روايات

رواية ماسة وشيطان الفصل الثالث عشر 13 بقلم نرمين نحمد الله

موقع كتابك في سطور

رواية ماسة وشيطان الفصل الثالث عشر 13 بقلم نرمين نحمد الله

رواية ماسة وشيطان الجزء الثالث عشر

رواية ماسة وشيطان البارت الثالث عشر

ماسة وشيطان
ماسة وشيطان

رواية ماسة وشيطان الحلقة الثالثة عشر

_زواج بهذه السرعة يا عزيز؟!!
هتفت بها رحمة بدهشة وهي جالسةٌ جواره على الأريكة في صالة منزلها البسيط…فتنهد بحرارة قبل أن يقول باستسلام:
_نعم يا أمي…للأسف أبي ورطني في الأمر…كنت أنتوي مجرد خطبة حتى أستطيع تقبل الأمر على الأقل لكنه فاجأني أمام والدها بطلبه للزواج مباشرة بعد أسبوع.
اتسعت عيناها بصدمة للحظة قبل أن تهز رأسها مغمغمة بأسف:
_كنت أتمنى لو أبارك لك زواجك وآضمك لحضني كما تفعل كل أم مكاني…لكن كيف أفعلها وأنا أراك لست سعيداً بهذه الزيجة .؟!!
ابتسم في مرارة وهو يقترب منها ليضع رأسه على صدرها هامساً بحزن:
_سأتجاهل صوت قلبي يا أمي وأستمع لعقلي هذه المرة…ميادة فتاة جيدة …إذا كنتُ عجزت عن الحصول على السعادة فمن يدري…ربما منحتها لغيري.
ضمته إليها بقوة وهي عاجزة عن الرد…
هي ليست راضيةً عن شخص ابنها -الضعيف – نتاج تربية أبيه المتسلطة….
ربما لو كان تربى في حضنها هي لكانت صنعت منه رجلاً قوياً يعرف كيف يدافع عن قراره…
لكن نشأته المرفهة الباذخة في كنف أبيه جعلت منه هذا الكيان الضعيف المهتز رغم حنان قلبه اللا محدود…
هذا الكيان الضعيف الذي لا يجيد الوقوف سوى على أرضٍ ممهدة كالحرير..
لم يكن يوماً ك-ماسة – التي علمتها كيف تستقر خطواتها ولو على أرض صخرية حادة…
أو طينية لزقة…!!!!
أغمضت عينيها بقوة عندما تذكرت ماسة تقاوم دموع حنينها إليها…
ترى كيف حالها الآن…؟!!!
أين تعيش؟!!! ومع من تعيش؟!! بل ….كيف تعيش؟!!!
وكأنما شعر عزيز بها فقد رفع رأسه إليها ليسألها برجاء:
_ألم تعرفي شيئاً عن ماسة بعد؟!!! ألم تتصل بكِ؟!!
أشاحت بوجهها عنه تخفي دموعها فعاد يقول برجاء أقوي:
_أرجوك يا أمي أخبريني لو كنتِ علمتِ عنها شيئاً.
عادت تلتفت نحوه بإشفاق بدا واضحاً في عينيها الحنونتين…
قبل أن تضم رأسه لصدرها من جديد هامسةً بحكمة:
_ماسة ستعود لي يوماً يا عزيز…حضن رحمة وطنها الذي ستعود إليه مهما اغتربت …لكنها أبداً لن تعود إليك…
ثم صمتت لحظة لتردف بنبرة أكثر حسماً:
_ما بينكما كان أشبه بكأسٍ من لبن…سقطت فيه قطرة خمرٍ فدنسته للأبد.!
========
وقفت ميادة أمام مرآتها تتأمل نفسها في ثوب الزفاف الأبيض الفخم…
والذي اختارته من أرقى بيوت الأزياء الباريسية…
الليلة ليلةٌ حاسمةٌ …
ليلة انتصارها على “قلب الشاعر”!!!
نعم…الليلة تكسب رهان عقلها كالعادة وتنتزع عزيز من ماضيه – الباهت- لتجذبه لعالمها الزاهي بألوانه…
فتحت والدتها باب الغرفة لتدخل وهي تبتسم بسعادة متفحصةً إياها بإعجابٍ صارخ…..فالتفتت إليها ميادة لتقول بفتور لم تتعمده:
_ما رأيك؟!! هل أبدو جميلة؟!!
دمعت عينا الأم وهي تندفع لتضمها إليها بقوة هامسة وسط دموعها المنهمرة:
_بل جميلة الجميلات يا ابنتي.
تيبس ذراعا ميادة جوارها تقاوم احتضان والدتها كما العادة واكتفت بوقفتها الجامدة حتى رفعت والدتها رأسها إليها لتهمس وهي تتأمل ملامحها بعاطفة جياشة:
_ما أشبهكِ بي ليلة زفافي…سبحان الله…كأنني أتطلع لنفسي في المرآة ليلتها.
ابتسمت ميادة بسخرية لاذعة وهي تميل رأسها قائلة:
_أي ليلة تقصدين؟! الأولى أم الثانية؟!!
أغمضت الأم عينيها بألم وهي تخفي حسرتها متجاهلةً سؤالها المهلك…
ابنتها لم تنسَ لها فعلتها…ويبدو أنها لن تفعل…!!!
لكنها تغلبت على شعورها بالخيبة متجاهلةً عبارتها القاسية وهي ترفع إليها كفها ب”دبوس” ماسيّ فخم على شكل فراشة أنيقة…قائلةً بحنان:
_هذه كانت أولي هدايا والدكِ لي…يومها تمنيتُ لو يرزقني الله بفتاة ويمنحني العمر الطويل حتى ألبسها إياه بنفسي.
اشتعلت عينا ميادة بغضب عاصف ثم جذبت “الدبوس” بعنف لتكسره وتلقيه جانباً …قبل أن تهتف بحدة :
_الفراشة ينكسر جناحاها عندما تعشق يا سيدتي…ألم تتعلمي هذا الدرس بعد؟!!
تراجعت الأم بظهرها مبهوتةً من قسوة ابنتها التي تزداد يوماً بعد يوم…
بينما أردفت ميادة وهي تلوح بسبابتها في وجهها مردفة بنفس الحدة:
_لا حاجة لي بفراشات الحب هذه…أنا كفرتُ به من زمن…ولن تزلّ قدمي بشراكه مثلك.
لم تتمالك الأم دموعها وهي تسمع هذا منها …
وفي هذه الليلة بالذات…!!!!
هذه الليلة التي تتمناها كل أم لابنتها كي تراها ملكةً متوجة على عرش الحب…
لكن ابنتها حالةٌ خاصة للأسف…
ومع هذا هي لا تلومها…فهي صنيعة يديها هي ووالدها…
هما تركاها في أشد حاجتها إليهما والآن يدفعان الثمن!!!
لكنها هي الأخري تدفعه معهما…حمقاء مكابرة تظن نفسها كافرة بالحب والمشاعر وهي أحوج ما تكون إليهما!!!
ولم يكن هذا رأيها وحدها…
بل كان هذا ما يدور برأس عزيز أيضاً وقد أتى به القدر في هذه اللحظة ليستمع -مصادفةً-للحديث من أوله…
تنحنح بحرج وهو يلقي السلام…
فالتفتت إليه والدتها بارتباك وهي تمسح دموعها هاتفةً بمرح مصطنع:
_تعال يا ابني…ميادة تسألني إن كانت تبدو جميلة أم لا…ما رأيك أنت؟!
تقدم عزيز نحوهما ملتقطاً عيني ميادة المتنمرتين باشتعالٍ بعيد عن برودتهما المعتادة…
ليبتسم بحنانه المعهود قائلاً بهدوء:
_الأمر لا يحتاج لرأي.
ابتسمت والدتها وهي تربت على كتفه قائلةً بطيبة :
_بارك الله لكما يا ابني…هيا كي لا نتأخر على القاعة.
قالتها ثم غادرت الغرفة بسرعة وهي تخاف أن تخذلها دموعها من جديد…
فانحنى عزيز ليتناول ال”دبوس” المكسور من على الأرض…ثم وضعه في جيبه ببساطة قبل أن يقول لها بعتاب رفيق:
_لماذا تعاملين والدتكِ هكذا؟!!
أشاحت بوجهها دون رد..فأحاط وجنتها براحته يدير وجهها إليه قائلاً بحنان عاتب:
_أنا أيضاً تربيتُ بعيداً عن والدتي…لهذا اعتبرتها هدية السماء عندما عدت إلى حضنها الدافئ.
ازدردت ريقها بتوتر غريب على ثباتها المعتاد وهي تقول باقتضاب:
_ظروفنا مختلفة يا عزيز…من فضلك لا أحب الحديث عن هذا الأمر.
التمعت ينابيعه الزمردية بالحنان وهو يري هذا الجانب ال-خفيّ-من روحها…
والذي تحاول دوماً أن تتجاهله رغم أنه الآن يوقن أنه سبب شخصيتها الغريبة…
جانب الطفلة -المُهمَلة -التي نسيها أبواها خلفهما ورحلا…
ولما يأست من أن يعيدهما صراخها صمتت للأبد!!
كانت نظراته تحمل لها الكثير من المشاعر -اللا مُسمّاة- لكنها لم تفهمها…
لقد عودت نفسها منذ زمن أن تكون غنيةً عن كل هذا…وألا تفتقر إلى أحد…أي أحد!!!
ومسكينٌ من يجرب الفقر بعد الغني!!!
لهذا تجاهلت فيوض الحنان العذبة بلمعة العسل في عينيه…لتتأبط ذراعه بحركة آلية وهي تقول بحسم:
_هيا بنا حتى لا نتأخر.
===========
دخلا سوياً إلي شقتهما بعد انتهاء حفل الزفاف…فالتفتت إليه لتقول بلهجتها العملية:
_سأبدل ملابسي وأنتظرك في غرفتنا.
ابتسم رغماً عنه وهو يهز رأسه!!!
في ظروفٍ أخري كان سيتعجب من ردودها الغريبة…
لكنه الآن لم يعد يستغربها…الآن هو يفهم لماذا صارت هكذا…
ظل واقفاً مكانه للحظات يتابع خطواتها الواثقة نحو غرفتهما بشرود…
قبل أن يرفع كفه أمام وجهه يتأمل دبلته الفضية الجديدة…
لقد صار زوجاً…!!!
زوجاً لامرأة ليست ماسة…ماسة التي أضاعها بجبنه وتردده…
أم تراهم هم الذين اختطفوا فرحته بها يوم فعلوا بها ما فعلوه…؟!!!
أغمض عينيه بألم وهو يسترجع شعوره ليلتها…
ليلة علم بما حدث لها…
يظنون أنها وحدها من انتُهكت تلك الليلة؟!!!
لا…هو أيضاً انتُهكت رجولته ألف مرة…
في كل ساعة كان يتخيل فيها ما حدث…
في كل ساعة كان يرى فيها صورتها -برأسه -معهم ويكاد يسمع صدى صرخاتها…
في كل ساعة كان جسده يقشعر لتسري دماء الغضب في أوردته وهو يدرك أن يداً أخري سبقته لملامستها…
حتى وهو يعلم أنه كان رغماً عنها…لكنه كان يحترق بنيران غضبه وعجزه…!!!
عجزه عن حمايتها من ألسنة الناس بعد الحادث…
وعجزه عن مواجهة أبيه برغبته في الزواج منها بعدما حدث…
وعجزه عن النظر في عينيها -هي نفسها – بعدها …
بل وعجزه حتى عن النظر لنفسه في المرآة وهو يري نفسه بهذا الضعف الذي كرهه لكنه لم يملك غيره!!!
شعورٌ رهيب لن يعرفه إلا من ذاق خزيه ومرارته!!!
تنهد في حرارة وقلبه يشتعل بالشوق لماسته من جديد…
لكنه توجه ببصره نحو غرفته -الجديدة- فزفر بخفوت…قبل أن يتوجه إليها بخطوات متثاقلة…
حيث كانت هي تنتظره هناك كمثال مجسدٍ للفتنة…
بقميصها الناعم شديد الأنوثة والإغراء…
وشعرها المنسدل بتموجٍ مغوٍ…
وعطرها الذي لم يكن أقل إغواءً…
تأملها ببصره في إعجاب لا يُلام عليه للحظات…ثم تقدم منها ليمسك كتفيها متعلقاً بنظراتها الأبنوسية ذات اللمعة الآسرة…والتي بدت له الآن مختلفة بظلالٍ من حزنٍ لم تخفَ عليه…
فاقترب بوجهه أكثر ليقبل جبينها برفق قبل أن يهمس بصوتٍ دافئ اخترق قلبها بصدقه:
_لا أدري إن كنتِ ستفهمينني أم لا…ولا أدري إن كان طريقانا سيلتقيان يوماً أم أننا فقط نكابر…ولا أدري إن كنتُ ظلمتكِ معي أم ظلمت نفسي أكثر…لكن ما أدركه بحق أنني أريدكِ سعيدة.
خفق قلبها بجنون لأول مرة في حياتها بهذا الشعور المتلألئ الشفاف وهي تسمع عبارته الأخيرة…
وازدادت خفقاته جنوناً عندما أراح رأسها على كتفه ليردف بنفس النبرة الدافئة:
_ضحكتكِ تبدو ساحرة لكنني لم أحسها يوماً صادقة…والآن أراهن نفسي أن أرسمها بيدي يوماً ما كما أتمناها.. بريئةً….مشرقةً…حارةً…كضحكة طفلةٍ لم تعرف شيئاً بعد عن هموم الحياة.
اشتعلت أعماقها باحتياج صارخ لهذا الحنان الذي يصب كالسّيل من كلماته…
لكن عقلها أعلن نفير الحرب على هذا العدوان الغاشم على حصونه….فرفعت رأسها نحوه لتقول بلهجتها الباردة العملية:
_إذا كنتَ تقول هذا لأجل الذي سمعتَه بيني وبين أمي ف…
وضع سبابته على شفتيها مقاطعاً حديثها ليهمس بحزم حنون:
_ولهجتكِ الجليدية هذه…لم تعد تثير ضيقي كالسابق…الآن أدرك أنها مجرد قشرة رقيقة تخفي براكين عاطفة تخاف الظهور للنور.
ابتسمت بسخرية وهي تبتعد عنه لتقول بجمود:
_يؤسفني أن أخيب توقعاتك إذن أيها الشاعر…اتفاقنا من الأول كان واضحاً…زواجنا مجرد صفقة رابحة…وبصراحةٍ أكثر…لو وجدتها خاسرةً يوماً فسأنسحب منها بكل بساطة.
ارتفع حاجباه للحظة بدهشة…ثم قال بمرح وقد غلبته طبيعته المشاكسة:
_حديث مبهج جداً في ليلة كهذه!!!
تحولت ابتسامتها الساخرة لأخري حقيقية وهي تشيح بوجهها للحظات…
قبل أن تعاود التفاتها إليه لتلمح نظرات إعجابٍ بعينيه تطوقها بحرارة لافحة…لكن إعجابه عاد يتواري خلف التردد الذي غلف نظراته ببطء…
لتقرأ -بذكائها-فيهما ما لم يجرؤ على البوح به…!!!!
ابتعدت عنه خطوة وهي تعقد ساعديها أمام صدرها مميلةً رأسها بدلالها الممتزج بسخريتها لتقول :
_قلب الشاعر يخفق بصدره الآن معلناً عصيانه على خيانة محبوبته القديمة .
كانت عبارتها أقرب للجواب منها للسؤال…
ورغم إعجابه الدائم بذكائها لكنه كان يشعر بالحرج منه هذه المرة…
لقد قرأت بحدسها ما كان يدور بباله منذ بداية هذه الليلة…
بل منذ ورطه والده في هذه الزيجة من البداية…
لهذا أطرق برأسه دون أن يجد رداً مناسباً…
لكنها لم تنتظر رده فقد ابتلعت خيبتها بسرعة وتقبلت هزيمتها -المؤقتة-ببراعة…
لتتوجه نحو فراشهما فتتدثر بغطائها قبل أن تقول -بالانجليزية- بحسم:
_كما تحب أيها الشاعر…تصبح على خير.
عقد حاجبيه بدهشة ممزوجة بالضيق للحظة وهو لا يكاد يصدق انتهاء الحوار بينهما هكذا ببساطة!!!
ثم خلع سترته ليتوجه نحو شرفة الغرفة لعل نسائم الهواء تخفف بعضاً من لهيب صدره…
استند على السور بساعديه وهو يرفع بصره نحو السماء لعله يري صورة ماسته على وجه القمر كعادته…
لكن السماء بدت وكأنها تعانده -مثل مصيريهما – فقد كانت مظلمةً تماماً…
بلا قمر ولا نجوم…!!!!
زفر زفرة مشتعلة وهو يشعر بضياع غريب…
فتناول هاتفه لعله يفرغ مكنون صدره في خواطره كالعادة لكنه -للعجب-لم يستطع الكتابة…
وكأن فقر قلبه وروحه قد انتقلت عدواه لكلماته…!!!!
هز رأسه بقنوط ثم عاد للغرفة ليبدل ملابسه …قبل أن يندس جوارها في الفراش ملقياً نظرةً عابرة على وجهها النائم ليتنهد بعدها تنهيدة حارة ظنها نهاية هذه الليلة الغريبة…
لكنه قام من نومه بعدها ببضع ساعات على أنينها المتوجع جواره…فانتفض جالساً ليهتف بجزع:
_ما الأمر يا ميدا؟!! ماذا بكِ؟!!
ارتسم الألم واضحاً على ملامحها وهي تهمس بصوت متقطع :
_حقنة “…….” بسرعة يا عزيز …أنا نسيتها في بيت أمي.
قام من الفراش بسرعة وهو يهمّ بتبديل ملابسه للخروج لإحضارها….
لكنه تناول هاتفه ليقول بسرعة :
_لن أتركك وحدكِ …سأطلبها من الصيدلية..لا تقلقي سيحضرونها بسرعة.
أتبع قوله بفعله ثم أغلق الاتصال ليسألها بقلق:
_ما الذي يؤلمك بالضبط؟!
تأوهت بخفوت وهي تضع كفها على بطنها لتهمس بصعوبة:
_لا تقلق…إنها نوبات متقطعة من المغص تزول بحقنة مسكنة…الطبيب يقول أن معدتي حساسة للانفعال…أمر بسيط.
عقد حاجبيه بقلق ثم أمسك كفها يربت علىه برفق..
ولم تمضِ بضع دقائق حتى وصل الدواء فقد كانت الصيدلية أسفل المنزل لحسن الحظ…
وبعد أن أعطاها الحقنة جلس جوارها ليربت على كتفها قائلاً بحنان:
_لعلها لم تؤلمك…أمي دوماً تقول أنها لا تؤلمها من يدي.
ابتسمت بشحوب وهي تسند رأسها على وسادتها هامسة بصوت متعب:
_هل تعلمتَها لأجل والدتك؟!!
أومأ برأسه إيجاباً ثم قال باستطراد:
_أمي تحتاج لثلاث حقنٍ أسبوعياً…ماسة كانت تتولي هذا الأمر…لكن بعد رحيلها تعلمته أنا لأجلها.
ضاقت عيناها بإدراك و هي تتذكر هذا الاسم- الذي كتبت صاحبته- تعليقاً ما يوماً على خاطرته التي نشرها على مدونته…
نعم…كان اسمها ماسة…!
هي تتذكر الاسم جيداً…!!
لهذا سألته بترقب:
_من ماسة؟!
تنهد بحرارة ثم قال باقتضاب:
_إنها ابنة والدتي المتبنّاة.
التمع الفضول في عينيها وقد ظهر الاهتمام في صوتها وهي تسأله:
_ولماذا تتبنى والدتك طفلة؟!!
احتضن كفها برفق ليبتسم بحنان وهو ينظر لعينيها قائلاً:
_قصة قديمة…لا تشغلي بالكِ…هل أنتِ الآن أفضل؟!!
عاد قلبها يخفق من جديد وأمطاره الزمردية تنبت الزهر بين صخور روحها الجامدة…
لتجد نفسها تهمس بشرود دون وعي:
_إنها المرة الأولي التي يكون معي فيها أحد عندما تنتابني هذه النوبات.
ارتفع حاجباه بدهشة وهو يسألها مذهولاً:
_معقول؟!!
أومأت برأسها إيجاباً ثم أغمضت عينيها لتهمس :
_بدأت معي منذ بداية سفري ل”أميريكا”…وقتها كنت أقيم وحدي فتعلمت كيف أعطي الحقن لنفسي أمام المرآة حتى لا أحتاج لمساعدة أحد…وعندما عدتُ إلي مصر حافظتُ على هذه العادة حتى مع إقامتي مع أمي…بل إنها حتى لا تعرف عنها شيئاً.
أومأ برأسه في إدراك وهو يشعر أنه يقترب من فهمها أكثر فأكثر…
هذه امرأة عانت من وحدتها حتى ألفتها …
بل ..أدمنتها!!!
فما عادت ترغب في أن يقترب منها أحد…وكأنها بهذا تحمي نفسها من مرارة الشعور بالنبذ من جديد…
وياله من شعور قاسٍ…!!!
أقسى بكثير من واجهتها الصلبة التي تواجه الجميع بها…
وهي بداخلها مجرد طفلة…نسيها أبواها في الظلام!!!
========================
فتح باب الشقة برفق وأضاء أنوارها…
ثم عاد يسند كتفيها وهو يقول برفقٍ لا يخلو من خشونته المعتادة:
_ابقي هنا حتى أحضر الحقيبة من السيارة.
أومأت برأسها في طاعة وهي تجلس على أقرب كرسي وجدته كاتمةً أنّات ألمها..بينما كانت عيناها تتأملان الشقة حولها بفضول لا يخلو من توجس!!!!
تركها هو ليخرج …فتنهدت في حرارة وهي لا تدري أيهما يؤلمها أكثر…
جسدها…أم رأسها الذي أرهقه التفكير…؟!!!
لماذا جاء بها إلى هنا؟!!!وما الذي ينتوي فعله بها؟!!!
هل كان جاداً فيما قاله لوالدته عن تركه للمنزل معها؟!!!
هل كان صادقاً في دفاعه عنها؟!!!أم أنها مجرد وسيلة لانتقام جديد؟!!!
شعرت بألمٍ حاد في ظهرها فسمحت لأنّاتها المكتومة بالتحرر…وهي تعض على شفتها بألم مغمضةً عينيها بقوة…
لم تدرِ كم ظلت على هذا الوضع…لكنها فتحت عينيها عندما شعرت بكفيه على كتفيها يرفعانها إليه برفق…
خفضت بصرها عنه بسرعة وهي تعود تكتم أنّاتها من جديد…
ثم سارت معه حتى غرفة مجاورة أجلسها على حافة فراشها وهو يقول بنفس النبرة الخشنة:
_سنقيم في هذه الشقة من اليوم…لقد اشترىتها من فترة للتجارة بها…كنت أؤجرها مفروشة للطلبة…ومن حسن الحظ أنها خالية الآن…لكنها تحتاج لبعض التنظيف.
ازدردت ريقها بصعوبة وهي ترفع إليه عينيها بحذر تحاول استكشاف نيته …ثم غمغمت بوداعتها النقية:
_هل…أقوم لتنظيفها الآن؟!!
زفر بقوة وهو يشيح بوجهه عنها…
عن أي تنظيف تتحدث هذه الساذجة؟!!!!إنها بالكاد تقف على قدميها!!!!
لكنها لم تفهم ما يدور بخلده…فقط زفرته الحارة عادت تخنقها بالذعر من جديد …فتحاملت على نفسها لتقف هامسة بخوف:
_لا تغضب…أنا فقط كنت….
التفت إليها ليروعه كل هذا الخوف الممتزج بالألم في عينيها…وقد بدت كطفلة مذعورة!!!
كم يود الآن لو يضمها إليه فيمحو عنها كل مشاعرها هذه…ويبثها عاطفته التي لم يشعر بها لسواها…
لكنه لم يعد يضمن ردود أفعاله معها…كل ما فيه خارجٌ عن سيطرته أمامها…
قلبه…وروحه..وجسده..!!
ولولا بقيةٌ من تعقله – الذي بالكاد يجده معها-والذي يلجمّ كل هذا …لا يدري ما الذي كان سيفعله بها!!!!
أساءت فهم غضبه الواضح على ملامحه فخلعت حجابها بسرعة…ثم شمرت عن ساعديها وهي تغمغم بارتباك هاربةً من لقاء عينيه العاصفتين بالغضب:
_من أين أبدأ؟!!
ازداد انعقاد حاجبيه وهو يهتف بخشونة رغماً عنه:
_هل تظنينني أترككِ تفعلين شيئاً بحالتكِ هذه؟!!! اجلسي هنا واستريحي وأنا سأتولي الأمر.
ارتجف جسدها رغماً عنها وهي تومئ برأسها في طاعة…ثم عادت تجلس على طرف الفراش وهي ترمقه بنظراتٍ متوجسة…حتى خرج من الغرفة…
ظلت مكانها لوقتٍ ليس بالقصير وهي تسمع صوت حركته بالخارج…
كانت تعض على أناملها بتوتر وهي لا تفهم سر تصرفه الغريب هذا…
كم هو متناقضٌ في أفعاله…!!!
خشونة أقواله الفظة تناقض مروءة تصرفاته معها…
لكنها لازالت تخشى بطشه…بل إنها لم تشعر في حياتها بالرعب من أحد كما تشعر معه…
قطعت أفكارها عندما سمعت صوت باب الشقة الخارجي يغلق …
فقامت من مكانها بسرعة جعلتها تصرخ ألماً رغماً عنها…
لكنها تحاملت على نفسها حتى خرجت لترى ماذا هناك…
بحثت عنه في كل الغرف لكنها لم تجده…
توجهت لباب الشقة تحاول فتحه لكنه كان موصداً بالمفتاح من الخارج!!!!
وضعت كفها على شفتيها وهي تشعر بالخوف…!!!!
هل هذا ما كان يخطط له؟!!!هل ينتوي حبسها هنا وحدها؟!!!!
خفق قلبها بعنف ودموعها تسيل رغماً عنها تغرق وجهها وهي تتلفت حولها بذعر….
ثم انهارت جالسة على الكرسي جوار باب الشقة وهي تحتضن جسدها بذراعيها وتنشج بانهيار تام…
لم تدرِ كم مر عليها من الوقت هكذا…لكنها شعرت وكأنها في هذا المكان منذ ألف عام…
ظلت تبكي مكانها في عجز حتى سمعت صوت المفتاح في الباب فانتفضت واقفة وهي تتأوه بقوة…
عندما دخل هو ليفاجأ بانهيارها الباكي هذا…
أغلق الباب خلفه بعنف وهو يضع الأكياس التي كان يحملها أرضاً…ليسألها بغلظة لا تخلو من جزع:
_ماذا حدث؟!!! لماذا تبكين هكذا؟!!!
اختنقت كلماتها مع أنفاسها المذعورة وهي تضع كفها على صدرها ناظرة إليه بخوف كعادتها..
مما زاد غضبه أكثر …فقبض كفيه وهو يهتف بها بخشونة:
_تكلمي…لماذا تبكين؟!!!!
انتفض جسدها أكثر على هتافه وازدادت حدة بكائها وهي تشعر بأن قلبها يكاد يتوقف مع ارتجافة شفتيها الشديدة وهي تتمتم بصعوبة:
_لا شئ…لا شئ.
ظلت تتمتم بها في خوف هستيري وعيناها معلقتان به كمن ينتظر حكماً بإعدامه…!!!!
وهنا …
لم يتمالك هو نفسه فاقترب منها ليطوقها بذراعيه برفق وهو لا يجد ما يسعفه من كلمات….
ازدادت انتفاضة جسدها لوهلة…فظل يربت على رأسها حتى هدأت نوعاً…
وعادت أنفاسها لسكونها من جديد بعد بضع دقائق كاد يتوقف فيها قلبيهما معاً!!!!!
وأخيراً وجد هو كلماته ليغمغم ببعض الرفق:
_لماذا كنتِ تبكين؟!
لم يصله ردها للحظات…فابتعد برأسه قليلاً ثم رفع ذقنها إليه يتأمل عينيها الذابلتين بحرقة لا يدركها إلا عاشقٌ محروم مثله…
ثم انساب إبهامه رغماً عنه يتلمس طابع الحسن على شق ذقنها الذي طالما أثار جنونه…
فازدرد ريقه ببطء وعيناه تحتضنان ملامحها -الحبيبة-بلوعة ممتزجة باشتهاء…قبل أن يهمس بصوت متهدج:
_قولي ولا تخافي…لماذا كنتِ تبكين؟!!!
خفضت بصرها عنه هرباً من ملامحه التي تثير ذعرها…ثم تمتمت بصوت متقطع:
_ظننتك…ستحبسني هنا…وحدي!!
انعقد حاجباه بغضب من سوء ظنها فيه…
لكنها التفتت نحو باب الشقة مردفةً بنفس النبرة المختنقة:
_الباب…كان…مغلقاً…من الخارج!!
اتسعت عيناه في إدراك ثم تنحنح ليقول بما يشبه الأسف:
_لا بأس…إنه مجرد اعتياد…لقد تعودت إغلاقها بالمفتاح دوماً بعد خروجي ولم أنتبه أن هذا سيثير ذعركِ هكذا.
أطرقت برأسها وهي لا تجد رداً…
وكيف تفعل؟!!!
جسدها كله كان يستغيث ألماً وضعفاً وخوفاً…
حتى أنها ترنحت قليلاً بين ذراعيه…
فضمها إليه أكثر وهو يعاود التربيت على رأسها…
ثم سار بها مسنداً كتفيها حتى مائدة الطعام هناك ليجلسها برفق…
قبل أن يتوجه نحو أكياس مشترياته هناك فأحضرها ليرص أمامها الطعام على المائدة ….
ثم جلس جوارها وهو يقول بلهجة آمرة:
_لا تهاوُن بشأن طعامك من الآن فصاعداً…كلي جيداً..
أومأت برأسها في طاعة كعادتها معه…وهي تمد أناملها للطعام بتردد..
ولم تكد تضع أول لقمة في فمها حتى شعرت وكأنها ستغص بها !!!
اختلست نظرة خاطفة إليه…ثم عضت على شفتها وهي تشعر بالقهر…
فعادت تبكي رغماً عنها من جديد…
استغفر الله بصوت مسموع وهو يستدير بجسده نحوها قائلاً بضيق ومظهرها البائس هذا يدمي قلبه:
_لماذا تبكين ثانية؟!!!
رفعت عينيها إليه بحذر ممتزج بالخوف وهي تهمس بألم وسط دموعها :
_لست جائعة…لا أريد…جسدي كله يؤلمني…لم أعد أحتمل.
تنهد بحرارة ثم تناول الملعقة ليملأها بالطعام ويدفعها نحو فمها هامساً بلهجة آمرة:
_كلي ولو نذراً يسيراً حتى لا يؤذي الدواء معدتك.
فتحت فمها تتناول منه الطعام مجبورة…ولم تكد تتم ثلاث ملاعق حتى عادت تهمس برجاء:
_يكفي هذا …أرجوك…لم أعتد أن أزيد عن هذا!!
عقد حاجبيه بتفحص وقد لفتت عبارتها نظره لنحول جسدها المستحدث…
فأظلمت عيناه وهو يسألها بترقب:
_لم تشاركيني الطعام يوماً منذ تزوجنا…ألم تكوني تتناولينه أيضاً عند أمي طوال تلك الفترة؟!!!
أطرقت برأسها دون أن ترد …وقد وجدت من السخافة أن تصارحه بما كان يحدث…
ماذا يمكنها أن تخبره؟!!!
أنها كانت تقوم بعمل البيت كله دون راحة ودون طعام…؟!!!
نعم…كانت تستحي أن تأكل في بيت حماتها مع الطريقة السيئة التي كانت تعاملها بها…
وعندما كانت تصعد إلي شقتهما معه بعد العشاء كانت تستحي من مشاركته الطعام حرجاً وخوفاً منه…
فكانت تكتفي ببضع لقيمات في الصباح الباكر قبل نزولها إلي حماتها خاصة مع فقدانها للشهية مع كل هذه الضغوط…
لكنه استنتج بحدسه ما عجزت عن قوله …فخبط بكفه على المائدة وهو يهتف بغضب:
_لا أصدق…كنتِ تقضين اليوم كله بلا طعام؟!!! هل كنتِ تقتلين نفسكِ؟!!!
عاد جسدها لارتجافة خوفه وهي عاجزة عن مواجهة نظراته…
فأسند جبهته على أنامله للحظات يتمالك شعوره بالغضب منها….ولأجلها!!!!
لا يصدق أنها كانت تحتمل كل هذا بصبر ودون شكوى…
ولولا اكتشافه الأمر بالمصادفة لكانت استمرت في عذابها الصامت!!!
ساد الصمت بينهما للحظات كانت هي فيها مطرقة برأسها تكاد تفقد وعيها ألماً وخوفاً…
حتى التفت إليها ليقول بنبرة حاسمة:
_اسمعي هذا الكلام وافهميه جيداً….أنا لم أحافظ على زواجنا نكايةً بكِ أو عقاباً لكِ…بل فعلتها ابتغاء وجه الله…فلا تحمليني ذنبك…من اليوم تنتبهين لطعامك وصحتك …مفهوم؟!!!
أومأت برأسها دون رد…فقام من مكانه ليسند كتفيها حتى وصل بها إلي فراشها …
ثم قال بلهجة آمرة:
_استلقي على بطنك حتى أدهن لكِ ظهركِ بالمرهم كما قال الطبيب.
شعرت ببعض الخجل وهي تنفذ أمره…
لكن الألم الشديد الذي كانت تشعر به غلب أي شعورٍ سواه!!
استلقت على بطنها ليبدأ هو في دهن ظهرها بالمرهم الذي كتبه الطبيب…
كان جسدها ينتفض ألما مع تأوهاتها المكتومة تحت لمساته …لكنها لم تكن وحدها من يتألم!!!!
هو أيضاً كان غارقاً في ألمٍ من نوع خاص…
ألم لن يشعر به إلا من جربه…
ألم رجلٍ فقد حلمه في المرأة الوحيدة التي أحبها…
ولم يكن قبلها لسواها…لا بقلبه ولا بجسده…
واليوم تكون بين يديه …
زوجته حليلته ومع هذا لا يستطيع أن يمسها!!!!
ولن يستطيع…!!
ربما لو كانت امرأة أخري سواها لكان استجاب لرغبة جسده فيها…
لكنها هي بالذات لن يقبل فيها شراكة!!!!
هو رجلٌ لا يرتضي أن تسبقه لجسد امرأته يد…
فكيف بها هي وهي ليست أي امرأة؟؟؟
بل إنها هي…. هي!!!
من كانت في عينيه يوماً كل النساء!!!!
هو لم يكن يوماً من العابثين…
كانت حياته جادة ملتزمة منذ وعى على هذه الدنيا…
ورغم أنه كان أصغر من أخيه…
لكن من قال أن الشعور بالمسئولية يحتاج للسن؟!!!
هو كان يشعر منذ صغره بمسئوليته عن الجميع…ورغم أنه لم ينجح في مشوار تعليمه…
لكنه وجد نفسه في عمله لهذا برع فيه…
حتى صارت ورشته مضرب الأمثال في المهارة والنزاهة أيضاً…!!!
وكم كان يشعر بالفخر لهذا حتى دخلت هي حياته…
في البداية كان يخشى أن ترفضه لفارق مستوي التعليم بينهما…
لم يكن يعلم وقتها أن هذا سيكون أبسط العوائق التي ستكون أمامهما…وليته علم!!!!
تنهد في حرارة وهو يفيق من شروده عندما توقف صوت أنّاتها …
وقد شعر بانتظام أنفاسها…
همس باسمها بصوت خفيض كي لا يوقظها لو كانت قد استسلمت للنوم…فلم يتلقَ رداً!!!
تنهد في حرارة وهو يعيد تغطية ظهرها العاري بقميصها…ثم مد أنامله يربت عليه برفق شديد وهو يهمس بألم :
_ما حيلتي معكِ وأنتِ في قلبي ثلجٌ ونار؟!!!…لو استجبتُ لشوقي لأذبتكِ بين ذراعيّ عشقاً…ولو استجبتُ لغضبي لقتلتكِ بين يديّ ثأراً…ثأراً لقلبٍ عاش بكِ ويموت دونك!!!!
=============
خرجت من المكتب لتجده ينتظرها بسيارته …
تلفتت حولها لتجد الشارع خالياً فاستقلت السيارة جواره وهي تغمض عينيها بقوة…دون أن تتحدث إليه…
تناول كفها يقبله وهو يهمس بمشاكسة:
_هل تنتوين اليوم أن تكوني جنتي…أم جحيمي؟!!
لكنها لم تستجب لتدليله بل هزت رأسها بلا معني ثم همست بفتور:
_انطلق بالسيارة يا فهد…هذا مكان عملي…ستكون مصيبة حقيقية لو رآنا أحد هكذا.
عقد حاجبيه بضيق وهو يستشعر ألمها الذي تخفيه…
جنة لم تعد تعاني بسبب مشاعرها نحوه فحسب…
ولا حتى بسبب خوفها من تقلب أحواله…
بل زاد على هذا خوفها من أن تنكشف علاقتهما…
وهو ليس مستعداً بعد لإشهار هذا الزواج…
ليس خوفاً من جاسم الصاوي…
لكن خوفاً عليها هي من بطشه!!!
نعم…جاسم الصاوي لن يرضى أبداً عن هذه الزيجة التي تضيع طموحاته بشأن ولده الوحيد…
وعدم الرضا عند جاسم الصاوي لا يساوي خيراً أبداً….!
لكنه سينتظر قليلاً حتى ينهي اختباراته القريبة ويسافر بها إلى مدينة أخري…
كي يبتعد بها عن عيون جاسم الصاوي…
وليته يفلح!!!
ضغط كفها في يده فالتفتت إليه بملامح متعَبة ليتلقي نظراتها الحائرة هامساً بأسف:
_لا بأس…سأحاول مراعاة هذا في الأيام القادمة…حتى أتدبر الأمر ونغادر هذه المدينة كلها.
انعقد حاجباها بشدة وهي تهتف بانفعال:
_نغادر المدينة؟!!! وعملي؟!!!وأهلي؟!!! أنت تريدني أن أهرب معك كالساقطات؟!!!
زفر زفرة مشتعلة ثم هتف بحدة هو الآخر:
_لا ترفعي صوتكِ علىّ يا أستاذة…حدثيني بالعقل كما أحدثك.
دمعت عيناها وهي تهز رأسها قائلة باستنكار:
_عقل؟!!! وهل ما بيننا يخضع لأي عقل؟!!!
أشاح بوجهه في غضب ثم ترك كفها وهو يعيد تشغيل السيارة لينطلق بها بسرعة جنونية كالمعتاد…
أغمضت عينيها بقوة وهي تعود برأسها للخلف…
ورأسها تزاحمه أفكارٌ تنهشه بقسوة …
حتى لو استسلمت لعاطفتها -الشائكة -نحوه…
لا يزال بينهما الكثير!!!!!
فهد الصاوي نغمة شاذة على لحن حياتها المستقيم…
ومع هذا تشعر أنها تعلقت به برباطٍ لا تدري كيف سينقطع…
والمصيبة الحقيقية أنها لا تريده أبداً أن ينقطع!!!
قطعت أفكارها عندما توقفت السيارة فتلفتت حولها لتجده نفس المكان الذي استدرجته إليه أول مرة…
يوم ظنت أنها ثأرت لرؤى منه…
ثم اكتشفت بعدها أنها قد زلت بقدميها في أرض حياته الزلقة…
ويبدو أنها لن تستطيع الوقوف من جديد!!!!
طال صمته جوارها فالتفتت نحو جانب وجهه الذي كان مطرقاً به في ألمٍ واضح لم تعرف سببه…
ساعتها شعرت بقلبها يخفق من أجله…
غريبٌ هذا الإحساس -بالأمومة- الذي يتملكها -بشدة-نحوه….
غريبٌ…
مسيطرٌ…
قاهر!!!!
لهذا لم تشعر بنفسها وهي تتجاوز حديثهما المشحون السابق…
لتمد كفها فتربت على كتفه دون حتى أن تحاول سؤاله عن شئ…
فقد شعرت أن ألم روحه الآن -وإن لم تفهم أسبابه – لن تسعفه كلماته…
ارتجف جسده على لمستها ليلتفت نحوها وعيناه تفيضان برجاء خفيّ ممتزج بألم لم تفهمه…
لكنّ نظراتها البندقية كانت تحتضنه بحنان لم يتذوقه من قبل بهذه الطهارة…
لهذا وجد نفسه يقترب منها أكثر ليلقي رأسه على صدرها مطوقاً خصرها بساعديه وهو يهمس بصوتٍ خفيض يكاد لا يُسمع:
_ضميني يا جنة…ضميني بكل قوتك.
أسبلت جفنيها بتوتر وهي تشعر أنها لم تكن تحتاج لأمره هذا…
فقد ارتفع ذراعاها ببطء ليضمانه إليها أكثر …
تأوه بقوة لكنه كتم آهته في صدرها فربتت على ظهره دون أن تجد ما تقول…
قلبها يخبرها أنه يعاني كثيراً…
أكثر بكثير مما قد يبدو على مظهره الواثق العابث…
إنها تشعر أنه يخفي جرحاً شوه معالم روحه لكنه يجاهد كي يخفيه…
انفرجت شفتاها وهي تهمّ بسؤاله عمّا به…
لكنها عجزت…!!!
حروفها كلها تخونها معه عندما تشعر بعاطفتها نحوه…
عقلها الذي يستميت في إبعادها عن شراك هذه العلاقة المفخخة ينجح دوماً في السيطرة على كلامها…
لكنه يفشل فشلاً ذريعاً في السيطرة على دقات قلبها الثائرة أمام كل ما يتعلق بشأنه…
دقات قلبها التي كان لها دويٌّ هائلٌ الآن وهو أقرب ما يكون إليها!!!
ظلا على هذا الوضع لدقائق …
حتى رفع وجهه إليها وهو يهمس بنبرة غريبة لا تخلو من ألم:
_لو تعلمين كم أخاف عليكِ…هذا الشعور الذي لم أعرفه يوماً في حياتي…منذ عرفتكِ وأنا أخشى أن أفقدك.
اختفى وهج البندق خلف غمامتين من الدموع وهي تشعر بصدق حديثه…
لكنها لازالت لا تملك رداً!
فقط عيناها كانتا متعلقتين بملامحه تعلّق الغريق بطوق نجاته…
لكنه عاد يخفي رأسه في صدرها وهو يضمها أكثر قائلاً بضيق يائس:
_أنا أعرف أنني ظلمتكِ معي…لكنني لم أستطع ألا أتشبث بكِ…أنتِ أشبه بماسةٍ وضعها القدر في طريقي ولم أكن بهذا الحمق كي لا ألتقطها.
ثم رفع عينيه إليها مردفاً بحزم:
_ولن أضيعها من يدي أبداً.
أشاحت بوجهها هاربةً من شعورها الجارف به في هذه اللحظة…
ولو استجابت له لصارحته الآن بأنها مثله…
لا تريد أن تفقده…أبداً!!!!
_جنة!
داعبت همسته أذنها بصوته الرخيم…
فالتفتت إليه بحذر…
لتخونها عيناها بالسقوط في ليل عينيه الأسود من جديد…
وما أحلاه من سقوط!!!
لكن ابتسامته الشاحبة أنقذتها من سقوطها عندما تعلقت بها عيناها وهو يهمس بصوتٍ لا يخلو من ألم:
_هل قلتُ لكِ أنني…أحبك؟!!
اتسعت عيناها بدهشة ومراياها البندقية تمنحه صورة واضحةً عن أعماق روحها الثائرة الآن…
فاتسعت ابتسامته -رغم مرارتها-ثم فك ساعده من على خصرها ليحتضن وجنتها براحته مردفاً:
_لن أقولها لكِ…تدرين لماذا؟!!!
ظهر التساؤل في عينيها واضحاً ولازال لسانها منعقداً…
فرفع رأسه ليقترب بوجهه من وجهها حتى ما عادت تشعر حولها سوى بليل عينيه الساحر الذي سرق نظراتها باقتدار وهو يهمس ببعض الندم:
_لأن لساني قالها كاذباً لغيرك…وأنتِ امرأةٌ لا يليق بها كلامٌ مكرّر…فاقرئيها أنتِ على لساني حتى ولو لم أقلها…كما أقرأها أنا بلون البندق في عينيكِ كل يوم.
أغمضت عينيها وكأنها تخاف أن يقرأ اعترافهما كما يقول…
لكن قبلتين عميقتين منه عليهما كانتا لها بالمرصاد…
أتبعهما بهمسه الدافئ:
_عيناكِ حبيبتايَ تفضحان شعوركِ يا جنتي…لهذا أحبهما.
ارتجّت أعماقها كلها بالتمرد على صمتها المستفز هذا…
لكن عقلها قمع التمرد بقوة كعادته محافظاً على صمتها فعادت تفتح عينيها بحذر مدّعية الصلابة…
عندما تحسس شفتيها بإبهامه مردفاً بنفس النبرة:
_لكن شفتيكِ عنيدتان مثلكِ تتمنعان عن الاعتراف…لهذا…
قطع عبارته وعيناه معلقتان بشفتيها…
فابتسمت رغماً عنها ابتسامة باهتة وهي تهمس بخفوت:
_لهذا ماذا؟!!! تكرههما؟!!
رفع عينيه إلى عينيها للحظة بعاطفةٍ لا يحتويها الكون على سعته…ثم عاد يتعلق بشفتيها هامساً بصوتٍ ذائب:
_بل أدللهما حتى ترضيان…فتبوحان.
قالها وهو يطبع على شفتيها قبلاتٍ خفيفة متتالية…
فشعرت بروحها تكاد تنسحب منها وخافت ضعفها معه من جديد…
لهذا دفعته برفق وهي تهمس باعتراض :
_فهد…هل نسيتَ وعدك؟!!
زفر زفرة قصيرة…
ثم أشاح بوجهه للحظة قبل أن يعود ملتقطاً سحرها البندقيّ وهو يقول بعتاب لا يخلو من عاطفة:
_إلى متى تكابرين؟!!!
تنهدت في حرارة ثم رفعت رأسها لأعلى قائلة بانفعال:
_ليست مكابرة…بل حيرة وعجز…أنا لا أتصور مستقبلاً لعلاقتنا…ابن جاسم الصاوي هو النقيض لكل مبادئي وعقائدي…وزواجي منه لعنةٌ على رأسي.
لكنه كان يتفهم انفعالها هذه المرة فرفع كفها إلي شفتيه يقبل باطنه قبل أن يهمس بترقب:
_وفهد؟!!!
عادت تتنهد في حرارة وهي تطرق برأسها هامسة بعد لحظات:
_فهد…هو…
قطعت عبارتها عاجزة عن إكمالها ….فرفع ذقنها إليه هامساً بحزم :
_فهد ماذا؟!!! قولي….
دمعت عيناها وهي تهمس بعجز مصبوغ بمرارة قوية:
_هو رهاني الأخير في هذه الحياة…فإما كسبته وكسبت معه حياتي…وإما خسرتهما معاً كما خسرتُ من قبل.
لم تكد تتم عبارتها حتى جذبها إليه بقوة ليعتصرها بين ذراعيه مخفياً رأسها في صدره للحظات…
وهو يحاول احتواء ارتجافة جسدها بدموعها….
آه لو تعلم ما الذي فعلته بها كلماتها هذه؟!!!!
لقد أجادت “الأستاذة” اختيار كلماتها بمهارة…
منحته السم والترياق بنفس اليد!!!!
ماذا تظنه يفعل بعدما سمعه منها الآن سوى أن يعدها بهذا الوعد:
_أقسم لكِ بحق من جعلكِ نوراً في طريقي…ألا أعود لظلمتي بعدكِ أبداً!!!
===========
استيقظت من نومها لتجده جالساً أمامها على طرف الفراش….
يحتضن كفها براحتيه على شفتيه وهو يتأملها بعشقٍ لم يعد لديها شك فيه…
فابتسمت وهي تفتح عينيها بصعوبة لتهمس بصوت ناعس:
_كم الساعة الآن؟!
قبل كفها بعمق قبل أن يهمس بصوت خفيض:
_لا أدري.
تثاءبت رغماً عنها فوضعت كفها على شفتيها ثم تناولت هاتفها لتنظر في شاشته…قبل أن تعيد سؤاله بدهشة:
_لم يؤذن لصلاة الفجر بعد…لماذا لم تنم حتى الآن؟!!
انحني بجذعه ليريح رأسه على صدرها وهو يهمس بصدق خالطه حزنٌ لم تعرف سببه:
_لقد نمتُ فعلا…واستيقظتُ بعدها مرتين لأخرج من غرفتي إليكِ فقط لأطمئن أنكِ لازلتِ هنا.
ثم رفع رأسه إليها هامساً أمام عينيها بنفس الصدق المشبع بالحزن:
_لقد أصبتِني ب”عقدة الفقد” …هاجس رحيلك لم يعد يفارقني.
ارتفع حاجباها في تأثر لتجد نفسها دون وعي ترفع ذراعها الحر لتضم رأسه إلي صدرها قبل أن تهمس بتردد:
_لا أعتقد أنني سبب هاجسك هذا…هل فقدت قبلي شخصاً أحببته؟!!
لم يصلها رده للحظات فعلمت أن حدسها لم يكذبها…
تماماً كما كانت تعلم أنه لن يبوح بأسراره بهذه البساطة…
لهذا ربتت على رأسه برفق ثم همست بحنانها الفطري:
_لو لم تكن تريد الإجابة فلا بأس…أنا أحترم أسرارك.
رفع إليها عينين غائمتين بعاطفته وهو يهمس بشرود:
_هل تعلمين؟!منذ رأيتكِ تحتضنين رؤى أول مرة وأنا تمنيتُ لو أتذوق طعم حنانكِ هذا .
أغمضت عينيها بألم وهي تشعر بمزيج مضطرب من المشاعر…
لماذا يذكر هذا الأمر الآن؟!!!
إنها -بالكاد-تتناساه!!!
قلبها يخبرها أن- ابن الصاوي- الذي آذى صديقتها ليس أبداً- فهد- الذي تراه الآن أمامها…
ومع هذا لازال عقلها يقرع ضميرها بمطرقة الذنب…
وبينهما هي عاجزةٌ لأول مرة في حياتها …
واقفةٌ على خيط رفيع بين سواد ماضيه وبياض توبته…
توبته التي تستشعر صدقها بحق ويزداد يقينها بها يوماً بعد يوم…
التفتت إليه من شرودها لتلاحظ تثاقل جفنيه وعينيه المجهدتين اللتين يجاهد كي يبقيهما مفتوحتين…
فعادت تربت على رأسه المستكين على صدرها وهي تهمس برقة:
_نم يا فهد…أنا معك…لن أرحل.
رفع رأسه إليها ليهمس بصوت ناعس:
_هل يمكنني النوم هنا ؟!
أومأت برأسها إيجاباً فتمدد جوارها على الفراش ولازال محتضناً كفها براحتيه حتى سقط في النوم بعدها بدقائق معدودة…
ابتسمت في حنان وهي تتأمل ملامحه النائمة …
تماماً ككل مرة تراه فيها نائماً تشعر وكأنه طفلها الذي أرهقه التعب فعاد ليغلبه النوم في حضنها…
اتسعت ابتسامتها وهي تربت على وجنته بكفها الآخر برفق لدقائق …
حتى غلبها النوم هي الأخري!!!
لتستيقظ صباحاً على صوته كالعادة وهو يقبل وجنتيها بعدما فتح النافذة:
_صباح الخير يا أستاذة.
لكنها هزت رأسها في اعتراض وهي تهتف باستنكار ملأ صوتها الناعس:
_لا يا فهد….لن أستيقظ الآن…ألا يكفي أنك قلقتَ نومي بالأمس؟!!
ضحك ضحكة قصيرة ثم انحنى ليقبل شفتيها بخفة قبل أن يقول بمشاكسة:
_وسأقلق نومك كل ليلة حتى تستسلمي وتتركيني أنام هنا معك.
ابتسمت وهي تنهض من نومتها لتسند ظهرها على الوسادة تتأمله للحظات…
قبل أن تسأله أخيراً باهتمام:
_ماذا بك يا فهد؟! لم تكن طبيعياً ليلة أمس.
أشاح بوجهه هارباً من نظراتها المتفحصة للحظات…
ثم عاد ينظر إليها ليقول مغيراً الموضوع:
_هل أنتِ مرتبطةٌ بقضايا اليوم؟!!
هزت رأسها نفياً ثم قامت واقفة أمامه لتسأله باهتمام:
_لماذا تسأل؟!!!
جذبها من ذراعها فجأة ليرفعها عن الأرض محتضناً خصرها بساعده …
فشهقت بدهشة لكنه غمزها بمكر وهو يدور بها بسرعة هامساً أمام عينيها بشقاوة لذيذة:
_سأخطفك …هل لديكِ مانع؟!
تخضبت وجنتاها بحمرة خجلها وهي تدفن وجهها في كتفه هامسةً:
_أنزلني يا فهد…أنت تُدوّخني هكذا.
فأنزلها على الأرض برفق ولازال يضمها إليه بساعده ثم رفع ذقنها إليه هامساً بدفء:
_اليوم فقط يا جنتي …ننسى فيه كل شئ…لا قواعد ولا قوانين…لا ماضي ولا مستقبل…فقط أنا وأنتِ.
تاهت عيناها في ليل عينيه الأسود وكل ذرة في كيانها تناشدها الاستسلام…
فأومأت برأسها موافقة!
ولم تكد تفعلها حتى أمطرها بقبلات خفيفة متتابعة على وجهها كله …
فضحكت بانطلاق وهي تبتعد بوجهها عنه محاولةً دفعه بعيداً عنها..
لكنه ضحك بدوره ضحكة رائقة قبل أن يقول بعاطفة مشتعلة:
_شكراً يا جنتي.
ثم همس وهو يحتضن ملامحها بعينيه الهائمتين:
_هل تعلمين أنها أول مرة أراكِ فيها تضحكين هكذا؟!!
تجمدت مكانها للحظات وهي تفكر في عبارته قبل أن تهمس بشرود:
_نعم…معك حق…أنا نفسي لا أذكر آخر مرة ضحكتُ فيها هكذا.
التمعت عيناه بحنان لكن شرودها أقلقه فجذبها من كفها ليتوجه بها نحو خزانة الملابس هاتفاً بحزم:
_هيا بنا نعد الحقيبة…لن نضيع الوقت.
التفتت إليه تسأله بدهشة :
_أين سنذهب؟!!
قرص وجنتها مداعباً وهو يغمزها هامساً:
_دعيني أفاجئك!
وبعدها بوقت قصير كانت تستقل سيارته جواره وهي عاجزة عن تبين وجهتهما…
ولما كان نومها بالأمس مضطرباً فقد استسلمت لإرهاقها مع طول الطريق…
حتى أفاقت على صوته جوارها وهو يهتف بمرح:
_وصلنا يا أستاذة….حمداً لله على السلامة.
تلفتت حولها بدهشة لتجد السيارة متوقفةً أمام “شاليه” ساحلي شديد البذخ والأناقة….
بشاطئ خاص أمامه …
ترجل من السيارة قبلها ثم دار حولها ليفتح بابها ويجذبها من كفها لتسير جواره بتردد…
حتى وصلا لباب ال”شاليه” فنظرت إليه بترقب لكنه ابتسم قائلاً:
_ادخلي ولا تخافي يا أستاذة….إنه ملكي.
أطرقت برأسها وقد تجهمت ملامحها فجأة…
فمال على أذنها هامساً:
_لا تقلقي…لم تدخله واحدة قبلك ولن تدخله أخري بعدك.
رفعت إليه عينيها وقد عاد إليها شعورها بالغربة معه من جديد!
بعيداً عن علاقاته النسائية العديدة فلم تعد هي مشكلتها الوحيدة معه…
لكن موقفاً كهذا يذكرها بمن هو ومن يكون أبوه…
شاب في سنه يمتلك مكاناً كهذا- هو ثروة وحده -بينما غيره لا يملكون مقدم إيجار شقة تحميهم وذويهم من العراء…؟!!!
لو كان حقه من مصدر شريف لما اعترضت على قسمة الله سبحانه يرزق من يشاء بغير حساب…
لكنها تعلم كيف يسيطر جاسم الصاوي على السوق بطرقه الغير مشروعة لينهب خير البلد…!!!
لهذا شعرت بغصة في حلقها وقد عاد ضميرها يجلدها بسياط الذنب من جديد…
لكنه قرأ ترددها من جديد في عينيها فعاد يهمس بمزيج من الحزم والرجاء:
_اليوم بلا قيود يا جنتي…بلا تفكير…ألم نتفق على هذا؟!
تألق وهج البندق في عينيها للحظات منذراً بثورة قريبة…
لكنه عاد يخبو خلف سحب عاطفتها -القاهرة- لتجد نفسها تومئ برأسها إيجاباً…
قبل أن تدلف معه إلى الداخل ….!!!!
أشرقت عيناه بالفرح وهو يشعر بتحرر مشاعرها من أغلالها لأجله هو…
ولو كان يستقرئ الغيب لأدرك أن تنازلاتها هذه وإن كانت اليوم (له)…
فغداً قد تكون (عليه)!!!!
لكنه كان غافلاً عن كل هذا بفرحة قلبه -الوليدة-بها…
احتضن خصرها بساعده وهو يسير جوارها ليريها المكان كله …
فالتفتت إليه لتهمس بابتسامة شاحبة:
_المكان رائع.
انحنى بوجهه على وجهها يقبل وجنتيها بعمق قبل أن يعود لحبيبتيه البندقيتين فيأسرهما ببريق نجوم ليله الأسود هامساً:
_وأنتِ تجعلينه أروع!
أسبلت جفنيها بخجل لا تدعيه…
خجل يثير جنونه أكثر ويزيد من قدسية الهالة المحيطة بهذه المرأة الأسطورية -كما يراها-
لهذا أحاط وجهها بكفيه يقربه منه أكثر وهو يهمس بعاطفة:
_أوَ تعلمين؟!!!أتمنى الآن لو أجوب بكِ كل الأماكن التي وطأتها قدماي قبلك…لتطمسي آثار كل ما سبقك و-من- سبقكِ إلي حياتي.
دمعت عيناها في تأثر وهي ترى الصدق في عينيه- قبل حديثه -يزيد متانة نسيج شعورها نحوه…
لكنه لمح دموعها فانحني على عينيها يقبلهما بعمق قبل أن يهمس بدفء:
_لا يا جنتي…نحن اتفقنا…لا دموع اليوم ولا قيود…فقط…إحساسكِ وإحساسي.
أومأت برأسها في رضا فسألها باهتمام:
_تجيدين السباحة؟!
ارتفع حاجباها بدهشة للحظة…ثم ابتسمت قائلة:
_أعشقها.
ارتفع حاجبه بمكر وهو يداعب أنفها بسبابته هاتفاً:
_سألتكِ…تجيدينها؟!!!
تألقت عيناها بوهج البندق من جديد وهي ترد له حركته فتداعب أنفه بسبابتها هي الأخري هاتفةً بثقتها المعهودة:
_عندما تعشق جنة الرشيدي شيئاً فهي لا تهدأ حتى تجيده.
ضحك ضحكة عالية وهو يضمها إليه بقوة للحظات …قبل أن ينظر لعينيها هامساً :
_أعشق حديثكِ بهذه الطريقة يا أستاذة.
خفق قلبها بجنون مع صدى ضحكته التي كانت تدق أجراس الفرح بين جنبات روحها…
لكنه عاد يقول بأسف:
_نسينا أن نحضر لك ثياباً للسباحة.
ثم أردف بسرعة:
_لكن لا مشكلة!!!
قالها وهو ينحني فجأة ليحملها بين ذراعيه فشهقت للمفاجأة وهي تغمغم بكلماتٍ معترضة…
لكنه اندفع بها نحو الشاطئ وهي تحاول التملص من ذراعيه دون جدوي…
لتجد نفسها معه فجأة في عرض البحر…!!!!!!
هنا..أنزلها برفق وهو يضحك ضحكة منطلقة طويلة قبل أن يهتف بمرح:
_نتسابق يا أستاذة؟!
ضحكت بدورها وهي تسبح جواره لتهتف بمرح هي الأخري:
_نتسابق يا سيد فهد .!
ثم هزت رأسها لتقول باستنكار لا يخلو من مرح:
_ أيها المجنون!!!
عادت ضحكته تجلجل حولها بصداها المدوي وهو يدفع الموج بذراعيه محاولاً أن يسبقها…
لكنها كانت ماهرةً حقاً كما زعمت فلحقته بعد قليل مما دفعه ليزيد سرعته أكثر…
ثم انتبه لها بعد دقائق عندما التفت خلفه ليجدها تناديه باستغاثة ملهوفة…
عاد إليها بسرعة وقلبه ينتفض قلقاً ليضم جسدها الذي تراخى تماماً بين ذراعيه وقد ابيضت شفتاها وشحب وجهها تماماً….
فهتف بها وهو يحملها من جديد بين ذراعيه:
_جنة! ماذا بكِ؟!! هل تعبتِ؟!!
كانت عيناه تصرخان بالخوف الذي يسكنهما مؤخراً كعادته…
وقلبه جاوزت دقاته حد الجنون بكثير…
خاصةً وقد تقطعت أنفاسها وهي
_لماذا لم تأتِ للنوم هنا كما اتفقنا؟!!!
قالها عاصي متفحصاً ملامحها المرهقة وهالات عينيها السوداء والتي فضحت له قلقها وعدم قدرتها على النوم…
فأطرقت برأسها للحظات وهي تفكر في السبب الحقيقي…
لقد ظلت تلعب بطائرتها الورقية لدقائق على سطح القصر وهي تشعر بفرحة عارمة وبانطلاق لم تعرفه من قبل…
وكأن سنوات عمرها تناقصت فجأة وعادت مجرد طفلة عابثة لا تعرف هماً ولا حزناً…
ولكنها عندما أفاقت لنفسها بعد قليل …
وجدت نفسها تنهار جالسة مكانها على الأرض تبكي بحرقة فجأة!!!!!
وهي تعود لواقعها المرير…
هي لن تعود طفلة…
ولن تعود لرحمة…
ولن تعود لعزيز…
فكيف إذن تكون ماسة؟!!!!
ظلت على بكائها على أرض سطح القصر للحظات …
حتى استعادت بعضاً من قوتها لتقف من جديد ململمة شظايا روحها المكسورة….
تركت طائرتها الورقية ملقاة على الأرض مكانها بعدما رمقتها بنظرة مودعة أخيرة…
ثم هبطت الدرج متجهة نحو غرفته كما اتفقا…
وبالفعل حملتها خطواتها المتثاقلة حتى باب غرفته لا شعورياً وكأنها سلمت أنها صارت ملاذها الآمن الوحيد…
وما إن رفعت أناملها لتطرق الباب قبل دخولها حتى تجمدت مكانها في الهواء لبضع لحظات دون حركة أخري…
لتأخذ قرارها بعدها سريعاً وتعود بخطوات حاسمة نحو غرفتها هي…
مغلقةً بابها خلفها بالمفتاح!!!!
استسلمت بعدها لنومٍ متقطع مرهق لتستيقظ بعده والصداع يكاد يفلق رأسها نصفين…
وبعدها سمعت صوت طرقاتٍ خافتة على الباب…
كانت للخادمة تدعوها لتناول الغداء معه في غرفته كما اتفقا….
_لماذا؟!!!
قطع تساؤله شرودها فرفعت رأسها إليه بحدة…
وبحار فضتها تتألق بلمعة آسرة سحرته للحظات…قبل أن تقول بقوة حقيقية:
_لأنني لن أستمد أماني من أحد بعد الآن …قوتي ستكون نابعة من روحي أنا…لن أستجديها من سلسلة عاشق حول عنقي…أو جدران غرفة رجلٍ – يُفترض – أنه زوجي.
ثم دمعت عيناها رغماً عنها وصوتها يرتعش رغم قوته:
_ماسة تعلمت درسها جيداً…لو لم أمنح نفسي القوة فلن يهديها إليّ أحد…!!
ظهر شبح ابتسامة على شفتيه وتألقت شموسه الزيتونية ببريق إعجاب ناقض قسوة عبارته التالية:
_من الجيد أنكِ لم تعودي تذكرين اسمه…وإلا ما كنتُ أعرف كيف سيكون عقابك.
ثم لوح بسبابته في وجهها قائلاً :
_لا مجال للمقارنة بين عاصي الرفاعي ومن سبقه.
ارتجف جسدها رغماً عنها وهي تشعر بسهام قسوته تصيب روحها بشدة…
وخوفها على عزيز منه يعاودها …
لكنها لم تشأ أن تظهر خوفها أمامه فأمسكت ملعقتها لتبدأ في تناول طعامها متظاهرة بعدم الاكتراث…
ظل يتفحصها بنظراته حتى كادت تغص بالطعام في حلقها…
لكنها تجاهلت نظراته تماماً وهي تحاول التشاغل بتناول كوب العصير…
حتى قال بحسم:
_جلسات علاجك ستبدأ غداً.
ارتجفت أناملها الممسكة للكوب بشدة حتى سقط بعض العصير على ثوبها…
فوضعته بارتباك على المائدة …
بينما قام هو من مكانه ليتناول واحدة من المناشف الورقية…
ثم انحني ليزيل أثر العصير المسكوب على الثوب!!!!
تضاعف ارتباكها كثيراً وهي تشعر أن دقات قلبها تلهث بجنون…
لماذا يفعل هذا بنفسه…؟!!!
عاصي الرفاعي ينظف لها ثوبها؟!!!!!!!!
لم تكن أول مرة يقترب منها هكذا…
لكنها الآن تشعر بشعور غريب لا تتبين كنهه…
هل تغير عاصي الرفاعي؟!!!
هل توارت غيوم قسوته خلف أمطار احتوائه ورفقه؟!!!
أم أنها هي من تغيرت؟!!!
هي التي صارت أكثر هشاشة نحوه…
أكثر احتياجاً…
وأكثر حيرة؟!!!!
انتهى مما يفعله فوضع المنشفة على المائدة…
وقد حافظ على انحناءته حتى تكون عيناه في مستوي عينيها…
فيلتقط ماساتها المتوهجة بحيرتها وعجزها بين كنوز عينيها الفضية …
ثم همس بنبرة غريبة:
_الماس يبرق في الضوء أكثر…فلا تستسلمي لظلامك.
عادت تتوه بنظراتها في غابات زيتونه المتشابكة بمشاعر لا تفهمها…
والصمت يخنق كلماتها للحظات…
قبل أن تقف وهي تسحب كرسيها للخلف مبتعدة عنه وهي تهمس بخشية:
_لا أريد هذه الجلسات.
اعتدل بظهره لتشعر بنظراته تحتضنها برفق…ثم أمسك كتفيها هامساً بنبرته القوية:
_لماذا؟!!!
ارتجف جسدها بدموعها فجأة ….وهي تضغط على شفتيها لعلها تتمالك نفسها وسط فوضى المشاعر التي تجتاحها الآن بلا رحمة…
وتعلقت عيناها بعينيه بما يشبه الرجاء…
فضمها إليه برفق وهو يربت على ظهرها ليصله همسها المذبوح بين دموعها:
_أنت لا تفهم…أنا لا أريد الحديث عن هذا الأمر…كلامي عنه يمزقني…يهدم كل جسور قوتي التي أحاول عبورها نحو الغد…لا أريد أن أعود للوراء…لا أريد …لا أريد.
ظلت تتمتم بها مراراً وسط نشيجها المتألم…
فضمها إليه أكثر حتى شعرت أنها قد صارت جزءاً منه…
وبرغم ما كانت تشعر به نحوه من رهبة ونفور…
لم تستطع مقاومة إحساسها بالأمان بين ذراعيه…
على الأقل الآن…!
وهي تشعر أنها في أشد لحظات حياتها ضعفاً…
واحتياجاً…
ووحدة!!!!
لهذا لم تملك إلا أن دفنت وجهها في صدره تتنشق عطر الأمان الذي يعدها به…
وتمحو بدفئه صقيع مشاعرها الذي يقتلها ببطء…
والعجيب أنها وسط فوضى المشاعر هذا لم تجد مكاناً للخجل…!!!!
ولا تدري ما السبب…
ربما لأن شعورها به لم يكن أبداً ولن يكون كشعورها بأي رجل…
نعم…
شعورها به غريب …
لا يمكنها وصفه مهما حاولت…
لكنه يشبه كثيراً شعورها نحو …رحمة!!!
خفق قلبها بقوة عندما وصلت لهذا الإدراك…
نعم…عاصي الرفاعي -رغم نفورها من قسوته وتسلطه- يشبه في حنانه وقوته معها صورة الأب التي طالما تمنتها…
وحرمتها الأقدار منها…!!!
وحتى مع عشقها الجارف لعزيز…
لم يستطع إرضاء هذا الجانب -الظمآن-بروحها…
جانب الطفلة التي حُرمت قوة الوالد الحانية…
وحزمه الرفيق!!!!
لهذا كادت تذوب تأثراً وهو يهمس جوار أذنها بلهجته التي تمزج قوته بحنانه في مزيج مدهش:
_لهذا كنتُ أقول لكِ أن سحر الماس أقوى تحت الضوء…أنا أريدكِ أن تتخلصي من كل قيود ظلماتك…ظلماتكِ التي تغشي عينيكِ فيؤلمها نور الصبح…مع أنه يليق بهما أكثر.
رفعت وجهها إليه بعينين حائرتين….
فأردف بصوته الذي يغرس القوة بروحها الكسيرة:
_لا تهيلي التراب على الجمر المشتعل…أطفئيه أولاً…!!
شردت ببصرها للحظات تعقل حديثه…
وهي تشعر بالتشتت…
برغم كل شئٍ هو محق…
وهي تريد الخلاص من رواسب ماضيها كلها…
تلك الرواسب التي تعكر صفو أحلامها بالغد…
غدٍ متألق بخيوط النور بعيدٍ عن ظلمات جروحها الحالكة…
عادت ببصرها إلى عينيه تستمد دفئها من شموسه الزيتونية التي كانت تتوهج الآن توهجاً آسراً…
كان هو لا يزال يضمها بين ذراعيه وراحتاها مبسوطتان على صدره…
وعلى عكس دقات قلبها التي كانت تتقافز بجنون…
كانت دقات قلبه تحت راحتيها هادئة…رتيبة…مستقرة…
وكم كانت تغبطه على هذا!!!
تمالكت شعورها بصعوبة وهي تبتعد عنه ببطء متثاقل…
قبل أن تستجمع قوتها لتقول وهي تهرب من غزوه -الزيتوني-:
_لن أستطيع أن أشكرك على ما تفعله لأجلي قبل أن أفهم كل شئ…
ابتسم ابتسامته الجانبية المميزة وتألقت عيناه ببريق ماكر وهو يهمس بغموض:
_أنتِ شكرتِني بالفعل…وقبل أن تفهمي أي شئ!!
وقعت عيناها في شباك عينيه من جديد وانعقد حاجباها بتساؤل…
فمد أنامله برفق يمسح بقايا دموعها المتجمدة على وجنتيها هامساً بنفس النبرة :
_في كل مرةٍ تهديني عيناكِ رسائلها الفضية بالامتنان…في كل مرة تخونكِ فيها شفتاكِ فتبوحان لي بخفايا لم يسمعها غيري…في كل مرة تتوسدين فيها صدري شاعرةً بالأمان…فاعلمي أنكِ قد شكرتِني.
اتسعت عيناها مصدومةً بكل ما أثارته فيها كلماته من حرب مشاعر حقيقية….
ما بين إحساس بالخوف…والأمان…
والرهبة …والسكينة…
والنفور…والأنس…
والكراهية….وال…..
ال…..؟!!!!
ماذا؟!!!!
هل تقول الإعجاب؟!!!!
نعم…
برغم كل شئٍ هي لا تنكر إعجابها ب-بعض-صفاته…
بل إنها تتمنى أحياناً لو تسرق من عينيه قبساً من نار قوته الساحرة هذه !!!!
لهذا شعرت بلذة -خفية-يخالطها شعورها -المستحدث-معه بالأمان عندما اقترب منها أكثر ليضمها إليه برفقه المسيطر من جديد هامساً جوار أذنها بمزيج من الإعجاب والفخر:
_وهل بعد ضمّ الماسِ شُكر؟!!!!!
============
خرجت من غرفتها عند الفجر كالعادة وهي تشعر ببعض الهدوء…
جلسات علاجها بدأت تؤتي ثمارها بعد بضع مرات مع هذه الأدوية التي كتبتها لها الطبيبة….
وتظن أن الوضع ربما كان سيتحول للأفضل فقط لو لم تكن علاقتها بعاصي مضطربة كما هي هذه الفترة…
إنها تتحاشى لقاءه تماما سوى في أوقات الطعام…
وحتى في هذه الأوقات تتجنب الحديث معه أو حتى مجرد النظر إليه…
والغريب أنه يبدو وكأنه لا يهتم!!!!
هو لا يجبرها على أي شئ وكأنه اكتفي بإجباره لها على هذه الزيجة من الأساس!!!!
هذا الرجل صار لعنة حياتها الجديدة…
وجوده مثل غيابه…
كلاهما مربكٌ …محير…مسيطر لأقصي حد!!!
لكنها لن تستسلم لطغيان شعورها به…
رغم امتنانها لكل ما فعله من أجلها لكنها تعلم أن الكثير من الأبواب المغلقة لازالت بينهما!!!
كادت تصل إلى غرفتها المفضلة في الحديقة عندما سمعت صوت أنين قوي يأتي من بعيد…
تتبعت الصوت يقودها فضولها حتى وجدته يصدر من هناك …
اتسعت عيناها مصدومة وهي ترى رجلاً مصلوباً على جذع نخلة وعلى جسده أمارات تعذيب…
امتلأت عيناها بالخوف وهي تنظر للرجل برهبة…
هذه ليست أول مرة تراهم يصلبون رجلاً هنا…
وبالطبع هي أوامر السيد عاصي…
لا تدري سر حب هذا الرجل لتعذيب الناس…
حتى لو كان هذا الرجل مخطئاً…
لماذا لا يسلمه للشرطة فيخضع لسلطة القانون…
قانون؟!!!
ابتسمت في نفسها بسخرية مريرة وهي تتذكر يوم قال لها أن عاصي الرفاعي هنا هو القانون!!!
أفاقت من شرودها على صوت الرجل المتقطع من فرط الألم وهو يناديها بلهفة:
_سيدة ماسة…أرجوكِ فكي قيودي قبل أن يعود الحارس…كل المدينة تتحدث أنكِ لستِ قاسية مثل الشيطان الذي أكاد أقسم أنه أجبركِ على الزواج منه.
نظرت إليه بتردد وهي عاجزة عن اتخاذ قرار…
لو علم عاصي عن فعلتها فلا تدري بماذا سيعاقبها…
كما أنها لا تدري ذنب هذا الرجل الذي دعا عاصي لعقابه…
لكن جزءاً بداخلها عارضها وهي تشعر برغبة عارمة في التمرد…
في تحطيم جدار القوة الذي يحيط عاصي الرفاعي نفسه به…
أو حتى اختراق ثغراته!!!
لهذا حسمت قرارها بسرعة خاصةً عندما أردف الرجل برجاء متوسل:
_ارحميني يا سيدتي وأطلقي سراحي لعل الله يجزيكِ خيراً بإطلاق سراحكِ أنتِ الأخري من هذا المكان الملعون.
تلفتت حولها بحذر متجاهلةً كل إشارات التعقل التي كانت تنهاها عن هذا الفعل…
ثم اقتربت منه لتفك قيوده بسرعة قبل أن يعود الحارس….
شكرها الرجل بلهفة وهو يمسد معصميه بألم قبل أن يولي هارباً بكل سرعته وهو يكاد يتعثر في خطواته…
وقفت ماسة مكانها مصدومة بعدها وهي لا تصدق ما تجرأت على فعله…
ورغم أن جزءاً منها كان سعيداً بأنها تمردت على خوفها وأنقذت هذا الرجل من بطش عاصي الرفاعي…
لكن جزءاً آخر كان يشعر ببعض الذنب المغلف بالخوف من عقابه لو علم عن فعلتها!!!
لكنها تمالكت نفسها بعد دقائق لتعود لغرفتها بخطوات متثاقلة وهي تشعر أن هذا الموقف قد أفسد عليها صفاء اليوم الذي بدأ به…
لم تدرِ كم مر عليها من الوقت…
لكنها انتفضت بعنف عندما فتح باب غرفتها فجأة ليدخل هو منه ويغلقه خلفه…
قبل أن يتقدم نحوها هاتفاً بقسوته التي تعرفها:
_كيف جرؤتِ على هذا؟!!
راودتها نفسها بالكذب خوفاً لكنها تمالكت قوتها وهي تقف لترفع رأسها نحوه قائلة بتماسك:
_ماذا تقصد؟!!
اشتعلت غابات الزيتون بحرائقها التي لفحها لهيبها وهو يهتف بنفس القسوة:
_أنتِ التي حررتِ ذاك الرجل من قيوده….لا تكذبي…حراس البوابة أمسكوه واعترف بكل شئ.
هدرت بحار الفضة بعينيها بأمواج ثورتها هي الأخري وهي تقول بصلابة:
_ولماذا أكذب؟!!نعم فعلتها…لأنني لن أسكت عن ظلم رأته عيني بعدما عرفتُ طعمه.
ازداد بريق القسوة في عينيه للحظات لكنها لم تستجب لخوفها منه هذه المرة….
حتى عندما أمسك مرفقها بقسوة ليقول ببرود مشتعل:
_ترىدين أن يتحدث الناس أن زوجة عاصي الرفاعي تعصي أوامره؟!!!
نفضت ذراعها منه بكل قوتها لتهتف بثورة عارمة:
_هل هذا هو كل ما يهمك؟!!صورة الشيطان المرعب الذي يخافه الجميع ويرهبون عصيانه؟!!لا يا سيد عاصي…لم أفعلها لأتحداك…بل فعلتها لأنني رأيته مظلوماً مثلي…حررتُه لعلى أجد من يحررني من هذا السجن.
قبض أنامله ليرفعها أمام وجهها قائلاً بحروف تقطر قسوة:
_هذا الرجل “المظلوم” قاطع طريق…ألقى رجالي القبض عليه بعد عناء أيام طويلة.!!!
اتسعت عيناها بصدمة وقد جمدتها المفاجأة…
لكنه لم يمنحها فرصة للرد وهو يقبض على رقبتها بأنامله فجأة ليردف بنفس النبرة:
_أنتِ لم تحرريه…تماماً كما لن يحرركِ أحدٌ من هنا.
شهقت بعنف وأنفاسها تتلاحق بجنون…
كانت نظراتها على عنادها وقوتها تحمل طيفاً خفيفاً من ندم…
بينما اصطبغت نظراته بكل غضب الدنيا وهو يقول بصرامة ولازالت رقبتها في قبضته:
_لو حكمتُ عليكِ بحكم عاصي الرفاعي فسأصلبكِ مكانه!
ارتجف جسدها رغماً عنها وقد اختنقت كلماتها وأنفاسها معاً…
لكنه رحمها أخيراً عندما فك أنامله من حول رقبتها ببطء…
قبل أن يدفعها بقوة لتسقط على ظهرها على الفراش…
ثم اقترب منها ليلوح بسبابته في وجهها هاتفاً بحزم:
_لكنني سأراعي ظروف مرضك…لهذا ستبقين حبيسة هذه الغرفة لأسبوع…لن تغادريها أبداً حتى أرسل لكِ بمن يسمح لكِ بالمغادرة …سيكون سجناً حقاً كما تزعمين.
تجمعت دموع الذل والقهر في عينيها لكنها أبت أن تسقط أمامه…
بل ظلت تنظر إليه بثبات …
للحظات اشتد فيها هدير أمواجها مع اشتعال غاباته…
حتى أعطاها ظهره ليرحل مغلقاً باب غرفتها خلفه بالمفتاح من الخارج…
كأنها -حقاً- سجن!!!
===============
جلست على فراشها تحتضن ركبتيها مسندةً ذقنها إليهما وهي تحدق للفراغ بشرود…
لا تدري هل انتهى أسبوع -سجنها-الانفرادي هنا أم لا…
وما الفارق…؟!!!
كل أيامها متشابهات…
ثوانيها تشبه الدقائق والساعات…
بتفاصيلها الباهتة وشعورها الرهيب بالضياع…
رغم إحساسها بأنها كانت على خطأ في فعلتها الأخيرة…
لكنها كانت ناقمة على كل شئ…
حتى نفسها!!!
لأول مرة تجرب هذا الشعور المزدوج بأن تكون على الخط الفاصل بين الأبيض والأسود…
بين الخطأ والصواب…!!!
قطعت أفكارها عندما فتح الباب ليدخل هو متقدماً نحوها بخطواته الثابتة…
لكنها حتى لم تلتفت نحوه بل ظلت على جمودها حتى جلس جوارها على طرف الفراش صامتاً لدقائق..
قبل أن يقول بنبرته المسيطرة:
_موعد جلستك الآن…الطبيبة ستأتيكِ هنا.
لم تنظر إليه وهي تهمس بجمود:
_هل انتهى أسبوع سجني؟!
صمت للحظة قبل أن يسألها بلهجته الثلجية:
_ألا تعرفين؟!
ابتسمت بسخرية مريرة وهي تلتفت إليه أخيراً لترميه بسهامها الفضية قائلة بتهكم:
_وكيف أعرف؟!يومٌ هنا مثل بقية الأيام..ما الفارق؟!
قست ملامحه أكثر وهو يقول بلهجته التي امتزجت قسوتها ببرودها:
_عساكِ تكونين تعلمتِ درسكِ جيداً حتى لا تتجاوزي حدودكِ فيما بعد.
اتسعت ابتسامتها المريرة مع بريق شراسة طغا على أمواج فضتها وهي تقول:
_لا تقلق يا سيد عاصي…لن يكون درسي الأول هنا …ولن يكون الأخير.
انعقد حاجباه للحظات قبل أن يقول بصرامة:
_من يخطئ يجب أن يُعاقب هذا هو قانون عاصي الرفاعي الأول.
هنا ظهرت موجةٌ جديدة من التحدي في عينيها وهي تسأله بنبرة قوية:
_ولو أخطأ عاصي الرفاعي…من يعاقبه؟!
اشتعلت غابات الزيتون بعينيه للحظات ثم انطفأت فجأة لتجتاحها سيولٌ من مرارةٍ لم تفهمها وهو يجيبها بغموض:
_صدقيني…قد أكون أقسى عقاباً لنفسي من غيري.
ظلت عيناهما في لقائها العجيب ما بين مشاعر مختلطة ظاهرها التحدي والقوة…
وباطنها مزيجٌ من عتابٍ وألم واحتياج متبادل…
مع تساؤلاتٍ بلا أجوبة ظلت هائمةً بين نظراتهما حتى قطع هو هذا اللقاء بأن أشاح بوجهه عنها…
قبل أن يقوم من جوارها قائلاً بحزم:
_بعدما تنتهين من جلستكِ مع الطبيبة سنتناول غداءنا بالأسفل مع أحد ضيوفي وزوجته.
عقدت حاجبيها بتساؤل لكنه تجاهلها مغادراً الغرفة دون كلمة أخري.
===========
أنهت جلستها مع الطبيبة وهي تشعر ببعض الارتياح…
وبرغم غضبها على عاصي الرفاعي بعدما حدث مؤخراً بينهما…
لكنها لم تستطع منع شعورها نحوه بالامتنان بعد كل جلسةٍ كهذه …
ابتسمت بسخرية مريرة وهي تغادر غرفتها لتتجه للأسفل حيث سيتناولان الغداء مع ضيفيه…
وكل ما يملؤها الآن هو شعورها بالحيرة نحو هذا الرجل الذي فجر بداخلها كل ينابيع مشاعرها المتناقضة…
احترامٌ واحتقار…
امتنانٌ وحقد…
أمانٌ ورهبة…
احتياجٌ ونفور…
ومن أخطر على المرأة من رجلٍ يثير ربيعها وخريفها معاً في نفس الوقت؟!!!
للأسف هذا هو عاصي الرفاعي…
وهذا ملخص حياتها معه!!!
قُطعت أفكارها عندما وصلت لبهو القصر حيث كان هو ينتظرها وفي قبضته شئٌ لم تتبين ماهيته…
ثم توجه بها نحو غرفة المائدة وقبل أن يفتح بابها التفت نحوها بنظرة غريبة لم تفهمها…
نظرةٍ حملت شيئاً جديداً على شموسه الزيتونية القوية التي تعرفها…
لعله طيفٌ من ترددٍ ممتزج ببعض القلق!!!!
تردد وقلق؟!!
في عيني السيد عاصي؟!!
معقول؟!!!
عقدت حاجبيها وقد انقبض قلبها برهبة لم تعرف سببها…
خاصةً عندما رفع كفه لتتبين ماهية الشئ الذي كان يحمله…
لقد كان…نقاب وجه!!!!!!
رفعت عينيها إليه بتساؤل لكنه تجاهل نظراتها وهو يلبسها النقاب بنفسه …
فازدردت ريقها بتوتر…
ما الذي يعنيه هذا؟!!!
في البداية أمرها بالحجاب وزعم أنه من عاداتهم هنا…
والآن يلبسها نقاباً؟!!!
هي لا تعترض على هذا أو ذاك…
على العكس..
هي كانت ترغب في ارتداء الحجاب منذ فترة طويلة لكنها -كقريناتها-كانت لا تزال ترى نفسها صغيرة على الالتزام به…
كانت تكتفي بثيابها المتحفظة وتعد نفسها بالحجاب الصحيح عندما تتزوج عزيز …
لم تكن تتصور يوماً أن ترتديه بهذه الطريقة…
تماماً كما لم يدُر بخلدها -البرئ- وقتها أنها لن تتزوج عزيز!!!
انتهى مما يفعله فأشاح بوجهه عنها ليصمت للحظة…
قبل أن يطرق الباب برفق ويدخل ممسكاً كفها في تملك كعادته…
وقعت عيناها أولاً على زوجة الرجل فابتسمت مع دهشتها تحت نقابها وهي تراها فاتنةً حقاً…
بثيابها العصرية الكاشفة والغريبة تماماً عن مجتمع كهذا…
لكن ابتسامتها تجمدت على شفتيها وعيناها تنتقلان عفوياً لزوج المرأة الذي قام محيياً….
فقد كان…
عزيز!!!!
===========
خفق قلبها بجنون وعيناها غارقتان في صدمتهما…
لكن عاصي ضغط كفها بقوة آلمتها فأطرقت برأسها وهي عاجزةٌ عن الاستيعاب بعد…
عزيز هنا؟!!!
معها ؟!!!
تراه من جديد؟!!!
تملأ عينيها من فيوض عينيه الزمردية بلمعة العسل….
وتذوب روحها في هالة الحنان والدفء التي تحيطه؟!!!!
عزيز هنا؟!!!!
أتاها وسط كل هذا السواد الذي لوّن حياتها ليمنحها ورديّة العشق الساحر؟!!!
أتاها في عز احتياجها وضعفها ليساندها بقوة حبه…
أتاها هنا؟!!!
في بيت عاصي الرفاعي؟!!!
كان هذا طوفان الفرحة الذي غمرها لأول وهلة عندما وقعت عيناها عليه….
لكن هذا الطوفان تراجع خلف سدود صدمتها ليترك خلفه جديباً مقفراً من خيبتها عندما قال عاصي بصوته المهيب:
_السيد عزيز أحد شركائي في التجارة والسيدة ميادة ….زوجته!!
قالها وكأنه يعرفه لها!!!!!
بعد كل هذه السنوات التي قضاها قلبها ناسكاً في محراب عشقه…
يأتي -أحدهم-ليعرّفه لها!!!!
أمرٌ مضحك…صحيح؟!!!!
لكن…لم لا؟!!!
إنها حقاً تحتاج الآن لمن “يعرّفه” لها!!!!!
من هذا الرجل؟!!!!
هل هو حقاً عزيز؟!!!
هذا الذي يحتضن كف امرأةٍ أخري يزعمون أنها زوجته….
هو عزيز؟!!!
هذا الذي يبتسم ل-سواها-متعلقاً بعينيها وغافلاً عنها هي …
هو عزيز؟!!!
هذا الذي طالما نظم لها قصائد الحب والغزل…
الآن يلتقيها فلا يعرفها!!!
حتى لو كانت تغطي وجهها…
منذ متى يتعارف عاشقان بوجهيهما؟!!!!
ما جدوي اتحاد الأرواح إذن!!!
أم أن كل هذا عبث؟!!!
نعم…صحيح…
كل هذا هراء…
كل هذا عبث!!!!!
طالما انتهت قصة عزيز وماسة التي ظنتها خالدة خلود الشمس والقمر…
فكل هذا عبث!!!!
يا ليتها ماتت قبل هذا وكانت نسياً منسياً!!!!
قطع عاصي نزيف أفكارها الصامت وهو يكمل التعارف بنفس النبرة المسيطرة:
_السيدة…..زوجتي.
حملت ابتسامتها المرارة هذه المرة تحت نقابها وهي تلاحظ أن عاصي تعمد عدم ذكر اسمها…
أتراه كان سيشكل فارقاً؟!!!
ماذا سيفيدها الآن لو عرفها عزيز أو لم يعرفها؟!!!
لقد قضي الأمر…بمنتهي السرعة…بمنتهي البساطة…
جفت الأقلام ورُفِعت الصحف!!!
مدت لها ميادة يدها مصافحةً بدبلوماسية أنيقة ففك عاصي حصار كفه لأناملها مضطراً…
لكنه عاد يتملكها بقوة مهيمنة بعدما أنهيتا مصافحتهما الباردة…
والتي عجزت فيها ماسة عن النطق ولازالت تحت تأثير صدمتها…
قبل أن يجلسوا جميعاً على مائدة الطعام ولازالت عينا عزيز مشغولتين عنها ب….زوجته!!!!
ولازال كف عاصي يعتصر أناملها تحت المائدة…!!!!
شعرت بدوارٍ عنيف يكتنف رأسها وهي تود لو يكون كل هذا كابوساً من كوابيسها الليلية المعتادة!!!
أو حلماً سخيفاً من أحلام يقظتها التي طالما أرقتها في أيام -سجنها-السابقة…
لكنه للأسف لم يكن كذلك…
بل كان واقعاً أحرق -ما تبقى-من زهور روحها كاملة…
فلم يُبقِ لها سوى رمادٍ تذروه الرياح!!!!
أطرقت برأسها صامتةً ليصلها صوت عزيز يقول بحنان مخاطباً -زوجته-:
_لا تنسي نصائح الطبيب بخصوص الطعام.
ثم التفت نحو عاصي موضحاً:
_عفواً سيد عاصي…زوجتي معدتها حساسة جداً…تصور أننا قضينا “شهر العسل ” كله تقريباً في المشفي.
أومأ عاصي برأسه قبل أن يقول برزانة :
_مباركٌ زواجكما…لقد تعمدتُ دعوتكما اليوم لنتحدث في تفاصيل مشروعكما الجديد…السيد شاكر يمدح كثيراً فيه.
اتسعت ابتسامة عزيز وهو يلتفت نحو ميادة قائلاً بمزيج من الإعجاب والفخر:
_إنها فكرة ميادة…طالما أبهرتني بذكائها.
رفعت ماسة عينيها إليهما بمزيج من الألم والحسرة…
ورغم دهشتها من رغبة عاصي في ارتدائها لنقاب وجهها قبل دخولها…
لكنها الآن تتفهمها …
بل ربما تشكره يوماً علىها!!!!
يوماً ما عندما تستعيد قوتها كاملة…
وتلملم كل شظاياها المبعثرة لتبني نفسها من جديد…
دون حاجةٍ لفاكهة عشق محرمةٍ يمنحها لها (ضعيفٌ)….ك”عزيز”..
أو” فُتات “أمانٍ يلقيه لها (جبارٌ )…ك”عاصي”!!!!
هي ماسة…وستبقي ماسة…
دون عشق ذاك…أو وعود أمان هذا!!!
انتبهت ميادة لنظرتها الغريبة نحوهما فشعرت بالفضول وهي تسألها بتودد مصطنع :
_لم أتشرف باسمكِ يا سيدتي.
أغمضت ماسة عينيها للحظة تعلقت بها فيها جميع العيون…
ثم فتحتهما لتتحدث لأول مرة منذ بدأ هذا اللقاء -الكارثي – قائلة بنبرة غريبة:
_ما قيمة الأسماء هنا؟!! أنا زوجة السيد عاصي الرفاعي فحسب…يكفيني هذا الشرف.
ابتسم عاصي ابتسامته الجانبية وهو يضغط أناملها بين كفيه أكثر…
وكذلك ابتسمت ميادة معجبةً بذكاء ردها…
وحده عزيز اتسعت عيناه بصدمة وهو يميز صوتها أولاً…
ثم عينيها الفضيتين الباديتين من فتحتى نقابها…
ليتحرك بعدهاحركة عصبية تلقائية وكأنه سيهمّ بالوقوف…
لكنه تمالك نفسه بصعوبة قبل أن تنفرج شفتاه وهو يحدق فيها باشتياقٍ ممتزج بذهوله….!!!!
رمقه عاصي بنظرة قاتلة وهو يسأله بنفس الرزانة:
_ما الأمر يا سيد عزيز…؟!! ألم يعجبك ال……”طعام”؟!!!
انتشل عزيز نظراته الغارقة في بحار عينيها الماسية بصعوبة…
ليلتفت نحو عاصي متمتماً بكلماتٍ مبهمة لم يتبينها…
وعقله يضخ إليه أفكاره العاصفة بجنون…
ماسة هنا؟!!!
ماسة تزوجت؟!!!
تزوجت عاصي الرفاعي ؟!!!!
طوال هذه الفترة وهي تعيش هنا معه؟!!!
لماذا فعلتها؟!!
وكيف؟!!!!
ظلت أفكاره تلتهم عقله بشراسة وهو يقاوم اختلاس النظر إليها كي لا يثير حفيظة عاصي…
لكن ماسة قطعت عليه طريق شقائهما المشترك عندما سحبت كفها من قبضة عاصي لتقف قائلة باعتذارٍ رقيق مع صوتها المتهدج:
_عفواً..أنا أشعر بالتعب..أستأذنكم في العودة لغرفتي…تشرفتُ بمعرفتك يا سيدتي.
قالتها وهي تصافح ميادة بآلية متجاهلة النظر لعزيز جوارها والذي بدا وكأن نظراته قد التصقت بها !!!!
ثم غادرت الغرفة بخطواتٍ سريعة …
فقام عزيز من مكانه بعدها بلحظات ليقول بارتباك مفضوح:
_عذراً سيد عاصي…سأجري مكالمة هامة بالخارج.
اشتعلت عينا عاصي بالغضب وهو يكز على أسنانه…
لكن عزيز لم ينتبه وهو يغادر الغرفة بسرعة آملاً في اللحاق بماسة…
ماسة التي قادتها خطواتها المندفعة الثائرة نحو غرفتها الأثيرة في الحديقة…
حيث جلست هناك مكانها لترفع عن وجهها نقابه ثم تخلعه بعنف لتلقيه بعيداً!!!
لم تعد له فائدة هنا…
لقد سقطت جميع الأقنعة…
وانكشفت كل الوجوه…
ارتج جسدها ببكائها وهي تتحسس عنقها مكان سلسلته …
والتي لم يبقَ مكانها سوى ندبة جرح عاصي يوم نزعها منها…
كم كان صادقاً يومها عندما قال لها أن جرحاً صغيراً سيكفيها جروحاً أكبر…
هل كان يعلم؟!!!
بالتأكيد كان يعلم…
رحمة أيضاً كانت تعلم…
الكل كان يعلم أن عزيز أضعف من أن يحتوي كسرها ويجبره…
وهي كانت “المغفلة” الوحيدة هناك..!!!!
المغفلة التي كانت تظن الحب وحده يكفي…
لكن …هل كان هذا حباً؟!!!
لا…ما كان…ولا سيكون!!!
لو كان حباً لكان صمد في وجه كل شئ…وأي شئ!!!
وهي الساذجة التي احتمت خلف بابٍ متهالكٍ تواجه به هبوب الريح…
فاقتلعته الريح لتسقط هي على ظهرها دون سند…!!!!
_ماسة!
قالها عزيز بلهفة فالتفتت نحوه بحدة….
ثم قامت من مكانها تتوجه نحوه وهي تمسح وجهها بكفيها قائلة بصلابة يعرف كلاهما أنها تدعيها:
_ماذا تريد يا عزيز؟!
تهدج صوتها رغماً عنها ولسانها يستعيد حلاوة نطق اسمه أمامه رغماً عنها…
لكنها غالبت شعورها وهي تردف دون أن تنتظر رده:
_أياً كان ما تريده…فهو ليس هنا.
انعقد حاجباه بدهشة وهو يغمغم بذهول:
_ماسة…أنا لا أصدق…أنتِ هنا…أنت..تزوجتِ عاصي الرفاعي؟!!!
أشاحت بوجهها عنه وهي تقول بثبات يناقض نبرات صوتها المرتعشة:
_نعم يا عزيز…أنا تزوجت عاصي…وأنت تزوجت ميادة…انتهى السطر بنقطة…وانتهت قصتنا بزواجنا.
ظل ينظر إليها طويلاً والصدمة تشل تفكيره ولسانه…
حتى وجد كلماته ليسألها بصوتٍ لاهث يملؤه الاستنكار:
_عاصي الرفاعي يا ماسة؟!!!الذي تعلم الدنيا كلها عن قسوته وجبروته؟!!لكِ أنتِ ؟!!
التفتت إليه لتسأله بسخرية مشبعة بالألم:
_هل هذا هو كل ما يعنيك؟!!لا تهتم أنني تزوجت بقدر ما تعنيك هوية الرجل الذي تزوجته؟!!
ازداد انعقاد حاجبيه وقد صدمته عبارتها…
لكن ما صدمه أكثر كان أسلوبها الجديد…
هذه ليست ماسته شديدة الهشاشة والرقة …
هذه ماسةٌ مكسورة قادرةٌ على إيذاء أي أحد تقترب أنامله من موضع كسرها الحاد…
لكنها لم تكترث بصدمته وهي تردف بنفس النبرة التي امتزجت فيها القوة بالسخرية:
_أجل يا عزيز…تزوجت “الشيطان” كما يلقبونه هنا…فهل تعلم ماذا قدّم لي!!
اشتعلت عيناه بمشاعر لا يعرف لها مسمى…
بينما أردفت هي :
_لقد أخذ لي ثأري ممن ظلمني…جاء بهم تحت قدميّ لأنتقم منهم كما أشاء…جعلني زوجته أمام الجميع…أسير مرفوعة الرأس هنا والناس حولي ينادونني زوجة السيد…ساعدني لأبني نفسي من جديد…فماذا قدمت أنت لي؟!!
أغمض عينيه بألم وكلامها ينكأ جروحه…
ويذكره بضعفه -الغبي-معها…
لهذا لم يتعجب عندما أكملت زفرات روحها الملتهبة:
_بعض الكلمات عن الحب؟!!…مع القليل من الوعود …والكثير ..بل الكثير جداً من الأحلام…صحيح؟!!!
فتح عينيه ببطء يراقب بحارها الفضية التي تتابعت أمواجها بين اندفاعها ب(مدّ) القوة…
وانحسارها ب(جَزْرِ) حسرتها …
خاصةً عندما أردفت بنبرتها ال-جديدة-علىه:
_كلمات الحب رائعة…والوعود أروع …والأحلام كانت أكثر روعة…لكنها جميعها كانت صفراً في خانة اليسار عندما تلقت أول صفعات القدر.
هز رأسه وهو يهتف بعجز:
_لا تقولي هذا يا ماسة…أنتِ لا تعلمين شيئاً عن شعوري طوال الأيام السابقة….وندمي على تفريطي فيكِ…ربما كنتُ ضعيفاً كما تقولين…لكنني لم أكن كاذباً في شعوري نحوك…أنا لم أخنكِ كما تظنين…أنا أحببتكِ وسأبقي أحبك…أنتِ..
رفعت كفها أمام وجهه تقاطع عبارته وقد اشتعلت عيناها بغضب أسود لم يره من قبل …
قبل أن تهتف بحزم:
_لا تنتهك حرمة البيت الذي تقف فيه…أنا الآن زوجة عاصي الرفاعي…ما عاد هناك كلامٌ يقال.
تجمد مكانه مصدوماً لا يصدق ردود أفعالها الجديدة…
بينما تجاوزته هي لتعود للقصر …
لكنها توقفت لحظة قبل أن تعاود الالتفات إليه قائلةً بحزم رغم صوتها الذي خانها ليبدو مرتعشاً:
_بلّغ رحمة مني السلام….وأخبرها أنها كانت على حق…لم يكن كلانا يليق بالأخر.
قالتها ثم أكملت طريقها بخطواتٍ أقرب للركض نحو غرفتها…
غافلةً عن عيني عاصي الذي كان يستمع لحوارهما -خفيةً -من أوله….!!!!
===========
وضع يده على مقبض الباب عندما أتاه صوت شهقاتها الباكية من الداخل…
ساعتها شعر بقلبه يدق دقة غريبة لم يعهدها من قبل…
هو ….الذي لم تهزه دموع الرجال!!!
تهزه دموع فتاة كهذه؟!!!
ظل واقفا مكانه لدقائق يستمع لصوت بكائها في غضب ممتزج بشعوره ال-غريب-نحوها…
من يرى القوة التي كانت تحدثه بها لا يصدق انها ستبكي بعدها هكذا…
هذه امراة تحدته هو بكل جبروته!!!!
لكنها فشلت في تحدي هذا الجرح الذي يملؤها…
تنهد في حرارة وهو يكاد يقسم انه قد ذاق يوماً مثله…
ويومها كاد قلبه ينشق فكيف بفتاة -هشةٍ – كهذه !!!
لقد استمع لحوارها كاملاً مع ذاك ال”فتى” بالحديقة…
ماسته-الأصلية الأصيلة- لم تخيب ظنه فيها….
في قوتها …وعزة نفسها…وذكاء ردودها…
وقبل هذا كله في احترامها لاسمه الذي تحمله رغم كل ما بينهما!!!!
ورغم رغبته الشديدة في تلقين عزيز هذا درساً لجرأته على حرمة بيته…
لكن…منذ متى يستجيب عاصي الرفاعي لصوت رغباته فحسب؟!!!
عقله دوماً يسبقه في حساب خطواته…
عقله الذي دعاه لتجاهل الأمر تماماً ومعاملة ضيفيه بمنتهي البساطة والاحترام حتى رحلا بسلام!!!!
والآن يجئ دور ماسته الكسيرة المتمردة…
ترى كيف ستواجهه الآن؟!!!
حاول فتح الباب لكنه كان مغلقا من الداخل…
فطرقه بقوته المعهودة…
ليتوقف صوت بكائها فجأة قبل أن يصله صوتها بتماسك يدرك الان انه مصطنع:
_من؟!
أخذ نفساً عميقاً قبل أن يهتف بصرامة:
_انا.
لم يصله صوتها للحظات قبل أن تقول بصلابة:
_دقيقة واحدة.
كانت قد توجهت لحمام غرفتها حيث غسلت وجهها جيدا تخفي اثار دموعها….
ثم أخذت نفسا عميقا لتتوجه نحو الباب وتفتحه بقوة…
قبل أن تعطيه ظهرها دون ان تنظر اليه…
لكنه جذبها من ذراعها فالتفتت اليه لتلتقي عيناها بظلمة عينيه العاصفة رغماً عنها!!!
عقد حاجبيه وهو ينظر لعينيها اللتين فقدتا بريق عنادهما لكنها تداري هذا خلف قناع من القوة يعرف انه لن يصمد سريعا…
ثم مد يده ينتزع المفتاح من الباب بقوة قبل أن يسحبها من ذراعها حتى وصل لنافذة الغرفة…
ألقى المفتاح بكل قوته من النافذة ثم نظر لعمق عينيها هامسا بصوته القوي:
_انا لا يغلق في وجهي باب…هل تفهمين؟!
أغمضت عينيها وكأنها شعرت انه يمتص قوتها بهذه النظرات المسيطرة…
فاقترب منها اكثر وهو يهمس بحزم:
_انظري إلي.
ظلت على إغماضها لعينيها للحظات وهي تود الآن لو ترجوه أن يرحل…
لكنها لن تفعلها…
ستظل قوية حتى اخر لحظة…
لن تضعف…
لماذا يأتيها الآن؟!!!
شامتاً أم مشفقاً؟!!!
ولماذا أتى بعزيز هنا من الأصل؟!!!
ليكسرها؟!!!
ليتشفى في قناعاتها الساذجة؟!!!
أم إمعاناً في إذلالها وقهرها؟!!!
قاطع افكارها وهو يضغط اكثر على ذراعها ففتحت عينيها لتهمس ببرود:
_ماذا تريد الآن؟!
ابتسم في سخرية رغم بريق الاعجاب الذي تالقت به شموسه الزيتونية قبل أن يهمس بنبرته المسيطرة:
_اريد اعترافك بان الحب هذا ليس سوى وهم يسقط عند اول اصطدام بالواقع كما أخبرتكِ يوماً.
ابتعدت بعينيها عن عينيه لتهز رأسها نفياً….
قبل أن تهمس بشرود وكانها تهذي:
_يوما ما سارحل من هنا…لأبني نفسي من جديد…امرأة قوية لا يقف امامها شئ…ساعتها سألتقي بالحب الذي أؤمن به…سأقابل رجلاً يستحقني…ليس مثلك…ولا مثل ذاك البائس الذي رحل منذ قليل…ساعتها…
قطع عبارتها وهو يقبض على فكها بكفه فشهقت بعنف عندما همس وهو يكز على اسنانه:
_كيف تجرؤين على مجرد التفكير في رجل اخر وانت على ذمتي؟!!!
شعرت بالخوف يتسلل إليها من جديد رغماً عنها….
لكنها نفضته عن روحها بسرعة لتقبض بأناملها على ساعده فتزيح كفه من على وجهها بكل قوتها…
قبل أن تهتف بحدة:
_إنه حلمي.
أمسك كتفيها بقوة يهزها بعنف وهو يقول بصرامة:
_حتى أحلامك ملكي أنا!
نفضت ذراعيه من على كتفيها وزأرت أمواجها الفضية بغضب هادر وهي تهتف بقوةٍ لم يرَها فيها من قبل:
_لا يا سيد عاصي…أحلامي ستبقى ملكي أنا…مهما فعلت أنت..لا تظن أنك كسرتَني عندما أحضرتَه إلي هنا لأراه مع زوجته…على العكس…أنت كسرتَه هو…نعم…كسرتَ الصنم الأجوف الذي كان له بقلبي…لكنني أنا لن أنكسر…
ثم خبطت بقبضتها على صدرها مردفة بنفس القوة:
_عندما لا يعود لديك ما تخسره فكل ما سيحمله لك القدر غنيمة…وأنا خسرتُ كل شئ…وأنتظر غنائم قدري.
ثم لوحت بسبابتها في وجهه مردفةً بتحدٍ صارخ:
_مهما علت أسوار سجنك ….يوماً ما سأحلق بعيداً عنها في سماءٍ لا تعترف بطغيانك…
اشتعلت غابات زيتونه من جديد بحرائق غضبه …
ولم تكن عيناها أقل اشتعالاً وهي تنهي هذا الحوار بجملتها :
_السماء لا تكافئ الشياطين بالماسات…وأنا أعرف قدر نفسي كماسة…ماسة لن تكون يوماً لشيطان.

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ماسة وشيطان)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى