روايات

رواية بأمر الحب الفصل الثامن عشر 18 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب الفصل الثامن عشر 18 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب البارت الثامن عشر

رواية بأمر الحب الجزء الثامن عشر

بأمر الحب
بأمر الحب

رواية بأمر الحب الحلقة الثامنة عشر

(اذن لن تخسري شيئا حين تنفذين أنتِ شرطي، وهو أن تمنحيني نفسك قبل أن القي عليكِ اليمين)
للحظاتٍ لم تستوعب معنى كلماته بعد أن غيبها في عاطفةٍ جامحةٍ مجنونة. وكأن تلك الكلمات ما أن نُطقت على شفتيه حتى زادته تملكا و هوسا، بات كالمجنون وهو يعلمها معنى التملك، وهو يغرز الحدود على أرضه…
و طيف الكلمات الهامسة يتلاعب بحدود استيعابها من بعيد، بينما قلبها يخفق بجنون تحت يده، الى أن بدأ ضوءٌ ساطع مخيف يومض بداخلها و يلكزها لتستفيق و تعي ما نطقه للتو…
حاولت حنين الهرب من مرمى وجهه بصعوبةٍ وهي تدفعه بضعف، و كأنها تدفع حائطا صخريا، لكنها تمكنت في النهاية من الهمس بخوف و انكارٍ يسبقه الذهول (م، ماذا، تقصد؟).
ضحكةٌ خشنةٌ، تسللت من بين عاطفته المجنونة الى أذنها بهديرٍ ساخن، ثم همس بعد لحظةٍ وهو يرفعها قليلا ليتمكن من الهمسِ بوضوح في أذنها (لا أعتقد أنكِ تحتاجين لمزيدٍ من الشرح، لتدركي معنى ما طلبته، أريدك أن تكوني ملكي يا حنين).
شهقت حنين برعبٍ و هي تدفعه عنها بجنون و كأنما الخوف قد سرى في عروقها فجأة ليمنحها قوة تقاومه بها، وهمست بشراسة (أنت مجنون، كيف صور لك خيالك المريض أنه بإمكاني أن أقبل بهذا العرض القذر؟)
عاد ليضحك مرة أخرى الا أنه رفع رأسه ليواجهها، و على الرغم من الظلام الذي يبتلعهما الا أن مرأى ملامحه المظلمة بينما أسنانه الناصعة تلمع في ابتسامةٍ شعرت بوحشيتها فارتجفت…
رفع يديها عنها ليمسك بكتفيها فاطرقت برأسها ترفض النظر اليه، الا أنه قال بصوته الخطير (ستقبلين، إن أردتِ أن أنفذ لكِ شرطك فستقبلين و لن تخسرين شيئا كما قلت لكِ، فأنتِ ملكي في كل الأحوال)
حاولت حنين التملص من بين يديه اللتين تبدوانِ ككلابتين حديديتين على كتفيها النحيفتين، فهتفت بقوةٍ و انفعال وهي ترفض النظر اليه (مستحيل، مستحيل يا جاسر رشيد، بإمكانك الحصول على النجوم قبل أن تحصل على بتلك الطريقة).
عاد ليضحك مرة أخرى ضحكةٍ ترددت موجاتها مع صوت موجات البحر السوداء الآتية من بعيد فجعلت الجو المحيط بهما أكثر رعبا و كأنها في حضرة مصاص دماء، لا بل مصاصٍ للأرواح يريد أن يستنزف روحها قطرة قطرة.
قال جاسر بهمسٍ متسلٍ (بإمكاني الحصول عليكِ الآن، كما كان بإمكاني الحصول عليكِ منذ عشر سنوات، الا تدركين أنني كنت شهما معك لفترةٍ أطول مما ينبغي، كم كنت صابرا معك أنتِ تحديدا و الصبر ليس من فضائلي، يمكنك أن تعتبري نفسك مميزة لذلك يا حنين)
صرخت حنين بغضب و قهر (لااااا)
عاد جاسر ليضحك لكن دون مرح وهو يقول بقوة (بلى، بلى حنيني، أنتِ فقط من ترفضين الإعتراف).
نظرت اليه و استدعت كل ذرة قوةٍ لديها لتواجه عينيه المظلمتين، ثم هدرت تشدد على كل حرف (طلبك معناه أنك لا تثق بي)
قال مبتسما ببساطة (بالطبع)
عقدت حنين حاجبيها وهي تنظر اليه بذهولٍ وغضب ثم همست بمرارةٍ حادة (لقد منحتك الفرصة لتجعلني أثق بك، أما أنت فنسفت كل أملٍ في الثقة بيننا).
لم يجب جاسر للحظاتٍ طويلة، وهو يتأمل كل جزءٍ من ملامحها في عتمة الليل، ثم رفع يده يتلمس جانب شعرها الملامس لوجهها، ومنه الى صدغها يدور عليه بأصابعه و كأنه يراها بواسطتهم. الى أن نزل بيده لعنقها فأحكم أصابعه من حولها، ثم قال بصوتٍ خافت (لست مستعدا للمجازفة حنيني، كما أنني لم أكن يوما مغفلا).
ظلت حنين تنظر اليه، و لو كان رأى نظرتها دون أن يخفيها الظلام لكان سقط من هولٍ القهر القابع فيهما وهي تهمس بألم (بل أنت لعنة)
هز كتفيه وهو يقول ببساطةٍ وهدوء (ربما، و هذا قدرك فاقبليه)
همست حنين بقوة و سرعة (مستحيل)
عاد جاسر ليقول بهدوء و هو يتظاهر بالأسف (اذن فلنعد الى طريقنا السابق، ابدأي بطريق المحاكم، و ستكون فضيحة أنتِ الوحيدة المتضررة منها. فأنا لا أهتم حقا).
سكتت حنين تماما وهي تنظر اليه طويلا، ثم قالت بهمسٍ خفيض (اترك لي قيدي يا جاسر، و حينها سأكون لك)
قال بعزمٍ كالصخر وهو يتركها لينظر أمامه (كوني لي و سأحررك)
همست حنين دون وعي وهي تنظر لجانب وجهه المظلم (كنت سأختارك، صدقا)
قال جاسر وهو يبتسم بقسوةٍ دون أن ينظر اليها (يجب أن تكون لديكِ خياراتٍ يا حنين لتختاري، و أنتِ لا سبيل أمامك الا القبول بي في حياتك).
قالت حنين بفتورو بلهجةٍ كالاموات، بعد فترة ٍ طويلة (أريد العودة، حالا)
اومأ جاسر وهو يقول مبتسما (سأعيدك، كم كنت أتمنى أن يكون استسلامك لي الليلة لكن، لن يكون لدينا الوقت الكاف لأرضيكِ كما ينبغي حنيني، أتتذكرين تلك المرة حين كنا معا منذ عشر سنوات؟، الغريب أنكِ كنتِ حينها أكثر تفهما و استيعابا منكِ الآن)
قالت حنين كالميتة دون حياة (كنت طفلة، لم أكن متفهمة بل لست بفاهمة على الاطلاق).
هز كتفه وهو يقول ناظرا أمامه (ربما لو كنت بقيت حينها لما كنا ندور الآن في تلك الدوائر المغلقة الآن)
همست حنين (نعم، لسنواتٍ طويلة كنت أشعر بشيءٍ من الإمتنان لك على رحيلك بداخلي، على الرغم من كل الذل الذي ترتكنا أنا و عائلتي له، لكن بداخلي كنت أشعر أنك أنت من منحتني فرصة لحياةٍ جديدة، لكن الآن، الآن، أنا ألومك في كل لحظة، و أمقتك في كلٍ منها، على اعطائي الأمل ثم العودة لسرقته مني مرة بعد مرة).
سكتت حنين وهي تدرك أنها ربما لو كانت تخاطب الجدار لربما تولد لديه إحساس أكثر من ذلك الكائن المسلط عليها، ثم همست أخيرا (اريد العودة).
تحرك جاسر بالسيارة منطلقا بها دون كلمة، و مشاعر غريبة تكتنفه. لم يكن يدرك أن تلك الطفلة ستشعر بالإمتنان له يوما، كان رابطا غريبا قد ربطه بطفلةٍ ألقوها على عاتقه رغما عنه، لكن وما أن أصبحت بين يديه حتى حثه شيئا ما على الرحيل، شيئا ما نهره بقوةٍ وأمره بأن يتركها لحين، و ظلت صورتها تربطه لعشر سنوات…
لكن حين عاد اليها، و الرابط قد أصبح قيد، والصورة دبت فيها الحياة لتتغلغل كيانه الذي قلبته رأسا على عقب…
أما الجملة التي تلت…
ضغط جاسر بقدمه ليزيد السرعة بجنون و المقود يكاد أن ينهار تحت وطأة أصابعه…
دخلت حنين متسللة على أطراف أصابعها من حيث خرجت، الى أن وصلت لغرفتها فوضعت يديها على صدرها اللاهث أخيرا و هي تغمض عينيها وكأنها استفاقت من كابوسٍ بشع…
وما أن فتحت عينيها حتى قذفت بحذائيها الممسكة بهما بشدةٍ و جنون وهي تضرب بهما الحائط بكلِ قوتها هامسة بعنفٍ وقهرو الدموع التي حبستها طويلا تتفجر أنهارا على وجنتيها (اللعنة عليك، اللعنة عليك يا جاسر رشيد)
فتح باب رفتها بهدوء فاستدارت بعنفٍ مجفلة و مرتعبة، لتجد صبا قد دخلت غرفتها بقميص نومها الأبيض الهفهاف وهي تحيط كتفيها بشالٍ سميك…
وقفتا تتأملانِ بعضيهما بصمتٍ طويل، وكانت نظرات صبا كلها اتهام الى أن همست بجمود خطير (أين كنتِ؟)
مسحت حنين دموعها بسرعةٍ وهي تهرب بعينيها من نظرات صبا المتهمة، الا أن صبا اقتربت منها لتديرها اليها فتوقفت عينيها بفزع و عدم تصديق على شفتي حنين المتورمتين…
رفعت صبا عينيها بتساؤلٍ مذعور لعيني حنين اللتين هربتا منها مجددا، فهمست صبا بذهول (كنتِ معه؟، ما الذي حدث بينكما؟).
لم ترد حنين طويلا فأمسكت صبا بذراعيها وهي تهتف بعنفٍ وهمس حتى لا يعلو صوتها (ما الذي حدث بينكما؟، انطقي يا حنين)
رفعت حنين عينيها الحمراوين الى صبا و همست أخيرا (لم يحدث شيء، لا تقلقي)
ظلت صبا تنظر اليها بقسوةٍ مختلطة بالخوف، ثم تركت ذراعيها أخيرا وهي تقول بصوتٍ خافت متعب (أنتِ لن تتزوجي مالك يا حنين، و سوف أحرص على ذلك، وإن كنت قد مانعت في زواجك منه من قبل من أجلك، فالآن أمانع فيه من أجله هو).
أطرقت حنين برأسها وهي تدرك كل كلمةٍ نطقت بها صبا بلهجة إتهام، فهمست بصوتٍ ضائع (لن أتزوج مالك)
عقدت صبا حاجبيها وهي تتأملها قليلا ثم قالت (هل ستختارين جاسر؟)
استدارت حنين بكتفين محنيتين وهي تهمس بإنكسار تردد كلمات جاسر (من يختار، هو من يملك خيارات، وأنا لا أملك الا جاسر، أشعر بأنني لم أعد صالحة لأحدٍ غيره).
ازداد انعقاد حاجبي صبا وهي تهمس بذهول (أي سلطانٍ له عليكِ ليتمكن من سلبك احترامك لنفسك الى هذا الحد؟).
أطرقت حنين برأسها وهي تغمض عينيها دون أن تجد ما ترد به، لذا انتظرت صبا طويلا ثم ضمت شالها وهي تقول بصوتٍ حزين (حسنا يا حنين، أنتِ الآن انسانة ناضجة و تستطيعن اتخاذ قرارك بنفسك، لكن تذكري أنني موجودة دائما إن احتجتِ مساعدتي، فقط لي عندك رجاء. حافظي على نفسك الى أن تتخذي قرارك يا حنين هذا أقل ما تستحقينه).
استدارت صبا لتخرج بهدوء و تغلق الباب خلفها، حينها أفلتت شهقة بكاءٍ عنيفة من حنين وهي تنثني على نفسها غير قادرة على التحمل…
جلست الحاجة روعة على مائدة الأفطار وهي تشعر بالإنقباض من مرأى الأولاد من حولها، كان هناك شيئا ما يحيط بالجو فعلى الرغم من أن عاصم تنازل و توجه الى غرفة حنين ليدعوها لتنزل و تتناول الإفطار معهم، الا أن هناك ما يسوء الجميع بدلا من أن تعم الراحة…
نظرت الحاجة روعة إلى صبا التي كانت مطرقة برأسها بوجهٍ أحمر و عينين لا ترتفعانِ الا نادرا، شيئا ما حدث بينها و بين عاصم، الذي كان يجلس هادئا تماما دون أي تعبيرٍ يعلو وجهه الغريب أنه يبدو أكثر هدوءا من الأيام الماضية، فهل نال المراد؟، منظرهم يدل على ذلك و إن كان لا يدل.
تأتأت الجاحة روعة في الخفاء و هي تسند وجنتها إلى كف يدها محاولة استنتاج ما يحدث بينما حنين هي الأخرى بدلا من أن تكون راضية بزوال الغمة و سعيدة بخطبتها الا أن شيئا ما جعل من نظراتها أكثر إنكسارا من قبل…
قد يكون علاجها أن يتواجد مالك أكثر قليلا في البيت لتشعر بوجود خطيبها الى جوارها يدللها كأي فتاة مخطوبة حديثا، و لينسيها ذالك التعيس الذي عاد الى حياتهم ليقلبها من جديد…
عادت الحاجة روعة تنظر إلى عاصم الهادىء بشدة حتى انه يتكلف ابتسامة رزينة بينما تبدو صبا بجواره متضائلة و كأنها تجلس على صفيحٍ ساخن…
ماذا بها؟، ترى هل تحامق عليها عاصم ليلة أمس أكثر من اللازم؟، طبعا، فالكبت يولد الإنفجار، لكن مهما يكن لم يكن مفترضا به أن يجرحها و يتغابى عليها بهذه الطريقة من أول مرة، آآآآه منك يا عاصم دائما ما تنطح قبل أن تفكر، عكس أخاك حبيب قلب أمه الذي يراعي كل من حول في أقل تصرفٍ يتصرفه…
كانت تقلب كوب الشاي بالحليب مرة بعد مرة، حتى كاد الكوب أن يقسم لها بأن السكر قد ذاب دون جدوى…
حيث كانت شاردة مع نفسها تماما بينما لا تزال أثار طوفان الليلة الماضية يدور برأسها و كيانها كله، ما ذاك الذي حدث ليلة أمس؟..
تشعر منذ أن نزلت صباحا وكأن الجميع على علمٍ بالمذلة التي تعرضت لها، هل هي مذلة فعلا؟، لماذا؟ و ما الذي حدث أصلا لتشعر بذلك؟..
ودت صبا لو تنزل تحت الطاولة من شدة احراجها أمامه، منذ أن استيقظت صباحا وهي غير قادرة على النظر اليه و ما أن التقت نظراتهما مرة رغما عنها حتى افلتت منها نظرة عتابٍ كانت تحاول كبحها بقوة…
ليلة أمس حين جذبها الى أحضانه و اجتاحها بكل طوفانِ عواطفه بما لم تجربه معه من قبل، كانت عواطفه التي قاربتها من قبل، مراعية حنونة بالرغم من شغفه…
الا أنه بالأمس كان كمن التبسه شخصا آخر، كان عنيفا و عاطفته جامحة بشكلٍ يصعب استيعابه، و بعد دقائق طويلة كان قد ضيعها معه في عالمٍ لم تعرفه من قبل، حتى معه هو…
لم تدري كم مر عليهما من الوقت وهو يدوخها معه في دوامةٍ لا قرار لها، الى أن استسلمت له بشكلٍ يائس، وكانت المرة الأولى التي تعبر له عن مشاعر لم تكن تعرف أنها تمتلكها طوال سنوات حياتها…
لكن فجأة تغير كل شيء، و حين ظنت أنها قد أقرت بأنها زوجته بالفعل، كل شيءٍ تغير حينها…
حين أفاقت على منظره وهو يمسك بال ما شاء الله الذهبية مفرودة على كف يده ينظر اليها بعنفِ مشاعره المتراجعة…
كانت تتنفس بصعوبةٍ حالها كحاله، الا أن نظراته كانت غامضة على الرغم من جموحها، لكنها لم تجرؤ حتى على الهمس، الى أن رفع رأسه اليها ليدقق النظر في عينيها الضائعتين طويلا ثم همس فجأة بهمسٍ غريب على مسامعها (أتعلمين أنني ألبستك اياها لتحرسك و تحميكِ؟)
ظلت مستلقية بين ذراعيه، تنظر اليه بعينين متسعتين بعاطفةٍ براقة. و القليل من الخوف، لكنها أخيرا همست بمعجزة بصوتٍ لا يكاد يسمع (أعلم).
همس عاصم بغموض (وقد أبقيتها حول عنقك، لم تنزعيها الى الآن)
همست مرة أخرى وهي تبتلع غصة في حلقها (نعم)
ظل عاصم ينظر الى القلادة الذهبية على كف يده طويلا، ثم قال أخيرا (أردت أن أمنحك الثقة من خلالها)
لم تعرف بما تجيبه، لم تفهم نظراته و لم تعلم بماذا يشعر في تلك اللحظة و قد اختفت ملامحه تحت قناعٍ هادىء غامض.
الى أن قرر التحرك أخيرا فمال عليها ليطبع قبلةٍ كأجنحة الفراشات على شفتيها، ثم دون كلمةٍ أخرى ابتعد ليستلقي على ظهره و ذراعه أسفل رأسه ناظرا الى سقف الغرفة…
أما هي فقد ظلت تنظر اليه بطرف عينيها وهي لا تصدق أنه تركها بعد أن كادت تترجاه من عمقِ عاطفتها، لم تصدق ما حدث ولا تصدقه حتى تلك اللحظة التي تجلس فيها الى جواره مطرقة الرأس و هي التي لم تعتد أن تحنى رأسها من قبل…
نهض عاصم فجأة من مكانه وهو يعدل من سترته فرفعت رأسها اليه رغما عنها لكنه اتجه الى أمه أولا لينحنى و يقبل رأسها وهو يقول مبتسما، (يجب أن أذهب الآن حبيبتي، أتريدين شيئا؟)
همست الحاجة روعة وهي تبتسم بقلق (سلامتك يا حبيبي).
استقام عاصم ليتجه الى صبا وهو يثبت عينيه المتزنتين على عينيها الضائعتين، الى أن انحنى اليها ممسكا بذقنها بقوةٍ يرفع رأسها اليه و نظر اليها للحظةٍ واحدةٍ قبل أن ينحني ليقبل وجنتها بعاطفةٍ دمرتها قبل أن يهمس في اذنها (سأراكِ الليلة)
كانت كلماته كوعدٍ لم تشأ أن تصدقه، لكنها اخفضت عينيها التائهتين بعيدا عنه وهي تراه يستقيم ليودع حنين بعد جفاء أيام ثم يخرج…
ظل الصمت يحيط بثلاثتهن الى أن كسرته الحاجة روعة وهي تقول (هيا يا بنات لأبخركن)
نهضت حنين من مكانها بسرعة وهي تهمس بلهجةٍ حزينة (أنا سأذهب إلى غرفتي يا عمتي بعد اذنك)
ثم ابتعدت بسرعةٍ قبل أن تلح عليها الحاجة روعة التي تنهدت بيأس، ثم لحظة واحدة وكانت تحتل الكرسي المجاور لصبا لتهمس لها بقلق (ما الأمر يا صبا؟، شكلك أنتِ و عاصم لم يعجبني، هل حدث شيء؟).
ارتبكت صبا بشدة و احمر وجهها، قبل أن تقول بتلعثم (أي شيء يا عمتى؟، لم يحدث شيء)
عبست الحاجة روعة و هي تقول بدهشة (لم يحدث شيء؟)
الا أن صبا لم تجب وهي متشككة في فحوى السؤال المريب و دوافعه ثم ابعدت نظرها عن الحاجة روعة التي تنهدت بيأس للمرة الثاني، واضعة يدها على وجنتها قبل ان تهمس بإحباط (حسنا يا ابنتي، هيا لأبخرك، فالعين قصفت الحجر).
جلست صبا على كرسي في المنتصف، وهي تتأمل الحاجة روعة وهي تدور بالمبخرة من فوق رأسها و هي تتلو المعوذات، و صبا في عالم غير العالم…
و ما ان انتهت الحاجة روعة، حتى جائت بورقةٍ بيضاء أخذت تقصها حتى أصبحت على شكل دميةٍ صغيرة، فاتسعت عينا صبا و ضحكت لأول مرةٍ في هذا الصباح قبل أن تقول بتعجب (هل هناك من يصنع تلك الدمية يا عمتى الى الآن؟).
زمت الحاجة روعة شفتيها بإهتمام وهي تقول بجدية (اصمتي أنتِ، وما أدراكِ بتلك الأمور، يجب أن تخرقي أعين الحاسدين)
ثم اقتربت منها لتخرج ابرتها و أخذت تخرق الدمية الورقية و هي تردد (رقيتك يا صبا يا بنت آمنة من عين عاصم، ومن عين مالك، ومن عين حور، ومن عين حنين، ومن عيني، ومن عين أم جليلة)
قاطعتها صبا لتسأل بدهشة (من أم جليلة تلك؟).
قالت الحاجة روعة بجدية (أحدى جاراتنا في الحي القديم، لكنها تحسد عن بعد، ما أن تسمع بخبرٍ ما و من المؤكد أنها قد علمت بزواج عاصم، اسكتى الآن لأكمل)
ثم أخذت تردد وهي تخرق الدمية بالإبرة (رقيتك يا صبا يا بنت آمنة، من عيني و عين كل من رآك و لم يصلِ على الحبيب المصطفى)
قالت صبا (عليه أفضل الصلاة و السلام).
طبقت الحاجة روعة الدمية و كومتها في المبخرة لتحترق، ثم رفعت رأسها الى صبا وهي تسأل لتتأكد (هل أنتِ متأكدة أنه لم يحدث شيء؟، إطلاقا؟)
أخفضت صبا نظرها بتوجس ثم نهضت لتقول بارتباك (بعد اذنك يا عمتي)
تنهدت الحاجة روعة وهي تقول بإحباط (تفضلي يا روح عمتك)
ثم همست بعد انصراف صبا و هي تسند وجنتها بيدها (محسود من يومك يا عاصم يا ولدي).
جلست حور على الأريكة ذات الاغطية المزركشة تحت الشباك المطل على البحر الازرق من بعيد، بفستانها القصير، ثانية احدى ساقيها تحتها و تؤرجح الأخرى ذات الخلخال وهي تحك ذقنها رافعة أحدى حاجبيها بتفكير عميق، ممسكة بالمفكرة في يدها، ثم قالت للمرة الثالثة باهتمام و جدية و بنفس الحاجب المرفوع محققا في الامر (هل أنتِ متأكدة أنكِ لم تعيريها لأحدٍ، ولم تنسها في مكانٍ ما؟).
مالت اليها رنيم القلقة و الجالسة متربعة بجوارها على الأريكة وهي تبدو في حالةٍ من الخوف و القلق (قلت لكِ لم أتركها الا لدقائق قليلة و أنا اخرج لأكلم نائل، و حين عدت وجدت تلك العبارة مكتوبة)
ازداد ارتفاع حاجب حور المحقق وهي تحك ذقنها ثانية، ثم سالت بهدوء (هل أنت متأكدة أنها كُتبت في تلك الفترة تحديدا؟، قد تكون قد كُتبت من زمن و أنتِ لم تلاحظينها).
عقدت رنيم حاجبيها وهي تقول بقلق (لا، لا يا حور أنا متأكدة، فعبارتي عادة ما اثبت نظري عليها في كل وقت كنوع من التشجيع)
نظرت حور الى عبارتها التشجيعية المفترضة ثم نظرت الى رنيم بامتعاض، ما أجمل هذا التشجيع، لكنها ركزت على الأهم الآن وهي تقول باهتمام (من أرجح من تظنين أنه كاتبها؟).
رفعت رنيم كتفا بدلال وهي تفكر و تفكر، الى أن قالت حور قاطعة (أنت تظنين أنه مديرك اليس كذلك؟، بل تتمنين أن يكون هو بمعنى أصح)
احمر وجه رنيم خجلا وهي تقول بحزم غير لائق عليها (و لماذا أتمنى شيئا كهذا؟، أنا مخطوبة و عبارة كتلك العبارة لن تهز شعرة من رأسي)
مطت حور شفتيها وهي تنظر اليها بطرفِ عينيها، ثم قالت (هل أنتِ متأكدة أنه ليس خطه؟).
مالت رنيم مرة أخرى لتنظر إلى المفكرة و الخط المكتوب وهي تقول بحيرة (لا، انه مختلف قليلا عن خطه، لكني لا أستطيع التأكيد)
قالت حور عاقدة حاجبيها (هل هو اسلوبه؟)
مالت عليها رنيم، ثم قالت مفكرة (حسنا المقطع الأول، يشبه اسلوبه بالتأكيد، حتى أنني أكاد أتخيله وهو يقول متذمرا. ايقنت أنك غبية، أما المقطع الثاني أممممممممممم، فانا لا اتخيله يلقبني بأكثر النساء أنوثة، ولو أنه قال عني أنني رائعة من قبل).
أخذت حور تفكر ثم قالت (المؤكد لدينا الآن هو انه لديكِ معجبا سريا)
ابتسمت رنيم و قلبها يحي أملا يائسا، لكنها نفضت الفكرة وهي تقول بحزم (قد يكون شخصا لزجا يدبر لي مقلبا، أنتِ لا تعرفين زملائي، أنهم أوغاد حقا في التعامل معي)
قالت حور مفكرة (و ربما كان الأمر حقيقيا، و ربما كان مديرك)
رغما عنها رنيم و رغم كل الحزم الزائف الذي كانت تتحلى به، الا انها همست بضعف (يا ليته يكون يا حور).
عبست حور بشدةٍ وهي تقول (رنيم، تعقلي و لا تضيعي زيجة معقولة و مضمونة من يدك)
بهتت ابتسامة رنيم قليلا و أطرقت برأسها ثم همست بإحباطٍ بالغ (أصبحت لا أطيقه يا حور، كل ما كنت أتقبله منه مرغمة سابقا أصبحت لا أطيقه، وحين بدأ يشعر بلمحة تمرد مني أصبح يسيء معاملتي بشكلٍ واضح و كأنه يرفض أن أخرج عن نطاق سيطرته ولو للحظة).
عبست حور أكثر، ثم قالت بقلق (هذا ما كنت أخشاه، ستضعين خطيبك السمج منك في سبيل عصافير على الشجرة)
نظرت رنيم اليها وهي تقول بتحدي و غضب (ها أنتِ تقولين سمج، فلماذا أكمل معه و اتحمل سماجته معي أكثر).
اتسعت عينا حور دهشة ثم قالت بحيرة (رنيم، أنا أدعوه سمجا منذ اول مرة أراه فيها، فلماذا تهتمين بكلمتى الآن أم أنكِ تتحججين بأي شيء لتتركيه؟، حسنا، سأسألك سؤال، هل تقبلين بالإنفصال عنه لو تأكد لكِ أن مديرك لا يشعر بك أبدا؟)
ظلت رنيم تنظر الى حور طويلا، ثم أخفضت عينيها وهي تهمس بحسرة (لا، لا أريد الإنفصال عنه الا اذا تأكد لي بأن عمر معجبا بي، بل و سيتزوجني أيضا، أنا، أريد، أن، أتزوج).
كانت تشدد على كل كلمة من كلماتها الأخيرة بإحباط، فقالت حور بحزم و صرامة (ها أنتِ قد أجبتِ على نفسك، اشربي قهوتك)
مدت رنيم يدها بيأسٍ وهي تتناول فنجان القهوة القديم، وما أن تذوقت القهوة السيئة الطعم و التي يبدو طعمها كطعم الجوارب القديمة حتى مطت شفتيها بتقزز و هي ترغب في بصقها، حتى أن جسدها قد تقشعر منها، فرفعت حور عينيها من المفكرة الى رنيم لتقول مبتسمة بفخر و دلال (إنها بوجه).
ابتسمت رنيم لها على مضض، ثم تطلعت الى وجه القهوة الذي كان يبدو كماءٍ بني شفاف، بينما استقر البن كله في القاع، ابتلعت ريقها بصعوبة ثم شربتها مرة واحدة و هي تتجرعها بدافع الصداقةقالت حوربحزم وهي تغلق المفكرة لتناولها لرنيم (رنيم، تعقلي و لا تربطي نفسك بالأوهام فتخسرين كل شيء)
أومأت رنيم وهي تتهرب من عيني حور، فقالت حور بحزم و صرامة؛ (نعم؟)
نظرت اليها رنيم وهمست بحزن ؛ (نعم).
فحثتها حور بصرامةٍ أكبر وهي تقول بشدة (نعم؟)
صرخت رنيم بحنقٍ ونفاذ صبر (نعم، نعم، فهمنا)
، أخذت تتلاعب في أصابع يديها، تمسك نفسها بقوةٍ، تتطلع اليه بطرف عينيها ثم تعود لتنظر إلى يديها مرة أخرى وهي تهمس في داخلها، تعقلي يا رنيم، تعقلي يا رنيم، أنت على ما يرام، فقط فكري في شيءٍ آخر، (عمر، هل كتبت لي ملحوظةٍ في مفكرتي؟).
رفع عمر عينيه عن التصميم أمامه وهو عاقدا حاجبيه بدهشةٍ من هجومها المفاجىء، ثم قال بخشونة (ماذا؟)
ابتلعت رنيم ريقها وهي تلعن غبائها المستحكم، لا أمل لها أبدا، لكن و بما أن ما حدث قد حدث لذا فلتمضى للنهاية فقلبها يحرقها حرقا، همست بتردد و أمل (كنت، كنت أسألك، هل كتبت لي ملحوظة في مفكرة العمل الخاصة بي؟).
ازداد انعقاد حاجبي عمر وهو يقول بصوتٍ اكثر خشونة (اية ملحوظة؟، أنا لم أترك لكِ شيئا، وما أريد اخبارك اياه، أخبركِ به بنفسي)
انطفأ بداخلها أملا يتيما لا تعلم طريقه و لا منبعه، لأيامٍ عاشت سعادة تلك الفكرة التي سكنت أحلامها دون استئذانلكنها أرغمت نفسها على الإبتسام باهتزاز و هي تستدير لتغادر دون أن ترى نظرته التي كانت تلتهمها كلها كقطعة واحدة، الى أن أوقفها عند الباب وهو يقول بخشونة (رنيم).
توقفت مكانها و التفتت اليه برأسها دون أن تستدير، وهي تهمس بخفوت (نعم)
تنحنح عمر قليلا، ثم قال بهدوء حازم (الى أين أنتِ ذاهبة؟، كنت أريد دراسة التصميم معك)
اخذت رنيم نفسا مرتجفا، ثم ابتسمت مرغمة وهي تقول بخفوت (اليوم موعدي في الذهاب للموقع الجديد بصحبة أمير، لا بد و أنه ينتظرني الآن)
عقد عمر حاجبيه أكثر، ثم قال بشرود (و كيف ستذهبان؟، بسيارة الشركة؟)
قالت رنيم ببساطة (بل بسيارته).
عبس عمر اكثر وهو يطيل النظر اليها، متخيلا الألفة التي ستسود سيارة المدعو أمير و هو وكما يعرفه مهندسا عاطفيا حساسا و يحب التسبيل، و ما هذا الذي ترتديه؟، ألم ينبهها لزيها أكثر من مرة؟، نظر الى تنورتها الرمادية التي بالكاد تصل الى ركبتيها و أسفلها الجوارب السوداء السميكة، و التنورة كانت بحمالاتٍ مستفزة على الأكتاف و تحتها قميص أبيض، ومما زاد من وقاحتها أنها قسمت شعرها على هيئة ذيلي حصان كالأطفال، صحيح أنهما منخفضان و مستريحان على كتفيها، الا أن كلها على بعضها بدت و كأنها ترتدي ملابسا للأطفال بغرض الإغراء، زم عمر شفتيه و قال دون تفكير (نسيت أن اخبرك أنني كنت قد قررت تبادل الأدوار، أمير سيبقى هنا و أنا سآخذك معي).
برقت عينيها للحظةٍ الا أنها كتمت ابتسامة سعيدة بصعوبة، ثم همست بحيادية (حاضر)
فقال عمر بصرامة (لكن اولا سنجد لكِ الزي الخاص بالمهندسين من هنا)
عبست رنيم وهي تفكر بذلك الشيء الذي يبدو كقطعةٍ واحدةٍ دون هيئة أو شكل، لكن شرودها لم يطل حين تابع عمر بخشونة (و فكي هاتين القطتين طبعا)
اتسعت عينا رنيم و هي غير متأكدة من ما سمعته للتو فهمست بعدم تصديق (افك ماذا؟).
اشاح عمر بيده متوترا وهو يشير اليها بعبوس قائلا ببديهية (تلك القطتين، في شعرك)
أمسكت رنيم بذيلي الحصان تلقائيا و هي تبتسم تدريجيا و ببطء شديد. الى أن أخذت ابتسامتها تتسع شيئا فشيئا حتى شملت وجهها كله و تحولت الى ضحكة مرحة ذات رنين انثويمما زاد من عبوس عمر و من عنف توتر اعصابه، فقاطعها وهو يقول غاضبا (لماذا تضحكين الآن؟).
امسكت نفسها بقوةٍ تحاول الامتناع عن الضحك حتى دمعت عيناها بغزارة، و قالت بتعثر من شدة الضحك (لم اسمع ذلك اللقب عليهما منذ ان كنت في السابعة من عمري)
لم يخف عبوس عمر وهو يقول بخشونة، (اسمهما قطتين، حتى الآن أسمع الاسم من علا و حتى أنني كنت امشط لها شعرها على هيئة قطتين حين كانت اصغر سنا).
ارتجفت ابتسامة رنيم و هي تتخيل ذلك المهندس الضخم الخشن، يمشط شعر اخته الصغيرة ليصنع لها، قطتين، ما أجمله، ما أجمله، يالهي يجب ان اخرج من هنا حالا و الا فضحت نفسي ابتسمت له رنيم بابتسامةٍ لم يرى في جمالها من قبل، ثم همست (سأذهب لأعد نفسي، و أفك القطتين)
ثم خرجت مسرعة تتبعها نظرات عمر الشاردة، في صورةٍ اختفت منها علا لتحل محلها رنيم بكل جنون التخيل.
وقف جاسر ينظر من نافذة بيته وهو يستند بيده الى الجدار، وكلمات حنين تتردد في ذهنه منذ أن تركها، (لسنواتٍ طويلة كنت بداخلي أشعر بشيءٍ من الإمتنان لك على رحيلك بداخلي على الرغم من كل الذل الذي ترتكنا أنا و عائلتي له، لكن بداخلي كنت أشعر أنك أنت من منحتني فرصة لحياةٍ جديدة، لكن الآن، الآن، أنا ألموك في كل لحظة، و أمقتك في كلٍ منها، على اعطائي الأمل ثم العودة لسرقته مني مرة بعد مرة).
شعور غريب وهو يشعر ببهجةٍ من كلمة بسيطةٍ كإمتنانها على التصرف الذي جعله حقيرا في نظر الجميع، حتى أن والده استغل الأمر ليوهمهم بأنه طلقها بالرغم من رفضه، سامحه الله و رحمه، حتى أنه لم يعلم بالأمر الا في السنوات الأخيرة، و تحديدا بعدها لجأ الى عمر ليرعاها و يضعها تحت أنظاره، و بين شعوره لما تبع عبارة الإمتنان، من بغضٍ و كرهٍ و غل، شعر بإنقباضٍ في قلبه و هو يتذكر عبارتها حرفا حرفابتسم على مضض بعد فترةٍ ليقول لنفسه متهكما (ماذا بك؟، منذ متى تأخذك عبارة و ترجعك أخرى؟، منذ متى يؤثر بك حديث الفتيات؟).
شرد طويلا في النافذة أمامه، طويلا جدا، الى أن همس بشرود و عزيمة (قسما بالله يا حنين إن فعلتها و أتيتني بملىء إرادتك، فسوف أحررك للمرة الثانية دون أن أمسكِ بسوء و أنا لم أخذل قسما من قبل).
، دخلت صبا ببطىءٍ وهدوء الى غرفة مكتب عاصم و اغلقت الباب خلفها، و دون تردد اتجهت لتجلس الى كرسيه الضخم في الظلام ثم مدت يدها لتشعل الضوء الجانبي الخافت، لتنظر للحظاتٍ الى حاسب عاصم رشوان الموجود أمامها على سطح المكتب، مدت يدها تتلمس سطح الحاسب و هي تفكر قليلا، ثم فتحته و هي تضيق من عينيها عازمة النية، الى أن جائتها كلمة السر، حينها ترددت أصابعها وهي تخط كلمة صبا عمري لدرجة أنها أخطئت هجاءها لأول مرةٍ و تلجلجت، أخذت نفسا عميقا وهي تغمض عينيها محاولة الثبات في التعامل مع تلك الكلمة البسيطة و التي تبدو وكأنها تعاندها، ثم فتحت عينيها و هي تعيد كتابتها من جديدلتظهر عبارة الترحيب خلال لحظات، افكار غريبة و مشاعر تطوف بداخلها تجعلها تتوه عن عزيمتها المعتادة، لكن اتمام فتح الجهاز جعلها تفيق من شرودها و دون تردد بدأت تعبث بتطفل في الملفات الخاصةملفاتٍ تحوي أماكن و تواريخ و صور تراخيص، أراضٍ حكومية و مشاريع معمار جبارة و كلها تضم اسم عاصم رشوانو كل مشروع مدرج تحته الاسماء المتعاملة معهاخذت صبا تقلب و هي تدقق في الأسماء المضيئة أمامها هامسة (عثمان الراجي، هو من سلم تلك المساحة الحكومية المهولة لعاصم بعد أن اشتراها من الدولة).
زمت شفتيها و عقدت حاجبيها و هي تددق أكثر في دور عاصم الذي كان قانونيا تماما بعد تلك المرحلة، وكأن عاصم هو الواجهة النظيفة ليبتعد عثمان الراجي مؤقتا عن الأمر بعد أن تم أخذ الأرض من الدولة بمبلغٍ بخس لا يتعدى عشر الثمن الحقيقي أو أقل، أما عاصم فقد تعامل مع باقي المساحات و التي تخص سكان عاديين مثلها، و بأسعارٍ مناسبة تقريبا، ليست أول أرضٍ تسرق من الدولة و لن تكون الأخيرة، زفرت صبا بغضب و هي تتطالع الأسماء من جديد و كانا الإسمانِ المهمانِ بالنسبةِ لها هما، عثمان الراجي و، سيد الدالي، و هي بعون الله قد اسقطت عثمان الراجي بالأوراق الحقيقية لتراخيص الأرض التي وقعت بين يديها من احد موظفي الدولةو الإسم الثاني هو من تنقب خلفه منذ فترة، وقد نالت منه تهديداتٍ مبطنة و لا تستبعد أن يكون مشاركا لعثمان الراجي في حادثة الهجوم التي تعرضت لهااقشعر بدن صبا قهرا و ظلما، و أظلمت عيناها حين وصلت لتلك الذكرى التي لا تزال تهز كيانها الى الآن، و بدون وعي مدت يدها لتتشبث بقلادتها الذهبية و هي شاردة، اجبرت صبا نفسها على الانتفاض من تلك الذكرى البشعة وهي تحاول جاهدة استعادة تركيزها على الأسماء و الأرقام أمامهاحتى هذه اللحظة لم يتم فصل مشاريع عاصم عن مشاريعهم و شراكتهم، كل ما تعلمه أن هناك حربا دائرة في الخفاء بينهم دون أن يخبرها عاصم، و طبعا دون أي جدوى لتدخل الشرطة، فيحن تتقاتل الحيتان يبتعد الجميع، زمت صبا شفتيها و هي تشعر بأنها خارج الموضوع كله و أن عاصم يتعمد إبعادها، حتى أنه يتعمد إبعادها عن بيتها نفسه، لكن والله لن تترك بيت والدها ابدا، خاصة و انه لم يعد المشكلة الأهم، فعاصم لو عمل على استكمال هذا المشروع فستكون النهاية، لن يمكنها اغماض عينيها كما يفعل هو، وهي لن تتمكن من التعايش مع بتلك الطريقة الرمادية، عادت بذاكرتها الى صوت والدها العميق وهو يقول بهدوء (لا بد و ان تتعلمي متى تطء قدميك المنطقة الرمادية يا صبا، تجاهلها يعد غباءا).
وبالرغم من ذلك لم تره ابدا خطا بقدميه للمنطقة الرمادية طوال حياته، فكيف يطلب منها ذلك؟، شردت قليلا وهي تفكر و عاصم؟، اليس هو منطقة رمادية في حد ذاته، وقبلت بها؟، انه على النقيض من والدها في كل شيء، لا، ليس النقيض تماما، بل هو، (هل وجدتِ ما تبحثين عنه؟).
شهقت صبا منتفضة مصدومة و هي تنظر إلى صاحب الصوت العميق المتصلب، وهو يقف بالباب بهيئته الضخمة واضعا كفيه في جيبي بنطاله، حاولت صبا ان تتنفس بصعوبةٍ وهي ترى ملامحه التي يصعب قرائتها اشد خطرا من ملامحه الغاضبة و التي رأتها قبلا، للحظاتٍ لم تستطع صبا الرد، إلى أن أخذت نفسا خفيا و هي تغلق حاسبه بهدوء و تنهض من مكانها ببطء لتقول بما يشبه الهمس بينما قلبها يخفق ضاربا بألم (لم أكن أبحث عن).
قاطعها عاصم بكل هدوء و دون أن يتحرك من مكانه (كنت تبحثين عن شيءٍ آخر و ضللتِ الطريق الى أن انتهى بكِ جالسة أمام حاسبي المفتوح؟)
أخفضت عينيها وهي ترفض أن يرهبها بالرغم من نبضات قلبها التي تتزايد بسرعةٍ جنونية، سمعته بعد لحظةٍ يقول بنفس الهدوء الخطير (اتعرفين أنكِ فعلتِ شيئا لا يغتفر لتوك؟).
رفعت صبا عينيها اليه بسرعةٍ وهي تعقد حاجبيها لتقول بصوتٍ خافت (ما هو ذاك الشيء الذي لا يغتفر؟، أن فتحت حاسب عاصم رشوان العظيم؟، الا ترى أنك تحيط نفسك بأهميةٍ أكثر من اللازم؟، كنت أظن أنني زوجتك و أن لا شيء) (اخرسي).
قاطعتها تلك الكلمة الخافتة و كأنها طلقة رصاص، ففغرت شفتيها غير متأكدة مما سمعته للتو، الا أن تصلب ملامحه و تجمد عينيه أكدا لها ذلك، فهمست بحاجبين معقودين و عينين مهانتين (لا تكلمني بتلك الطريقة)
الا ان نفس الصوت الهادىء صفعها بنبرةٍ قاطعةٍ اكثر صلابة؛ (قلت اخرسي).
سكتت صبا بالفعل و هي تطلع اليه لا تصدق أن هذا الشخص المخيف أمامها هو نفسه الذي ذوبها معه في دقائق ليلة أمس، كانت أصابعها تتلاعب بارتجاف على سطح المكتب أمامها وهي تنظر اليه بارتباك و ينظر اليها بنظراتٍ جليدية، الى أن دخل المكتب و أغلق الباب من خلفه بهدوء، اخذ يقترب منها ببطء و عيناه لا تحيدان عن عينيها المتهربتين، الا أنها عادت و أجبرت نفسها على مواجهتهما بصلابة و ثبات، الى أن قال عاصم بصوتٍ خافت خطير (ماذا وجدتِ من خلال بحثك ورائي؟).
رفعت صبا ذقنها دون أن ترد لأنها ببساطة لم تجد ما ترد به، فاقترب عاصم خطوة بينما لم تجد صبا مكانا تتراجع به و كرسي المكتب الضخم يقف حاجزا خلف ساقيها ليمنعها من الهرب، تابع عاصم بمنتهى الهدوء (تعبثين بأوراقي، و الليلة تفتحين حاسبي، كيف تجرأت على ذلك؟).
اخذت صبا نفسا مرتجفا و قد بدأ الغضب يتخللها، فدارت حول المكتب بهدوء لتواجهه رافعة أحد حاجبيها بتحدي و هي تقول بهدوء (و لماذا لا أتجرأ؟، هل لديك ما تخفيه و ما تخشى أن يفتضح أمره؟)
اشتعلت عينا عاصم بغضبٍ بركاني في ثوانٍ بينما ظلت ملامحه على تجمدها المخيف، ثم قال بخفوت بطيء كمن يجتذبها الى المصيدة (و ماذا وجدتِ أنتِ؟).
ابتسمت صبا بقساوةٍ و هي ترفع ذقنها لتقول بقوة (نظيف، نظيف تماما يا سيد عاصم و كما كنت متأكدة من قبل، لأنك بالطبع الواجهة العصامية المشرفة و التي تداري من خلفها فساد الآخرين).
حينها لم يتمالك عاصم نفسه وهو يهجم عليها في خطوة واحدة ليمسك بذراعها بقوةٍ جعلتها تئن ألما وهو يجذبها إلى صدره، هادرا أمام وجها (كيف تتجرأين على مجرد محاولة تلويث اسم عاصم رشوان، والله لو أن أحدا غيرك هو من نطق بهذا لكنت سحقته).
رفعت صبا وجهها بتحدٍ غاضب شرس اليه لتقول قاذفة اتهامها بقوة (انت تشارك أناس مشبوهين، يتعاملون بصفقاتٍ حكومية مشبوهة، وحتى هذه اللحظة لم تنفصل عنهم، عن هاؤلاء اللذين ارسلو كلابهم إلى محاولين أن)
قاطعها عاصم صارخا بغضب هيستيري (اخرسي، اخرسي يا صبا، أنتِ لا تعلمين الحرب التي أخوضها من يومها، إياك و اتهامي بالتهاون في هذا الأمر).
هتفت صبا هي الأخرى بغضبٍ أعمى (نحن لسنا في غابة، تريد أن تحص لي على حقي؟، بأساليبٍ همجية؟، وماذا عن باقي الحقوق، هل حين تكتفي من عمل العصابات و تقرر أنك بالفعل قد لقنتهم ما يستحقون ستعود للعمل على مشاريعهم القذرة مدعيا أن شيئا ما لم يكن؟).
شدد عاصم على ذراعها أكثر و عيناه تشتعلان أكثر و أكثر حتى بات شكله مرعبا، وايقنت أن اصابعه ستترك على ذراعها علاماتٍ زرقاء في الغد، لكنها لم تتخاذل و هي واقفة في مواجهته بطولها الذي لا يتعدى كتفيه العريضتين، قال عاصم بخفوتٍ خطير مهدد. مذهول، غاضب ومجنون (الهذا قبلتِ بالزواج بي؟، لتصلين اليهم من خلالي؟).
فتحت صبا شفتيها الا أنها عادت لتغلقهما و قلبها ينبض حتى باتت ضرباته مؤلمة للغاية فاكتفت بأن هزت رأسها نفيا بضعففتابع عاصم هادرا وهو يشدد على ذراعها، (سؤال واحد و أريد اجابته بكل وضوح، هل تقابلين أحدا من جديد؟، هل عدتِ للتصرف من خلف ظهري؟)
لم ترد صبا وهي تنظر إلى عينيه المتوحشتين، فهدر بغضب (انطقي، هل تقابلين أحدا من دون علمي؟).
قالت صبا ببرود بينما قلبها يرتجف و أطرافها تصطك، (حتى وإن قابلت، قلت لك ألف مرة أنك يجب أن تعتاد على عملي لأني عائدة اليه، و اعتذر لك مسبقا إن كنت سأزعج شركاء سيادتك المصونين)
لم يكن يكون مخيفا يوما أكثر منه في هذه اللحظة، وهو يقول بعد فترة بخفوت مرتجف غضبا (لقد استنفذتِ كل فرصك معي يا صبا)
أخذت صبا نفسا آخر وهي تقول بتحدي؛ (اذن يؤسفني أنك لا تتقبلني كما انا).
وفي غفلة الغضب استطاعت أن تتحرر من يده الممسكة بذراعها و هي تخرج من المكتب جريا و منه الى السلم لتصعد الى غرفتهما، و بدون تفكيرٍ متعقل، أخذت حقيبة ملابس من خزانة الدولاب و هي تلقي بها على السرير، آخذة ملابس عشوائية من الدولاب لتلقي بها في الحقيبة المفتوحة، وهي تلهث غضبا بوجهٍ محمر و شعرٍ منفلت حول وجهها بفوضى، الى أن سمعت عاصم وهو يدخل الغرفة و يغلق بالباب بعدها بلحظاتٍ قليلة، ليعم الصمت الخطير قليلا دون أن تلقي عليه نظرة واحدة بينما هي تتابع عملها الى أن قال بذهول و تهديد (ماذا تعتقدين نفسك فاعلة؟).
قالت صبا دون أن تنظر اليه، (سأذهب إلى بيتي قبل أن تسلبوه مني، كان ارتباطنا غلطة من البداية، نحن على طرفي النقيض).
و لم تسمع صوتا من خلفها للحظات لكن و قبل أن تلتفت اليه كانت قدما طائشة قد ركلت الحقيبة بأكملها لتطوحها من على السرير، التفتت اليه صبا مذعورة وهي تتراجع الى الدولاب من خلفها و قد بدا مخيفا كوحشٍ هائج، لينقض عليها خلال لحظةٍ مكبلا خصرها بذراعيه يرفعها من على الأرض رغم مقاومتها المستميتة، حتى أصبح وجهها مواجه لوجهه الشرس وهو يهمس غضبا و بابتسامة شريرة (لا، لا يا زوجتي الحبيبة، على جثتي خروجك من هنا، أنتِ لي و ستظلين لي).
ثم انكب وجهه على وجهها يشبعها و يشبع نفسه شوقا مختلطا بغضبٍ أعمى بينما أخذت صبا تتملص من بين ذراعيه لينزلها أرضا وهي تهتف و تلهث بغضب و خوف (انزلني يا عاصم، لا يحق لك ما تفعل).
شدد عاصم على خصرها حتى كاد أن يقصمه وهو يقول ضاحكا بغضب و جنون (بل يحق لي أكثر، لقد تركتك ليلة أمس لأتأكد من بحثك المثير للشفقة خلفي، و إن أردت فمارسي كل ما تحبين من أدوار البطولة و التجسس، لكن هنا، هنا يا صبا، بين جدران هذا البيت، يمكنك اللعب هنا فقط، مفهوم يا طفلتي؟).
كان يشبعها هجوما عاطفيا بين كل تهديدٍ و آخر حتى شعرت بنفسها على وشكِ الإغماء بينما هو يتابع من بين شفتيها و أمام عنقها، (أما الليلة يا استاذة، فلن أترك لكِ مجالا للتفكير، مجرد التفكير بالإبتعاد عني)
صرخت صبا بقوةٍ وخوف و مشاعر غريبة (اتركني يا عااااااصم).
الا أنه ردا على أمرها، انحنى ليضع ذراعا أسفل ركبتيها و يرفعها معه ليتجه بها الى السرير ملقيا إياها عليه، وحين حاولت الهرب من الجهة الأخرى، لم تجد الفرصة وهو ينقض عليها مكبلا إياها، يغرقها بعواطفه العنيفة، لهثت صبا بخوف وانفعال تهتف (سأصرخ، سأصرخ يا عاصم إن لم تتركني).
رفع رأسه لينظر اليها بإبتسامةٍ شريرة وصدره يصعد و يهبط بعنف، ثم ضحك بخشونة ليقول بصوتٍ أجش (اصرخي حبيبتي ملء فيك، فوالله لو اجتمع أهل البيت كلهم أمام الباب لن أتركك الا و أنتِ زوجتي و لن تنالي الا إحراج نفسك).
ثم لم يدع لها فرصة للرد وهو يكتم أنينها المنفعل بقوة شفتيه الهائجتين، و في لحظاتٍ كانت صبا ترتجف بين ذراعيه وهي تشعر بأنها تدور في دوامة لا قرار لها، أجفلت الحاجة روعة من نومها على صوتٍ من بعيد، فاستقامت جالسة وهو تتعيذ بالله من الشيطان الرجيم، لترهف السمع لبعض الأصوات المكتومة و بعض الهتاف الغير واضح، فنزلت من سريرها وهي تضع شالها فوق كتفيها، لتخرج الى الممر الطويل، مرهفة السمع أكثر، و لم تحتج أكثر من لحظتين لتتسع عينيها املا و ترفع يديها داعية ربها، بينما اسرعت تتدحرج الى غرفتها قبل أن يراها أحد وهي تبتسم بسعادةٍ لا توصف هامسة وهي تهدىء نفسها (أجلي الزغاريد للغد يا روعة، امسكي فمك قليلا و اتركيهم لحالهم الليلة).
نادت أحلام من الداخل، (حاضر، حاضر يا من تطرق الباب، لحظة واحدة)
وصلت الى الباب لتفتحه و الإبتسامة الحنونة ترسم محياها كما اعتادت، لكن وما أن نظرت للزائر الغير متوقع حتى بهتت ابتسامتها، ثم همست بخفوت (مرحبا يا جاسر، حمدا لله على سلامتك)
ابتسم جاسر دون ود و هو يستند بكتفه الى إطار الباب ليقول ببرود (متأخرة جدا يا أحلام، لقد وصلت من فترة كبيرة).
تركت أحلام الباب لتدخل وهي تقول بخفوت (اعذرني، فأنت لم تهتم للمجىء و زيارتي حتى الآن)
دخل جاسر خلفها بتكاسل بينما القسوة تحفر قسماته، فجلست أحلام برقةٍ الى أقرب أريكة وهي تنظر اليه بوجهها الحزين المرتدي ابتسامة باهتةقال جاسر بفظاظة (كل حقوقك تصلك، اليس كذلك؟)
أخفضت أحلام عينيها وهي تأخذ نفسا هادئا ثم همست بشكرٍ باهت (نعم يا جاسر، لا تقلق).
الا أن جاسر لم يهدأ و لم تلن ملامحه، بل وقف أمامها كالطود الهائل و اضعا كفيه على وركيه، وهو ينظر اليها بقسوةٍ ليقول بعد عدة لحظات بنبرةٍ خطيرة (ماذا يفعل ابن رشوان بمجيئه الى هنا بين حينٍ و آخر؟)
لم تهتز ملامح أحلام وهي تنظر اليه بترفع رافعة ذقنها و إباء، ثم قالت بهدوءٍ (يطمئن على من فترةٍ لأخرى، هل هناك مانع؟).
أنزل جاسر يديه وهو يقترب منها بعنفٍ ليهدر (هناك الف مانع، بأي صفةٍ يتردد على البيت في غياب رجلٍ له؟، كيف تصلني أخبار زياراته المتكررة له من أحد صبياني؟)
مرة أخرى لم يرمش جفن لأحلام وهي تراقب جنونه، لتقول بهدوء بعد أن انتهى (لن أنزل من مستواي الى مستوى أحد صباينك و الذي ينقل لك أخباري، لو كنت مهتما حقا لكنت جئت بنفسك لتسأل عني و تسألني بما أن الأمر يهمك الى هذا الحد).
ضحك جاسر ضحكة خشنة وهو ينظر اليها بشراسةٍ و غضب (هل تريدينني أن أترك أشغالي لآتي اليكِ و نتسامر كذلك العاطل؟، لا تغيري الموضوع يا أحلام، كيف تجرؤين على استقباله هنا و أنت بمفردك؟، ماذا يقول أهل الحي عن سمعتنا،؟، بعد أن مات زوجك)
قامت أحلام من مكانها منتفضة و هي تصرخ ببأسٍ مفاجىء لتقاطعه (أخرس، ولا كلمة أخرى، كيف تجرؤ على توجيه هذا الكلام لي؟، كيف تجرؤ؟).
تراجع جاسر قليلا، الا أن القسوة لم تغادره و رفض الإستسلام وهو يهتف بغضب (فيما تجادلين؟، لقد قللتِ من اسمي و اسم والدي في الحي كله).
صرخت أحلام بقوة (اخرس، احلام سمعتها معروفة لدى الجميع، و تلك اأفكار القذرة لا تتسرب الا لنفوسٍ قذرة أنا لا أعرفهم و لن أعرفهم يوما، بيتي دائما مفتوح للجميع و لو كنت تأتي لرؤيتي بدلا من المال الذي يأتي به أحد رجالك ليرميه إلى كالإحسان، لكنت عرفت بأنني لا أسكن و حدي و أن الجميع يأتون للإطمئنان على بعد وفاة والدك).
رفع جاسر إصبعه مهددا وهو يهتف بجنون (اسمعي، هي كلمة واحدة، ابن رشوان لو خطا بقدمه عتبة هذا البيت فستكون نهايته على يدي، يبدو انك نسيتِ ابنتك و تأقلمت في حياتك ناسية من هو ابن رشوان).
مدت احلام يدها لتستند الى ظهر المقعد كي لا تقع بعد أن ارتخت ساقيها، وهتفت بينما الغصة تخنق كلماتها (اياك ان تذكر ابنتي، لا احد منكم جميعا يجرؤ على ذكر طفلتي، وماذا فعلتم انتم لها؟ سوى ان اخذتكم ضعائنكم تجاه بعضكم ليتحول الامر لمبارزة بينكم، فرصة و جاءت لتنتقمو مدعين الحزن على طفلتي).
امتلأت عينيها بالدموع و اختنق صوتها بتحشرج بكاء وهي تتابع بكلماتٍ متهدجةٍ شاردة بعيدا، (طفلتي، سنين و أنت تتقاتلون مرة. و تتصالحون مرة، كل منكم كان يفكر في مصلحته دون أن يسال احد عني أنا، و طفلتي)
شهقت باكية بقوة وهي تقول بصعوبة (تظنون انكم اخذتم حقكم، وماذا كان؟ وممن؟، من طفلة اخرى أتفقتم ان تتحمل الامر كله لترضو به ضمائركم، بينما كل ما كان يشغل بالكم هي اعمالكم و تجارتكم و خسائركم).
اخذت تبكي بصوتٍ خافت وهي تهمس في دنيا بعيدة عنه (جاسر يتزوج حنين الصغيرة، التي كنت اطعمها بنفسي مع نوار، وهكذا حلت الامور يا احلام، فليطمئن بالك يا أحلام، جاسر يرحل و يترك حنين قبل زفافهم، و اياك الاقتراب او التدخل يا احلام، وهل عادت نوار بعد ذلك كله؟).
نظرت اليه بغضبٍ يناقض دموعها التي اغرقت وجهها وهتفت بقسوة (كنتم جميعا من بيدكم الحل و الربط، انت ووالدك و حتى والدتك، بينما أنا، أنا، تركتوني برفقة صورتها مهملة أنتظر الموت في كل لحظة، و الآن تجرؤ على اخباري من يكون ابن رشوان؟).
تابعت أحلام لتقول بقوة (أنا سأخبرك من يكون ابن رشوان، يكون الشخص الوحيد الذي أدرك المي و تجرعه معي قطرة قطرة، وهو يحمل نفسه ذنبا لم يرتكبه أبدا، في حق الطفلتين معا، ليرد دين الطفلتين معا)
كان جاسر قد بدا في التراجع تماما عن غضبه و قسوته عليها بعد ان سمرته بانهيارها، الا أن جملتها الأخيرة جعلته يتنبه فجأة بكل حواسه، ليقول بعد صمتٍ طويل (ماذا تقصدين برد دين الطفلتين؟، أتقصدين حنين؟، وما دخله بها؟).
قالت أحلام وهي تمسح دموعها بيدها و تنظر اليه بعينين نازفتين ألما و إتهاما (مالك خطب حنين، و أنا لم أحتاج للذكاء لأربط التوقيت بتوقيت رجوعك من السفر).
نظر جاسر أمامه و من يراه في تلك اللحظة، يعرف أن الشيطان قد اطلق سراحه، نظرت حنين الى اسمه المضيء في شاشة الهاتف، اغمضت عينيها وهي تدعي عدم سماعه فربما يأس و تركها، الا أن الرنين استمر و استمر، زفرت بقوةٍ وقلبٍ مهموم، ثم وضعت الهاتف على اذنها لترد بخفوت، فوصلها صوته العميق هادئا، هادئا جدا و خطيرا (كيف حال صغيرتي التي تريد التحرر مني؟)
أخذت حنين نفسا عميقا ثم ردت بضعف (ماذا تريد؟).
ضحك ضحكة خشنة ثم صمت، فتوجست حنين قليلا الى أن قال بهدوء (أمامك خمس دقائق لتكونين أمامي عند الباب الخلفي)
استقامت حنين جالسة منتفضة في فراشها و هي تهتف برعب (يا مجنون، ليس ثانية، ارحل من هنا حالا، ارجوك أنت تتلاعب بعمري بتلك الطريقة، أرجوك)
عاد جاسر ليضحك بخفوت ثم قال (اردت أن اعوضك عن المرة السابقة، سأحررك كما طلبتِ و دون شروط يا حنين، حتى تدركين قيمتك عندي)
عقدت حنين حاجبيها بشدةٍ وهي تهمس (ماذا؟).
رد جاسر بهدوء (سألقي عليكِ اليمين و دون شروط، سأستغل فرصة الثقة التي منحتها لي، لأتقدم لكِ بعدها و نعقد قراننا رسميا)
أمسكت حنين بالهاتف بيديها الصغيرتين معا، وقالت بترجي (هل تتكلم بصدق يا جاسر؟)
رد جاسر مباشرة (هيا انزلي، سنذهب إلى بيتنا حيث ينتظرنا هناك اثنين من رجالي و هما كاتمي اسرار فلا تخافي).
ظلت حنين متشبثة بالهاتف طويلا و هي لا تكاد تصدق نفسها، هل سيحررها بالفعل و بدون شروط؟، هل بالفعل لديه بوادر انسانية؟، همست حنين بتلعثم و انفعال (و لماذا البيت؟، انه بعيد يا جاسر أرجوك، أيمكن أن يتم هذا أمام الباب الخلفي حتى لا اخرج من البيت؟)
سمعت ضحكة عالية بينت لها مدى غبائها، فعضت على شفتها وهي لا تعلم كيف التصرف، الى أن سمعت صوته مطمئنا (تعالي ولا تخافي، الم أعيدك في كل مرةٍ خطفتك بها؟).
ارتعش جسدها من كلمة خطفتك، الا أنها لم تطل التفكير، فربما كانت الليلة نهاية عذابها، لذا همست بتلعثم (خمس دقائق و أكون عندك).
ثم أغلقت الهاتف لترتدي أحد فساتينها القطنية البسيطة، و بالفعل خمس دقائق و كانت تجلس بجواره في السيارة التي انطلقت بهما، بعد حوالي النصف ساعة بقيادة جاسر المجنونة، كانت حنين في ذلك البيت الساحلي الضخم الذي اتت اليه مرة من قبل، دخل جاسر إلى البهو الضخم بينما وقفت حنين عند الباب تتلاعب بأصابعها بتوتر، فالتفت اليها جاسر مبتسما ناظرا إلى عينيها نظرة بعثت رعشة في اطرافها، ثم اشار اليها بسبابته لتتبعه للداخل، فتبعته حنين بصمت الى أن دخل بها إلى مكتبه، دخلت حنين الى المكتب الخالي، ثم التفتت الى جاسر تتلاعب باصابع يديها بعصبية وهي تهمس بقلق (أين هما؟).
لكن و قبل ان يرد، داهمتها نفس الذكرى من عشر سنوات، و كأنها ظاهرة رؤية نفس الموقف من قبل، لكن مع اختلاف الأماكن، وقفت متسمرة مكانها و عيناها تريان الذكرى بكل تفاصيها و الخوف يزداد على ملامحها تدريجيا، الى أن قال جاسر بصوتٍ هامس مرعب (حنيني، حنيني، الوقوع في نفس الفخ حماقة لا تغتفر).
شهقت حنين عاليا و اتسعت عيناها ارتياعا و رعبا، واخذت تتراجع للخلف بسرعةٍ وتعثر بينما هو يتقدم اليها ببطءٍ كنمر يستعد للقفز على فريسته، صرخت حنين برعب و قفزت تريد تجاوزه لتهرب الا أنه أمسكها في لحظةٍ واحدة ٍ ليحملها بين ذراعيه ضاحكا بشراسة، ليتجه بها الى الأريكة و يلقيها عليها بفظاظة، وحين حاولت النهوض و هي تصرخ و قد بدأت دموعها في الإنهماركان وزنه الضخم قد ثبتها وهو يرفع يديها المتصارعتين فوق رأسها، قاتلا اي أملٍ لها في النجاة، أخذت حنين تبكي و تشهق عاليا و هي تترجاه بلغةٍ غير مفهومة من شدة الرعب، الا أن جاسر بدا كالشيطان وهو ينظر لرعبها بتشفي ليهمس في اذنها ضاحكا بخفوت (اذن، السيدة خطبت لإبن عمها، لكن هناك عقبة صغيرة، أنها متزوجة، لذا فلتضحك على مسامع الزوج المغفل بكلماتٍ ناعمة عن معنى الثقة لتتحرر منه، اليس كذلك؟).
أخذت حنين تبكي و تبكي وهي تحاول القاومة و التملص دون جدوى وصرخت برعب من بين بكائها العالي (لا، لا يا جاسر اقسم انني لم أكن لاتزوج مالك، لقد فرضو الأمر علي، وكنت صادقة حين طلبت منك طلبي و لم يكن مالك في حساباتي وقتها).
الا أن ملامح جاسر لم تلن وكأنها لم تنطق أبدا، بل نظر اليها مبتسما ابتسامةٍ شيطانية وهو منتشيا من كلِ ذرةٍ من مقاومتها اليائسة من تحت وزنه، ثم همس بشر (و سأتأكد من أن أحدا لن يكون في حساباتك بعد الآن غيري أنا)
مد يده ببطءٍ متعمد ليحل أزرار ثوبها واحدا تلو الآخر فأغمضت حنين عينيها و صرخت عاليا، عاليا جدا حتى شقت بصراخها عنان السماء.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى