ وشغل جنونه دا إيه؟ بلاش حُبك ليه يعميكِ أنه مريض وأفعاله مش موزونة، أهو عندك يكدبني في اللي بقوله، ماتقول لحبيبتك إنك كنت في مستشفى المجانين يا “يـوسف”.
أغمض عينيه وهو يبتلع ريقه الذي نتج عن ابتلاعه انتشار الألم في حلقه وأذنيه وكأن الغصة حضرت تحتل المكان على الفورِ، فتح عينيه وحركها نحو “عـهد” الذي رأى ألاف الأسئلة في عينيها التي ذرفت الدموع دون دراية منها وحينها أعتذر منها بعينيهِ وحرك رأسه نحو “فاتن” وهتف بنبرةٍ منكسرة لأول مرة يتحدث بها وكأنه استسلم للوجع بداخلهِ:
_مبسوطة؟ ارتاحتي كدا !! هو دا حُبك ليا اللي بتتكلمي عنه؟ يا شيخة ملعون أبو دا حب على أبو اللي عاوزه لو هييجي منك بالشكل دا، أعمل إيه تاني علشان تسيبيني؟ أعمل إيه علشان تحلوا عني؟ هـــا !!.
أخفضت رأسها هي تهرب من كلماتهِ بينما هو صرخ بكلمتهِ الأخيرة وهو يسألها بوجعٍ على الفور سكن عينيه ليعلن عن نفسه في بيتهِ الجديد مُتباهيًا بسكنهِ مما جعل الأجساد تجفل نتيجة صراخه بينما هو أولاها ظهره ثم تحرك نحو شقته يَجُر خلفه “نـادر” الذي وقف بالفعل على أعتاب الشقة يتابع ماحدث بعينين مذهولتين مما يراه وحينها دفعه “يـوسف” يهتف بنبرةٍ هادرة من حنجرته التي لم ينفك عنها الوجع:
_روح لأمـك، مشوفش وش حد فيكم تاني، فاهم !!.
دفعه تجاه زوجته فيما هتفت “شـهد” بنبرةٍ عالية تصرخ في وجههِ بعدما كرهت تعامله مع زوجها أو باعتباره الآمر الناهي وحده:
_بطل شغل الجنان دا بقى، واخده عندك وبتذله وزعلان أوي علشان بقول إنك مجنون !! ما تبطل طبع السيطرة دا وإن كلنا شغالين عندك وأنتَ اللي بتؤمر على الكل، أنتَ ولا حاجة لولا شوية القوة وفتحة الصدر دي.
في هذه اللحظة تدخل “نـادر” يضغط على مرفقها وهتف بنبرةٍ جامدة يهدر من بين شفتيه مُنفعلًا فيها:
_أنتِ كدا زودتيها أوي بقى وأنا مش هتحمل.
_طبعًا، ماهو لعب في مخك أكيد مش هتستحمل.
ردت عليه بذلك ولم تعلم هي أن ما تفعله بداخلهِ بطريقتها وحديثها، لم تفهم كيف تتسبب في ضررهِ حد القتل الغير رحيم، لم تعلم أنها فكت حصار ساكني رأسه، بهذه الطريقة يمكن له أن يقتلها لكن صوت “عـهد” التي وقفت أمامها تصرخ فيها هو الذي أخرجه حينما قالت بنبرةٍ عالية:
_أنت تستاهلي فتح دماغك، لو عندك دم أمشي.
ها هو يتم وضعه بداخل صراعٍ جديدٍ، مشاجرة حادة بداخل رأسهِ ومشاجرة أخرى أمام مرأى عينيه وهو يعجز حتى عن استيعاب مكانه ولم يكن أمامه سوى الصراخ من جديد هاتفًا بنبرةٍ عالية في الجميع:
_بـــس !! اسكتوا كلكوا مش عاوز صوت من حد، بس، بــس، أبوس ايديكم بس بقى.
توسلهم جميعًا بالتوقف والكف عن هذه الغوغاء لكن الأصوات بداخله لم تتوقف بل ازداد صوتها أكثر ولم يكن أمامه سوى أن يقف أمام “نـادر” يتوسله بقولهِ:
_خد مراتك وأمك وأمشي من هنا، سيبني في حالي علشان دقيقة كمان لو حد فيكم مات في أيـدي أنا مش هبقى عليه، أمشي يا “نـادر”.
لاحظ “نـادر” حالته ووقف يتابعه وقبل أن يتحرك “يـوسف” نحوهم سحبته “فاتن” التي أدركت خطورة وقوفها هنا وأن مجرد بقائها أمامه قد يتسبب في كرها أكثر لذا أخذت “شـهد” من ذراعها ولأول مرة تتصل نظرات “يـوسف” بنظرات “نـادر” والأخر يعاتبه على خيانة ثقته التي كان سيضعها فيه، بينما الأخر أثناء تحركه حرك رأسه نفيًا يعتذر منه ويخبره أنه لم يفعلها لكن السيف قد سبق العزل وأصدر الأخر الحكم عليه…
كانت “قـمر” تقف بجوار زوجة شقيقها تطالعه بعينين باكيتين أظهرت كلتاهما الشفقة عليه وما إن تلاقت نظراته بنظراتها و رأى هذه النظرة ارتسم الألم على ملامحهِ وهو يسألها بعينيهِ: “ألا زالت تراه مُستغلًا رغم ما تسببوا فيه”
طالت نظراتهما معًا وحينها هرب هو من سلطة عينيها رفع صوته يحذرهن بقوله حينما وجد أمه تقترب منه وهي تحاول التحدث:
_محدش يقرب مني، خليكوا بعيد أحسنلكم، محدش يقرب.
وقفت “غالية” تطالعه هي الأخرى بقلبٍ يصرخ باكيًا لأجله وهي تود خطفه داخل ذراعيها وحمايته مما رأه وعاد له لكي يذكره بحجم الألم الذي عايشه لكنه أوقفها عن الإقتراب حينما هدر بنبرةٍ عالية وكأنه أصبح شخصًا جديدًا غير الذي وقف أمامهم من دقائق قليلة:
_قــولـت مـحـدش يـقـرب مـني !!.
ألقى جملته ليجفل جسد الثلاثة ثم نظر لزوجته التي طالعته بحيرةٍ دون أن تفهم ما يفعله هو لكنه تركها وترك الجميع وركض من أمامهم يترك البيت بأكملهِ هربًا من نفسه قبل الهرب من نظراتهِ، يركض قبل أن ينهار مُجددًا كما فعل يوم وفاة “حكمت” ويُغمغم بكلماتٍ غير مفهومة، رحل وهو يبكي بداخلهِ حتى وصل لسيارته وحينما وقف يفحتها وجد “عـهد” خلفه وهي تلهث بأنفاسٍ متقطعة وحينما شعر بها تحدث دون أن يلتفت لها بقوله يحذرها:
_أطلعي، أحسنلك أطلعي لو مش عاوزة تخسري حاجة، أطلعي أنا مش ضامن نفسي، أطــلعي.
صرخ فيها بينما تسمرت هي محلها وقد جمدها هو بكلماتهِ ونبرته، لم تتوقع أن يفعلها ويهرب منها، لم تتوقع أن تكون طريقته معها بهذا الجفاء وقد ركب سيارته ورحل من أمامها وهي تقف باكيةً على حبيبٍ يتألم وزوجٍ يتعذب وبدلًا من مصارحتها يتركها ليلوذ بنفسهِ في حين أن الألم يقتلها أضعاف ما يقتله هو..
أما هو فركب سيارته وقادها بسرعةٍ تنافس سرعة البرق، ركب يهرب من الجميع وقد سمح لنفسه أن يظهر بصورة القاسي المتجبر أهون على قلبه الإنهيار أمام أعينهم وتحاوطه نظرات الشفقة، رفع كفه يشد خصلاته بعنفٍ واستمع للحديث الدائر بداخلهِ حينما ازدادت حدة المُشاجرة ليصله صوت الأول بتهكمٍ:
_شوفت !! مش دي اختيارك؟ مش دي اللي قولتلك بلاش تعرفها حاجة عنك ومتديهاش الأمان، قولتلك دي لأ، دي متعرفش تبقى بيت لحد، جاي دلوقتي تشيلني الهم معاك؟.
تدخل الأخر يهتف بنبرةٍ منكسرة كُليًا بعدما لاحقه الخذلان:
_أنا كنت أعرف منين؟ الغدر طلع في دمها، بتنتقم مني لمجرد إني بعيش حياتي في الوقت اللي هي رمتني فيه، أنا كنت فاكر إن السر دا هي هتحافظ عليه وتراعي أي حاجة ليا عملتها علشانها، أنا مش قصدي إنها تكون جرح العمر كله.
تدخل الثالث يهتف بنبرةٍ جامدة فيهما معًا:
_براحتكوا خالص، بس فيه واحدة تانية أهم من كل دا، فيه عيلته اللي هو سابهم ومشي وفيه مراته اللي لسه كان عندها أمل فيه، أهو خبا عليها استفاد إيه بقى؟ ولا أي حاجة، وطبعًا عارفين هيعمل إيه.
أغمض “يـوسف” عينيه بعدما فاض به الكيل من التراهات بداخل رأسه، يود البكاء وإفراغ طاقته حتى لو قتل أحدهم لعل ذلك ينجح في تهدئة غضبه، نظرة “قـمر” وحدها جعلته يهرب، فماذا إذا رأى نظرات أمـه؟ هل نظرة الانكسار على صغيرها ستروقه أم أنها ستغضب المُتحكم بداخلهِ، كادت السيارة أن تصطدم بسيارةٍ أخرى لكنه تحكم سريعًا في الأمر وأوقف السيارة سريعًا يلهث بأنفاسٍ مُتقطعة ثم مسح عينيه حتى لا يسمح لدموعه إن تخرج من عينيه، بل يودها كما هي حبيسة داخل مُقلتيه..
صعدت “عـهد” إلى شقتها بعدما مسحت دموعها وكففت عبراتها المُنسابة، غضبت منه ومن عنفوانه وصرخاته عليهن ولعنه عقلها بينما القلب ألتمس له العذر، رجلٌ مثله ينكسر أمام عائلته وأمام والدته بهذه الطريقة ؟! مِن مَن؟ مِن مِن المفترض أنها كانت يومًا رفيقة حياته، لكن هل حقًا دلف مشفى الأمراض العقلية؟ هل تعدد شخصياته التي تعهدها هي منه له علاقة بذلك؟ ملايين الأسئلة تركض في عقلها دون هوادة وكأنها تركض في سباق العدو وكل الأسئلة فقط هو مَن يملك جوابها..
__________________________________
<“لقبوني غوثًا، دعني أكون مغيثًا لكَ”>
وصل “أيـوب” إلى “مُـنذر” فوجد دمائه على الفراش وعلى ثيابه، جرح عنقه كان كبيرًا وكذلك الكدمة الكبيرة بصدرهِ ومعهم الجرح الذي كان في كفه، عدة جروح ظهرت فجأةً على جسده جعلت “أيـوب” يقدم له الرعاية الكاملة حينما طهر الجروح وقام بوضع الدهان الطبي عليها وعاونه حينما جلب له الأدوية ومُسكنات الآلام ثم وضعه في الفراش وسحب المقعد وجلس بجوارهِ مبتسم الوجه وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_ألف سلامة عليك، ربنا يحوش عنك ويردلك سلامتك من تاني، مش تخلي بالك يا عم !! قطر كدا يدخل يدوسك ويخرج؟.
ابتسم له “مُـنذر” بوجعٍ وأضاف بسخريةٍ أعربت عن الجرح الغائر الذي يتوسط قلبه:
_وإيـه الجديد يعني؟ هي أول مرة؟ أنا كل محطة أدخلها لازم قطر يدوسني شوية، في الأخر لا أنا بموت ولا القُطورات بتخلص، معلش تعبتك معايا بس أنا فعلًا عجزت عن أني أساعد نفسي، معلش تعبتك معايا.
رفع “أيـوب” كفه يربت على كتف الأخر وهو يقول بوجهٍ مبتسمٍ ببشاشةٍ:
_مش عاوزك تفكر كدا، أنتَ هنا أمانة في رقبتي والحج موصيني عليك، وأنا مقدرش أزعل الحج مني، ثانيًا بقى أنا رقبتي سدادة للغريب وعمري ما قولت لحد لأ، عاوزني أقولك لأ، لأ.
هتف كلمته الأخيرة بمزاحٍ جعل “مُنذر” يضحك رغمًا عنه وكذلك “أيـوب” شاركه في الضحك حتى توقف “مُـنذر” وهتف بنبرةٍ هادئة رافقها الحزن أو ربما الأسف:
_ياريتك كنت أنتَ هو يا “أيـوب”.
هتف الجملة بنبرةٍ وصلت للأخر بمشاعر كثيرة جعلته يُنحي بسمته ويولي مكانها الاستفسار الغير منطوق لتتصل عيناهما معًا وقد سأل “أيـوب” بنبرةٍ وقعت تحت أثر الحيرة:
_هو !! هو مين بالظبط؟.
حينها زفر “مُـنذر” بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ مُحشرجة:
_ابن عمي، أكتر واحد اتمنيت يكون هو، بس للأسف أنتَ مش هو، أنتَ ابن الحج “عبدالقادر” وللأسف برضه عمي بيحبك أوي وبيحب يكون قريب منك، بس أكيد يعني دا لإنك تتحب يا “أيـوب” ومحدش يقدر يكرهك، وبالمناسبة قبل ما تسأل أنتَ أكبر من ابن عمي بسنة كاملة ولما أتولدت تعبت جامد في المستشفى لدرجة إنك كنت هتموت وفضلت شهور تتعالج، مكانش لسه عمي خلف ابنه الأولاني، وقبل ما تسأل “ماكسيم” مديني كل حاجة عنك وعن حياتك، فأنتَ كتاب مفتوح بالنسبة ليا.
ابتسم له “أيـوب” وهز رأسه مومئًا بحركةٍ بسيطة قد لا تُذكر من الأساس ثم سأل الأخر عن حياته وتفاصيلها وحينها أخبره “مُـنذر” عن كافة لحظات عمره وكيف تمت معاملته كما لو أنه سِلعة رديئة تتبادلها الأيادي وكل فردٍ يتركها للأخر، لم يعلم كيف أخبره وكيف خرج الحديث منه ليضيف أخيرًا بنبرةٍ متألمة:
_الفكرة مش فيا ومش في ابن عمي ولا حتى مجرد عيال تايهة من عيالها، الفكرة كلها التاريخ اللي بياخدوه لنفسهم في الأراضي اللي بيسرقوها وفي الشباب اللي بيقضوا عليهم، غسيل مخ بيتعمل يسقوك بيه الوهم، الفكرة أكبر من مجرد عيل تايه وعيل بيتلعب بيه، الفكرة في الإتجار بالبشر وفي بنوك الأعضاء اللي هتبقى زي بنوك الفلوس بعد كدا، الفكرة هنا في إنهم بيقضوا على السلالات وعاوزين الكل ملهوش أصل زيهم، الفكرة أكبر من إني بدور على ابن عمي، أنا هنا بدور على حياة كاملة، شوف كام واحد زيه وغيره راحوا في سكة اللي يروح ميرجعش، صدقني الحكاية أكبر بكتير من أي حاجة ممكن تدور في خيالك.
تنهد “أيـوب” بثقلٍ وهتف بنبرةٍ هادئة يُدلي بحكمته حينما صبغ كلماته بما هو معتاد منه ومن تفكيره:
_ربنا سبحانه وتعالى خلق كل شيء بحساب، وخلق الكون كله اللي محدش فينا عارف هو إزاي بيتحرك وإزاي الدقة دي في كل طرفة عين وأنتَ ثابت مكانك والأرض بتتحرك بيك، تفتكر يعني مهما بلغت قوتهم ومهما زاد علمهم هيقفوا في وش ربنا؟ تفتكر مهما كانت مقدرتهم فيهم حد هيقدر يعادي الخالق سبحانه وتعالى ؟ ربنا جل وعلا خلق الجنة والنار وخلق الثواب والعقاب، ليه؟ علشان اللي زي دول ملهمش غير النار، زمن الفتن الناس كلها فكراه لسه مجاش، ميعرفوش إن الدنيا أصلًا بدايتها كانت فتنة، لما سيدنا آدم عليه السلام نزل الأرض واتفتن بالشجرة، أول جريمة قتل في الأرض كانت من اتنين أخوات بسبب الغيرة، يعني دي فتنة، الفكرة إننا بنلوم الدنيا والناس والعيشة والكرب وناسيين نفسنا، عارف ليه؟.
كان الأخر معه بكل جوارحه وحينما ألقى “أيـوب” السؤال عليه رفع عينيه له بحيرةٍ وحرك رأسه نفيًا فهتف “أيـوب” بنبرةٍ هادئة يجاوب على نفسه:
_في مرة الدكتور “مصطفى محمود”
كتب في كتاب “الجسدو الروح”:
(اللَّـهُ خلَقَ كُلًّا منَّا فردًا مفردًا فريدًا منفردًا ونسيجًا وَحده.. وكُلٌّ منَّا يولَد وَحده ويمرض وَحده ويتألَّم وَحده ويشيخ وَحده ويموت وحده ويلقى اللَّـه وَحده ويحاسب وَحده.)
أنهى حديثه ثم أضاف مُستدلًا بالآية الكريمة قائلًا:
“وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا”
يعني قدام ربنا هنقف لوحدنا، كل واحد بطوله وكل واحد لوحده هيتحاسب على أفعاله وعلى أعماله هو وعلى قوة إيمانه، صدقني ربنا قادر على كل شيء بس ليهم ميعادهم، واحنا اللي علينا نقوي قلبنا بإيمان عامر يسكن القلوب وطاعات وتقرب من ربنا يكون عون وإنقاذًا لينا من الدنيا وشرورها، مهما طغوا ومهما فسدوا في الأرض إلا أن هناك حكمة ربنا وحده العالم بيها، هتقولي دليلك إيه، هقولك قول ربنا سبحانه وتعالى:
_(وَإذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ)
سكت هُنيهة قليلة ثم أضاف من جديد مُفسرًا:
_ربنا سبحانه وتعالى خلق البشر في الأرض ولما الملايكة سألوه ربنا سبحانه وتعالى جل جلاله قال
“أعلم ما لا تعلمون” يعني ربنا عارف اللي إحنا منعرفهوش، فبدل ما تسأل ليه الظلم دايم وليه الناس دي مبتخلصش، المفروض نملا قلوبنا يقين في الخالق، إنه القادر على كل شيء، القلوب مش محتاجة حاجة غير القوة في طريق ربنا سبحانه وتعالى، دي القوة الوحيدة اللي لا يمكن حد يستهون بيها، لأن الإنسان في الأساس ضعيف وهَش، قوته بتيجي في حالة واحدة، لما يكون في طريق ربنا سبحانه وتعالى، فاللهم إنا نسألك الثبات في الطاعات والرزق في حُبك والاكثار من شكرك.
تنهد “مُـنذر” وابتسم له وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة يواري خلفها حزنه على نفسه في جعلها بأمور الدين:
_مش قولتلك ياريتك هو؟ ربنا يكرمك ويراضيك وأدعيلي، أنا فعلًا محتاج الدعاء منك أوي، أدعيلي أنا مكسوف أدعي.
رفع “أيـوب” عينيه له يطالعه بلمحة حزنٍ وقبل أن يتحدث معه بخصوص هذا الشأن كان “عبدالقادر” طرق الباب بعدما أنتظر ابنه في الأسفل كثيرًا وما إن شعر بالملل أو ربما ساوره القلق قرر أن يصعد لهما، حينها فتح له ابنه الذي هتف بنبرةٍ ضاحكة:
_اتأخرت، أنا قولت هتطلع من بدري.
هتف “عبدالقادر” بنبرةٍ جامدة بعض الشيء:
_على فكرة أنا استنيت كتير، بس مقدرتش وخوفت عليك، علشان عارف إنك ممكن ترمي نفسك في النار لأجل أي حد، قولت مرة آمنك أنا بقى، المهم فيه حاجة؟ طمني عليه.
أوجز “أيـوب” في سردهِ للتفاصيل ثم أشار لوالده حتى يدخل معه وما إن دلف “عبدالقادر” حاول “مُـنذر” أن يعتدل لكن يد “أيـوب” منعته فيما أقترب الأخر يطمئن عليه بحنوٍ بالغٍ وهو يحتويه بنظراتهِ وحينها أدرك “مُـنذر” أن هناك من يشبه عمه في قلبهِ، كما أدرك بنفس اللحظة أنه وُلِدَ لأبٍ متحجر القلب وعاش مع رجلٍ أكثر قسوة، زفر مُطولًا ثم ابتسم لهما دون أن ينتبه لحديثهما بل غرق في ألم روحه أكثر من السابق..
__________________________________
<“نحن من نملك القوة، وليس العكس”>
في اليوم الموالي تحديدًا بمنتصفهِ..
يدرك المرء في بعض الأحيان أن اللحظات فارقة والثواني مؤثرة، ثمة ساعة يحدث فيها ما يقتل المرء لتكون محفورة بداخل حوائط عقله، لحظات تمر مهما بلغت قسوتها، وهاهي تجلس في شقة والدته بعد محاولة الحصول على طريقة توصلها به لكنها فشلت، كل الطرق باءت بالفشل، أغلق هاتفه وابتعد منذ الأمس وكأنه رغب في حدوث ذلك وبشدة..
كانت “غالية” تتضرع بقلبها أن يعود ابنها أو يطمئنها عليه لكن الأخر يبدو أنه تلذذ بذلك كثيرًا، ألم يكفيه ألم قلبها منذ الأمس؟ ألم يكفيه أنها لم تنس لحظات الأمس؟ ألم يكفيه ألم قلبها عليه؟ كانت دموعها هي من تتحدث عن صمتها وكأن العبرات خُلقت تُشفق على القلوب المُعذبة وقد جلست بجوارها “أسماء” تمسح على ظهرها و “عـهد” في الشرفة تنتظره بينما “قـمر” في غرفتها باكيةً منذ أن نظر لها بعينين لم ولن تنس نظرتهما المنكسرة..
وصل حينها “أيـوب” أخيرًا لهن وطرق الباب وقد وقفت “عـهد” وخرجت تفتح الباب له فوجدته يقول بأسفٍ:
_أنا روحت الكافيه مش هناك وروحت سألت عند الخيول مراحش هناك وروحت عند شغله قولت يمكن سافر برضه مش هناك، متعرفيش مكان تاني؟ أنا قولت لـ “إسماعيل” لو وصل يكلمني، متعرفيش مكان تاني؟..
حركت رأسها نفيًا وسرعان ما تذكرت أمر أرض والده، تلك الجنة التي تعلم أنه يسكنها وهي تسكنه وتعجبت كيف لم تطرأ ببالها هذه الفكرة سابقًا لكن بنفس سرعة ظهور الفكرة اختفت وساورها الإحباط حينما تذكرت أنها لم تعلم مكانها وقد لاحظ “أيـوب” تباين ردود أفعالها فسألها بنبرةٍ هادئة:
_فيه حاجة؟ لو تعرفي قولي طيب.
زفرت بقوةٍ ثم هتفت بنبرةٍ متخبطة لم تعلم بما تجاوبه:
_بص هو فيه مكان بتاع باباه، أرض هو باني فيها بيت صغير كدا بس أنا مش عارفة هي فين ولا أنهي منطقة، لأن ساعتها روحنا بالعربية ومش فاكرة اي حاجة خالص، بس أقولك، الشباب أكيد عارفين لأن عمو “نَـعيم” كان بيخلي باله من المكان.
ابتسم “أيـوب” لها ثم هتف بلهفةٍ أعربت عن حماسه:
_طب ممكن تغيري هدومك وتيجي معايا؟ هنروح الأول عند الحج “نَـعيم” وبعدها نروح المكان دا، لو مش حابـ…
بترت هي حديثه قبل أن يُكمله وكأنها فهمت ما سيتفوه به لذا اندفعت به بغير هوادة:
_استحالة أكون مش حابة، هتلاقيني خلال دقايق.
تركته ورحلت ركضًا نحو شقتها فيما أقترب هو من “غالية” يجلس على رُكبتيه أمامها وهو يقول بنبرةٍ هادئة يحاول طمئنتها من خلالها:
_بلاش تعملي كدا في نفسك، صدقيني هو زعلان شوية من الموقف وهيرجع تاني، زيه زي أي طفل عنيد، هو أنا برضه يا ست الكل اللي هقولك طبع ابنك؟ بس وعد مني هرجعه ليكِ بس توعديني إنك تضربيه علقة محترمة كمان، أصله معصبني بصراحة، ينفع؟.
مازحها بكلماتهِ لكي تضحك وقد ابتسمت له وهتفت بنبرةٍ ودودة أعربت عن طيبة قلبها وهي تستقبل أحاديثه:
_عيوني، وهحبسه كمان بس يرجع.
ابتسم بعينيه ثم حركهما نحو غرفة زوجته دون إرادةٍ منه فهتفت “أسـماء” بنبرةٍ هادئة تحثه على أخذ هذه الخطوة:
_أدخلها، هي زعلانة من إمبارح ووجودك هيفرق.
ترك محله ثم دلف غرفة زوجته بعدما حصل على إذن الولوج للداخل وما إن دلف لها وجدها ترفع رأسها نحوه بعينيها الدامعتين وقد انسابت دموعها أكثر حينما وقف أمامها وسألها بمعاتبةٍ:
_كدا !! طب وأنا لازمتي إيه طيب؟.
هتفت بنبرةٍ باكية ردًا على حديثه المعاتب لها:
_حاسة إني زعلته مني، أنا مكانش قصدي أبصله كدا، مكانش قصدي أحسسه إنه غلط في حاجة، أنا بس ماكنتش مصدقة، أنا إمبارح شوفتها وهي واقفة قصاده تعايره وتذله واستغربت إزاي قلبها جاحد كدا، خايفة يمشي وميرجعش تاني، أنا بحبه أوي…
بكت من جديد فيما أقترب منها “أيـوب” وجلس بجوارها على طرف الفراش ثم ضمها ووضع رأسها على صدرهِ ورفع كفه يمسح على ظهرها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_وهو بيحبك أوي، بس معذور، أنا اتحطيت في نفس موقفه دا وأول واحدة طلعت فيها زعلي كانت “آيـات” أختي، تخيلي ؟ كانت أول مرة يعتقلوني وساعتها كنت خارج مهزوز ومتوتر ومش فاهم حاجة ولا طايق حد معايا، كنت حاسس نفسي مكسور، ولما “آيـات” حاولت أنا طردتها ومديت أيدي وخرجتها رميتها في وش “أيـهم”، نفس الفكرة أخوكِ، كون إن إحنا رجالة نظرة الشفقة بتتعبنا ومتسأليش ليه لأن دي غريزة فينا، أكيد اتجرح لما حاجة زي دي ظهرت بالمنظر دا قدام عيلته وأهله، هي مش وصمة عار بس، تجرح اللي منه علشان شاف معاناة زي دي.
بكت من جديد وهتفت بنبرةٍ مقهورة على شقيقها:
_منهم لله، فيه إيه تاني معملهوش فيه؟ دلوقتي بس أنا عندي عذر لكل حاجة يعملها، عندي عذر لطريقته وعنفه وعصبيته، دلوقتي بس عرفت ليه زعل لما اتهمته إنه بيستغل “نـادر” أكيد حس إني شايفاه وحش، وهو مش كدا، دا أحسن أخ في الدنيا كلها.
لثم “أيـوب” جبينها ثم أمسك كفها يمسح على أوتاره بأناملهِ في حركاتٍ دائرية رقيقة يعلم أثرها في إخفاء التوتر من الجسد، ثم هتف بنبرةٍ هادئة يقطع لها وعدًا تعلم هي أنه كان صادقًا حينما عزم النية عليه بداخل فؤادهِ:
_بإذن الله قبل الليلة دي ما تخلص هيكون عندك أو أقل حاجة هطمن قلبك، كله بأمر الله بس أنا نيتي خير وإن شاء الله هرجعلك بيه، بس عاوزك تقومي تغسلي وشك وتصلي وتدعي ربنا يردلك الغايب وصدقيني أكبر هدية ممكن حد يديها لحد بيحبه هي إنه يدعيله، قومي يلا يا
“كل ناس الأسطى” وأنا هروح أجيبه وأجي، وقبل ما تسألي أنا لسه معرفتش مكانه بس فيه طريقة هتوصلنا بيه، يلا بقى.
ابتسمت له ثم رفعت رأسها تُلثم وجنته وهتفت بنبرةٍ هادئة بعدما حاولت إضافة السعادة لها أو لمحة مرحٍ هادئة:
_روح هاته وتعالى وأنا مستنياكوا أنتوا الاتنين، أنا كدا كدا طول العمر مستنية ومتأكدة برضه أنكم معايا وهتفضلوا معايا، ربنا يباركلي فيك ويقدرني وأرد جمايلك.
ابتسم هو الأخر ثم أقترب منها يهتف بخبثٍ يقصد به مشاكستها أو ممازحتها بقوله:
_سيبي رد الجميل دا لحد ما نتجوز علشان دا موضوع يطول شرحه شويتين، وأنا بصراحة مبحبش حاجة تتكروت، قومي بس كدا روقي حالك وروقي على الست “غالية” وأنا هروح أجيبه وأجي.
ابتسمت رغمًا عنها من وقاحة كلماته ونبرته الخبيثة فيما أبتعد هو عنها أخيرًا ثم خرج من الغرفة ولحقته هي الأخرى بعدما اطمئنت بسبب تواجده، لازال “أيـوب” هو مصدر القوة في أوج لحظات ضعفها وفي أشد الأوقات حاجةً إليه..
خرج هو فوجد “عـهد” أمامه فأشار لها كي تتقدمه ورحل بعدما ودع الجميع وطمئنهم على الأخر وأن الأمر فقط يتطلب عدة ساعات وسيكون هُنا من جديد، وقد جلست “قـمر” بجوار أمها التي احتضنتها تمسح على ظهرها وهتفت بنبرةٍ حزينة وهي تعتذر لابنتها:
_حقك عليا وحقه هو كمان، لو بأيدي كنت رفضت الجوازة دي من أولها، كنت بعدت عن عيلة “الراوي” ورحمتكم ورحمت نفسي، أذاهم طال كل اللي ليا، مفيش حد مني سلم من آذاهم حتى بيت أبويا ضيعوه مننا، أنا آسفة.
شددت “قـمر” مسكتها لوالدتها وكأنها توقفها بهذه الطريقة عن التحدث، وقد شردت في زوجها وشقيقها وهي تفكر فيهما، الإثنان يُشبهان بعضهما كثيرًا بخلاف طباعِهما لكن نفسها الحياة المقتولة والطفولة المُغتصبة والشباب المُدمر وحظها هي فقط أنها الروح لكليهما..
بعد مرور بعض الوقت..
أوقف “أيـوب” السيارة أمام بيت “نَـعيم” وقد ومعه “عـهد” التي نزلت من السيارة بسرعةٍ كبرى خاصةً مع بداية حلول الليل وكأن النهار كان هو مصدر الأمل لها، تبعها “أيـوب” بعدما ترك لها حرية التصرف وقد خرج لهما “نَـعيم” ومعه “سمارة” ترحب بهما وبعد مرور بعض الوقت من جلوسهم معًا وعُقب عبارات الترحيب هتفت “عـهد” بنبرةٍ أقرب للتوسل:
_أنا آسفة إني جيت هنا، بس أنا متأكدة إن حضرتك عارف مكان “يـوسف” أنا بس عاوزة أتطمن على جوزي، صدقني أنا مش عاوزة حاجة غير بس إني أتأكد إنه معملش حاجة في نفسه، منظره إمبارح كان تايه كأنه مضروب فوق دماغه، ممكن تساعدني أوصله؟.
حرك “نَـعيم” عينيه نحو “أيـوب” الذي حرك رأسه آسفًا ثم وكأنه يخبره باستسلامهِ في الوصول إليه وحينها طلب منها “نَـعيم” أن تخبره بما حدث وحينها هتفت بنبرةٍ متوترة حفاظًا على صورة زوجها:
_تسمحلي أحتفظ بالسبب؟ أنا بس هقولك إنه موقف بسبب “شـهد” غير كدا أنا مش هقدر الحقيقة وهو ممكن يقول لحضرتك، أتمنى متزعلش مني، بس أكيد ليه أسبابه.
أنبهر “نَـعيم” من رجاحة عقلها وموقفها الشبه مثالي في وجهة نظره، أدرك الفارق بينها وبين “شـهد”، يرى أمامه مُهرة أصيلة تصون خيالها الذي قسى عليها رغمًا عنه، يرى أمامه الصورة الحقيقية للخيل الوفي لصاحبهِ بالرغم أنه تركه في الميدان وحده لكن الأخر لازال ينتظر قدومه لكي يقوم بترويضه، أنهى تمعنه فيها وفي عينيها التي تصرخ بالخوف على خليل قلبها، وحينها هتف بنبرةٍ هادئة:
_هو أكيد هناك، كل مرة بيتعب ويزعل يروح يرمي نفسه هناك، روحيله أنتِ وخليكِ معاه، بس ليا عندك طلب، بلاش تكلميه في أي حاجة، سيبيه ولو زعل وزعق عندي أنا دي، هو هناك مبيكونش في وعيه، بيخطف نفسه من الدنيا كلها.
حركت رأسها موافقةً وهتفت بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_صدقني أنا مش عاوزة أضغط عليه، على الأقل لو من باب المعروف اللي عمله معايا أول ما دخل حياتي، إن شاء الله بعد كدا يطلقني لو دا هيريحه بس بلاش يعمل كدا.
تدخل “أيـوب” يُعلق على كلماتها بحديثهِ:
_صدقيني هو مستحيل حتى يطلقك، في الحالة اللي هو فيها مهما عمل هيفضل وجودك هو الفارق الوحيد اللي يخليه يقوم تاني على رجله، دلوقتي هنروح ونتطمن عليه، مش عاوزك تقلقي.
وقف “أيـوب” يأخذ العنوان من “نَـعيم” الذي أملاه عليه وقبل أن يتحرك قيد أنملة أوقفه من جديد حينما أخرج من ميدالية مفاتيحه مفتاحًا صغيرًا ومد يده به لـ “عـهد” وهتف بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_ممكن يكون نايم أو ميرضاش يفتح، المفتاح معاكِ أهو خليه معاكِ وأدخلي عنده، خلي بالك منه ومن نفسك، روحي يا بنتي ربنا يكرمكم ويراضيكم، وألف شكر على أصلك يا بنت الأصول.
ابتسمت له بسمة فاترة مقتولة لم تتصل بعينيها وخرجت مع “أيـوب” الذي ودعه وأخبره أنه سيطمئنه على الأخر بكل تأكيدٍ، وحينها وقفت “سمارة” بجوارهِ تهتف بأسفٍ:
_ربنا ينتقم منها الحرباية، منكدة عليه حتى وهي مش معاه.
طالعها “نَـعيم” بقلة حيلة وبسط كفيه وكأنه يخبرها أن اليد فقدت كل حِيلها وكل ما كانت تملكه من أمورٍ قد تنفعه وتسعفه ووحدها الأخرى هي القادرة على ذلك، هي من تملك القوة التي تحركه وليس هو كما يتضح.
__________________________________
<“حينما يُثني عليك قليل الأصل، أعلم أنك مثله”>
في منطقة الزمالك..
تحديدًا بداخل بيت “الراوي” كان “نـادر” بعيدًا عن الجميع بندمٍ فتك به نتيجة تركه لـ “يـوسف” أراد أن يعود له وأن يخبره أنه لم يفعلها وأنه لم يطلب من زوجته مثل هذا الطلب، لقد عطف عليه الأخر حتى وإن كانت طريقته تتنافىٰ مع ذلك، لكنه أهتم به كمن يهتم بصغيرٍ تاه عن أهله وقصد بيتًا في منطقةٍ نائية وحينها أكرموه أهل البيت بالرغم من خوفهم منه..
دلفت له “شـهد” غرفتهما التي لزمها منذ الصباح هربًا منهم جميعًا وقد نظرت له وهي تقول بتهكمٍ ساخرةً منه:
_أنا مش مصدقاك، بجد أنتَ زعلان لسه؟ كنت عاوزنا نسيبك هناك عنده؟ لعب في مخك وخلاك زي ما هو عاوز علشان بعد كدا ييجي يشوف نفسه عليك ؟ بدل ما تدافع عن نفسك وتقف في وشه مستسلم ليه ومخليه يكسبك !!.
ترك موضعه ووقف أمامها يسألها بترقبٍ أو ربما تأهبٍ منه:
_قصدك إيه ؟ وضحي أكتر كدا؟.
ابتسمت باستخفافٍ ثم هتفت بتفسيرٍ له:
_قصدي إنه بيستغلك، هيخليك تحبه وتقف في صفه ويوريك شوية إهتمام وحب منه يخليك تصدق أنه طيب ومظلوم ومرة واحدة يقلب على الوش التاني لمجرد إنك هتخرج عن طوعه، عاوزه يستغلك؟ عاوزه يشوف نفسه عليك إنه بيعمل اللي هو عاوزه وأنتَ زي اللعبة بيحركها؟؟؟.
ابتسم هو لها إبتسامة قاتمة ثم أقترب منها أكثر بطريقةٍ أخافتها وجعلتها تتراجع للخلف حتى كادت أن تتعرقل في المقعد الخلفي لكنه أسندها بذراعه حينما ضغط على خصرها وهتف بنبرةٍ حالكة وكأنها تقارب غموض اللون الكُحلي حينما همس لها:
_ودا بالظبط اللي هو عمله معاكِ علشان كدا كنتي هتموتي وتخربي حياته صح؟ دا اللي حصل بينكم لما كنتي عاوزة تتجوزيه وبعدها اكتشفتي إن حياته مش هتليق بيكِ لما تضطري تكشفي عن ماضيه، بس متزعليش نفسك، إذا كان هو عرف يلعب بيكِ فأنا لأ، عن إذنك يا مدام.
دفعها على المقعد دون أن يكترث بها ثم خرج من الغرفة وهي خلفه تتأجج في جلستها مثل كتلة لهيبٍ مشتعلة تود إلقاء نفسها داخل بيتٍ لكي تلحق الأذى به قبل أن تنطفأ، ازداد غضبها منه ودفعت الطاولة بقدمها وهي تسبه بداخلها وعلى طريقته معها، يبدو وكأن سحرها لم يعد بنفس مفعوله عليه، وحينها بدت كمن فقدت قوتها وسبب هذه القوة..
__________________________________
<“صديقي لطيفٌ للغاية، ظهوره يشبه ظهور المطر”>
رُبما تلعب المسافات دورًا هامًا في المشاعر وتأثيرها لكن لا شك أن المرء يتأثر بالغياب ويسعد بالعودة ويحزن بالهجر، لم يعلم لما طوال الفترة السابقة تحديدًا منذ أن مرضت وفقدت وعيها بالعمل وهو يفتقد تواجدها، اليوم هو أول الأيام لها منذ أن عادت للعمل، وحينها قرر أن يخرج من مكانهِ وتوجه إليها بعدما حمل أشيائه الخاصة ثم طرق باب مكتبها وحينها أذنت له فوجدته يبتسم لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا جيت أعرفك إني خلصت وهمشي خلاص يا “رهـف”، الحقيقة ورايا مشوار تاني مهم وقولت أمشي طالما خلصت.
ابتسمت له “رهـف” وهتفت بنبرةٍ مرحة:
_معاك واسطة يعني؟ بس ماشي علشان تعرف إني طيبة وكفاية إنك شيلتني لما كنت غايبة، ربنا يوفقك في مشوارك ولو خطوبة أبقى أعزمني، إحنا برضه زملا.
ضحك لها ثم جلس على المقعد أمام مكتبها وهو يقول بنبرةٍ حائرة تعبر عن مدى تخبطه دون حتى أن يعلم كيف اتخذ قرار إخبارها بهذا الأمر:
_هو مش خطوبة، بس هو مشوار مهم، بصي أنا بثق في حكمتك في الأمور وإنك عملية شوية بخلاف العواطف، لو فيه حد من بيئة مختلفة جاي يتقدم لأختي وأنا خايف عليها أو خايف مستقبلًا يعني يكون الموضوع دا سبب مشاكل، بس في نفس الوقت أنا شايف حب وقبول كبير وقصة زي الأفلام، تفتكري الحل إيه؟.
تخبطت “رهـف” وهي أمامه وهتفت بنبرةٍ تائهة أو ربما حائرة في أمرها وهي تعطيه جوابها الذي لم تعلم مدى صحته:
_بص هو أنتَ بتقول تفكير عملي، بس الأمور دي ساعات بتحتاج العواطف، طالما فيه حب وتقبل من الطرفين خلاص هما أحرار لأن دي حياتهم هما، طالما الموضوع مش هيأثر على عيشتهم حاليًا مع بعض يبقى دا قرارهم هما، أكيد طالما وصل الأمر لعلاقة رسمية يبقى كل واحد فيهم على دراية كافية بجوانب الموضوع، أختك هي اللي هتعاشر وتعيش مش أنتَ، وصدقني هي ممكن تكون فرصة العمر ليها وبتدخلك منها تضيعها.
تحدث هو بلهفةٍ يخبرها بتفكيره قائلًا:
_بس الفكرة كلها إن دي أختي يعني مش هسيبها تخوض التجربة وتتأذي وبعدها أقولها أديكِ أتعلمتي من غلطك، على قولك دي حياة وجواز يعني مفيهاش تجارب، خايف آجي بعد كدا ألوم نفسي إني مباعدتش الأذى عنها وخايف برضه أكون أنا سبب إنها تزعل لما تسيب اللي بتحبه.
هتفت حينها “رهـف” بنبرةٍ دبلوماسية أقرب في طورها للعملية الهادئة:
_تاخد نصيحتي؟ طالما فيه حب أفضل حل إنك متكونش عزول بين القلوب، الحب بالذات مفيهوش فروق اجتماعية أو تعليمية أو حتى مادية، أصل الحب دا مش زرار هندوس عليه يتحكم في مشاعرنا يا “عُـدي” شوف الطرف التاني وأتكلم معاه وشوف عقله وطريقة تفكيره، وشوف إزاي البيئة المحاوطة بيه شكلت شخصيته، وأهم حاجة احترامه وأخلاقه ووعيه، أكيد أنتَ شاب وهتعرف تحكم.
ابتسم لها بصفاءٍ ثم أعتدل واقفًا وحمل حقيبة ظهره بعدما حثته بكلماتها دون أن تعي لذلك وقد علمت هي أثر كلماتها عليه حينما وقف يطالعها من عِليته وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا عاوز أشكرك علشان لفتي نظري لحاجة مشوفتهاش، وشكرًا إنك سمعتيني وشاركتيني، بس عندي سؤال ومش فضول ولا تطفل مني، بس يمكن استنتاج لكلامك.
أومأت له تحسه على التكملة فوجدته يسألها بتوترٍ طفيفٍ بعض الشيء كأنه يخجل من إخراج هذا السؤال:
_أنا بس عاوز أسألك عمرك حبيتي قبل كدا؟.
تلاشت بسمتها وترقرق الدمع في مُقلتيها فورًا وكأنها انتبهت لشيءٍ ربما تكون نسته أو تناسته وهتفت بنبرةٍ طغى عليه الحزن:
_للأسف حبيت، وحبيت أوي كمان بس الحمدلله على كل حال محصلش نصيب وربنا استرد أمانته من تاني، فمن ساعتها الباب أتقفل خلاص وبقيت كدا عايشة علشان الشغل ومؤخرًا علشان ماما وأختي “إيناس”، الحمدلله برضه الحياة إلى حدٍ ما حلوة وهادية جدًا.
حرك رأسه موافقًا وأجبر شفتيه على التبسم قائلًا:
_ربنا يرحمه ويعوضك بابن الحلال، عن إذنك.
تركها ورحل بشيءٍ غريبٍ عليه وكأنه أختلف كثيرًا عن دخوله لها، لم يعلم لما تأثر بها وبإخلاصها لذلك الأخر لكنه أحترمها كثيرًا وأدرك أن حكمها على الأمور يأتي من خبرة تجربتها ولذلك استطاعت لفت نظره إلى موضوع آخر كان غائبًا عن مرآى عقله، وحينها طلب سيارة أجرة عن طريق التطبيق الإلكتروني وذهب بها إلى مكانٍ أخر لم يتوقعه هو بذات نفسه..
وصل إلى محل عمل “إسـماعيل” وجلس على طاولةٍ ما وطلب من أحد الشباب العاملين حضور الأخر له وما إن علم الأخر بذلك حارب نفسه لأجل هذه المواجهة، لم يعلم ما يُخبئه له القدر من هذه المُقابلة، فربما تكون له منصفة وربما تكون مُجحفة، وقد حسم أمره وخرج له يقابله بتوترٍ وهو يقول مُرحبًا به:
_أهلًا وسهلًا يا “عُـدي” أتفضل نورت.
شبك كلاهما كفه بالآخر في وضع التحية وحينها أشار له “إسماعيل” بالجلوس واستمر في الترحيب به حتى سأله الأخر بوجهٍ مبتسمٍ:
_أكيد طبعًا أنتَ متوتر أو مستغرب حضوري هنا، بس صدقني أنا مش جاي أزعجك أو أعطلك في حاجة، هما كلمتين وبس وهمشي، هتسمعني يا “إسماعيل”؟.
أومأ له الأخر موافقًا بقوةٍ جعلته يضيف بأريحية:
_طب الحمدلله، المهم أنا هنا بخصوص موضوعك أنتَ و “ضُـحى” أنا عارف كل حاجة منها وهي مخبيتش عليا ودا خلاني أحترمها وواثق إنك محترم مش هتخبي حاجة، وعرفت حاجات عنك لما سألت بخصوص موضوع علاقتك بأختي، أنا اللي يهمني إن أختي تكون بخير وبس، مع واحد يحبها ويصونها، قبل كدا كانت مع واحد جرحها جرح صعب أوي، أنا كراجل حسيت بإهانة ما بالك هي بنت !! عاوز أقولك إن أختي ممكن تكون مش مثالية ومش علطول لسانها هادي بس بيت بجد، اللي يطلب منها طلب تسلمه روحها كلها، قصاد دا عاوزة بس تتحب، فأنا جاي أقصر المسافات واسألك إيه اللي ممكن تقدمه لأختي؟.
شعر “إسماعيل” بالأمل يظهر بداخلهِ إثر حديث الأخر الذي كان أكبر من خياله وحينها هتف بكل صدقٍ:
_أنا عمري ما حبيت وعمري ما فيه بنت واحدة قدرت تشدني، بس هي واحدة، “ضُـحى” مفيش غيرها، أنا عاوز أقولك إني ماليش حد غير أخويا وأكيد طبعًا عارف حاجات كتير عني، حلم العيلة والبيت والأسرة دا كله بسبب ظروف حياتي مكانش في دماغي، بس فجأة أنا بقيت عاوز دا، عاوز يكون ليا بيت وأسرة وبنت تكون معايا نتشارك العمر اللي جاي، ووعد مني البنت دي مش هتكون واحدة غير أختك، ولا هتشاركها واحدة غير أختك.
ابتسم له “عُـدي” وحرك رأسه موافقًا ثم أعتدل واقفًا وهو يقول بنبرةٍ طغت عليها الفرحة التي نتجت عن الراحة:
_مش عاوز غير كدا منك، وأنا هفاتح بابا وأخد منه ميعاد وأبلغك بيه وتيجي تفتح الموضوع رسمي، طبعًا دا إذا كنت حابب يعني حاجة زي دي ومش حاسس إن فيه تسرع.
وقف أمامه الأخر وهتف بيأسٍ تخللته الضحكات:
_ياعم وحد الله في قلبك أنا جيبت جاز خلاص، لو بكرة العصر أنا موافق جدًا ومعنديش إعتراض نهائي، أو لو حاسس باستعجال خليه المغرب، على الأقل تكونوا جهزتوا البيت يعني، أنا مش بضغط عليك.
ضحك له “عُـدي” وودعه بعدما طمئنه أنه سيقف في صفه وصف شقيقته حتى يكونا سويًا ورحل من عنده براحةٍ لم يفهم سببها، هل لأنه أصبح سببًا في حل معضلة شقيقته، أم لأنه رأى الصدق في عيني الأخر ونبرته، أم لأنه وثق برأي “رهـف” ؟ أم أن الأمور اجتمعت مع بعضها لتشكل حالة انتصارٍ؟.
كان الأخر يود التحليق في السماء بسعادةٍ بالغة برغم أن الأخر لم يتحدث معه عن ماضيه أو يلومه أو يطلب منه توضيح أي شيءٍ، لكنه لم ينكر أن “عُـدي” بمجيئه إلى هنا أزال كثيرًا عن كاهلهِ وحينها ركض إلى مكان “إيـهاب” فوجده فارغًا منه، لذا دلف إلى “سـراج” الذي ما إن رأه عقد مابين حاجبيه فوجد “إسماعيل” يعانقه وهو يقول بنبرةٍ مرحة:
_أبسط يا ابن المحظوظة، قربت تتجوز خلاص.
رفع “سراج” حاجبيه وهتف بسخريةٍ وهو يرفع ذراعيه يحتضنه هو الأخر:
_يعيني؟ أنتَ رجعت للحشيش تاني؟ ياترى اسمها إيه الحتة دي، ما تذوقيني يا ماما؟ ولا يا دبلة الخطوبة؟.
ضحك “إسـماعيل” وابتعد عنه هاتفًا بسخريةٍ:
_اسمها الصُلح خير قوم نتصالح.
رفع “سـراج” كفه بجوار رأسه يشير إلى علامة الجنون وقد حرك “إسماعيل” رأسه موافقًا وسحبه من كفه قائلًا بلهفةٍ:
_يلا نروح نركب خيل، يمكن “يـوسف” يكون راح هناك.
رحل الأخر معه منصاعًا خلفه بصمتٍ دون أن يعارضه لكنه فهم أن “إسـماعيل” الآن في أوج لحظات سعادته وعليه أن يكون داعمًا له خاصةً أن العلاقة بينهما بدأت تعود كما السابق حينما كانا مع بعضهما أكثر من الأخرين، وهاهو “إسماعيل” يتصرف بتلقائيته وكأن نفسه القديمة عادت له أو ربما تكون جديدة عرفت معنى الحياة.
_________________________________
<“دلفنا بيتك أخيرًا، ألم ترحب بِنا؟”>
لم ينس الأمس وكأنه حصل على كل الخيال..
كانت لحظاته أمسًا حياة كاملة إذا عاش هذا اليوم من جديد سيضيفه إلى عمرٍ أخرٍ إلى حياته، حصل عليها أخيرًا وأصبحت على اسمه وضمها للمرةِ الأولى وأمعن النظر في وجهها دون خجلٍ أو تأنيب الضمير، حتى هي ظنها فتاة أخرى غيرها، لم يعلم أن مجرد الحديث منها حياة، أخرج هاتفه على صورته معها بالأمس بعد عقد القران وابتسم “تَـيام” بسعادةٍ وسرعان ما قام عقله بجرد لحظات الأمس وذكره بـ “نَـعيم” ووقوفه بجوارهِ وهو يسانده أمام الجميع وحينها أخرج صورة والده وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_كان نفسي تكون معايا في يوم زي دا، أنا كنت واقف ملط إمبارح بس الحمدلله ربك ستر، الحج “نَـعيم” قام بالواجب، مجاتش من أجواز خالاتي العرر وجت من الغريب، بس سيبك أنتَ، وحشتني أوي أوي، ربنا يرحمك يا حبيبي.
لثم صورة والده ولأول مرة يشعر بهذا الشوق نحوه، شوق تخطى كل المراحل منذ وفاته، لا يعلم هل لأن الأمس كان أهم أيام حياته أم لأنه أفتقد عناقه وافقتد دلال أبيه أم أنه أضطر آسفًا للجوء إلى “نَـعيم” أن يأخذ دور أبيه والأكثر كان مرحبًا بشكلٍ جعله يفتقد أبيه وعائلته التي فرقته عنها الحدود، خرج من هذه الحالة ثم فتح صورتها “ملاكه” من جديد يبتسم لها ولازال ماحدث أكبر من توقعاتهِ..
في مكانٍ أخر بنفس الحارة..
النظرات تطاير منها الشررات بين الإثنين لكن أحدهما شعر بالاستمتاع وهو يتجاهل هذه النظرات وأمعن نظره في طاولة السُفرة التي يتم إعدادها لأجلهِ، من غيره “بيشوي” الذي بدأ أولى خطواته في جلطة قلبية تصيب “جابر” الذي يرمقه بنظرات نارية، وقد أتت زوجته من الخارج ترحب بضيفها قائلةً:
_نورت يا “بيشوي” يا حبيبي، صدقني من الصبح وأنا البنات طايرين من الفرح علشان هناكل مع بعض، وخطيبتك يا سيدي بنفسها تولت المهمة دي، دوق بقى عمايل أيدها وأتطمن بنتنا شاطرة مش أونطة وهنضحك عليك.
ابتسم لها وهتف يثير استفزاز الأخر بقولهِ:
_من غير ما تقولي هي متتقارنش بحد، أصلًا لو مش شاطرة أنا ماكنتش صممت عليها لحد ما بقيت هنا قاعد جنب حمايا وبناكل مع بعض من عمايل أيدها، بس أنا أصلي طيب ومقدر إن هييجي يوم وكل دا هيكون ليا لوحدي.
خرجت في هذه اللحظة “مهرائيل” تبتسم له وهي تمسك قالب المعكرونة المفضلة له وحينما كادت تجاور أبيها زجرها بعينيه وهو يشير إلى جواره وقد سحبت والدتها المقعد الأيمن بجوار “جابر” لتتحرك الأخرى وتجاور “بيشوي” الذي ابتسم بانتصارٍ، حيث كان “جابر” يترأس الطاولة وعلى يساره “بيشوي” الذي جلس عنادًا معه لكي يكون حائلًا بينه وبين ابنته..
أتت “مارينا” وهي تأكل قطعة لحم في أيديها وجاورت والدتها وهي تقول بنبرةٍ معاتبة في كلماتها:
_طب بأمانة عيب، كلوا يا جماعة مستنيين إيه؟.
هتفت “مهرائيل” بتهكمٍ تسخر منها:
_مستنيين اللحمة اللي سيادته بتختبريها.
ضحك “بيشوي” ومال على أذنها يهتف بسخريةٍ:
_أنا عن نفسي مستني أبوكِ يقوم، هطفح اللقمة كدا.
رفعت عينيها تخبره بخجلٍ:
_بعد الشر عنك، ألف هنا وشفا على قلبك، هو أكيد مش هيبصلك في الأكل، دوق بس وقولي رأيك فيا وفي عمايلي.
تجاهل هو الجالسين وهتف بصدقٍ وهو يشبع عينيه منها:
_لو عليا رأيي معروف من زمان أوي وهو إنك مفيش منك اتنين، بس هانت كلها شهر وهعرفك رأيي واحدة واحدة إجمالًا وتفصيلًا، مش كدا أحسن برضه يا “هيري”؟.
حركت رأسها للجهة الأخرى تهرب منه وهي تكتم ضحكتها بينما “جابر” تابع همساتهما بصمتٍ وهو يرضخ للأمر الواقع دون أن يقتحم صفو هذه اللحظات وقد رفعت زوجته كفها تضعه على كفه وما إن تلاقت نظراتهما حركت رأسها موافقةً وهي تبتسم له وتحثه على صمته وعدم تدخله، بينما “مارينا” أخرجت هاتفها تلتقط لهما الصور سويًا وهما يتهامسان معًا بنبرةٍ خافتة وكأنهما نسيا من حولهما..
__________________________________
<“ألم أخبرك أنني هنا لأجلك؟ لما تسألني الآن”>
أوقف”أيـوب” سيارته أمام الأرض التي أشارت عليها “عـهد” وحينها حرك رأسه للأمام يستطلع البيت ثم عاد من جديد يقول بنبرةٍ هادئة:
_أدخلي أنتِ عنده، وأنا هنا، الوقت لسه بدري، يفضل إنك أنتِ اللي تكوني معاه مش أنا علشان ميزعلش أو يتضايق، وتليفوني معاكِ رني عليا لو فيه حاجة وأنا مستني بالعربية.
حركت رأسها موافقةً ثم هتفت بنبرةٍ هادئة كأنها حصلت على الفكرة لتوها بعدما شارفت على الخروج من السيارة:
_طب معلش أنا هدخل أشوفه ولو خرجت ليك هخليك تمشي لاني هحتاج أكون معاه وقت أطول وأنتَ تروح تطمن والدته وأخته وعيلته كلها، وأنا هنا معاه ولو فيه حاجة هكلمك تيجي، ممكن؟.
أومأ لها بجفونهِ يخبرها عن موافقته وتقديره لموقفها ومشاعرها وقد ترجلت هي من السيارة بسرعةٍ كُبرىٰ تسبق خطواتها لكي تصل له، تود طمئنة قلبها عليه وتود رؤيته أمامها بخيرٍ، أخرجت المفتاح من حقيبتها وهي ترتعش بقلقٍ مما قد تواجهه بالداخل..
بينما هو ما إن وصل إلى هنا دلف بكل هدوء ووقف أمام صورة والده يبكي بقهرٍ وهو يشكو له عائلته وما فعلوه به، أنهار تمامًا وركل كل شيءٍ أمامه وضرب سطح الطاولة الزُجاجي حتى جرح كفه، أخرج الصراع المشتعل بداخلهِ على كل من حولهِ حتى خارت قواه وجلس أسفل صورة “عـهد” يستند بظهره على الحائط وقابله على الحائط الأخر صورة عينيها ليزداد شعوره بالذنب أكثر وظل هكذا منذ الأمس وهو يطالع عينيها فقط دون فعل أي شيءٍ أخر..
دلفت “عـهد” تبحث عنه بعينيها المُتلهفتين بقلقٍ بلغ أشده حتى لمحته جالسًا بهذه الطريقة عادت دون أن تقترب منه وأشارت لـ “أيـوب” الذي وقف عند مقدمة سيارته وما إن حصل على الإشارة رحل من المكان ليتولى المهمة التالية وهي طمئنة عائلته..
عادت “عـهد” من جديد وجلست على رُكبتيها أمامه لتجده حرك عينيه نحوها وأرجع رأسه للأمام بعدما كان يساندها على الحائط خلفه وسألها بذهولٍ:
_أنتِ بتعملي إيه هنا !! وجيتي إزاي.
ابتسمت له بفتورٍ ثم هتفت بقلة حيلة:
_جيت هنا علشانك أنتَ، إنما جيت إزاي فدي تعبتني أوي لحد ما وصلت ليك هنا، مقدرتش أكتر من كدا أقعد من غير قلبي ما يتطمن عليك، لو أنتَ يجيلك قلب، أنا مجاليش قلب أعملها يا “يـوسف”.
سحب نفسًا عميقًا وأغمض عينيه هاتفًا بنبرةٍ خاوية لا حياة بها ولا روح حتىٰ:
_روحي يا “عـهد”، روحي وسيبك مني علشان مش هقدر أقولك حاجة أو أجاوب أي سؤال، روحي وسيبك مني بلاش تزودي جروح فوق جروحك أنتِ مش ناقصة يا بنت الناس.
رفعت كفها تضعه نحو موضع قلبه وهي تقول بنبرةٍ مختنقة حينما ظهرت العبرات في مُقلتيها:
_أنا علشان دا، مش علشان اللي قدامي، كلامك عكس اللي هو عاوزه، مفيش شبيه بيسيب شبيهه لوحده حتى لو هو عاوز دا، هو دا الحب اللي قولتلي عليه؟ إنك مع أول مشكلة تديني ضهرك وتمشي لوحدك؟ ولما أجيلك تطلب مني أمشي؟ هو دا الحب والثقة اللي أنتَ كنت خايف من حبي بسببهم؟ عاوزني أمشي بجـ…..
قبل أن تكمل حديثها وجدته يضمها وهو يتشبث بها بين ذراعيه وظل يُشدد عناقه لها وكأنه يخشى أن تنفذ مطلبه المجنون وهتف بنبرةٍ مختنقة أقرب للبكاء وهو يدفن رأسه في كتفها يتوسلها بقولهِ:
_خليكِ، لو بتحبيني بجد خليكِ متمشيش يا “عـهد”.
رفعت ذراعيها تضمه هي الأخرى وهتفت بنبرةٍ باكية وهي تشعر بحالتهِ الغريبة وكأنها طوق النجاة الذي أتى فجأةً لغريقٍ بمنتصف البحر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة:
_مش همشي، أنا هنا علشانك أنتَ.
حسنًا لقد تبدلت الأدوار تمامًا وهي من تقوم بدورهِ و بحديثهِ لتصبح هي من تتحدث بدلًا عنه، أصبحت هي من تمده بالقوة بعدما علمها كيف يكون المرء قويًا، هنا كلاهما يُساند الأخر بالرغم من ضعفهِ، الآن تختاره من وسط عالمٍ أعلن الحرب عليه لتعلن عن نفسها جيشًا له أمام خصومة العالم، ويبدو أن انتصر بها هي، ظل يسمح على ظهرها ثم ابتعد عنها يطالع وجهها وعينيها السوداوتين اللاتي لازال يرى نفسه فيهما مُعانقًا ومُحتميًا بين الجفون وحينها شعر أنه أشتاق لها فهتفها بصدقٍ وهو يحتضن وجهها بين راحتيه:
_وحشتيني، وكنت خايف أخسرك، أنا عندي استعداد أخسر حياتي من تاني وروحي وأضيع نفسي مني وأبقى مجنون في عيون الكل، بس قصاد كل دا تفضلي أنتِ، مش عاوز أتغرب في عينيكِ يا “عـهد”.
نزلت دموعها وضمته من جديد تمسح على ظهرهِ وهتفت بنبرةٍ باكية حينما تذكرت هيئته أمسًا حينما طالعها بانكسارٍ وهرب منها ومن نظراتها خوفًا من الغُربة بهما
_وأنتَ وحشتني أوي يا “يـوسف”، أنا هنا معاك أهو فرصة متضيعهاش من إيدك، حافظ عليها علشان تبقى أنتَ الكسبان في كل دا، وإذا كان عليا، فأنا مكتفية بيك نصيبي.
أسكتته بحديثها وجعلته يصمت هو ورأسه وكأنها أعطته هُدنة من حربه وأعلنت حينها أطراف الحرب إذعانها لها وكأنها هي من تقود الحرب وتُنهيها، أو ربما هي الطرف الحيادي الذي تحترمه كل الأطراف وتُعلن إنصياعها له، وقد بدت أمامه ببريق عينيها مثل أداة أزالت عنه عبئه وأسكنته في عينيها لتصبح كرسالةٍ كتبها “كافكا إلى ميلينا” ذات مرةٍ قائلًا:
“ذاك البريق الذي يسكن
عينيك، يزيل معاناة العالم”.
وهي فقط وليست غيرها من تطالعه ببريقٍ يتلألأ مثل نجمٍ مُضيءٍ في سماءٍ مُعتمة ظهرت لشريدٍ في الصحراء تاهت عنه السُبل وما كان أمامه إلا أن يُتابع النجوم لعلها ترشده في خطاه، وها هو أمام البريق اللامع ينسى عبئه في عينيها
__________________________________
<“أتى القوي كاشف الحقائق، فلا تقلق”>
لا شك أن هناك بعض الأفراد في العالم لازالوا يتمتعون بالقوة وبعض الخِصال الكريمة لدرجةٍ تجعلك تشك في حقيقتهم، والآن “مُـنذر” يجلس في الفراش ويعاونه أحد العاملين بالعيادات الأهلية “مستوصف” في الحارة ويهتم بجرحه الذي زاد إلتهابًا عن الأمس وكذلك الكدمات الأخرى ووقف بجواره “أيـهم” يراقب عمل الأخر بصمتٍ وقد خرج “إيـاد” من المرحاض وفي يده المناشف القطنية وأعطاها للممرض قائلًا:
_أتفضل يا عمو، ربنا يوفقك.
ضحك “أيـهم” وكذلك “مُـنذر” أيضًا فيما أنهى الأخر عمله وطمئن “أيـهم” بحديثه ثم أخبره بضرورة الرعاية ورحل من المكان بعدما أوصله “أيـهم” للخارج وعاد من جديد يبتسم لـ “منذر” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_حمدًا لله على سلامتك، أنتَ متوصي عليك من فوق أوي، أولًا الحج “نَـعيم” ثانيًا الحج “عبدالقادر” وثالثًا “أيـوب” يعني مش هعرف أفلص منك، المهم أنتَ دلوقتي بخير؟.
حرك “مُنذر” عينيه نحو “إيـاد” وهتف بوجهٍ مبتسمٍ:
_بصراحة يعني من ساعة ما شوفت “إيـاد” وأنا مبسوط جدًا، بس ألف شكر تعبتكم معايا وعطلتكم، حقكم عليا، وأشكرلي الحج و “أيـوب” على اهتمامهم دا، دا دين في رقبتي لآخر لحظة في عمري.
تحرك “أيـهم” نحو حقيبة الطعام يخرجها ثم أفرغ محتوياتها أمام “مُـنذر” وهتف بنبرةٍ هادئة لكنها آمرة وقوية لم تقبل النقاش:
_أبقى أشكرهم أنتَ بس كُل الأول علشان المسكن والمضاد اللي هتاخده، وعلى فكرة لو ماكلتش “إيـاد” هيبات في الشارع، شرد ابني بقى كمان.
ضحك “منذر” له بعينيه ثم أستسلم في نهاية الأمر لتناول الطعام ولازال عقلهِ مشغولًا بـ “إيـهاب” وما أخبره أن يفعله، الأمر فقط يتطلب منه بعض الإنتظار لكنه لم يقدر وكأن هذه اللحظات أكبر من طاقتهِ، مرت دقائق أخرى تبعها
دخول “إيـهاب” مثل الإعصار ومعه أحد الرجال وقد قام بسحبهِ وألقاه على الأريكة مما جعل “أيـهم” يخرج من الغرفة وخلفه ابنه و “مُـنذر” الذي سأله بدهشةٍ:
_بتعمل إيه يا “إيـهاب” !! قولتلك روح لمراته هو خلاص قال اللي عنده والباقي عند مراته هي اللي عارفة الواد عند أنهي ست، بترجعنا ورا تاني ليه؟.
ابتسم بزاوية فمه ثم أخرج مديته يضعها على عنق الرجل ثم لوى ذراعه للخلف مما جعل الأخر يصرخ متأوهًا وقد هتف “إيـهاب” بنبرةٍ هادرة من بين أسنانه:
_أنطق يا حيلتها كدا وسمعهم، يلا.
تحدث الأخر بتلجلجٍ وهو يرتجف بين قبضتي “إيـهاب” الذي ضغط على عنقه أكثر بسلاحهِ الأبيض:
_هقول والله، “سـامي” جه أتفق معايا ودفعلي ربع مليون قصاد إني أتوه الباشا، وقالي كمان على كلام مخصوص وحفظهولي، بس يمين بالله يا باشا هو اللي كان مخطط لكل حاجة وهو اللي دبر إزاي يتوهه، والولية مراتي هو اللي عرف مكانها وتلاقيه راحلها.
ابتسم “إيـهاب” بثقةٍ ثم دفعه على الأريكة بعدما جرح عنقه عن عمدٍ كذكرى للآخر حتى لا ينساه وخاصةً أن هو الذي تهجم على “مُـنذر” ليلًا، من جديد الخيوط تتشابك مع بعضها لتزداد حيرة “مُـنذر” في أمر ابن عمه وكأن مسألة الحياة أو الموت وحينما غرق أكثر في شروده خرج على صوت “ميكي” الذي وصل إليهم وفي يده إمراة كبيرة وهتف بزهوٍ في نفسه:
_الست أهيه يا “عـمهم” في نفس المكان اللي أنتَ قولت عليه، وهتقولك كل حاجة أهيه.
من جديد ابتسم “إيـهاب” ثم حرك عينيه نحو البقية وهو يقول بثباتٍ لم يلق بغيره:
_عرفتوا أنا عمهم ليه؟.
من جديد ثقته تعود وجرأته تظهر لتعلن عن دوره الذي لم يقل ولم يتخل عنه أحدٌ، كان ولازال هو مصدر القوة في هذه العائلة التي اجتمعت بروابط القلوب وليست روابط الدم، بالرغم من غرابته إلا أنه ماسك الخيوط ومحرك الجميع تحت رغبته وبناءًا على أوامرهِ
____________________
لا تنسوا الدعاء لإخواننا وتذكروا أن الدعاء هو السلاح الوحيد، فاللهم أنصر إخواننا في كل الأراضي العربية.
__________________________
_إهداء إلى الجميلة “رغد وائل” كل عام وأنتِ بخير يا جميلة وعام سعيد عليكِ وعلى قلبكِ
_إهداء إلى اللطيفة “سُمية كساب” كل سنة وأنتِ طيبة ويارب كل سنة في خير وسعادة وهنا.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى