روايات

رواية بقايا عطر عتيق الفصل الأول 1 بقلم مريم نصار

رواية بقايا عطر عتيق الفصل الأول 1 بقلم مريم نصار

رواية بقايا عطر عتيق الجزء الأول

رواية بقايا عطر عتيق البارت الأول

بقايا عطر عتيق
بقايا عطر عتيق

رواية بقايا عطر عتيق الحلقة الأولى

في زمن بعيد مضى ورحل، غائب عن الأعين ولكنه حاضر ومحفور في العقول والقلوب، في هذا الزمن.كانت القرية تستريح في حضن الطبيعة بين الحقول الخضراء الممتدة بلا نهاية، حيث كان الصباح يبدأ بصوت الديكة التي توقظ الحياة من سباتها. البيوت كانت بسيطة، مبنية من الطوب اللبن ومسقوفة بجريد النخل، تحتفظ برائحة الأرض والطين. في باحات البيوت، تجد الأفران الطينية تقف شامخة، تشتعل فيها النيران لتحضير الخبز الطازج الذي تفوح رائحته ليملأ الهواء، كانت البيوت متشابهة؛ البنيان ولا يوجد عليها طلاء لا من الداخل ولا من الخارج، وهذا ما كان متوفراً حينها. ورغم ذلك، كان البناء متينًا وقويًا، مثل قوة ترابط عائلة الجد عبد الرحيم والجدة نعيمة، اللذان بنوا وأسسوا عائلتهم برباط قوي ومتين يصعب عليه التفرق أو الانحراف عن الطريق الذي رسموه لهم يومًا. كان الترابط هو سيدهم، والحب والإخلاص مبدأهم. السعادة دائمًا تغمرهم، والضحكات على أفواههم كانت رمزًا لبساطتهم وبساطة الحياة حينها. الحقد لا يمر على أبوابهم المهترئة يومًا، كانوا يعيشون في هذا الزمن حياة بسيطة هادئة وجميلة وكأنها حقبة زمنية ولدت في زمن منفرد…
في قلب الريف البعيد، يتألق بيت قديم، مبني في هذا العهد على طريقتهم البسيطة. تتسلل منه أشعة الشمس الدافئة من بين فجوات الخشب المهترئ، مضيئة الأرضية التي تحتضن حنين السنوات التي مضت، وعاش فيها الجد والجدة إلى أن رآوا ثمار تعبهم في ذريتهم، المكونة من عشرة أفراد، ستة من الرجال وأربع نسوة. يتناثر الآن صوت خفقان الأبواب الخشبية مع همس الرياح التي تعزف لحنها، وتوجد أيضًا الحقول الخضراء أمام هذا البيت العتيق والقمح الذهبي يتمايل مع نسمات الهواء العليل. وعلى مسمع من خرير الماء العذب الذي يجري على حافة الطريق، يجاوره الزهور البرية، ويتأرجح صوت طائر السنونو ويجول في سماء الحياة، محلقًا حولهم ليهبط ويقف على سجادة قديمة معلقة على حبل أمام البيت. يطلق عليها في هذا الوقت “الحصيرة”، لتروي عليها الجدة قصص أجدادها، لتورث هذا الكنز الحقيقي لأحفادها. كان هذا البيت مبنيًا على مساحة كبيرة جدًا ويحتوي على غرف كثيرة، وكل غرفة خلف بابها حكايات. وتوجد به عائلة كاملة مكونة من الأب والأم وصغارهم، كانوا يعيشون في هذا المنزل كأنهم يد واحدة. وكان الابن الأكبر للجد عبد الرحيم هو حسين، ويليه سعد وعبد العزيز وسالم وإسماعيل، إلى الابن الأصغر حسان، وأبناؤهم الأربعة: عيشة وزينب وفتحية وفاطمة. الابن الأكبر حسين متزوج من ابنة عمه سميرة، وسعد متزوج من ابنة عمه الأخرى وتُدعى إخلاص، وكان عبد العزيز متزوجًا من أحد أفراد العائلة القريبة وتُدعى صباح، وكان سالم قد تزوج حديثًا من أحد أفراد العائلة وتُدعى وفاء، بينما كان إسماعيل يفكر في الزواج رغم صغر سنه فهو ابن الثمانية عشر عامًا، وكان حسان الأصغر من بينهم، يبلغ من العمر ستة عشر عامًا. أما بنات العائلة الثلاث، فهن متزوجات، باستثناء فاطمة التي لم تتزوج حتى الآن لأنها الابنة الصغرى لهذه العائلة ولم يحِن وقت زواجها.
في عتمة الليل الطويل، كان البيت هادئًا والجميع غارق في نومه بعد الأعمال الشاقة في الأرض وغيرها من الأنشطة الممتعة بالنسبة لهم، ولم يكن متعبًا على الإطلاق. مع مرور الوقت وفي لحظات بزوغ الفجر الذي يحمل لحنه الخاص، استيقظت سميرة عندما لفحتها النسمة الباردة، ونزعت الغطاء الذي كانت مدثرة به ونزلت ببطء من سريرها النحاسي القديم. حيث لا تقلق زوجها، وضعت شالًا قطنيًا على رأسها وتوجهت إلى خارج الغرفة حيث يسود السكون. ذهبت إلى مكان فسيح في زاوية المنزل لتشعل موقد الغاز الصغير، الذي يحمل شعلة واحدة ويملأ بالكيروسين، ويُطلق عليه اسم “وابور الجاز”. ثم وضعت عليه قدرًا به ماء لتقوم بتسخينه لزوجها حتى يستطيع أن يغسل وجهه ويتوضأ منه. سمعت صوت الأذان وذهبت لتوقظ كل من في المنزل. رأت فاطمة تخرج من غرفتها وهي تربط شعرها بعصابة من القطن، وابتسمت فاطمة ذات الإحدى عشر عامًا حين رأتها قائلة:
-“صباح الخير يا سميرة.”
ردت سميرة بابتسامة:
-“يسعد صباحك يا فاطمة.”
سألتها فاطمة وهي تتثاءب:
– رُحتي وكلتي الطيور في الزريبة؟ ولا أطلع أنا أوكلهم؟”
ردت سميرة مجيبة:
-“لا، لسه هو أنا لحقت! أنا يدوبك سخنت المية لسي حسين، هروح أصحي البنات ويمشي سي حسين والرجالة على الأرض وبعديهى هروح للطير أوكله.”
ردت فاطمة بنشاط:
-“سيبي عليّ شغل الدار والطير، وانتي فوتي صحي أبا الحج حسين، حاكم لو الشمس طلعت وهو مش في الأرض هيطين عيشتنا كُلنا، أنتي عارفة إن روحه في الأرض.”
سمعت حديثها وذهبت سميرة مسرعة لتوقظه لأنها تعلم طباعه الحادة وأنه لا يحب التكاسل عن أرضه، فهي بالنسبة له شرفه وعزه وكرامته. وقد اتجهت فاطمة لتخرج الطيور من أعشاشها وتنثر حبات القمح في الأرض مع ابتسامتها الجذابة حيث يلتفون حولها جميع الطيور وهي تطعمهم.
-“سي حسين، يسي حسين قوم ياخويا الفجر إدن.”
تنحنح بصوت أجش وهو يعتدل في فراشه مع اهتزاز السرير وصدور آزيز يعبر عن مدى قدمه والأعوام التي عاشها وما زال يتحمل عبق هذا البيت الذي لطالما أحبه كثيراً:
-“صباح الخير يا سي حسين!”
قالتها سميرة بوجه بشوش ونفس طيبه واقفة بجواره منتظرة رده عليها، حيث تحدث وهو ينهض من فراشه ويهم بالخروج:
-“صباح الخير يام صالح؛ سخنتي المية؟”
ردت مسرعة:
-“آيوه، أمال إيه؟ عندك ياخويا، إسم الله عليك محطوطة في بيت الراحة، كل حاجة جاهزة السروال والجلابية وغيارك كله، وهبعتلك الواد صالح يصب عليك المية، وأنا هروح أجهز الفطور.”
-“الحج والحاجة صحيوا؟”
-“آيوه من النجمة وبيصلوا الفجر يا أبو صالح.”
ذهب حسين واستيقظ كل من في المنزل واستيقظ أيضًا الصغير صالح وركض مسرعاً ليصب الماء على أبيه بعد أن قَبّل يده احتراماً وتبجيلاً. استيقظت النساء أولاً ويليهم الرجال والأطفال. لبس الرجال ثياب عملهم في الأرض المكونة من بنطال وصديري عليه جلباب قصير وقبعات دائرية الشكل لتحميهم من حرارة أشعة الشمس، ثم وضعوا منديلًا كبيرًا فوق القبعة وارتدوا أحذية قديمة لتتحمل العناء معهم، بينما كانت إخلاص تجهز الفطور بكل جد ونشاط، وصباح تنظف الشارع أمام المنزل بالمكنسة القديمة ويطلق عليها “المقشة البلح”، ووفاء كانت حاملاً في شهرها الرابع وتحمل إناء كبيرًا فوق رأسها معبأ بالمياه وتضع ما داخل الإناء لتسكبها داخل مبرد المياه الكبير حينها وهو “الزير” الذي يحافظ على تنقية المياه من أي شوائب ويجعلها باردة غير دافئة من حرارة الشمس، وهو بديل الثلاجة في هذا الوقت، ولها مذاق مميز عن باقي المياه التي نشربها الآن في قنينات البلاستيك وغيره، وزينب تجلس في حظيرة المواشي بجوار الماشية تحلب منها لبنًا في وعاء فخاري ويسمى “بالمترد” وهي تدندن بصوت خافت لكي لا يسمعها أحد، وبدأ المنزل يعج بأهله وكل منهم يذهب لعمله، ولكن قبل هذا غير مسموح لأحد بالذهاب قبل أن يقبلوا أيدي الجد والجدة، وهذا أمر مقدس لهم. خرج حسين من غرفته بعدما ارتدى زي عمله وأتى أخوه الأصغر إسماعيل ليقبل يده وتحدث باحترام كبير:
-“يسعد صباحك يا با الحاج حسين.”
ربت على كتفه مبتسمًا:
-“يسعد صباحك يا إسماعيل.”
إسماعيل باحترام:
-“آني جبت الحمار الكبير من الزريبة وعليه حمل السباخ، والعربية الكارو فيها العدة والرجالة مستنيينك تحت العنبة عشان نتوكل على الله ونروح نزرع بذور القطن في البر التاني.”
رد عليه حسين:
-“اسبقوني أنتم، وخد الحمار معاك. وأنا هحصلكم طوالي.
انصاع إسماعيل لحديث أخيه الأكبر، ولم يكن مسموحًا له بغير ذلك، لأنه الأخ الأكبر في مقام الأب الذي تعب لأجلهم، وهو أكثر فهمًا لجميع الأمور وما يحيط بمسؤولية منزلهم. ذهب إسماعيل وأشار لإخوته بالذهاب، وتحرك حسين بخطوات ثابتة ووقف أمام الغرفة الكبيرة، وطرق عليها عدة طرقات ثم همّ بالدخول ليرى والده جالسًا على سجادة الصلاة يتعبد لربه، وأمه جالسة خلفه وفي يدها مسبحة طويلة تسبح بها. نظر حسين إلى يدي والده وأمه، التي تحمل تجاعيد تعكس عمرًا طويلاً مليئًا بالشقاء والعناء، وأعوام مضت حتى صارا كهلين. لكن يبدو أن صحتهما ما زالت جيدة، ويغلفهما ثوب الوقار، ويستطيعان متابعة مسيرة العائلة بكل حب.
رسم حسين على محياه ابتسامة حنونة واقترب منهما ليقبل يديهما قائلًا بشاشة:
– صباح الخير يا با الحاج، صباح الخير يما الحاجة.
ردد والده مبتسمًا بصوت خشن يرافقه بعض السعال الخفيف:
– صباح الخير يا حسين يا بني.
ردت أمه برحابة صدر:
– صباحك رضا وسلامة يا ولدي.
قال حسين:
– أنا رايح الأرض القبلية ومعايا الولاد، معاد زرعة القطن.
تحدث والده إليه :
– الولاد عرفوني وهما بيصبحوا علينا.
وأكمل مشيرًا إليه أمرًا:
– اسمع يا حسين، وسع القناية شويه، خلي الميه تمشي براحتها. الأرض كبيرة وهتاخد مياه ياما، وعلى أقل من مهلهى. وإسماعيل يشيل التبن عن الحد، وعبد العزيز يعزق الأرض هو وسالم قبل الزرع والسقيه. وسعد يحط السباخ في الخطوط نواحي البذور ورا منهم. وشغلوا المكنة طوالي، وانت شوف الصالح هناك واعمله.
أجاب حسين بإنصياع:
– حاضر يا با الحاج. إني مش عايزك تشيل هم، واطمن، المحصول السنة دي هيكون أحسن من محصول السنة اللي فاتت.
رد والده وهو ينهض ويمسك بعكازه الخشبي، حيث خفض حسين رأسه أرضًا احترامًا لهيبة أبيه:
– لما نشوف. دي مسؤوليتك يا حسين يا ولدي، وعلى الله كله. وأنت اللي مسؤول قدامي عنك وعن إخواتك وعن عيالك وعيال إخواتك كمان. أنت الكبير، فاهم يا حسين!
حرك حسين رأسه:
– فاهم يا با الحج ربنا يطولنا في عمرك انت والحاجه.
أنهى كلامه ثم ودعهم وهم بالخروج، ورأى ابنته “نعمة” التي تبلغ من العمر حوالي سبع سنوات تجري نحوه لتقبل يده احترامًا ثم قالت:
– يا با، امى بتقولك خلصوا الفطور، بس أعمامي مشوا ومش فطروا.
أجابها بصوت خشن وهو يركب بغلته قائلاً:
– خلي أمك تشيع لِنا الوكل على الأرض.
ركضت نعمة لتخبر أمها بما أمرها أبيها. مضى وقت قصير حتى أشرقت الشمس بكامل نورها. أتت وفاء وقامت بوضع الحصيرة أمام الدار ليجلس عليها الجد والجدة، وحولهم الأحفاد يقبلون أيديهم وينتظرون وجبة الإفطار.
أتت فاطمة مقبلة يد أبيها أولاً ثم والدتها، وذهبت لتحضر الطاولة الخشبية المستديرة، والتي تُسمى “طبلية”، وكانت ذات أربعة أرجل خشبية قصيرة عليها قرص دائري كبير. حملتها على رأسها ووضعتها أمام والديها، ثم أحضرت طبلية أخرى أكبر حجمًا لتضعها بجانب الأولى، كي يجلس حولها جميع الأطفال. بدأت وفاء و إخلاص في ترتيب الإفطار، بينما كان بعض الأطفال يحملون الصواني ويضعونها أمام الجد والجدة. وصلت زينب، الابنة التي تبيت عند والديها أثناء سفر زوجها إلى البندر ليشتري بعض المحصول، فألقت التحية وجلست بجوار أبيها. كان الإفطار شهيًا، متنوعًا بالخيرات، وكل ما عليه من خير الدار مثل الجبن القريش، القشدة الطازجة، اللبن، البيض الممزوج بالسمن الفلاحي، والخبز الذي صنعته “صباح” لتوها، فهي تتقن العجن والخبز بسرعة في وقت قصير.
عندما انتهوا من وضع الطعام، حمحم الجد وأشار لهم قائلاً:
– يلا، الكل يقعد يفطر بسم الله.
لم يجرؤ أحد على مد يده على الطعام حتى بدأ الجد أولاً، ثم تبعوه البقية، فهذه من عادات الريف القديمة التي تُبجل وتحترم الكبار. جلست النساء جميعًا بجوار بعضهن، يأكلن ويتبادلن أطراف الحديث بهمسات خفيفة، بينما كان الأطفال يأكلون ويضحكون مع بعضهم البعض. انتهت سميرة من طعامها بسرعة، ووقفت لتقول بحرج للجد:
– يا با الحج، تسمحلي آني هاخد الفطور وأوديه الغيط للرجالة.
هز الجد رأسه موافقًا وقال:
– خدي فاطمة وصالح معاكي.
– حاضر، يا با الحج.
أكملت الجدة قائلة:
– خدي يا سميرة للولاد جركن المية الملفوف بالخيش، زمانات الشمس فوق راسهم وحرانين وحلقهم ناشف.
– حاضر، يا مرات عمي.
عندما انتهى الجد من الطعام، أسرعت زينب لتحضر وعاءً فارغًا وإبريقًا من الماء، واضعةً المنشفة على كتفها، وجلست أمامه وهي تقدم له الصابونة ليغسل يديه وهو جالس في مكانه، ثم قامت بصب الماء عليه.
على الجانب الآخر، امتدت الأرض الزراعية الواسعة التي لم يعكر صفوها أي شيء سوى جمال الطبيعة. المساحة كلها كانت خضراء، والنخيل يتوسطها، بينما تحيط الأشجار بحواف البحيرة الصغيرة المعروفة بـ”الترعة”. كان الفلاحون يسقون الأرض منها، وأرض الجد عبد الرحيم ستزرع بالقطن. كان الفلاحون يعملون على تنظيف الأرض ومدها بالأسمدة الطبيعية. حسين، ممسكًا بالفأس، كان يعمل بجد كما أمره والده، وفي نفس الوقت يراقب إخوته ليحرص على أنهم يعملون بجد كذلك. كان يعرف أن إسماعيل، أخيه الأصغر، لا يحب العمل في الزراعة كثيرًا. نظر إليه ورأى جبينه متعرقًا، ولم يكن يعمل بجد كالباقين. ران عليه صمت خفيف ثم سأله:
– إيه يا إسماعيل، ما بتشتغلش زي إخواتك ليه؟
اعتدل إسماعيل في وقفته، وبدا عليه التعب، ثم قال بامتعاض:
– يا با الحج حسين، انى مش قادر أشتغل وآنى جعان. انت عارف أني لازم آكل أي لقمه على الصبح. أنى نايم من العشا ولحد دلوقتي ما كلتش أيوتها حاجة. هشتغل إزاي بس؟ حد يفهمني!
ضحك سعد، وحرك رأسه نحو أخيه سالم قائلاً:
– إسماعيل بطنه نونوت. زمانات ابا الحج حسين هيسكعه على قفاه جوز أقلام لحد مايشبع.
ضحك سالم وهو يضع السماد قائلاً:
– هو إسماعيل كده، ما بيرتاحش إلا لما حد يزعقله وياخد على راسه، خليه هو حر.
تنهد حسين وأجابه قائلاً:
– روح خد من الأرض التانية خساية ولا حبة طماطم صبر بها نفسك. زمانات الحريم جايه ومعاها الفطور.
لم ينتظر إسماعيل أكثر من ذلك، وألقى الفأس بعيدا وركض فرحًا وهو يدعو لأخيه الكبير بطول العمر. عاد حسين لعمله وهو يبتسم بعض الشيء من أفعال أخيه. قطف إسماعيل بعض الثمار من أرضهم، ولوّح بيده نحو إخوته قائلاً بصوت عالٍ:
– حد عايز طماطم؟ أجيبلك يا واد يا حسان خساية تصبر بيها بطنك، أنا عارف إنك بتحب تاكل زي القُراضه.
رد حسان متلهفًا قائلاً:
– أيوه هات، وهات معاها حباية طماطم، أهو ناكل حاجة تصبر بطننا ونسد بيها جوعنا ما يضرش برده. ولا إيه يا عبد العزيز؟ ساكت ليه؟
اعتدل عبد العزيز، معقّدًا حاجبيه من أشعة الشمس، ومسح جبينه وأجاب:
– وبعدين في اللكاعة دي انت وهو ؟ إحنا عندنا شغل كتير يا رجالة، ولازم نخلص قبل الشمس ما تحمى علينا. اخلص انت وهو وبطلوا لكاعة وكتر كلام.
عاد كل واحد إلى عمله، وذهب إسماعيل ليغسل الثمار من حوض المياه بجوار الأرض، ثم جلس أرضًا ليأكل بنهم، متخيلًا أمامه بعض الطعام الشهي، وبدأ يحدث نفسه متمنيًا:
– يا سلام يا ولاه، لو فيه حتة جبنة مِش آكلها بحباية الطماطم دي! ولا رغيف عيش ناشف ملدن يشبع الواحد، ولا بقى فطيرة متمرمغة بالزبدة الفلاحي، يسلااام! يا ترى انتي فين يا مرات أخويا؟ عوقتي ليه بس؟
ثم نظر إسماعيل أمامه فرأى فاطمة وسميرة تحملان صواني الإفطار فوق رأسيهما، وصالح أمامهم يحمل المياه، وهو يخطط بالعصا على الأرض كلما مضى.
أفرغ إسماعيل فاه من الفرح قائلاً لإخوته:
– يا فرج الله، الفطور وصل، الفطور وصل، يا رجالة تعالوا يلا!
تركوا العمل واتجهوا إلى حافة الأرض ليغسلوا أيديهم ووجوههم. وضعت فاطمة الطعام، هي وسميرة، وقالت لهم:
– صباح الخير، يلا يا ولاد، الفطور وصل.
جلسوا حول الإفطار وتحدث إسماعيل مبتهجًا:
– يا سلام، اما الجوع كافر بصحيح يا ولاه.
ثم نظر إلى الصحن الذي يحتوي على البيض المسلوق وقال معترضًا:
– إيه ديه! 15 بيضة بس؟ ليه كده يا مرات أخويا؟ إنتِ مش عارفة إني بحب البيض، متغرق في السمنة البلدي ويكون منابي سبع تمن بيضات بس؟ وبعدين، مفيش فطير ليه بس زي إمبارح؟
ضحك الجميع وقالت سميرة ببشاشة:
– خير ربنا كتير، يا إسماعيل، عندك بيض مقلي ومسلوق وبيض عليه جبنة قريش وفول مدمس وقشطة وجبنة مش قديمه، دي كلوا مش مالي عينك؟ وبعدين مرات عمي قالت نعمل الفطور ده وعملناه، ونعمه ورضا من عند ربنا.
رد عبد العزيز قائلاً:
– معلش يا مرات أخويا، إنتِ عارفة إسماعيل، عينيه أوسع من القنايا دي، ما يعجبهش العجب.
لوى إسماعيل فمه، ورد سالم وهو يلوك الطعام قائلاً بمزاح:
– عندي فكرة حلوة يا ما، وهتعجب الواد أخويا إسماعيل.
انتبهوا له الجميع، وأكمل قائلاً:
– نحط إسماعيل في الزريبة مع البط والوز والطيور، نقفل عليه ليلتين لحد ما يشبع خالص، ويقول لنا “يا ناس ياهووه، أنا شبعت خلاص بكفايانا بيض”.
ضحك الجميع بما فيهم إسماعيل، وقالت فاطمة بصوت هادئ:
– ياكل ويشبع يا عبد العزيز، ياخويا، كله من خير ربنا وخيركم وخير الأرض. هو إحنا يعني بنچيب حاجة من بره؟
نظر إليها إسماعيل ببشاشه وقال:
– قوليلهم يا بت، يا فاطمة، قوليلهم، مش عارف أنا بصينلي ليه في اللقمة، طب الأكل ده أحلى نعمة ربنا خلقها في الدنيا، وإحنا طول النهار في الأرض وطالع عينا ولازم ناكل كويس. اومال ايه.
نظرت سميرة لزوجها وقالت باستحياء:
– تحب أجيبلك حاجة جمب الوكل، يا سي حسين؟
نظر إليها ورأى عينيها تعكس أشعة الشمس، وزاد بريقها، قائلاً:
– أيوة، عايز، يا أم صالح. هاتيلي عودين جرجير وفحل بصل من الأرض عشان أبلع، أصل الولاد دول صدعوني، وإحنا لسه ع الصبح بنقول يا هادي.
همت مسرعة، وهي تضحك لتجلب طلب زوجها بوجه بشوش. قامت فاطمة وقالت:
– أنا هقوم أولع النار وأحط كنكة الشاي في المنقد عقبال ما تفطروا.
رأى صالح الفراشات تتمايل على أوراق العشب الصغير، فركض خلفها ليمسك بها ويلهو ليمضي الوقت. أثناء تناول الإفطار، رأى حسين أولاد عمه صبري وحامد وحجازي يعبرون الطريق متوجهين إلى أرضهم، وهم يحملون الفؤوس على أكتافهم. فأشار لهم ليأتوا، واقتربوا منهم، وألقوا التحية.
نظر إسماعيل إلى صبري بتكهم، وأكمل طعامه رغمًا عنه، ورد التحية سراً. قال حسين:
– اقعدوا، بسم الله، اقعد يا صبري.
أجاب صبري، وهو يكبت نظرته عن فاطمة احتراماً لإخوتها:
– تسلم يا حاج حسين، سبقناكم.
أقسم حسين قائلاً:
– والله العظيم تلاتة، ما يحصل عيب، يا راجل، أنت بتقول إيه؟ تعالى اقعد هنا جاري، أختك سميرة بتجيب عودين جرجير، وجايه هتقول عليا سايب إخواتها واقفين كده؟ اقعد، اقعد. اقعدوا، يا ولاد.
جلسوا بجوارهم، وجاءت سميرة ووضعت ما طلبه زوجها أمامهم، ووجهت التحية لإخوتها، ثم ذهبت لتساعد فاطمة في إشعال الخشب وصنع الشاي. كان الجميع يشعر بالرضا، ويهنئون حجازي على مولوده الثالث متمنيين له الصلاح والخير وكلهم يشعرون بالرضا عدا إسماعيل الذي شعر بالضجر تجاه صبري حين رآه.

يتبع…….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بقايا عطر عتيق)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى