رواية لحن الزمرد الفصل الأول 1 بقلم رحمة سيد
رواية لحن الزمرد الجزء الأول
رواية لحن الزمرد البارت الأول
رواية لحن الزمرد الحلقة الأولى
ليلًا؛ في مدينة الاسكندرية.. وسط برودة راجفة فرضتها عتمة الليل؛ لم تكن تشعر بها بسبب اشتعال خلاياها كليًا بالخوف وهي تركض هاربة وسط الحشود المجتمعة في محطة القطار، وخلفها بضعة رجال كالوحوش البشرية يهرعون للامساك بها، حتى دخلت إلى دورة المياه الخاصة بالسيدات لتلتقط أنفاسها قليلًا..
وقفت أمام المرآة تلقي بقطرات المايه على وجهها لتمسح حبات العرق التي تناثرت على بشرتها البيضاء وملامحها الانثوية الرقيقة التي تشنجت في قلق بالغ وهي تفكر؛ كيف النجاة؟
تبدو لها كلمة اقتُطفت من ارض الاحلام فماتت على ميدان الواقع الذي تقف فيه بين قبضتيهم تقريبًا…!
انتبهت لسيدةٍ ما وهي تسألها بتعجب:
-خلصتي؟
-خلصت إيه؟
سألتها بتيهٍ، فغمغمت الاخرى بضيق:
-انتي واقفة قدام المراية بقالك ساعة، وفي غيرك عايز يغسل ايده ووشه.
اومأت برأسها وهي تبتعد من امام المرآة، ثم اقتربت من الباب وفتحته قليلًا لتنظر من خلاله، فانحسر أملها سريعًا حين وجدتهم لا زالوا ينتظروها امام دورة المياه، ماذا كانت تظن اذًا ؟
ظلت مكانها تفكر قليلًا ثم نظرت للسيدة التي كانت تجاورها، وبزغ كيد الانثى في عينيها العسلية وهي تقول:
-لو سمحتي، ممكن تساعديني؟
-اساعدك ازاي؟
تابعت بنبرة تأكدت أن تحمل قلة الحيلة كما لم تكن يومًا:
-قدام باب الحمام في واحد حيوان كان بيتحرش بيا وقالي كلام وحش اوي، وهو لسه مامشيش ومعاه صحابه تقريبًا، ومش عارفة أعمل إيه وأمشي ازاي.
سرعان ما بزغ الغضب في حدقتي السيدة واستجابةً لمقولة الانثى ليس لها سوى الانثى؛ كانت تجيب:
-مش عارفة تعملي إيه؟ دا احنا نفضحه هو وصحابه، الزبالة المتحرش، تعالي ماتخافيش.
تباطأت خطواتها خلف السيدة التي كما توقعت هبت لتتشاجر مع الرجال امام الباب وهي تصيح فيهم بقوة وجبروت:
-مين فيكم بقى المتحرش اللي ماكنش سايب البت المسكينة في حالها؟ دا انا هاوديكم في داهية ومش هاسيبكم غير في القسم عشان تبقوا عِبرة لغيركم.
قال احدهم مسرعًا بانفعال:
-انتي بتقولي إيه يا ست انتي، انتي مجنونة هو حد جه جمبك؟
استغلت انشغالهم بالشجار وتجمع الناس حولهم، وركضت خارجة من دورة المياه متجهة نحو القطار الذي قارب على التحرك، جلست على المقعد داخل القطار ملتقطة أنفاسها المتقطعة، ومع كل خطوة كان القطار يتحركها كانت تشعر بروحها الثائرة ترسو شيئًا فشيء..
ولكنها لاحقًا اضطرت أن تغادر القطار في محطة اخرى وتستقل قطار مختلف يتجه لمدينة مختلفة حتى لا يستطيعون الوصول لها.
***
عادت من ذكرياتها القريبة، تتحسس رقبتها وهي تتنفس بصوتٍ مسموع، وعبق تلك الذكريات الخانقة لا زال يقبض صدرها …
أبعدت عن قدميها الغطاء الازرق الخاص بالمستشفى، ونهضت ببطء رغم أنين جسدها بالألم إثر العملية الجراحية التي أجرتها مؤخرًا، نظرت من الشرفة للاسفل حيث الازدحام البشري، ولكن رغم ذلك تشعر بفراغ واسع!
ربما ذلك بسبب الوحدة التي تنخر روحها نخرًا..
داعبت خصلاتها البنية التي تميل للإحمرار بشرود، إلى أن وقعت عيناها على الرجال الذين كانوا يسعون للإمساك بها، وأحدهم يقبض على ملابس “كريم” بعنف من الخلف ويدفعه دفعًا لداخل المستشفى..
ابتعدت عن الشرفة بسرعة وهي تعض على شفتيها المكتنزة مرددة برعب بدأ يتسلل لها:
-عرفوا مكاني! أكيد راقبوا المتخلف دا وعرفوا مكاني، هعمل إيه بس يا ربي!
توجهت نحو الدولاب الذي كان يقبع في جانب الغرفة خلف الباب، فتحته فوجدت ملابسها مُلقاه بإهمال فيه، لا تدري كيف ارتدتها خلال بضع دقائق معدودة، ثم ركضت خارجة من الغرفة متناسية آلام جسدها كمَن يطاردها اشباح، وهم بالنسبة لها كانوا كذلك؛ اشباح ماضيها المرعب!
نزلت للطابق السفلي، وحين رأت ممرضة تمر جوارها اوقفتها مسرعة لتسألها:
-لو سمحتي فين باب الطوارئ اللي بيطلع على الباب الخلفي؟
رمقتها بنظراتٍ تلوح بالتعجب والاستنكار، قبل أن تخبرها على مضض:
-كملي على طول وادخلي يمين.
-شكرًا.
رددتها وهي تسير كما اخبرتها، إلى أن خرجت أخيرًا من المستشفى يغمرها الارتياح، تبًا لهم؛ لقد جعلوا كل مكان تكون فيه كـ سجن مرعب تسعى للهرب منه!
****
في ذات الليلة، حين عمَّ السكون الأجواء مبتلعًا ضجيجها، دخل البناية المقصودة في احد الاحياء المتوسطة، وصل أمام باب الشقة المعنية، هندم سترة بذلته السوداء و أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يطرق الباب..
انتظر الرد وبالفعل بعد ثوانٍ فتحت له الباب امرأة شابة في منتصف العشرينات من العمر، ترتدي حجاب يغطي شعرها إلا خصلة سوداء ثائرة قررت أن تزين طرف عينيها، لتتجمد حين وقعت عيناها عليه بعد تلك المدة الكبيرة؛ تقابلتا عيناهما بعد خصامٍ طويل، وغرق هو في عينيها الخضراء منتشيًا بلذة الغرق فيها بعد أن كاد ينسى ذلك الشعور…
حرمته من تلك اللذة حين قطعت وصال عيناهما بعد أن وأدت صدمتها المصاحبة لشعور آخر خبيث وليد اللحظة تسلل لها، وصاحت فيه بشراسة:
-أنت بتعمل إيه هنا ؟
أجلى نبرته الرجولية الرخيمة وهو يقول بثبات:
-عايز أتكلم معاكي.
رفعت حاجباها معًا وهي تقول بسخرية واضحة:
-يا سلام.. بس كدا، طبعًا طبعًا، دا أحنا نتكلم ونشرب قهوة كمان بمناسبة الزيارة الجميلة دي.
ثم سرعان ما سقط ذلك القناع الساخر عن ملامحها البيضاء الرقيقة لتتجلى حدتها وهي تصيح فيه بغلاظة متعمدة:
-أنت جاي تهرج ولا إيه؟ اتفضل من غير مطرود.
ابتلع اعتراض كاد يفارق شفتاه، وقال بصبر يحثها:
-اسمعيني الاول يا زمرد.
ولكن ذلك الغضب الذي يحرق غابات عينيها كان يزداد كلما طال حديثه، مبعوثًا من بركان الماضي الخامد الذي انفجر للتو، وزمجرت فيه:
-وأسمعك ليه؟ أنت مين أصلًا عشان أسمعك؟!
صمت يحاول يتمالك أعصابه، فأكملت بنفس الحدة :
-أنت مفكر نفسك حد مهم وشخصية تستحق إن الواحد يهتم لكلامها يا موسى؟! أنت مجرد …..
قاطعها حين اقترب منها فتراجعت للخلف تلقائيًا وكأنها تخشى تقاربه وما يمكن أن يصدر عنه، فضرب على الحائط جوارها بقبضته بعنف معلنًا نفاذ رصيده من الصبر:
-اسكتي شوية واسمعيني، أنا جاي عشانك عشان آآ..
قاطعته من جديد بتحدٍ مغموس بالقسوة المتعمدة:
-وأنا مش مهتمة أعرف أنت جاي ليه، أنا واحدة متجوزة دلوقتي وجوزي لو جه شافك هنا هتحصل مشكلة.
ابتسم ابتسامة ساخرة تنبض بالغضب وهو يردد من بين أسنانه:
-جوزك ! انتي لو تعرفي جوزك دا بيعمل إيه مش هتقولي جوزي بفخر كدا.
نطق لسانها مدافعًا بما يرفضه عقلها:
-مش أنت اللي هتعرفني جوزي، ولأخر مرة بقولك امشي من هنا.
شعر بلسعة فتيل الغيرة الذي اتقد، وكتم زمجرة عنيفة كادت تنتج عن وحش ثائر كان راقدًا بين ضلوعه، فخرجت نبرته متلفحة بالعنف:
-لو ماسمعتينيش هاتندمي يا زمرد، هاتندمي.
استطردت بحروفٍ تأن وجعًا من جرح ظنت أنه شُفي ولكنه عاد ليذكرها بوجوده:
-أكيد مش هاندم أكتر من ندمي إني سمعت كلامك وصدقتك في يوم من الأيام.
الوجع الذي شوه صفاء زمردتيها مس شغاف قلبه مسببًا صدى واسع له من الألم، فـ لانت لهجته تلقائيًا في استجداء:
-اللي أنا عايز أتكلم فيه مهم، مهم ليكي مش ليا، حياتك كلها مرهونة بيه!
اقتربت منه لتنظر في عينيه بتحدٍ وطاقة هائلة من الغضب والنفور تعتريها، قائلة:
-ولو نهايتي وموتي مرهونين بكلمة منك أنا أهون عندي أموت.
لم يملك السيطرة على مقاليد لسانه الذي اندفع بالقول:
-حياتك مش ملكك لوحدك عشان تنهيها بمزاجك.
فرفعت حاجبها الأيسر متسائلة تتحداه الاجابة:
-امال مِلك مين؟
“ملكي”
كلمة واحدة لو كان هذا الحديث يدور قديمًا لكان أعلنها بكل التملك.. بكل التوق الذي يُزلزل أعماقه كطوفان، ولكنها الان صارت ككهف خالٍ من الحياة حُبس داخله وأنفاسه تُسحب منه ببطء وهو يدرك يومًا بعد يوم أنها لم تعد ملكه، بل صارت ملك رجل آخر !
عاد خطوة وكأن تفكيره سقط عليه كجلدة مؤلمة، ثم سمعوا صوت يأتي من الاسفل ويبدو أنه في طريقه للصعود، إتسعت عينا زمرد بفزع وهي تهمس :
-دا محمد ابن عم جوزي، امشي حالًا أنا مش ناقصة مشاكل.
استدار موسى ليغادر ولكن حين كاد ينزل أدرك أنه أصبح اقرب لهما، فلم يفكر كثيرًا، عاد لها على الفور ساحبًا اياها معه لداخل الشقة ثم أغلق الباب مسرعًا….
****
بينما كانت تركض وهي تتلفت خلفها في الشارع الخلفي للمستشفى فجأة سمعت صرير قوي لسيارة كادت تصطدم بها لولا وقوفها في اللحظة الاخيرة، دققت بعينيها لتتفاجئ حين رصدت لقاء مُكرر لنفس الشخص، فـ صاحت بعفوية غاضبة نتجت عن توترها:
-هو أنت! أنت إيه مفيش حد غيري تخبطه؟ في ناس كتير ماشافتش المستشفى بقالها كتير إنما أنا خلاص كفاية عليا كدا، حفظتها شِبر شِبر.
ترجل من سيارته مُعلنًا عن أناقة رجولية لا تخطئها عين أنثى مُترصدة مثلها، ثم اقترب منها حتى وقف امامها خالعًا نظارته الشمسية لتُفرج عن عينين سوداوتين كحيلتين بالفطرة، تجانست بجدارة مُهلكة للبصر الانثوي مع وجه وسيم ينضح رجولة، ثم جاءت نبرته الرخيمة لتعلن تكامل صاحبها:
-انتي كويسة؟
إلتوت شفتيها مرددة بسخرية مبطنة:
-الحمدلله، لسه فيا دراع ماتكسرش.
ضيق حاجبيه معًا وهو يسألها باستنكار امتزج بالضيق:
-أنتي بتجري كدا ليه؟ في واحدة لسه خارجة من العمليات من يومين تجري كدا ؟ ومش عايزة عربية تخبطك؟!
زمت شفتيها بتبرم دون أن تتفوه بشيء، ربما لأنها تعلم أنه محق، فسألها:
-انا كنت لسه جايلك المستشفى.
اصطنعت ابتسامة زائفة وهي تجيبه:
-تسلم كتر خيرك.
ثم تحركت تنوي مواصلة الهرب، ولكن اوقفتها جملته التالية:
-أنتي رايحة فين؟ تعالي أوصلك بالعربية.
قالها بهدوء رزين مشيرًا للسيارة، ولم تمهل عقلها وقت للتفكير إذ أبت بعنفوان:
-وأنت عايز تعرف أنا رايحة فين ليه؟ خبطتني وعالجتني وبس انتهت على كدا.
ثم تابعت سيرها في توتر دون أن تمهله فرصة الرد، ثم سرعان ما افتكت عقلها من سلاسل التوتر فعاد للعمل ليُنبئها أنه اسرع وسيلة لهربها الان!
لذا عادت على الفور نحو السيارة، ودون أن تقول شيء ركبت في المقعد المجاور له، راقبها بحاجب مرفوع وعينان ممتلئتان عن آخرهما بالاستنكار، فنظرت نحوه مبستمة بسماجة وهي تقول:
-هو يصح يعني تبقى أنت اللي خابطني والغرز لسه مافكتهاش في جنبي ودراعي مكسور وأركب مواصلات؟ والله عيبة في حقك.
أغمض عيناه بنفاذ صبر، تلك الفتاة المتعجرفة سليطة اللسان التي تمتلك جمالًا مميزًا براقًا خاطفًا للأنفاس وعينان شهيتان غارقتان في العسل، مجنونة وستُصيبه بالجنون!
هل مدح وذم فيها الان في آنٍ واحد؟ حسنًا، يبدو أنه نال جرعته اليومية من جنونها.
لذا أدار السيارة دون أن يقول شيء، حتى عمَّ الصمت في السيارة، إلى أن قطعه هو بصوته ذو البحة الخشنة المميزة:
-اربطي الحزام، في كاميرات في الطريق دا.
استجابت لتربط الحزام على مضض، وللمرة التي لا تعلم عددها منذ قابلته تسترسل بعفوية:
-أنت ازاي ملتزم كدا ؟
لم يجيبها على الفور، بل تريث قليلًا قبل أن يستطرد بذات الهدوء:
-يمكن عشان أنا محامي مثلًا فـ اتعودت ألتزم بالقانون.
وفي نفس اللحظة كانت هي تضيف:
-دي قوانين المرور دي محطوطة عشان المصريين يكسروها.
ثم سرعان ما استوعبت ما قاله فـ عقبت بملامح متجمدة مدهوشة:
-إيه! محامي.
ثم دققت النظر لكارت كان موضوع أمامها في السيارة فأمسكته لتقرأ بصوتٍ عالٍ:
-يونس الجمَّال المحامي، إيه دا أنت محامي بجد!
لم يتفوه بشيء فأضافت بنبرة ذات مغزى وهي تتفحصه سريعًا بعينيها :
-انا قولت برضو المنظر دا منظر محامي.
استدار نحوها برأسه مشددًا على كلماته بصرامة:
-وماله منظري؟
رفعت كتفيها معًا متابعة بسلاسة ورقة:
-مالهوش طبعًا زي الفل، أنا بس أقصد الرزانة والهدوء والشياكة دي ماتطلعش غير من محامي ومحامي شاطر معروف كمان.
لأول مرة منذ رأته يلتوي جانب فمه بابتسامة صغيرة زادت من معايير وسامته أضعافًا، ثم قال:
-أنتي بكاشة يا….
وضيق عيناه متسائلًا وهو يحاول التذكر:
-أنتي اسمك إيه؟
-غزل.
أخبرته بثقة وابتسامة تقطر دلال فطري وانوثة تتعلق بشفتيها اللتين عادتا للونهما الوردي الطبيعي..
فاكتفى بأن هز رأسه موافقًا وهو يردد ناظرًا أمامه:
-ماشي يا غزل، الشارع اللي كنا ماشيين فيه خلص، أنتي رايحة فين؟ هندخل يمين ولا شمال ؟
غمغمت بشرود:
-مش عارفة.
تساءل في استهجان:
-مش عارفة هاتروحي فين؟
أكدت بذات النبرة الشريدة دون أن تنظر له:
-أنا مش من هنا أصلًا.
هز رأسه موافقًا، ثم تابع بجدية حاسمًا ضجيج تفكيره:
-تمام، تعالي معايا بيتي.
شددت على كلمته مستنكرة:
-بيتك! لأ طبعًا.
-مش قدامك مكان تاني تروحيه حاليًا، وبعدين ماتقلقيش مش هنقعد لوحدنا، في ست قد والدتي ووالدتك بتيجي تعملي أكلة وتهتم بالبيت، هاخليها تبات معانا النهارده.
أفرغ أمامها ببساطة أفكارها المتشابكة في رفضٍ تلقائي وأحل عقدها واحدة تلو الاخرى، مغلفًا اياهم بأقوى سبب لها حتى وإن لم يقصد ذلك؛ أنها ليس لديها مكان لتذهب له الان لتهرب إليه.
لذا هزت رأسها موافقة ولم يطاوعها لسانها لتنطق وكأنه يستحي إعلان موافقتها المُحرجة.
****
وقفت زمرد متسعة العينين في صدمة، متجمدة مكانها خلف الباب، مشلولة العقل والجسد؛ وصوت الخطوات التي تصعد السلم كانت كـ دقات مطرقة تحذيرية في عقلها تُنبئ بكارثة على وشك الوقوع…!
همست بصوت خرج مختنقًا يحتضر:
-أنت مجنون!! هعمل إيه دلوقتي، أنت هاتوديني في داهية.
والآخر لم يكن في حال أفضل، عقله أصبح كتلة خاملة إلا من فكرة واحدة كانت مهتاجة داخله؛ أنه لم يأتي ليسبب لها كارثة بل أتى لينقذها من كارثة.
سمعا كلاهما الطرقات على الباب، لمعت عينا زمرد بالخوف، وهمست بصوت مبحوح في ضعف أفلت من عقال قسوتها التي تواجهه بها:
-أنا خايفة يا موسى.
هزه من العمق الضعف والخوف اللذان لمعا في عينيها الحبيبتان، واستجدائها به هكذا أعاده لسنوات سابقة، حين كانت تلجأ له ليحتويها مبددًا مخاوفها.
لم يفكر وهو يمسك يدها بكفه الكبير الخشن ضاغطًا عليها برفق يمنعها عن فتح الباب، وخرجت حروفه في همسة حانية:
-اهدي، أنتي مابتعمليش حاجة غلط، بس ماكنش ينفع حد يشوفني معاكي ويعرف إننا اتكلمنا، هفهمك كل حاجة بعدين بس عايزك تتأكدي إني مش هضرك ابدًا ومش هسمح لحد يضرك طول ما أنا عايش.
نفضت يدها بعيدًا عنه باشمئزاز، ثم تنفست بعمق طاردة كل شحنات الغضب والتوتر داخلها، وفتحت الباب فقال “محمد” :
-صحيتك ولا إيه؟ معلش.
هزت رأسها نافية بخفوت:
-لأ أنا صاحية بس كنت في الحمام، في حاجة ولا إيه يا محمد؟
أخبرها بجدية:
-كنت عايز اتكلم مع مصطفى في حاجة وبكلمه تليفونه مقفول بس شكله مش موجود صح؟
أكدت بثبات تُحسد عليه:
-ايوه نزل من شوية تقريبًا كان رايح يقابل حد.
-ماشي تسلمي هبقى احاول اكلمه وقت تاني، عن اذنك.
رددها وهو يستدير ليغادر تحت أنظارها، دخلت مغلقة الباب خلفها، تنظر لموسى بعينٍ غاضبة.. مُلبدة بالدموع، تسأله بنبرة متحشرجة:
-أنت بتعمل كدا ليه؟ مصمم تدمر حياتي وتوجعني ليه؟!
بُهت غير مصدقًا يشدد على كلماتها:
-أنا ؟ أنا يا زمرد بدمر حياتك وأوجعك؟
فأكدت بقهر وهي تشعر بصلابتها تنصهر لتصبح مؤلمة وحارقة كالجحيم:
-أيوه أنت، جاي دلوقتي ليه وبتسببلي مشاكل زيادة فوق مشاكلي وتتعامل معايا ولا كأني عشيقتك، للدرجادي أنا رخيصة في نظرك؟!
هز رأسه نافيًا، وراح يضيف بصدق وحزم دافئ انساب من كلماته:
-ما عاش ولا كان اللي يقول عليكي كدا، أنتي أغلى من الدنيا كلها، أنتي زمرد.. زمرد اللي تساوي كنوز الدنيا كلها.
سارعت وهي مغمضة العينين تهز رأسها رافضة أن ينتهج نهجه السابق معها.. أن تتسرب سمومه لجلدها من جديد:
-اسكت مش عايزة اسمع، اسكت واطلع برا.
ولكنه أصر بنفس النبرة:
-أنا جاي عشانك، عشان خايف عليكي من اللي عرفته.
حينها نظرت له نظرة ذبحته؛ نظرة لن ينساها ما دام حيًا؛ نظرة عكست الخذلان والوجع اللذان هدما محراب العشق داخلها… وهي لا زالت تحت أنقاضه!
-الاولى كنت تخاف عليا من نفسك، ومن غدرك، أنت ازاي بوشين كدا وبتتعامل عادي؟
رفعت يدها لتمسح وجهها، لن تسمح له أكثر بالتمعن في انكسارها، فـ وقعت عيناه على أثار حمراء عند مفصل يدها تدل على العنف، فأمسك بها يدقق النظر بها متسائلًا وهو يكز على أسنانه بغضب اسود بدأ يحبو له:
-ايه دا !! مين اللي عمل فيكي كدا؟
جذبت يدها بعيدًا عنه بقوة مرددة وهي تستدير لتفتح الباب:
-ملكش دعوة واتفضل اطلع برا حالًا.
ولكنه اوقفها واضعًا يده على الباب بعنف حتى أصدر صوتًا فارتجف جسدها بقلق رغمًا عنها بينما تسمعه يهدر بشراسة تعرفها جيدًا:
-مش هطلع قبل ما أعرف، هو اللي عمل فيكي كدا؟
تنفست بصوتٍ مسموع ثم استدارت نحوه مؤكدة ببساطة تعكس نزيفها الداخلي:
-ايوه هو، ويحق له يعمل أكتر من كدا، إيه مصدوم ليه؟ كنت متوقع إيه وأنت بترميني له؟
لم ينطق بشيء وضغط على أسنانه بعنف أكبر حتى سمعت صكيكها، أدركت أن هذا ينبش جراحه فأرادت أن تضع عليها الملح بسخريتها المميتة:
-ولا لتكون كنت مفكر إنه هيحبني ويشيلني في عنيه؟ وأنت ياللي كنت معايا لسنين بنحلم باليوم اللي نبقى فيه مع بعض رميتني في حضن غيرك بسهولة.
أمسكها من ذراعها ضاغطًا عليه بقوة وهو يردف بصوت أجش مختنق:
-كفاية يا زمرد، كفاية انتي ماتعرفيش حاجة، أنا مش متحمل.. كلامك دا بيدبحني.
عادت خطوة للخلف وأضافت بعنفوان وقسوة:
-أنا فعلًا ماكنتش أعرف حاجة بس دلوقتي عرفت، عرفت إنك أخر شخص في الدنيا ممكن أثق فيه، اطلع برا.
ثم صرخت:
-بقولك اطلع برا حالًا وإلا اقسم بالله هصوت وألم عليك الدنيا.
قال متعهدًا وقد رأت صك ذلك التعهد في عينيه السوداء التي شعت قوة وصلابة:
-أنا هامشي، بس مش هاسيبك تأذي نفسك أكتر من كدا، حتى لو مابقتيش ليا.
ثم غادر أخيرًا معلنًا نهاية مواجهة أولية استنفزت كافة قواها ودكت حصونها الواهية ليتركها تنهار ببطء تحت وقع خطواته المبتعدة.
****
بعد مرور بضع ساعات…
كانت زمرد جالسة في الصالون، تقوم بتقطيع الفاصولياء، بجسدٍ حاضر وعقلٍ غائب، عقل هرب بعيدًا؛ حيث الماضي وما حمله لها من أيام كانت تحلق فيها هائمة فوق بساط الأحلام، ولكنها فجأة وجدت نفسها مدفونة في قاع الظلام، حيث لا احلام.. لا امنيات، فقط تحتضر ببطء….
انتفضت حين لمست كتفها يد زوجها “مصطفى” وهو يقول بصوتٍ أجش:
-عمال اقول يا زمرد يا زمرد، إيه مش سامعة!
أبعدت كتفها عن مرمى يده في امتعاض مجيبة:
-لا مش سامعة.
سألها بشيء من السخرية وهو يخلع عنه الچاكيت الذي كان يرتديه:
-إيه بقى اللي واخد عقلك وسرحانة فيه للدرجة دي؟
تجاهلت سؤاله ونهضت تحمل معها طبق الفاصولياء، قائلة بنبرة عادية فارغة من كل شيء:
-انا قربت أخلص الأكل، هتاكل دلوقتي ولا كمان شوية؟
-لا خلينا كمان شوية، بقولك إيه؟
-إيه؟
سألته فـ واصل التساؤل:
-هو انتي ليه ماقولتيليش على اللي حصل النهارده؟
تخشبت مكانها وكأن مسامير ثبتت اقدامها ارضًا، هل يقصد مجيء موسى؟
حمدت الله أنها كانت تعطيه ظهرها حين اوشكت على المغادرة وإلا حتمًا لفضحتها ملامحها..
أجلت صوتها بصعوبة تستفسر:
-تقصد إيه بالظبط اللي حصل؟
وقف أمامها يهز كتفيه متابعًا ببساطة:
-هيكون إيه يعني، أكيد أقصد محمد ابن عمي، ماكلمتنيش قولتيلي ليه إنه جه.
إلتقطت أنفاسها المحبوسة على مهل، ومن ثم ردت بخفوت:
-عادي هو قالي إنه هيبقى يكلمك تاني.
قالتها وهي تغادر متوجهة نحو المطبخ، وضعت الطبق على المنضدة الرخامية وتنهدت بصوتٍ مسموع، مجيء موسى كان كحقل الالغام تخشى انفجاره بأي لحظة..
وبحركة مباغتة كان مصطفى يقف خلفها مباشرةً محتضنًا اياها وهو يدس وجهه عند رقبتها، تشنجت كل خلية في جسدها وشعرت أن مسام جلدها تحترق بالنفور، ثم سمعته يهمس جوار اذنها:
-وحشتيني.
-ابعد عني.
قالتها بصوت حاد ولكنه متحشرج وكأنما حروفها حُشرت بفعل اختناقها، ثم حاولت دفعه بعيدًا عنها، فقال بغضب وهو يُثبتها بين ذراعيه:
-انتي هتفضلي لحد امتى عنيدة كدا ؟
هدرت بقوة لبؤة شرسة تدافع عن نفسها رغم جراحها:
-لحد ما اموت انت مش هتمس شعراية مني.
وهو كان صياد يتفنن في تعميق ذبح فريسته:
-مش محتاجة تموتي ولا حاجة عشان اقرب منك، أنتي عارفة إني لو عايز حاجة هاخدها حتى لو غصب عنك، بس أنا صابر وبقول بكره تعقل وتعرف إني جوزها وإن كدا ربنا غضبان عليها.
لم ينل منها سوى السخرية المعتادة التي تنهمر منها أنهار حقدها:
-هي دي الحاجة الوحيدة اللي تعرفها في الدين صح؟ يا تقي ياللي عمرك ما فكرت تركعها ولا تدخل جامع، في حاجات كتير اوي في حياتك بتغضب ربنا برضو، فـ ياريت تنصح نفسك الاول.
جذبها من خصلاتها السوداء الطويلة بعنفٍ جعلها تتأوه بألم لم تعد تشعر بسواه، فلم يهتم وأكمل من بين أسنانه:
-أنتي إيه مابتحسيش؟ مش حاسة إني بحبك وماحبتش ولا هحب غيرك؟
-وأنا بكرهك، بكرهك وعمري ما كرهت ولا هكره حد قدك.
أعلنتها كقسم أقسمته منذ عرفته وتأبى أن تحنث به، فـ راح يستنشق عبيرها الأخاذ عند رقبتها وشعرها الناعم، هامسًا بجنون وكأنه لم يعي ما قالته:
-هتحبيني، هتحبيني وهتبقي ليا أنا بس يا زمرد، قلبك وعقلك وجسمك.
كلما طال اقترابه منها كانت تضغط بكف يدها بعنف على السكين التي كانت امامها جوار الطبق الذي كانت تُقطع فيه الفاصولياء حتى أدمت يدها بشدة، ولكنها لم تشعر بألمها؛ كان ألم قلبها ونفورها يغمر مراكز الاحساس الاخرى لديها.
إلى أن عتقها أخيرًا فوقعت عيناه على جرحها، ليقول ببرود:
-الجرح دا محتاج يتخيط.
ثم هكذا ببساطة تركها واتجه نحو الغرفة، وكأن هذا الجرح لا يعنيه ولم يتسبب به، كالكثير من الجروح غيره!
****
صباح اليوم التالي، في منزل “يونس الجمَّال”..
مررت “غزل” بصرها الشريد في أرجاء الغرفة التي تجلس بها، مطت شفتيها بإعجاب بسيط لأثاثها المنمق الموضوع بحرفية شديدة في زوايا الغرفة، وما لفت انتباهها أنه لا يوجد خزانة، فتيقنت أنها غرفة لاستقبال الضيوف، أيًا يكن، غرفة مريحة نفسيًا وهي ما تسعى لأجله هذه الفترة العصيبة، نهضت بقوامها الممشوق ولكن آلام جسدها جعلتها تسرع ولكنها بدت كالسلحفاة تحبو الفراش الموضوع بمنتصف الغرفة، لترمي بجسدها المتهالك فوقه، فاحتواها بين غطائه الكثيف بنعومته التي داعبت جسدها المفتقد لذلك الإحساس منذ زمن، أغمضت عينيها بوهن ثم فتحتهما بشك ضرب عقلها بصعقة كهربائية، فمن المحتمل أن توجد كاميرات هنا كي يتلصص عليها، ولكن أين ولا يوجد أثاث كثير بل عدة قطع موضوعة بعناية، عادت تنعم بدفء الفراش من برودة الجو، ولسان حالها يخبرها بسخرية:
-يعني انقذك وهيتجسس عليكي!
ثم عادت تحدث نفسها بغرورٍ يليق بها وبدلالها الغني بجمالها الفاتن:
-وليه لأ، يمكن عينه مني.
تنهدت بصوتٍ عالٍ مضيفة لنفسها بتأكيد:
-يا خبر بفلوس بكره يبقى ببلاش.
قطع ضجيج افكارها صوت طرقات متتالية على الباب، ويبدو أن “يونس” لم ينوي فتحه، فنهضت بانزعاج لتفتح باب الغرفة ببطء، طلت برأسها من الباب لتتفحص الخارج في تأهب وكأنه سينقض عليها في أي لحظة..
ثم وصلت للباب ففتحته لتجد أمامها امرأة في منتصف العمر تقريبًا، ترتدي ملابس مهندمة وحجاب يحتوي وجهها المتوسط الجمال وجوارها طفل أنيق، لم تستطع متابعة تفحصها إذ قطعه صوت يونس الرخيم من خلفها وهو يقول:
-يزيد!
أفسحت غزل المجال تلقائيًا للطفل الذي ركض نحو يونس مرددًا بسعادة:
-بابي.
فيما رمقتها تلك المرأة بشيءٍ من الاستنكار والتفحص، قبل أن تهتف موجهة حديثها له:
-ازيك يا يونس.
شعرت غزل بالمفاجأة كالمفرقعات في عقلها؛ فـ على ما يبدو أن يونس متزوج ولديه طفل ايضًا !
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية لحن الزمرد)