روايات

رواية منك وإليك اهتديت الفصل التاسع 9 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الفصل التاسع 9 بقلم زيزي محمد

رواية منك وإليك اهتديت الجزء التاسع

رواية منك وإليك اهتديت البارت التاسع

رواية منك وإليك اهتديت
رواية منك وإليك اهتديت

رواية منك وإليك اهتديت الحلقة التاسعة

بعد مرور يومين..
وضع “السيد مصطفى” أطباق الجبن المختلفة فوق طاولة صغيرة في المطبخ وبدأ في اعداد وجبة الافطار لـ “مليكة” كعادته دومًا والبسمة لا تفارق وجهه انتظارًا لرأيها الثمين في طعامه متلذذًا برؤيتها التي لم ينقطع عنها البراءة رغم أنها أصبحت أكثر نضج إلا أن نظرة السعادة ذاتها تُلقيها نحوه بكل امتنان وحب لتقديره الدائم لها، ورغم أن تلك الأيام يشعر بقلق ما يحوم حولها حيث بدت عيناها غائمة بشكل يخيفه عليها ولكنه لا زال يتمسك بمساحتها الشخصية منتظرًا إياها حين تُقدم عليه كطفلة صغيرة تفيض بما يسبب لها الأرق.
ارتفع رنين هاتفه فخرج من عمق تفكيره الغارق بها وبتصرفاتها الغريبة مؤخرًا والتفت نحوه يجذبه تزامنًا مع تنهيدة صغيرة كانت تحاول الانفلات من صدره إلا أنها سجنت بين ضلوعه حين رأى أسمها يتلألأ ويزين شاشته لأول مرة منذ سنين.
أسبل أهدابه مفكرًا للحظات في ظل خضم مشاعره وشعوره بالسعادة لمجرد سماع صوتها مرة أخرى، لذا اقتنص بعض ذرات الهواء قبل أن يجيب بنبرة ظاهريًا كانت هادئة:
-الو، ازيك يا نادية؟
علت ضربات قلبه وكأنه شاب في العشرينات وغزت الحيوية ملامحه مستمعًا لصوتها الأنثوي ذي البحة المميزة التي لم تتغير بمرور الزمن:

 

 

-مصطفى اللي بتعمله مينفعش وميصحش.
قالتها بحزم قاس لم يعير له أي اهتمام طالما نبرتها تغزو خلايا قلبه المظلم لتعيد فيه الحياة من جديد، استمر في حالة التيه تلك تاركًا ثرثرتها حول العادات والأصول ولم يأبى لنبرة الحدة الملازمة لها إلا حين نادته عدة مرات قائلة:
-مصطفى أنت معايا، لو سمحت رد عليا، مينفعش تيجي عند بيتي تاني.
كان يريد الاعتذار ولكن لسانه أعلن العصيان وتمرد بعنفوان ناطقًا بكلمة خرجت من معقل مشاعره المتأججة:
-وحشتيني يا نادية.
نطقها وترك جلد الذات جانبًا، لقد أراد التلذذ بحلاوة لحظة ربما لن تتكر ثانيًا، ومع استمرار الصمت بينهما حول الهاتف أمامه للتأكد من جودة الاتصال فوجدها قد أغلقت الاتصال محتفظة برد فعلها لنفسها، وبقي هو كعاداته يتلوى بنيران الفراق والوجع منذ أن تعلم قلبه قراءة سطور العشق والغرام.
تمالك أعصابه حين نادته “مليكة” من خلفه بنبرة متعجبة:
-بابا…بابا مصطفى.
التفت بنصف جسده والهاتف لا زال يمسكه بقوة وكأن تلك اللحظة الفريدة يخشى أن تكون من أوهام هاجمت واقعه بين حين وآخر.
-أيوا يا مليكة، في حاجة يا حبيبتي؟
-أنت كويس؟
سألته والقلق يسيطر على صوتها الرقيق، فأجاب بهمس هادئ:
-أنا كويس جدًا الحمد لله يا حبيبتي.
صحيح من أسمى صفاته الهدوء دومًا ولكن ليس بتلك الطريقة، كانت تريد الاستفسار أكثر عن حالته ولكنها ابتلعت أسئلتها حينما لاحظت عودته واندماجه في تحضير الطعام، فاكتفت بهز رأسها ومساعدته دون أن تفتح مجالاً أكثر للحديث بينهما فيعود ويسألها عنها وكالعادة تهرب كالجرو الصغير نحو غرفتها تنزوي بها تفكر في إيجاد حل لمصيبة تأجلت قليلاً بسبب سفر” ماجد” المفاجئ.
***

 

 

تابع “يزن” تأفف زيدان المتواصل منذ الصباح والتزم الصمت محاولاً ضبط ابتسامته كي لا يهجم عليه ذلك الثور حيث كان على وشك الانفجار بالجميع الآن، عاد بظهره للخلف وركز أكثر بكلمات “زيدان” المتناثرة في غضب:
-وقولت أن الخاتم هيرجعها تاني وهي ولا أخدت بالها منه.
-جبلة يعني مبتحسش؟
تسأل “يزن” بمزاح، فاستدار الأخر المواصل لاستكمال ثيابه وأمسك بوساده صغيرة وألقاها في وجه أخيه بكل عنف متمتمًا بضيق:
-ما يمكن أنت مبتفهمش وأنا أهبل عشان ماشي وراك.
رفع “يزن”حاجبيه في غيظ مردفًا:
-طيب ما أنا قولت أجي معاك وأخلص الحوار أنت مرضتش، عرضت مساعدتي ولا معرضتش.
-مستغني عنها يا سي روميو.
انتهى من ارتداء ثيابه، ووضع الخاتم فوق السراحة بإهمال وقبل خروجه أوقفه يزن بصياح:
-أنت رايح فين البس الخاتم.
-لا أنا همشي بدماغي بعد كدا.
توسعت أعين “يزن” بقلق وأردف:
-لا أنت اوعى تمشي بدماغك، دا البت تهاجر وتسيب البلد.
عبس بملامحه وخرجت حروفه غليظة قوية:
-مش معنى أن باخد رأيك أنك تتعدى حدودك معايا فاهم ولا لأ.
تمتم يزن بصوت هامس لنفسه والاشمئزاز يطفو فوق ملامحه:
-ليها البت تهرب منك
لكزه زيدان بذراعه قائلاً بخشونة:
-ها انجز عايز ايه؟
-يا زيدان افهمني البس الخاتم وامشي زي تعليماتي والبت هتبقى زي الخاتم في صباعك.
انفجر زيدان في غيظ:
-يا بني أدم افهم بقولك بقالي يومين بروحلها وهي بتصدني.

 

 

عقد يزن ذراعيه وعينيه تظهر مدى استشاطته:
-عشان بتروحلها في شغلها، استني يا قبل يا بعد ولو فلتت منك ازنقها بقى حتى لو غصب.
رسم اللامبالاة فوق وجهه ليقول:
-هو أنا فاضي للحوارات دي.
عض يزن فوق شفتيه بقسوة وكور يده بعصبية:
-تصدق أنا اللي غلطان، أنا اللي غلطان..
عقد زيدان حاجبيه بتعجب وهو يتابع حالته المستاءة بينما استمر الأخر بحديثه حتى خارج الغرفة:
-أنا اللي غلطان…يا ماما أنا اللي غلطان.
تقدمت “منال” صوبه في قلق متسائلة:
-مالك يا حبيبي.
-أنا حاشر نفسي ليه المفروض اخاف على نفسي من الجلطة.
شهقت بنعومة وهي تمسد فوق ذراعيه:
-بعيد الشر عنك يا روحي.
حول يزن عينيه صوب زيدان الواقف بجانب غرفته والقسوة الممزوجة بالتحذير تعلو وجهه:
-هي ليها الجنة اقسم بالله.
-هي مين دي؟
تنقلت بنظراتها بينهما منتظرة إجابتهما بفضول فتقدم زيدان منهما ودفع يزن بقوة داخل غرفته، واستكمل احتضانه لوالدته واضعًا ذراعيه حولها:
-الساعة…الساعة كام دلوقتي فين الفطار يا ست الكل؟
***
في المساء..
خرجت “مليكة” من المشفى تتابع خطواتها في تمهل وفي ذات الوقت تحظى ببعض الهدوء مستغلة الصمت المطبق من حولها في الطريق المؤدي للطريق العام..
غاصت بتفكير في إيجاد حل مناسب لتواجه ذلك اللعين “ماجد” دون المساس بشرفها أو الافصاح عن تلك الصور والمحادثات المشينة، وكلما توصلت لتلك النقطة تحديدًا يملأها مشاعر جمة تتشاحن في جنون ما بين الغضب والخوف وفي نهاية المطاف تبقى مُعلقة حتى إشعار آخر.

 

 

خرجت من دائرة التفكير خاصتها على صوت أقدام من خلفها وقد أحست حينها بالتوتر فكلما سارعت بخطواتها تشعر بأن المسافة تتقلص أكثر، بدأت في السير بطريقة أشبه للجنون ولكن التنورة التي كانت ترتديها أعاقتها قليلاً فعلى التذمر تقاسيم وجهها تزامنًا مع احمرار طغى بقوة فوق وجنتيها.
لم تدري أي قوة هاجمتها حتى تستدير بهذا الشكل المفاجئ وتحرك حقيبتها الجلدية بطريقة دافعية أمامها تنوي ضرب هذا المتحرش بكل قسوة ولكنها تراجعت في أخر خطوة حين رأت “زيدان” يبتعد للخلف ممسكًا بالحقيبة بين يديه ضاحكًا:
-أيه حاسبي هتفقعي عيني.
أطرقت بعينيها أرضًا قليلاً قبل أن ترفع بصرها إليه تحدجه بقوة ومن بين أسنانها قالت:
-لو ينفع كنت عملتها.
وضع يده فوق صدره مشاكسًا إياها بلطف وبنظرة استعطاف اتقنها جيدًا أردف:
-وأهون عليكي.
كسا الخجل ملامحها وعجز عقلها عن الرد بعد نظراته تلك ولكن شيء ما جذب أنظارها وجعلها تركز ببصرها عليه حتى أنه انفلت لسانها بسؤال نهرت نفسها عليه فيما بعد:
-من امتى وأنت بتحب الخواتم؟، ما أنا جبتلك واحد وأنت…
انقطع صوتها فجأة وعم الصمت بينهما بعدها، فتشابكت أنظارهما في لحظات انفردت بها لغة العيون وأباحت بما يجيش بصدورهما.
قرر “زيدان” قطعها بقوله الهادئ المصاحب لبسمة شعرت بالارتباك منها وهو ينظر نحو الخاتم بتنهيدة قصيرة:
-الخاتم دا عزيز عندي شوية.
كاد أن ينفجر الفضول من مقلتيها وبذات الوقت ودت أن تلكمه على تنهيدته تلك، بالطبع هي حمقاء ساذجة تغرق في أوهام الحب حتى بعدما جسد الفراق جسر بينهما، أما هو ينعم بين فتياته ويتلقى منهن كل الاهتمام والحب، حقير، متكبر، غبي…
اتسعت عيناه بصدمة وتراجع برأسه متسائلاً:
-قولتي إيه؟
يبدو أنه ارتفع صوتها قليلاً وهي لم تشعر كعادتها:
-قولت عايزة امشي.

 

 

أجابت بضيق وقررت الابتعاد واستكمال خطواتها إلا أنه اعترض طريقها مرة أخرى ليقول بخشونة:
-هو أنا مش واقف معاكي ازاي تمشي وتسيبني!
رفعت حاجبيها في استهجان متسائلة بصوت يبدو عليه الحنق:
-تقربلي إيه أنت عشان تقف معايا ولا تكلمني.
تجاهل كلماتها عن قصد مررًا ببصره فوق ملابسها في تمهل أحرجها وأصابها بالخجل الشديد وخاصةً حين قال بهمس قاصدًا التلاعب بمشاعرها:
-مش ملاحظة الجيبة ضيقة، مش هعلق كتير عن كدا.
تشدقت بخبث قبل أن تواجهه بحماقة:
-المرة الجاية هخليها ضيقة أكتر من كدا.
عقد ذراعيه أمامه بتحدٍ:
-ودا اسمه؟
-رخامة..غتاتة أي حاجة وابعد عني.
قالتها في حنق شديد، شاعرة بالحزن من نفسها لتجاوب عاطفتها معه وبالأخير ستصطدم بقلبه الصلد وتبقى هي الخاسرة الوحيدة بينما هو يحظى بهدايا يرتديها بكل حب من فتيات حمقاوات مثله.
-وأنا مش هبعد يا مليكة واعتبريه تحدي.
ردت بعناد امتزج فيه التذمر:
-هتبعد يا زيدان، ومينفعش كل شوية تيجلي في مكان شغلي.
-طيب تيجلي أنا عادي يعني.
رمشت بأهدابها بعدم فهم متسائلة في صمت عن مقصد حديثه، فتابع حديثه بخبث:
-موافقة يعني تمام براحتك.
زفرت في ضيق وهزت رأسها كمحاولة منها لإخراجه من تفكيرها، لن يعود تأثيره عليها كما كان سابقًا، فـ بعد الآن ستلجم عاطفتها في غيابه قبل وجوده.
التفتت بجسدها والتزمت الصمت وتابعت خطواتها دون أن تعير له أي انتباه، وفي ظل حركتها شعرت بالخجل والتوتر وهو خلفها يسير بكل هدوء وفي داخلها كانت تدرك تمامًا أين مستقر عيناه الآن، فتوقفت فجأة بعصبية:
-روح اركب عربيتك لو سمحت وسيبني.

 

 

تجاهل نبرة صوتها المرتفعة الغاضبة ورد في برود:
-عربيتي برة على الطريق وبعدين استحالة اخليكي تمشي لوحدك..
كادت أن تفتح فمها للرد عليه ولكنه اقتصر عليها بقوله الحازم:
-متجادليش كتير وسيبني امشي وراكي.
أنهى حديثه ببسمة واسعة قاصدًا إثارة غضبها وخجلها لطالما تحظى بجمال فريد يعشقه حين تثور وتعترض بغضب.
خفضت نبرتها بعدما فقدت جزء من قواها في مجادلته، وأشارت له بأن يتقدم أمامها ولكنه تظاهر بالغباء حتى فقدت هدوئها الزائف وقالت:
-امشي أنت قدامي وأنا وراك.
تقدم بخطواته حتى وصل بجانبها وأمال عليها قليلاً هامسًا:
-يا خسارة الجيبة هتفوتني.
وما أن أعطاها ظهره حتى رفعت حقيبتها وضربته في كتفه بغيظ:
-قليل الأدب.
نظر إليها بطرف عينيه قائلاً بتحذير مصطنع:
-متتكررش عشان متزعليش.
لم تمنع نفسها من نبرة العناد وردت:
-هتعمل إيه يعني؟
التفت بكامل جسده مشيرًا بيده في توعد :
-هقبض عليكي ووقتها لو مين جه عشان يطلعك محدش هيقدر.
-ليه رئيس جمهورية وأنا معرفش.
ردت عليه في استهزاء، فخالف توقعاتها بغمزة من عينيه وبوقاحة أجاب:
-هتبقي ممتلكات خاصة ودي طبعًا صعب افرط فيها.
تلعثمت في حديثها من فرط خجلها وقالت بصوت غلب عليه الارتباك المخالط للحرج من وقاحته على غير عادته:
-أنا بكلمك ليه..أنا بتكلم مع واحد زيك ليه.
تحرك من أمامها بعدما دفعته بحقيبتها فتمتم بضحك :
-طب والله الشنطة دي متمرطة معانا.
ردت في نزق تخفي به عاطفته المتأججة:
-مالكش دعوة ويلا خلصنا من الشارع دا.
ارتفع صوته في ضحكة صغيرة مستمتعًا بأطول حديث بينهما منذ أن التقيا بعد فراق دام لسنين:
-بس افتكري انك وافقتي.
***

 

 

حاولت “نهى” فتح جفنيها ولكنها وجدت صعوبة فعادت إغلاقهما ولكنها انتبهت ليد تمسد فوق ذراعيها بحنان بالغ سرقتها من أحلام خالطها كوابيس مزعجة رغم إصرار عقلها الباطن الغرق في أوهام علاقة عاطفية مع زيدان، فكانت تتمنى أن يحالفها الحظ ولو مرة واحدة وتستمع لصوته يغازلها بأرق الكلمات ولكن يبدو أن تلك الكوابيس تزعجها في نومها بعد أن قررت الهرب إليه للخروج من شرنقة الواقع بآلامه الصعبة وتجاهل زيدان المستمر لها، وكلما عجز عقلها عن تفسير معاملته الجافة لها يعود متقهقر لفكرة الانتحار فيبدو أنها نهاية مطاف علاقتها معه وفكرة الشروع في حياة جديدة على وشك الانهيار.
عادت تلك اللمسات من جديد فداعبت قلبها المتشوق لمثل هذه المشاعر، ولوهلة ظنت أن تلك اللمسات من قبل والدتها فارتسمت بسمة صغيرة فوق ثغرها الباهت ورافقته دمعة ساخنة سقطت من عينيها المغلقة، لم يدم ظنها طويلاً وذلك عندما تبعثر كحال كل مرة فأول من رأت حين فتحت عيناها، كانت الخادمة تجلس بجوارها بابتسامتها المعهودة.
-إيه يا ست الكل هتفضلي طول اليوم نايمة كدا.
خرج صوتها المتحشرج ليقول:
-مفيش حاجة اعملها، خليني نايمة أحسن.
انطفت معالم الحياة من وجهها الجميل وبدت كعجوز على فراش الموت، وبدأت تشعر بشفقة منبثقة من نظرات الخادمة حتى أنها لم تكف عن محاولتها البسيطة في التخفيف عنها:
-قومي يا ست نهى واشغلي نفسك بأي حاجة، ما تدوري على شغل ولا وتقعدي مع صحابك.
أسبلت أهدابها بحزن شديد وهي تقول بصوت يغلب عليه البكاء:
-ماليش نفس أعمل حاجة، وماليش أصحاب.
اختفت بسمة الخادمة للحظات ثم عادت تقول بحماس:
-قومي اتكلمي معايا أو اتصلي على سي زيدان.
هنا فقدت القدرة تمامًا وانهمرت دموعها كالأطفال تقول بقلة حيلة وفقدان للشغف:
-حتى هو بدأ يتهرب مني، هو أنا وحشة عشان يعاملني كدا؟، طيب ليه طلب يخطبني من الاول؟، لما ساعة يعاملني حلو وطول اليوم زي الزفت، عايز يوصل لإيه أنا مبقتش عارفة.
لم تكن الخادمة تدرك أن بمحاولاتها البريئة ضغطت عليها فالأمر يشبه وكأن جاء أحدهم وقام بالضغط على بالون، تلك كانت حالتها تمامًا عندما أفضت بما لا تقوَ على قوله، حاولت الخادمة تهدئتها بكل الطرق ولكن نهى كانت في عالم آخر تسعى لإيجاد سبب ترضي به انكسار قلبها من تصرفات زيدان معها.
-خلاص يا ست نهى، يا ستي أنا غلطانة ان صحيتك.

 

 

-ولا غلطانة ولا حاجة، خليها تصحى وتفوق من الوهم اللي هي فيه.
انتبهت “نهى” على صوت والدتها فرفعت بصرها في حزن وهمست:
-تاني هتقولي وهم.
نهضت الخادمة تحاول جذب ميرفت للخارج مراعاة لظروف الفتاة ولكن الأخرى أبت بل وقالت بتهديد:
-حسك عينك تقربي مني، هو أنتي هتعيشي الدور كأنك واحدة من البيت ولا إيه، دي بنتي وأنا حرة فيها.
عادت الخادمة للخلف بحرج شديد وقالت بصوت خفيض وعيناها تلازم الأرض:
-أسفة يا هانم.
حولت ميرفت بصرها بعد أن هدأت قليلاً والزمت الخادمة مكانتها، ثم قالت بصوت قوي وهي تتقدم من نهى الغارقة في البكاء:
-اقولك أنا يا حبيبتي سبب معاملته ليكي.
-لا مش عايزة أعرف، اطلعي وسيبني في حالي.
قالتها نهى في لحظة اندفاع وكأنها تخشى صعوبة الوضع المتمثل في أعين والدتها، حتى أنها وضعت يدها فوق أذنيها، فثارت ميرفت بغضب وتقدمت من ابنتها المعلنة تجاهلها لها وهذا ما أغضبها بل وأشعل فتيل الانتقام من ابنتها حتى تتجرأ وتُقدم على مثل هذا الفعل أمام الخادمة:
-فوقي يا بت..أصل والله ألطشك قلم من بتوع زمان.
ضغطت نهى اكثر فوق أذنيها واشتدت ملامحها وهي تنكمش فوق فراشها، فتقدمت والدتها أكثر وجذبت الغطاء وألقته أرضًا ومن ثم ابعدت يدها واقتربت بوجهها منها عندما مالت بنصف جسدها العلوي تقول بكل جرأة ممزوجة بالوقاحة:
-عارفة ليه بيعاملك كدا، عشان أنا طلبت منه كدا، قعدت اترجاه واطلب منه يمثل عليكي دور انه بيحبك وبيموت فيكي لما عملتي العملة المنيلة بتاعتك وانتحر*تي.
حركت نهى رأسها بجنون ترفض التصديق، لم يكن زيدان كاذبًا من قبل، لقد أقسم على حبه ومشاعره في المشفى وحين رفضت الخطبة عندما أرادت تعزيز نفسها، أصر هو على ذلك معلنًا سبب جرحه لها في البداية، كانت عيناه صادقة، مشاعره لامست قلبها، هل كان يتوهم عقلها ذلك؟ هل وصلت بها السذاجة لذلك الأمر؟ أم أن الشفقة دفعته لتمثيل دوره بإتقان؟
-بتفكري في أيه؟ كل اللي بقوله حقيقي، واسأليها اهي وهي واقفة ولو تقدر تكدب.
استدارت للخادمة التي أخفضت بصرها أرضًا تهرب من نهى والحزن يكسو وجهها، فتابعت ميرفت حديثها:
-هتكدب ازاي وهي اللي قالتلي على الفكرة دي، قال إيه عشان ننقذك، بس متعرفش ان النكد والنحس هيفضل ملازمك عمرك كله طول ما أنتي حاطة سي زيدان في دماغك.
انفجرت مشاعرها كالبركان وصرخت بصوت يغلب عليه الوجع والخذلان بينما كانت عدستيها تختفي خلف غلاف رقيق من الدموع:
-بس كفاية اطلعي برة، مش عايزة اسمع منك كلمة تاني، أنا هخلصكم مني، ارحموني.

 

 

كانت تدفع والدتها بيدها وقد فقدت كل ذرة هدوء واستكانة وباتت تتحرك بجنون تدفعهما معًا خارج غرفتها، بينما كان صدرها يضيق بها وكأن جدران الغرفة تنقبض عليها، فاختفت أنفاسها وأصبحت ثقيلة مع خروج الخادمة واغلاقها للباب بقوة من خلفهما.
ومن بعدها سقطت أرضًا تبكي بصوت عال وعادت فكرة إنهاء حياتها تسيطر عليها من جديد، فلم تكن تريد التفكير لو للحظة بحديث والدتها المؤذي..نعم مؤذي جدًا لها وأصبحت لا تطيق التنفس والاستمرار في تلك الحياة المخزية فالموت أهون مئة مرة مما تمر به حاليًا.
***
في مساء اليوم التالي..
وقفت “مليكة” أمام دكان صغير بجوار المشفى هي وإحدى زميلاتها، تختار الحلوى المفضلة قبل الذهاب للحافلة الكبيرة الموجودة دائمًا بالطريق الرئيسي..انتهت أخيرًا وبدأت في وضع الحلوى في حقيبتها ما عدا واحدة قررت أكلها لتساعدها قليلاً في القضاء على الجوع المسيطر عليها طيلة اليوم.
-بس أنتي متغيرة اوي يا مليكة اليومين دول.
انتبهت لصوت صديقتها المجاورة لها وتدعى “أمل”، فجذبت نفس قصير قبل أن تجيب بهدوء يخفي خلفه آلام تحاول دفنها عن الجميع بابتسامات مصطنعة:
-لا أنا متغيرتش ولا حاجة.
هزت “أمل” كتفيها لتقول بصوت يشوبه عدم الاقتناع:
-يمكن، بس..
بترت حديثها فجأة وقررت الصمت كي لا تزعجها بأقوال قد تثير غضبها، ولكن “مليكة” أصرت على التحدث بقولها:
-كملي يا أمل، متكتميش حاجة في قلبك.
ضحكت الأخرى قبل أن تثرثر كعادتها بطيبة قلب:
-يا بنتي مقصدش، الايام اللي فاتت كنت بحس دكتور ماجد بيرخم جامد عليكي، قولت يمكن دا سبب معاملتك للكل وزعلك طول الوقت بس حتى بعد ما سافر واتنيل اخد اجازة متغيرتيش ولسه زعلانة.
وقف الطعام بفم مليكة فلم تجد طريقًا للخروج من ذلك المأزق أو التبرير بشكل لا يثير شك صديقتها أو أي فرد بالمشفى خاصةً أن أمل كثيرة الثرثرة.

 

 

وقبل أن تفتح فمها مبرر وقفت سيارة شرطة أمامهما وهبط منها ضابط يبدو عليه صغر السن، ملامحه مشدودة وكأنه يُقدم على إمساك بمجرم خطير..
-أنتي مليكة.
جف حقلها من التوتر وحولت بصرها لصديقتها التي ردت بالنيابة عنها قائلة بقلق عارم:
-ايوا يا فندم..في حاجة؟
تجاهل فضولها الممزوج بالقلق وأشار لمليكة بالصعود لسيارة الشرطة بنبرة حاسمة غليظة حولت قلب مليكة المتماسك لورقة هشة فكاد يتوقف عن النبض حين جذبها الضابط وحركها نحو السيارة:
-يلا اطلعي..بسرعة.
اختفى صوتها كحال اختفاء أنفاسها وهى تصعد في السيارة بالخلف فواجهها ظلام بالداخل مما جعلها تحول بصرها سريعًا للجهة الأخرى وقد قابلها أضواء الطريق الخافتة وأمل صديقتها المحدقة بها بقلق وخوف حقيقي:
-في إيه يا مليكة؟
كانت أخر جملة تصل إليها قبل أن تتحرك السيارة ببطء في البداية فتداركت مليكة موقفها بالإضافة إلي هاتفها الفاصل فقالت بصوت مرتفع:
-تليفوني فاصل، كلمي بابا مصطفى يلحقني.
-يلحقك فين؟
قالتها “أمل” سريعًا وهي تركض خلف السيارة ولكنها فشلت بسبب سرعة السيارة بينما أحست مليكة بفقدان الأمل وحاولت فتح الهاتف مرارًا وتكرارًا ولكن قد نفذ مخزون الشحن وبقيت هي في تلك الكارثة وحدها.
***
قبل قليل..
حرك “زيدان” قلمه بعشوائية فوق مكتبه، مفكرًا بجدية حول تعليمات يزن الجنونية، لم يتوقع أن يصل به الأمر لتلك الوقاحة في التعامل مع مليكة، ولكنها هي من أجربته على ذلك، فقد حاول مرارًا وتكرارًا التعامل بشكل لطيف ولكنها دائمًا تضع مائة حاجز بينهما، فشعر باليأس من الوصول لقلبها من جديد، وبذات الوقت يشعر برغبة جامحة في مزج عاطفتهما كما كان سابقًا، لقد كان ساذج وأحمق حين تمسك بأفكاره وتخلى عنها بكل بساطة أوجعتهما فيما بعد، بالإضافة أنه حاول كثيرًا الوصول إليها ولكنها كانت دومًا تقف بالمرصاد له، تترفع عنه بكل كبرياء، فأحس بإهدار كرامته وخاصةً حين أخبره أحد أصدقائه عن سوء نيتها وأنه ليس سوى صيد ثمين تحاول اقتناصه، فـ أصدر فرمان ضد قلبه معلنًا فيه العصيان على مشاعره.
-ما كنت اتنيل واتجوزها كان عيالي دلوقتي بيلعبوا حواليا، بدل الهم اللي أنا فيه.

 

 

قالها بحنق قابضًا فوق قلمه بعنفوان شديد، متراجعًا عن ذكريات الماضي محاولاً التركيز في حاضره فأولى اهتماماته حاليًا تتمثل في عودتها له.
ترك قلمه جانبًا، جاذبًا نفس عميق قبل أن يمسك هاتفه مقررًا الاتصال بأحد زملائه وأصدقائه بالقسم وبعد محاولات عديدة رد صديقه أخيرًا:
-محمود…أنت سامعني.
جاءت أصوات متداخلة في البداية مما جعله يفقد السيطرة على نفسه وقال بعصبية مفرطة:
-ما تقف في مكان في شبكة يا عم.
وبعد عدة ثواني قال محمود:
-أيوا انت كدا سامعني.
-اه اه سامعك، بص بعتلك معلومات واحدة على واتس عايزك تجبلي البنت دي هنا على القسم، بس خد بالك في معاملتك معها يا محمود دي حد مهم بالنسبالي.
صمت مطبق اثار حفيظة زيدان حتى قال عدة مرات:
-أنت يابني سامعني، محمود.
-اه..سامعك، خلاص ماشي سلام.
اغلق الاتصال أخيرًا وملامحه واجمة مفكرًا في رد فعلها، قد يكون غضب جنوني أو صدمة مثلاً بالتأكيد لن تكون سعيدة أبدًا، وسيحظى ببعض المشاحنات ولكن يكفي رؤيتها والحديث معها في فترة أطول دون الهروب منه.
***
بعد قليل..
وقفت “مليكة” قبال مكتبه والشر يتصاعد من عينيها المتوهجة بنيران الانتقام لِمَ فعله بها فقالت بصوت متهدج تحارب رغبة متوحشة في الانقضاض عليه تنهي حياته بيديها ذلك المستفز:
-أنت عارف ومدرك اللي عملته فيا؟
سألته بتهديد وبصرها مثبت فوق عدستيه الهادئة فكان ينقاضها تمامًا بجلسته الهادئة وابتسامته الوقحة:
-اه.
تقدمت “مليكة” خطوة لإمام وسألته بنبرة مرتفعة ووجهها يتوهج باحمرار أعجبه فمالت نظراته للهيام غير مدركٍ ما تمر به:
-ياعني عادي عندك تجبني القسم واتفضح؟
-مين جاب سيرة الفضيحة، هو انتي اخر مرة زعقتي وشوحتي بايدك الحلوة دي عشان مجيش شغلك تاني.
أخفت يدها خلف ظهرها بحرج وأومأت بقوة ونبرة معنفة:
-اه، عملت كدا.
حرك كتفيه بلامبالاة ممزوجة بالبساطة:
-بس خلاص جبتك شغلي أنا، بسيطة ومش محتاجة تعقيد.

 

 

دارت حول مكتبه في عصبية وغضب عارم تزامنًا مع توسع حدقتيها بصدمة من وقاحته في استغلال ذلك الأمر، وهتفت بحنق:
-تجبني في البوكس..أنا اركب البوكس و تدخلني قسم يا مجنون.
مالت بنصف جسدها نحوه وكورت قبضتيها في غيظ:
-اقتلك على اللي عملته فيا.
-تقتليني عشان بحبك وعايز اشوفك.
خرج اعترافه سهوًا عنه وكأن مشاعره فاضت ولم تعتد تحتمل كتمانه أكثر من ذلك، فكان وقع اعترافه عليها كوقع زلزال قوي دك حصون فؤادها فرمشت بأهدابها عدة مرات تستوعب ما يفعله ذلك المجنون من بداية اصطحابها للقسم بسيارة الشرطة حتى اعترافه بتجديد ميثاق الغرام بينهما.
نهض زيدان مستغلاً حالة التيه التي تلبستها واقترب خطوة هامسًا بحب:
-بذمتك مش مبسوطة انك شوفتيني، بلاش دور انك مش طايقني دا عشان مبقاش لايق عليكي.
أطرقت برأسها ثوان قبل أن تجيب بنبرة معنفة تخفي خلفها ارتباك أصاب تماسكها:
-زيدان لو اللي أنت بتقوله دا صح، فبعد اللي انت عملته دلوقتي مخليني مش طايقك فعلاً.
تسأل ببراءة زائفة:
-أنا عملت إيه، دا كله عشان قولتلك بحبك.
استدارت سريعّا تخفي أثار اعترافه عليها، تحاول التمسك بأوجاع الماضي في محاولة ضعيفة لتجاهله، دارت حول المكتب وهي تقول بنبرة تأرجحت بين الغضب والضعف:
-انت عارف كويس اقصد إيه، ومفيش حاجة هتغفر انك جبتني في البوكس.
-لا دي أنا مظلوم فيها، محمود اللي فهم غلط.
رد اثار صدمتها فأردفت بضيق:
-وأنت تجبني ليه أصلاً هنا؟
-عشان اشوفك.
أجاب ببساطة أدهشتها فدفعتها لتقول بتعجب:
-تقوم تبعت ظابط يجبني.
-ما أنا لو كنت جيت بنفسي كنت هترفضي، فقولت اجيبك بطريقة رسمية.
كانت إجابته صادقة هادئة ظنت بها بعض البرود فثارت بجنون:
-دا حب دا…أنت كدا يعني بتحبني.
-والله الحب عندي كدا، عاجبك تمام..مش عاجبك…
صمت قليلاً قبل أن يقول ببسمة واسعة:
-هيعجبك بردو، مليكة أنا حقيقي ببذل مجهود في حياتي معاكي مجربتش اعمله مع حد تاني.

 

 

حولت بصرها تلقائيًا نحو الخاتم باتهام واضح لم تصرح به علنًا، ولوهلة بدأ يشعر بواقع خطة يزن، وقبل أن يردف بكلمة، طرق العسكري الباب عدة مرات، فعاد زيدان لمقعده مشيرًا له بالجلوس، فامتثلت له على مضض، وقبل أن يدلف العسكري خاصها بنظرة محملة بمشاعر الحب امتزج فيها الأسف، فارتبكت وأخفضت بصرها تحاول الافلات منه.
دخل العسكري قائلاً برسمية:
-والدها برة يا افندم.
-والد مين؟
تسأل زيدان بتعجب، فرد العسكري سريعّا:
-والد الدكتورة يا افندم.
نهضت مليكة تهتف بهمس:
-بابا مصطفى.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية كاملة اضغط على : (رواية منك وإليك اهتديت)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى