رواية غوثهم الفصل الثامن والتسعون 98 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل الثامن والتسعون
رواية غوثهم البارت الثامن والتسعون
رواية غوثهم الحلقة الثامنة والتسعون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثالث عشر_الجزء الثاني”
“يــا صـبـر أيـوب”
______________________
يَرْجُو لِقَلْبٍ حَرَاكَ تَضَرُّعِي
وَابْتِهَالِي بِدَمْعِ عَاصٍ جَفَاكَ
وَصِرْتُ أَدْعُو وَأَرْجُو مُؤَمِّلاً رُحْمَاكَ
فَارْحَمْ ضَعِيفًا مُقِرًّا بِذَنْبِهِ قَدْ أَتَاكَ
تَبَتُّلِي وَصَلاتِي أَدْعُو وَأَرْجُو
رِضَاكَ فَاغْفِرْ ذُنُوبِي وَهَبْنِي
فِي كُلِّ أَمْرِي هُدَاكَ
_”مقتبس”
__________________________________
سأخبركِ أنني ضيعتُ مني في الكون،
وتغربت في أطراف البُلدان، ورُبما تعرضتُ لظلم حاكمٍ
ورُبما سكنتني الغُربة وملأت الوجدان، وقد يكون الهجر من صفاتي، لكني لم أنسْ أنني على يديكِ علمت كيف يكون الإنسان، فإني وبرغم ذلك عندكِ وجدتني، وبعدما راح كُلي عني في عينيكِ من غُربتي عرفتُني،
وجدتني أنا ذاك الغريب عن الكل إلا أنتِ،
وكأنكِ خُلقتي من ضلعٍ يجاور قلبًا لم تسكنه غيركِ أنتِ،
وعلمتُ معكِ كيف تكون الدُنيا حانيةً
على مرء قتلته مئات المرات وأضحت عليه جانيةً،
حقًا صدقوا من قالوا أن هذه الدنيا ما هي إلا فانية،
لكن نفس المرء إن هَوت وأحبتْ
تُنجيٰ من موتٍ مزقها ثانيةً.
<“ماذا أجنت الطيور المُطالبة بالحريةِ؟”>
قيل ذات مرةٍ أن الشباب هم بُوصلة تُشير إلى مدىٰ رفعة الأمم، فإذا وجدت أمـةً تروس مُحركاتها هم الشباب فأعلم أن هذه الأمـة ستبقى قائمة، وإذا ظللتُ تبحث فيها عن الشباب، فأعلم أنك أمام أمـة بكل أسفٍ خائبة، فالشباب كما الطيور كُلما نالت حُريتها، كُلما صانت أوطانها، فلا تلومن على شبابٍ أكهلته الظروف، وملأه الخوف..
هذا الطير الحُر، والخيل الجامع، أضحى عاجزًا عن رفع جناحيه، وأقل من الركض في ساحة المعركة، وكأن السباق لم ينتظره حتى يتجهز، شابُ حر يتم القضاء على حريته، من خلال تكبيل كلا ذراعيه، وتكميم فمه عن المطالبة بالحُرية، ثم إغماض جفنيه لكي لا يُبصر شعاع النور، وفي النهاية الحُجة القوية أنه طيرٌ يود الحُرية، عصابة من النسور الجارحة تقضي على طيرٍ حر لكونه رافضًا لمبدأ الاستعباد، ومن ثم يتم تركه والركض بعيدًا عن مرآى العينين تزامنًا مع إقتراب “مُـنذر” بدراجته البُخارية منه ليجد رفيقه طريحًا فوق الرمال فصرخ باسمه وهرول نحوه مُسرعًا بقلبٍ دوت نبضاته عاليًا..
أقترب منه يرفعه عن الأرض ليجده يتنفس بضعفٍ والدماء غطت وجهه المكلوم كما أن جفونه كادت أن تُغلق لكنه شدد ضمته عليه مُناديًا باسمه لكي يجذب انتباهه، ثم صرخ على العاملين مستغيثًا بهم حتى ركض له “مُـحي” الذي وصل المُحيط لتوهِ ومن الصدمة أُلجِمت حركته حتى صرخ ابن عمه فيه يعيده لرشدهِ قائلًا:
_أنتَ هتقف لسه تتفرج !! هات العربية بـسـرعـة.
ركض الآخر بلهفةٍ يولج سيارتهِ ثم ذهب بها إلى “مُـنذر” الذي عاونه الشباب في رفع “إسـماعيل” لداخل السيارة بتريثٍ بعدما نبه عليهم بذلك “مُـنذر” وهو يرى الآخر شبه فاقدٍ للوعي، وأنفاسه متقطعة، ثم قادها الآخر بينما “مُـنذر” فجلس بجوار رفيقه يرفعه من على الأريكة ويضمه بكلا ذراعيهِ ماسحًا على فؤادهِ والآخر يحاول القبض على كفهِ لكي يُطمئنه وكأنهما طيران يواسي كلاهما الآخر، والسؤال المطروح هنا؛ ماذا أجنت الطيور المُطالبة بالحريةِ ليكون العقاب كسر جناحيها؟.
__________________________________
<“لا تلومن القلوب الحزينة على صمتها”>
قد نرفض التلاقي وتجمعنا مرغمين الطُرقات..
ورُبما نرفض الحديث لكن تجذبنا أحن الأصوات، ورُبما تُضيعنا في أوساطها المُدن ومن جديد تُعيدنا وعود الكلمات، واليوم أرى كل ذرةٍ بي تخون حزني وكأن المتمرد بداخلي قد مات، هكذا فكرت “عـهد” وهي تجلس بشرودٍ بين الفتيات بعدما تعرفت عليهن وكذلك الصغار في هذه العائلة، ثم تذكَّرت خيانة عينيها لها وهي تتابعه موضع جلوسه في الطرف المقابل جهة الشباب، وكأن عيناه أضحى كل شاغلها هي مراقبتها هي..
علم “أيـوب” أنهما لم يتصادما معًا فأشار لصديقه “ياسين” الذي عُرِفَ بالحكمةِ وحسن التصرف ورجاحة العقل، وعليه أومأ الآخر له بكلا جفنيهِ ثم وقف وأمسك معه “يـوسف” الذي حرك رأسه له فجأةً يتعجب من جَرِّ الآخر له حتى وقفا سويًا في مكانٍ منزوي عن الأعين وباشر حديثه معه بقولهِ:
_أنا مش عاوز أتدخل في حاجة متخصنيش، بس أنا هقولك على حاجة مهمة، مفيش حد فينا بيقدر يعيش لوحده حتى لو هو حابب الوحدة، فطرتنا كدا، وأنتَ على ما أظن يعني جربت الوحدة بما فيه الكفاية، جربت وعيشت، فاكر لما قابلتك في شمال سينا وكنت زعلان أوي إني سايب مراتي وعيلتي؟ ساعتها أتريقت عليا وقولتلي إنك مجربتش الجو دا، وسبحان الله هي شهور وتلاقي عيلة كاملة ومعاهم شريكة حياتك، يعني نعمة ربنا كرمك بيها، يبقى نعقل ونقدر قيمة الحاجة اللي عندنا، خصوصًا لو دوقت طعم غيابها عنك، وعلى فكرة أنا لما “أيـوب” كلمني قولتله هوصلك ودورت على مكانك وعرفته، وكان كل الغرض نطمن الناس اللي في حياتك، تفتكر هما يستاهلوا تعبهم عليك كدا؟.
سأله بمعاتبةٍ أنطوت عليها كلماته فلم تظهر مُباشرةً بل مُجمل الحديث هو ما أوضحها، وقد تفاقم شعور الذنب لدى الآخر في نفس التوقيت الذي صدح صوتٌ بدخلهِ يدافع عنه وهو يصرخ أنه لم يكن سببًا لهذا الفعل، أراد أن يُبريء نفسه مما يتهمونه بهِ لكنه كعادتهِ صمت مومئًا برأسهِ مُقرًا بذنبهِ حتى وإن كان هناك جزءٌ بداخلهِ لم يقتنع باقتراف هذا الذنب.
بعد مرور عدة دقائق أقترب “أيـوب” من زوجته يشير لها لكي تفهم أن الرحيل قد حان لكنها وقفت أمامها تسأله بعينيها عن سبب إشارته لها فأضاف هو مُردفًا:
_يلا علشان نمشي، إحنا قولنا هي نص ساعة، داخلين في أربع ساعات هنا، الوقت اتأخر يلا بقى.
طالعته بإحباطٍ ثم التفتت وهي تناظر موضع جلوس الفتيات مع بعضهن والأطفال الصغار أيضًا ثم عاودت النظر إليه من جديد تهتف بضجرٍ:
_ماهو مكناش نعرف إن قعدتهم حلوة كدا، حد يسيب الناس الحلوة دي ويمشي؟ بص الأطفال هنا سكر إزاي؟ كلهم من سن بعض وحاجة تحفة، عاوزة طفل يا “أيـوب” ويبقى زي “يـونس” كدا.
أشارت نحو الصغير ابن أحد الشباب أصدقائه فيما ضحك هو رغمًا عنه وسكت عن الرد مومئًا برأسهِ ساخرًا حتى تنهدت هي ونظرت لشقيقها الذي أشار برأسهِ لها حتى عادت لموضعها تودع الفتيات وأسرة المولودة ومعها “عـهد” أيضًا االتي ودعت الصغيرة ولثمت جبينها وكأن الوداع أتى في غير موعدهِ، ثم رحلت مع “قـمر” نحو الأسفل وقد تبدل حالها كثيرًا وسط هذه الجلسة النسائية المرحة وطيبة العائلة وتواجدهم برفقة بعضهم في مناسبةٍ لم تعهدها من قبل بعدما حُرِمَت من المناسبات العائلية طواعيةً منها قبل أن تكن إجبارًا من عائلتها.
في الأسفل أوصلهم “ولـيد” خال الصغيرة وأنتظر خروج الفتيات ثم أمسك “يـوسف” الذي يشابهه كثيرًا في العديد من الصفات وكأنه قرينه وتحدث معه بثباتٍ قائلًا:
_من أول ما شوفتك بتبصلها عرفت إن فيه حاجة بينكم، اسمعها مني علشان تقريبًا كنت زيك كدا، متسمعش كلام نفسك ولا تمشي ورا رأيك، أمشي ورا قلبك لما يطلب منك تآمن ليها وبيها، بكرة تعرف إن دي الوحيدة اللي ممكن تشوف عيوبك وتسترها وتعرف مساوئك وتعديها، الكلام دا أنا شوفته بعيني وعيشته، وأنتَ بما إنك زيي صعب عليك تآمن لحد روح عرفها حاسس بإيه وإيه اللي خلاك تمشي، سامعني يا “يـوسف”؟.
أومأ له موافقًا فيما عانقه الآخر وربت على ظهره بكلا كفيهِ فيما أمتن الآخر له كثيرًا وألقى عليه كلمات الشكر؛ فهذه لم تكن مرتهما الأولى التي يساعد فيها كلاهما الآخر، بل جمعت الحياة بينهما في مواقفٍ عِدة جعلتهما يقفا سويًا برفقة بعضهما، وفي هذه اللحظة نزل “ياسين” ورآهما سويًا فابتسم ساخرًا ثم أقترب منه يذكره بضرورة هذا الفعل:
_مش هو ولا أنا اللي محتاجين الشكر، فيه ناس أهم مننا، وأولهم “أيـوب” اللي وقف في غيابك وسد مكانك وكان بيلف عليك زي المجنون، أظن يعني أقل واجب إنك تقدره علشان صدقني هتضيع من غيره.
أنهى حديثه فتدخل “ولـيد” ساخرًا بأدبٍ مصطنعٍ:
_أيوة اسأله حتى أنا بعامله إزاي، صح يا مهلبية؟ مش أنا عمري ما زعلتك خالص؟.
مط “ياسين” شفتيهِ ساخرًا ثم رفع ذراعه يضغط على كتف الآخر الذي كتم تأوهاته فيما ضحك “يـوسف” عليهما ثم ودعهما وخرج من البيت تمامًا يجلس بجوار “أيـوب” الذي مل كثيرًا داخل من إنتظار الآخر، لكن ما إن ولج يجاوره قاد السيارة ورحل بها عائدين إلى حيث أتوا.
بداخل السيارة حاولت “قـمر” تلطيف الأجواء بينهم فأشارت إلى أصحاب المناسبة بقولها ضاحكةً:
_بس طلعوا ناس طيبين والبنات هناك كلهم سكر مع بعض، حسيت بجو أسري كدا عسول أوي كأني أول مرة أدخل بيت عيلة، وعلى فكرة هما قالولي إنهم هيعزمونا مرة نقعد معاهم، وأنا وافقت بصراحة، أصلها فرصة يعني.
ضحكوا على حديثها وحماسها الذي نافىٰ خوفها صباحًا من المجيء معهم، بينما هي مالت للأمام تستند على كتف شقيقها وهي تسأله بلهفةٍ حماسية:
_صحيح هو أنتَ بتخاف تمسك الأطفال؟.
ابتسم لها مُرغمًا ثم أومأ موافقًا وأضاف مؤكدًا:
_آه للأسف، الفكرة إن عضمهم بيكون ضعيف وحجمهم صغير أوي فبخاف بجد أمسكهم علشانهم هما ميتآذوش مش علشان خوف مني، بس أكيد مش هفضل كدا يعني، بكرة أخلف وأشيل براحتي وأتعود، خصوصًا إن الناس لما بتتعود بترتاح أوي، مش كدا يا “عـهد”؟.
وجه سؤاله الأخير لزوجته التي تضرج وجهها بحمرة الخجل من وقاحته وتلميحه المُبطن فيما التفت لها برأسهِ يسألها بعينيهِ عن جوابها فنبست هي من بين شفتيها بصوتٍ أقرب للهمسِ بالكاد استدله من حركة شفتيها:
_قليل الأدب ووقح.
أعاد رأسه للأمام مُجددًا وهو يبتسم بتلذذٍ لكونه يبرع في إثارة حنقها بهذا الشكل، لقد قرأ ما دونته في دفترها عنه وكيف شكته للأوراق وعاونها في ذلك الحبر، رآها كيف كانت تتحدث معه في غيابه وتسرد له مخاوفها عليه قبل أن تكون منه، آهٍ لو تعلم أن الأمر أكبر من مجرد فعلٍ يسيطر عليه، بل هو عالم آخر يسكنه، لذا عادت المجادلات تشتد في رأسه تذكره بحديث أمها وكيف كانت كما القشة التي قسمت ظهر البعير.
أطلق تنهيدة قوية ثم أغمض عينيه لوهلةٍ يصرف تركيزه عن حديث أمها وموقفها ثم أخرج هاتفه وفتحه وعلى الفور وصلته مكالمةٌ من “سـراج” جعلته يجاوب بدون إكتراثٍ بدله الآخر بقولهِ مُتعجلًا:
_أنتَ فين يا “يـوسف”؟” عزيز” كلمني وقالي إن فيه ناس أتهجمت على “إسـماعيل” وضربوه وراح المُستشفى و “إيـهاب” مع مراته عند الدكتور، لو تعرف تيجي تعالى وأنا رايح أهو على هناك بس الحج هييجي معايا.
تفاجأ “يـوسف” بل صُدِمَ تمامًا ولم يلتقط سوى اسم المشفى قبل أن يغلق الآخر معه المكالمة وحينها هتف هو بصوتٍ مُضطربٍ يوجه حديثه للآخر:
_معلش يا “أيـوب” سرع شوية علشان فيه ناس أتهجمت على “إسـماعيل” وضربوه وراح المستشفى، لازم أكون معاهم، ممكن بسرعة شوية؟.
ألقى الجملة المُضطربة التي صدمت البقية لكن “أيـوب” تلقائيًا رفع سرعة السيارة على عكس الفتيات اللاتي صدح صوتهن مُضطربًا ومستفسرًا عن الحادث فنفىٰ “يـوسف” علمهِ أي شيءٍ وبدا خائفًا بشكلٍ ملحوظٍ جعل “عـهد” تمد كفها من خلفهِ وتقبض على كفهِ خفيةً وكأنها تؤازره بهذا الشكل الصامت وكم كان مُمتنًا لها في هذه اللحظة كونها لم تتركه لمخاوفه.
__________________________________
<“فُتِحَت أبواب الجحيم على من أراد لنا الغدر”>
بداخل سيارة “إيـهاب” استقر فيها بعدما أجلس زوجته بعد خروجهما من العيادة النسائية لمتابعة الكشف الدوري، وقد أخبرتهما الطبيبة أنها أنهت الشهر الثالث في حملها وبدأت في شهرها الرابع، وحينها شددت على ضرورة الحماية والإهتمام بها وبطعامها وتناول فيتاميناتها والاستمرار على تناول الفاكهة والخصروات كما هي..
تحدث هو بنبرةٍ مرحة وضاحكة أعربت عن بالهِ المرتاح بتلك الزيارة:
_شوفتي بقى؟ اسمعي الكلام علشان تكملي على خير، دلوقتي هروحك وأرجع على الشغل تاني، لو عاوزة حاجة خليها بكرة علشان ألحق أروح بس أشوف “إسماعيل” كان هيروح يحدد معاد الخطوبة وشكله كدا هيخليها بكرة، تمام يا عمنا؟.
أومأت موافقةً وهي تبتسم له ثم رفعت كفها تمسح على بطنها بحنوٍ فطري نشُبَّ عن عاطفتها الأمومية وهي تشعر بقطعةٍ أخرى منها تسكن داخلها ويزداد حجمها مع مرور الأيام حتى يحن الوقت وتراه نصب عينيها، فيما لمحها هو بطرف عينه ولاحظ شرودها مبتسمة فقربها منه يضمها بذراعه ثم لثم جبينها ومسح على رأسها يُغدقها بحنان العالم بين ذراعيهِ وكأن العالم أُختِصر فيه هو.
وصلت السيارة للبيتِ أخيرًا ونزلت “سـمارة” منها بعدما عاونها “إيـهاب” ودلفا البيت سويًا فوجدا في وجههما “تـحية” التي أتضح عليها الخوف وهي تطالعهما معًا، بينما هو حرك رأسه يتفحص سكون البيت ثم سألها بحيرةٍ:
_هو البيت ساكت كدا ليه؟ وفين الحج؟.
لوت فمها خوفًا من القادم لكنها تيقنت أنها فقدت كل طرق الهروب منه ومن إخباره وقد قرأ هو الصراع البادي عليها فسألها بنبرةٍ جامدة ينتشلها من شرودها حتى ازدردت هي لُعابها ثم جاوبته بنبرة صوتٍ مُهتزة:
_شوف بقى، بصراحة الحج راح مع “سـراج” مستشفى ****** علشان “إسـماعيل” هناك بس معرفش ماله والله.
برَّقت عيناه على الفور عند استماعه لاسم شقيقه فيما شهقت زوجته ولطمت صدرها بأحد كفيها خوفًا على أخٍ أهدتها الطُرقات به حينما جمعت بينهما، فيما استجمع هو شتات نفسه ولملمها سريعًا ثم التفت عائدًا يخرج من البيت بخطواتٍ واسعة أقرب للركض وهو يصارع ذرات الهواء لكي يلمح حبيب القلب قرين الروح.
في المشفىٰ العام..
ولج “إسـماعيل” غرفة بداخل المشفى يتلقى فيها الرعاية اللازمة من تمضيض لجراحهِ الغائرة ورعاية بعظامهِ وعمل آشعات طبية للإطمئنان عليه بعدما أمر “نَـعيم” بذلك ونظرًا لمكانته في المنطقة وصيته المُذاع شرقًا وغربًا هناك انقلبت الأحوال من إهمالٍ شديد إلى رعايةٍ فائقة، والمقابل كلمة آمرة ونقودٍ مدفوعة، أما مسألة الرحمة والرأفة فهي مسألة عينية يُنظر لها ذاتٍ مرةٍ أخرى.
وقفوا الشباب بجوار الغرفة يلتفون حول “نَـعيم” الذي وقف يستند على عصاه يتضرع للخالق أن يخرج ابنه الروحي مُعافىٰ من كل سوءٍ وقد أتىٰ “إيـهاب” راكضًا يبحث عنهم بعينيهِ حتى وجدهم سويًا أقترب منهم بأنفاسٍ متقطعة وقد مال بجسدهِ للأمام يلتقط أنفاسه ثم أعتدل باحثًا بعدستيه عن شقيقه فأقترب منه “سـراج” يُسانده ويؤازره ماسحًا على ظهره فيما خطى هو نحو “نَـعيم” يسأله بصوتٍ مبحوحٍ:
_أخويا فين؟ إيه اللي حصله؟ ما حد يقولي متسبونيش لدماغي كدا، حصله إيـه يا “مُـنذر”؟.
طالعه الآخر بخزيٍ من نفسه وتقديرًا لحالة الآخر فيما تحدث “مُـحي” يُطمئنه بقولهِ:
_متقلقش، أخوك بخير وهيخرج زي الفل، فيه ناس أتهجموا عليه ورا الكافيه مكان ما بيحب يقعد لوحده، وعلى ما “مُـنذر” وصله هربوا، بس أنا كلمت الشباب قولتلهم يفرغوا الكاميرات لحد ما نروح، و”ميكي” هناك معاهم.
صمت وأظلمت عيناه بوميضٍ بارقٍ، وظل يُردد الحديث في عقلهِ وكل ما يشغله فقط هو الخوف على شقيقه، ولو كان الأمر بالحديث والصراخ والعويل لكان فعل كل ذلك متخليًا عن هيبته وهيئته الجامدة، لكن الأمر دومًا يحتاج لعقلٍ مُشبعٍ بالقوة ثم جسدٍ يُترجم هذه القوة، وهو؟ هو هُنا المُعلم
الأول في فنون استرداد الحق، لطالما كان مبدأه الأول لن يضيع حقٌ وراءه مُطالبٌ، أما هو فليس بطالبٍ هو لأجل الحق يغدو مُقاتلًا.
مرت دقائق أخرى وصل خلالها “أيـوب” و “يـوسف” معًا للمشفىٰ ثم وقفا بجوار الشباب حتى خرج “إسماعيل” راقدًا فوق الفراش المدولب المعدني بعدما وُضع اللاصق الطبي فوق وجههِ وتم لف أحد كفيه بالشاش الطبي إثر جرحٍ أصابه، وكلا قدميه تمت تغطيتهما برابط الضغط الطبي، الإصابات لم تصل لحد المُبالغة ويبدو أن الفاعل صاحب خبرة في تلقين الدروس بهذه الطريقة، وأكثرهم ألمًا عليه كان شقيقه الذي كلما وقعت عيناه على جرحٍ يؤلمه هو وكأنه هو المُصاب وليس شقيقه..
تم وضعه بداخل غرفة أخرى هادئة تمامًا يتوسطها فراشٌ واحدٌ وتم نقله عليه بينما “إيـهاب” فوقف بجواره يمسح على رأسهِ وخصلاته الكثيفة المرفوعة للأعلى حتى استوطنت الغصة محلها في حلقه ممتدة إلى أذنيه وطفق الدمع يظهر في عينيهِ تزامنًا مع ظهور صوت تصدعٍ شقشق في روحهِ حتى فتح الآخر عينيه يتأوه بألمٍ جعل شقيقه يُحمحم بقوةٍ ليستعيد ثباته وما إن تلاقت النظرات ببعضها مال عليه يلثم جبينه ثم هتف بصوتٍ مخملي ودافيء:
_حقك عليا يا أغلى ماليا، أنا آسف، وحمار علشان سيبتك لوحدك، متزعلش إني قصرت معاك بس كان غصب عني والله، بس وعد وربنا اللي خلق الخلق كلهم، قبل ما عينك تغمض وتنام الليلة دي، حقك هيكون راجع، واللي فكر يرفع عينه فيك أنا هقفلهاله خالص.
أنهى حديثه ثم لثم جبينه ثانيةً وخرج قبل أن يتحدث شقيقه وكأنه يهرب من شعور الذنب بذلك، وما إن خرج لهم أقتربوا منه فهتف هو بثباتٍ غريبٍ يجعل كل من يراه يخشى الوقوف أمـامه في لحظتهِ هذه:
_هو فاق جوة، والدكتور قال ساعتين وهيخرج من هنا، “سـراج” روحه ومعاك “مُـنذر” و”مُـحي” هيروحوا معاك أهم، عن إذنكم.
هتف حديثه الجامد المُبرمج بصورةٍ آلية ثم خرج من الرواق المزدحم وحقًا أصابه العمى لكن “يـوسف” تركهم وركض خلفه حتى لا يتركه بمفردهِ كما لم يفعل أيًا منهما ويترك رفيقه بوجه المصائب فُرادة وقد أقترب “إيـهاب” من السيارة يفتحها ففعل الآخر المثل وفتح الباب المجاور وحينها رفع “إيـهاب” رأسه نحوه يحدجه بشررٍ جعله يهتف بلهفةٍ يستوقفه:
_لو ناسي هفكرك إنه أخويا أنا كمان، مش هسيبك ولو رايح تجيب حقه أنا معاك، أركب يا “إيـهاب”.
في الحقيقة حالته لم تسمح له بالجدال ومن المؤكد أيًا من يعترض طريقه سيطوله الأذىٰ، لذا سكت وولج السيارة تزامنًا مع ركوب الآخر ثم قادها يشق الطريق بها شقًا نحو الخطوة الأولىٰ في استرداد الحق، وبكل آسفٍ ذهب بأسوأ مافيه، حيث الطريق الذي قطع وعدًا بالبعد عنه، وأقسم بالعدول عنه، طريق القوة والقسوة والحِدة، نفسه الطريق الذي يتعامل فيه المرء بلا روحٍ تُشفق ولا قلبٍ يرحم، لكن كما سبق وقيل على لسانه أنها دُنيا، كُلما وجدته في النعيم، تمتد أياديها تسحبه نحو الجحيم.
__________________________________
<“لقد أصررنا على الخطأ، رغم أن الأصح أمامنا”>
في المشفى الاستمثاري..
جلست هذه الفتاة التي ألقت نفسها في الهاوية ظنًا منها أنها تنجي نفسها، ولم تعلم أنها بذلك تُدمر نفسها وكل من حولها، وقد شردت في حديث الطبيبة منذ قليل حينما ولجت لها خفيةً بعدما سبق واستعلمت من الممرضة الخاصة بها أنها تقوم بعمل هذا النوع من العمليات المشبوهة لكنه يتم بسريةٍ تامة، وقد تذكرت حديث الأخرى وهي تحدثها بحذرٍ:
_بصي واضح إنك سألتي وعرفتي إني بعمل النوع دا من العمليات، بس أنا مش هينفع أتكلم في أي تفاصيل هنا، أنا هديكي رقمي وعنوان عيادتي الخاصة، بس أهم حاجة محدش يعرف حاجة ولو حد هييجي معاكِ ياريت يكون موثوق فيه ومش بتاع مشاكل، أهم حاجة أنتِ متجوزة ولا؟…
وجهت لها السؤال بتهمةٍ أخلاقية جعلتها تتحدث بسرعةٍ كُبرى تُبريء نفسها وتنفي ارتكابها هذا الجُرم الفج، ثم بررت فعلها بصوتٍ مهتزٍ أعرب عن الإضطراب الساكن بداخلها:
_لأ، أنا متجوزة طبعًا، بس.. بس فيه ظروف عائلية وشخصية تخليني مش عاوزة البيبي دلوقتي، يعني كدا أفضل للكل، أنا بس عاوزة أنزله علشان معنديش استعداد لوجوده الفترة دي خالص، ووالده كمان الفترة دي تعبان وأكيد الطفل دا هيبقى سبب خلافات كبيرة.
طالعتها الطبيبة بتعجبٍ وشملتها بنظرةٍ تفحصية من أعلى للأسفل عدة مراتٍ ثم هتفت بتهكنٍ رافعةً أحد حاجبيها:
_ولما أنتِ مش عاوزاه مبتاخديش حذرك ليه؟ من الأول دخلتي علاقة ليه؟ لو أنتِ متجوزة زي ما بتقولي أكيد عارفة إن الجواز بينتج عنه طفل، ولا محدش قالك؟.
لاحظت هي أسلوب الطبيبة وحِدَتها معها في الحديثِ فأندفعت تُبريء نفسها بقولها نافيةً استقبالها للتهم:
_علشان أنا طول الوقت باخد حذري، بس مرة كان للأسف راجع سكران وكان متغير وخوفت منه، وأنا عادتي إني باخد الدوا بس للآسف المرة دي ماخدتهوش، وكنت شاكة إن فيه طفل فعلًا بس كنت بكذب نفسي، المهم هتساعديني؟.
أقتنعت الطبيبة بحديثها وناولتها الموافقة ثم أعطتها البطاقة التعريفية عنها ورقمها الشخصي وعنوان عيادتها السرية وحينها دون عقلها التفاصيل قبل يديها ثم تركت العيادة وعادت تستقر بجوار زوجها شاردةً وكأنها في عالمٍ آخرٍ غير هذا العالم الذي يعيش فيه سائر البشر حتى لاحظها “نـادر” الذي ركز بصره عليها وهتف اسمها بصوتٍ عالٍ بعض الشيء:
_”شـهد”؟ مالك ساكتة ليه؟ فيه حاجة مزعلاكي؟ أنتِ سرحانة علطول ومش معايا، مالك بس؟ أنتِ لسه زعلانة مني؟.
رقت نبرته ولان صوته من جديد وهو يحدثها حتى رفعت عينيها له تتواصل بعينيهِ فوجدته يبتسم لها ثم رفع كفه يحاوط شطر وجهها هاتفًا بصوتٍ هاديءٍ:
_أول ما أخرج من هنا هنسافر مع بعض أنا وأنتِ، والفترة اللي فاتت دي ننساها خالص وهعوضك، وهغير حاجات كتير في حياتنا ونصلح كل اللي باظ سواء بسببنا أو من غيره، حاسس إني عاوز أعمل حاجات كتيرة وأنتِ معايا، نخرج بس من هنا وكل حاجة هتتصلح.
أجبرت شفتيها على الابتسام له فيما ابتسم هو بعينيهِ ثم مسح على وجنته بأناملهِ الدافئية حتى وصل “سـامي” لهما وفتح الباب وطَلَّ منه فابتعدت هي على الفور عن “نَـادر” الذي حرك رأسه نحو الده يطالعه بنظرةٍ غريبة على الاثنين وكأنه يراه لمرتهِ الأولىٰ، وكذلك اقترب منه الآخر الذي رسم الجمود على ملامحهِ خافيًا لوعته وشوقه لفلذة كبده، وما إن وصل إليه ووقف أمامه يسأله بصوتٍ خاوي:
_أخبارك إيـه دلوقتي؟ بقيت كويس؟.
تنهد “نـادر” وحرك رأسه مومئًا له بحركةٍ خافتة جعلت الآخر يبتسم له ثم التفت لزوجة ابنه يوجه حديثه لها قائلًا:
_لو عاوزة تروحي ترتاحي أتفضلي يا “شـهد” شكلك تعبان ومرهق والشغل الصبح بيضغط عليكِ وبليل وجودك هنا، السواق برة خليه يوصلك وأنا هبات الليلة معاه.
في الحقيقة لو كانت أخرى غيرها من المؤكد سترفض هذا العرض رغم قوة إغرائهِ لكنها حقًا رأت الفرصة تقدم لها على طبقٍ من الفِضة خاصةً مع نظرات زوجها وابتساماته له كأنه يشدد أزرها هي وليس أن العكس هو المُفترض، وعليه وافقت حتى تهرب من الشعور بالذنب وتحصل على مساحتها الشخصية في التفكير مُجددًا في أمر الإجهاض.
تابعها “نـادر” بإحباطٍ وهو يراها تخرج من الغرفة مُنصاعة خلف حديث والده وكأنه لم يخصها أو حتى تهتم لأمرهِ وشئونهِ، أرادها أن تختار المكوث بجوارهِ وتبقى معه في محنتهِ، لكنها لطمته بفعلها فوق وجههِ ثم ضربت بمخيلاته عرض الحائط حتى دون أن تنظر خلفها ولو لمرةٍ واحدة ولم ينتشله من ألم تفكيره سوى صوت والده يراجع معه حديث الطبيب وحينها تجاهله هو ثم أرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه يهرب من صورة واقعية تتجسد في رأسه وكأنه يُلاقي نتيجة أخطائه ويحصد زراعته الخاطئة.
__________________________________
<“الفتيات في المعتاد زهور تحبهن الفراشات”>
خلق المرء في حياةٍ تحمل الصواب وكذلك تحمل الخطأ، والمرء هو من يختار الطُرق التي يسير فيها، ومن المؤكد أن طرقاته ليست دائمة بل هي تتغير من الحين للآخر، فتارةٍ تجده على أصغر تفاصيل الصواب متواجدًا ثم تارةٍ أخرى على أكبر مقاعد الخطأ مُتربعًا..
جلست “جـنة” في غرفتها ليلًا تحاول استجماع نفسها المُشتتة وإيجاد ذاتها الضائعة ثم لملمة روحها المُبعثرة، وقد رافقها شعور الذنب والخزي مما فعلت وكأنها تخجل من خالقها، كانت ترتدي الثياب الشرعية ثم خلعتها تمامًا، كانت تحاول في حفظ القُرآن الكريم لكنها أنصرفت عن مجالس القُرآن، أوقفت الأغاني والموسيقى ثم عادت من جديد تصادقهما، تركت نفسها للفتور يفتك بها، لتمر بانتكاسةٍ حادة كلما تركت نفسها لها كلما استحالت عودتها، أو هكذا ظنت، وعليه أضحت مُشتتة نفسيًا وتائهة فكريًا، حتى الصُحبة الصالحة ابتعدت عنهن ولاذت بنفسها بعيدًا عنهن.
ظلت تستمع لصوتها الداخلي الذي يأني صارخًا من حالهِ الجديد _الذي كان كان قديمًا في سابق الأمر_ وهو يذكرها كيف كانت حياتها وهي تلتزم بالطاعات وتقترب أكثر من الخالق جل وعلا، لينتهي الأمر بها وهي حتى الفروض الأساسية تُجبر على فعلها، لذا نزلت عبراتها تنساب فوق وجنتيها باكيةً بحدةٍ لكونها ضاعت من نفسها وخشيت أن تعود من جديد أو ربما خجلت من نفسها من بعد غياب أشهر عديدة عن طريق ربها؛ لذا حسمت أمرها وقررت أن تلجأ إلى الشخص الوحيد الذي لن يبخل بمعاونتها بل سترحب بها، ابتسمت فور تذكرها لوجود هذه الشخصية وكأنها شعاع النور المُضاء بداخله حتى تُبصر في نفسها أملًا..
في مكانٍ آخر غير ذلك..
تحديدًا في شقة “مهرائيل” وتحديدًا بداخل غرفتها كانت تجلس على الفراش وهي تمسك أحد الكُتب المُفضلة لديها تقرأها بإنغماسٍ بين صفحاتها وكأنها فراشةٌ تتحرك وتتنقل بين الأغصان بكامل إرادتها الحُرة حتى قطعت هذه اللحظة شقيقتها التي جلست على الفراش بجوارها وهذا ما أخرجها عن العالم الآخر لتعود إلى عالمنا هاتفةً بنزقٍ:
_ها؟ خير يا رب مع إني أشك بصراحة.
كتمت “مارينا” ضحكتها كرد فعلٍ على حديث شقيقتها ثم هتفت بضحكةٍ مكتومة:
_بصي أنا جاية أقولك إني أخيرًا خدت القرار وعرفت أنا عاوزة إيـه، خلاص هتخطب وهخلص آخر سنة في الجامعة وبعدها هقرر اللي المفروض أعمله، لكن قبل كدا مش هقدر آخد أي قرار يا “مهرائيل” صحيح الخطوبة دي أنا كنت ضدها طول سنين الدراسة بس طالما آخر سنة خلاص مفيش مشاكل، مش كدا أحسن؟
سألتها بضياعٍ وصوتٍ مُضطربٍ إن دل على شيءٍ فهو يدل على إضطراب الشخص ذاته فيما زفرت شقيفتها وأغلقت الكتاب ثم تركته بجوارها وأعتدلت تواجه الأخرى وهي تحدثها بثباتٍ:
_عارفة مشكلتك إيه بجد؟ إنك عاوزة كل حاجة في سن صغير كأن العمر كله النهاردة وبس، عاوزة تنجحي وتكوني شاطرة وفي نفس الوقت تعيشي حياتك زي أي حد في سنك وفي نفس الوقت عاوزة تعملي شغل باسمك وتسافري تحققي أحلامك وفي نفس الوقت عاوزة تدخلي علاقة رسمية علشان تكوني حققتي كل الإنجازات دي في سن صغير وعاوزة تنجحي في كل حاجة وللأسف دا مش صح يا “مارينا” لأن الحياة أصلًا متقسمة فترات وكل فترة ليها دور مهم في تشكيل حياة الإنسان، أنتِ أو غيرك دلوقتي كبنات في أول العشرينات عاوزين تعلموا كل حاجة في نفس الوقت من غير ما تدوا للحاجة حقها، دلوقتي أنتِ طالبة بتتخرج وبعدها بنت جميلة هتتخطب وتتجوز زي أي حد في سنها هتفتح بيت وتملاه بنجاحها، ولو الشغل ليه وقت ومجهود محدش هيقولك لأ، إنما كله مع بعضه دا غلط، أنتِ مش قطر بيجري وبعدها ترجعي تستغربي ليه فيه طرق فشلتي فيها، أكيد علشان مش كلها خدت حقها منك، فهمتي؟.
لفتت نظرها بكلماتها إلى ما غاب عنه عقلها وقد شردت الأخرى في حديثها بعدما استشفت الصدق فيه، فهذه هي كارثتها الكُبرى أنها تصارع نفسها في سباقٍ وهمي وتبغىٰ تحقيق كل الإنجازات بل وحصد الثمار منها، وهذه لم تكن مشكلتها وحدها، بل هي مشكلة جيلٍ كاملٍ يسعى لتحقيق العديد من الإنجازات بالنظر إلى الأمور بصورةٍ سطحية دون التعمق في أي منها، وهي كذلك تود فتح كل الأبواب بنفس اللحظة، غافلةً عن تعبها عند هبوب الرياح القوية وهي وحدها من تتحمل عناء غلق تلك الأبواب، وعلى النقيض تمامًا شقيقتها الواعية التي تفهم جيدًا ضرورة تقسيم المراحل العمرية بل وعيشها كاملةً كل منها على حِدة لكي ينتج عنها الأثر المطلوب للمرحلة التالية.
حينها صدح صوت هاتفها برقم “بيشوي” فابتسمت هي بحماسٍ ملتهبٍ كما الجمر المشتعل ثم ققزت من فراشها تخطف هاتفها وهي تتجه إلى الشرفةِ لكي تتحدث معه فوجدته هو يبادر بقولهِ الرزين:
_أنا قولت أكلمك دلوقتي علشان مخنوق بصراحة، بقولك إيه؟ البت “فـيولا” أختي علطول كانت بتهرب مننا وتنزل تقابل “چورچ” بحجة صابون المواعين الخلصان، ما تخلصي الصابون عندكم وتنزلي أشوفك؟ يلا أنا مستنيكي، أبوكِ على القهوة مش فاضي.
ضحكت هي على طريقته وحديثه فيما هتف هو بنبرةٍ جامدة يزيد من إصرارهِ على ما يريد قائلًا:
_لأ خلصي وخدي القرار، أنا مستني ولسه الوقت مش متأخر يعني، تعالي أنا مستنيكي تحت وهنروح نجيب حاجات مع بعض من السوبر ماركت، أهو تدربي علشان لما تتجوزي تبقي عارفة الدنيا عاملة إزاي، ١٠ دقايق لو منزلتيش يا “هيري” هروح أقول لأبوكِ بنتك اتجننت بتلعب بصابون المواعين، أتفقنا؟.
زاد صوت ضحكاتها أرتفاعًا وكأنها تتراقص بأناملها فوق أوتار فؤاده المُشتاق لتعزف له المقطوعة الأحن في هذا العالم وهو المُشتاق الذي ينتظر فقط كلمة واحدة تحيي فؤاده من جديد، يراها دومًا تشبه الكتب العتيقة، أو رُبما هي مقطوعة نادرة أخرجها المُلحن في لحظات شجنٍ، وقد أعطته الموافقة ثم أغلقت معه وتركته ينتظرها وينتظر لقاء الطرقات بهم، فربما اليوم ورُبما كانت الأمس، ورُبما تكون غدًا لكن لاشك أن الطُرقات تجمع أخيرًا بينهما وللأبد وكأنه لقاء الربيع بالزهور يُحييها من جديد لتتفتح وتملأ الحقول بعبيرها.
__________________________________
<“تعلم كيف تُسترد الحقوق من سارقيها”>
النيران تتأجج دومًا حينما تأكل في نفسها إن لم تجد ما تأكله، ثم يمتد لهيبها ويطول كل من حولها وخاصةً مع هبوب الكُتل الرياحية، وهذا هو أقرب وصف لحالتهِ وهو يجلس أمام الحاسوب يتابع ماحدث مع شقيقه بعينين حادتين يحاول استبيان هوية الفاعلين لكنه فشل في كل مرةٍ يحاول قراءة ملامحهم، وقد جاوره “يـوسف” الذي بحث هو الآخر معه لكن النتيجة أيضًا مُبهمة.
دلف لهما “ميكي” الذي تابع في الخارج البحث مع الرجال وقد وقف بجوار “إيـهاب” الذي ظل يشاهد الحاسوب للمرة المائة خلال الساعة الواحدة، وكأنه يتحدى الوقت والساعات في مكنوناتهم، لكن مساعده لاحظ شيئًا جعله يهتف بسرعةٍ كبرى:
_وقف كدا يا “عـمهم” بسرعة !!!.
انتبه له الآخر وسرعان ما أوقف المُحرك وحينها مال الآخر نحو الشاشة وحرك المؤشر للخلف ثانيتين ثم قام بتكبير الشاشة ليجد الدراجة النارية الخاصة بالفاعلين عليها عبارة ساخرة من جوار إطارات الدراجة عبارة عن:
“بس أنتِ خسيتي” هذه العبارة هو يتذكرها جيدًا ويتذكر صاحبها فهتف مُسرعًا بنبرةٍ عالية:
_دي ماكنة الواد فرعون، أنا عارفها علشان يوم ما كتبها راح عند مدرسة البنات يشوف نفسه بيها هناك، الواد دا لامؤخذة شمال في تاني شمال، بيشتغل في أي حاجة، وكان عاوزني معاه في مصلحة تموين متهرب ونبيعه في السوق السودا، يعني أي مصلحة شمال هتلاقيه فيها.
انتفض “إيـهاب” على الفور من مطرحهِ وقد جاوره “يـوسف” الذي وقف يوزع نظراته بينهما فيما هتف الآخر بصوتٍ قاتمٍ وكأنه غلفته هالة سوداء:
_فين عنوانه، تعرف بيتلقح فين؟.
أشار له موافقًا وأضاف بلهفةٍ يُردف له:
_هتلاقيه في ناصبة الشاي اللي جنب غرزة موقف التكاتك، قاعد هناك علطول، هتلاقيه قاعد مع شوية عيال زبالة هناك بيرازي في الخلق، بيخلص مصالحه ويروح يترمي هناك، وعلى فكرة كل كبارات النزلة بيخلوه يخلص ليهم شغل وحوارات كتيرة، يعني هو مش حد غيره.
أومأ “إيـهاب” شاردًا ثم سحب سترته ومتعلقاته وخرج كما الإعصار في وجههِ ورأسه ترسم آلاف الخيالات والسيناريوهات العنيفة عند إيجاد الفاعل الذي تعدى على شقيقه دون التفكير ولو لمرةٍ واحدة أنه يخصه هو وقد لحقه “يـوسف” وجاوره في السيارة لكي يكون معاونًا له في حربٍ فُتِحَت أبوابها.
في بيت “نَـعيم” تحديدًا بغرفة “إسـماعيل” وصلها أخيرًا وتم وضعهِ على الفراش بمعاونة الشباب فيما ظل هو صامتًا وشاردًا جامد الحِراك ولم ينتبه حتى لتلك التي وضعها في مكانة الشقيقة وهي تطمئن عليه، بل يبدو أنه أسِر في مكانٍ لم ينل منه الحُرية، حتى أمـر “نَـعيم” بخروج الجميع من الغرفةِ وظل هو برفقة ابنه الروحي ثم جلس أمامه على الفراش ورفع كفه يمسح على كتفهِ حتى انتبه له “إسماعيل” الذي أحمرت عيناه وكأن خيوط الدم تكسوها ببكاءٍ مكتومٍ، وقد تحدث الآخر بنبرةٍ أبوية عطوفة:
_أنتَ مش كويس وباين عليك، متكابرش في تعبك علشان ميبقاش حمل بزيادة فوق كتافك، اللي حصلك كان غدر، لا هو ضعف ولا قلة حيلة منك، ياما وقفت بوشك في وش الدنيا كلها ومهيبتش حد، ورغم كدا قلبك عمره ما كان قاسي، يمكن تكون أطيب واحد فيهم هنا، لو فيه حاجة جواك قولها ومتكتمش، وخليك فاكر يا “إسماعيل” إن الخيل الحرنان بنفتحله الساحة علشان يخرج غضبه، مبنخليهوش يكتم جواه علشان القهرة على نفسه متكتفوش بعد كدا.
حديثه ماهو إلا إشارة منه للآخر لكي ينفجر لكنه صمت وحرك رأسه للأسفل يُنكسها أرضًا وكأنه يهرب من نفسه والسؤال الوحيد الذي لم يجد إجابته، لما هو تحديدًا ولما جنىٰ عليه والده بهذه الطريقة؟ وعند وصوله لتلك النقطة زاد تجمع العبرات في عينيهِ حتى ضمه “نَـعيم” لعناقه يمسح فوق رأسهِ وظهرهِ حتى نزلت عبرات “إسماعيل” بقهرٍ وعجزٍ عن ألف سؤالٍ يعجز عن إخراجهما منه لأن الجواب وإن كان غائبًا، فهو معلومٌ.
كان يبكي راثيًا حاله ومُعبرًا عن ضعفهِ وقد تفهم أبوه الروحي هذا الأمر فظل محتضنًا له ثم هتف بنبرةٍ هادئة ثابتة الوتيرة:
_بس ياض بقى، أنا معاك أهو وخلي حد يفكر يقرب منك كدا، طب وربنا اللي أعز من الكل أنا عندي استعداد أقوم حرب علشانك، دا أنتَ أكتر واحد فيهم شوفت فيه حنية الدنيا عليا، أعتبرتك هدية ليا ورزق يعوضني عن كل حاجة شوفتها، لما حد كان بيقول إنك فيك مني كنت بفرح إني أنا اللي زيك، دا أنتَ غلاوتك عندي كبيرة أوي أوي فوق ما تتخيل، وبحبك يمكن أكتر منهم كلهم، علشان أنتَ الوحيد اللي عرفت تخرج الحلو اللي جوايا بعدما قلبي كان حَجَر خلاص، متحسسنيش بالعجز وأنتَ مقهور، لو أبوك ليه غلاوة عندك يا “إسـماعيل”.
حديثه الصادق الممتليء بالعاطفة دومًا أتيًا في وقتهِ، دومًا يغدقهم بالسلام والأمان ناشرًا الدفء فوق أحلامهم، لتكون كما شمس الخريف تجمع بين البرودة والدفء معًا، وقد استكان” إسـماعيل” في عناقهِ متمعًا بعناقٍ أبويٍ حُرِمَ منه إجبارًا وفرضًا من أبٍ لم يستحق أن يُهدىٰ بكنزٍ مثل هذا، فيما ضمه “نَـعيم” كما يضم خيله العاجز وظل يُربت ويمسح على رأسهِ وخصلاتهِ وهو يعلم حاجته الكُبرى لهذا العناق الذي في مثل هذه الأوقات يتعدى أثره أثر الكلمات، فمهما تفوهت الألسنة بكل كلمات المواساة الحانية لن تتساوى مع عناقٍ مثل هذا.
إن أتاك الطوفان لا تفكر مرتين، أنجو بنفسك
هذا المثال يتوافق تمامًا مع القادم حيث أوقف “إيـهاب” سيارته أخيرًا في المكان الذي أخبره عنه معاونه وما إن ترك السيارة وقف يتفرس المكان بملامحهِ مثل الصقر الجارح حتى وجد مراده وحينها رفع كفه يُتمم على سلاحه في جيبه الخلفي ثم تحرك صوب الجالسين في تلك الكومة المبنية من الخوص يدعمها قطعٌ من الأخشاب وتتصاعد منها أدخنة النرجيلات الفحمية والسجائر المُخدرة وكأنه وكرٌ لمجموعة رجال أتسموا بالخطورةِ لكنه دومًا الأخطر هُنا.
دلف حقًا كما الإعصار يضرب الباب المُهتريء بقدمه حتى كشف عن المُختبئين خلفه وقد هجم هو عاميًا عن الرؤية وبجواره “يـوسف” فيما هجم هو على أحدهم يمسكه من عنقه وهتف بصوتٍ جهوري عالٍ:
_بالأدب كدا فين **** “فرعون” بدل ما ورحمة أمي أقلعكم كلكم وأخلي اللي ما يشتري يتفرج؟ أنطق يا حيلة منك ليه؟؟.
أشار أحدهم على من يمسكه من الأساس وهتف بنبرةٍ مُتلجلجة خوفًا منه بعدما علم هويته وطريقته التي لم يجهلها إثنان بمنطقتهم:
_هو يا “عـمهم” اللي في إيدك دا.
ابتسم بزاوية فمه وهتف ساخرًا بتهكمٍ وهو يضغط على عنقهِ أكثر حتى تألم الآخر وإن لم يُفصح عن ذلك:
_شوفت حسيت بيك إزاي؟ قلب الأم.
أنهى جملته ثم دفعه أرضًا ثم جثىٰ على واحدةٍ من رُكبتيه أمام الآخر ثم أخرج مديته ورمى طرفها الخشبي يلوح به حتى ظهر نصلها الحاد اللامع ثم وضعها عند نحر الآخر وهتف بنظراتٍ قاتمة ونبرةٍ جمعت علاقة طردية بين هدوئها وبين الرُعب فيها:
_هو سؤال واحد لا تلاوع ولا تنكر، مين عمل فيك كدا ووزك على أخو “إيـهاب الموجي”؟ ولو لفيت ودورت هحط المطواة دي في جسمك وأخليك زي الدبور تُبرم طول الليل، اسمه إيه يالا أنطق بدل ما أنطقك أنا بمعرفتي.
أزدرد الآخر لُعابه وهتف كاذبًا بما ينجده مما هو فيه:
_لامؤاخذة يا باشا دا واحد كلمني وقالي إن الشاب دا عاكس أخته وحاول يضايقها وهو عاوزله قرصة ودن صغيرة، وبعت عنوانه وصورته وطلب مننا منزعلهوش، لامؤاخذة يا باشا ترضى حد يتعرض لأختك؟ أنا مقبلهاش على أختي.
في بعض الأحيان قد تجتمع صفات مع بعضها تورط المرء أكثر، وهذا المتحذلق لجأ للغباء والكذب معًا، وقد أقترب منه “يـوسف” يمسكه من عنقه بشراسةٍ ضارية وهتف من بين أسنانه بغلٍ دفينٍ:
_أنا مبكرهش قد الغبي والكداب، وأنتَ بروح أمك بتعمل الاتنين قدامي، متلومش غير نفسك يا حيلة الحلوة، لو ماقولتش مين وزك الله في سماه لأخليك فُرجة للصغير قبل الكبير، أنطق أحسنلك.
حرك الآخر رأسه انتقالًا بينهما هما الأثنين ثم قرر التمسك بحبل الكذب وإن كان قصيرًا من خلال حديثه:
_يا باشا مش مستزوق كلامي ليه؟ دا اللي حصل.
أنهى جملته في ثانيةٍ وقد أيده أحد الواقفين وخلال الثانية الموالية لها وجد المدية تستقر على عنقهِ و “إيـهاب” يهتف بشراسةٍ حادة وهو يضغط على عنق الآخر بسلاحهِ:
_معلش أصل أمي طبخها كان حلو علشان كدا تلاقيني مش مستطعم حواراتكم.
أنهى جملته ثم قام بغرز المدية في عنقهِ يخدشها حتى صرخ الآخر وعلم أن من يقف أمامه أصابه عمى الإنتقام، لذا صرخ يستوقفه ويستجديه قائلًا:
_”ضـاحي” هو اللي كلمني وقالي، برة عني بقى حوارتكم دي، روح يا باشا خلص مصلحتك منه، وحق أخوك شوفه فين، أنا ماليش فيه، وكدا الغلط راكبك، مش أصول معلمة إنك تخش على ناس مطرحهم كدا.
حصل “إيـهاب” على مبتغاه فقام بدفع المتحدث للخلف ثم أعتدل واقفًا يتنفس بحدةٍ بينما “يـوسف” وقف يخلع ساعة معصمه يضعها في جيب بنطاله وهتف بأنفاسٍ لاهثة وهو يُقدم على أولىٰ لحظات الإنتقام مُسكتًا بذلك رأسه وقابضًا على لحظات الإنتشاء في أوج لحظات غضبه وثأره:
_وماله، أنا بقى هوريك الأصول بتمشي إزاي على **** اللي زيك، وحظك إني بالي رايق، فرصة مبتكررش مع ابن “الراوي” كتير ويا بخته اللي تتكتبله.
أنهى جملته ثم حمل مقعدًا خشبيًا ونزل به على جسد الآخر فيما تولى “إيـهاب” مهمة البقية وتلقينهم درسًا سيخلده التاريخ لأندالٍ مثل هؤلاء نالوا شرف التربية على أيديه، أما “يـوسف” فثأره هو المتحكم فيه ولحظات غضبه هي التي تحركه، تلك اللحظة التي تعلو فيها الأصوات ويشارف على إيذاء نفسه إن لم يحتويها، تصبح كارثةٍ كُبرىٰ يصعب إخماد نيرانها، بينما الآخر فهذه هي طبيعته وحميته التي ترفض سرقة الحقوق عينًا خاصةً وإن لم يكن الحق راجعًا للغير.
__________________________________
<“أتىٰ المُفضل دومًا ليقف برفقتنا”>
في بيت “نَـعيم” خلد “إسـماعيل” للنومِ أخيرًا بعدما تناول دوائه ونعم بلحظات هادئة أفترشها العقار الطبي في جسده المُتألم الذي كان يأنِ من كثرة آلامه، وقد خرج “نَـعيم” يجلس مع البقية وأولهم “أيـوب” الذي لم يترك موضعه بل ظل معهم حتى أطمئن على المُصاب وأنتظر خفيةً رفيقه الذي من المؤكد أنه ألقى نفسه في وجه المصائب دون تفكيرٍ كعادتهِ، وما إن لاحظ تأخر الوقت كاد أن يتحرك من موضعهِ لكن دخول “تَـيام” في هذه اللحظة أوقفه عن الحِراك وقد ولج الآخر متعجلًا وملهوفًا بقولهِ:
_ماله “إسـماعيل” أنا مفهتمش حاجة من “مُـنذر” هو كويس؟ حد طيب حصله حاجة؟.
دخوله هنا كانت مفاجأة كبرى بكافة المقاييس للجالسين وعلى رأسهم والده الذي تعجب من قدومه وأقترب منه بخطى واسعة يقف أمامه وهو يسأله:
_إيه اللي جابك دلوقتي؟ وجيت إزاي؟.
تنهد هو بثقلٍ وهتف بنبرةٍ ثابتة يخبره بصدقٍ:
_جيت علشانك وعلشان “إسماعيل” اللي حتى لو معرفوش بقالي كتير بس خلاص فيه بينا عشرة، وجيت أتطمن عليك لما لقيتك مش بترد، طمني هو كويس؟.
شعر “أيـوب” حينها بالفخر برفيقه فيما ابتسم “نَـعيم” بعينيهِ له وطفق الفخر يعرف نفسه في نظراتهِ وصدح صوته الداخلي يخبره بفرحٍ أن أبنه أصيلٌ كما الخيول التي رباها هُنا، طباعه الحميدة تغلب عليه حتى في أوقات تشتته بينما الآخر فطالعه بقلة حيلة وكأنه يخبره أنه لم يتحكم في نفسهِ من خوفه على أبيه وشقيقه، صوتٌ ما بداخلهِ ناشده لكي يتحرك لهم ويطمئن عليهم وعلى أخٍ يحبه والده ويراها هو في عينيهِ له، لذا طلب أن يدخل له ويراه وحصل على الإذن من الجميع..
في الداخل كان “مُـنذر” يُناظر رفيقه وهو يقف بجوار الفراش، وكم بدا بريئًا أثناء نومهِ مُغمض العينين ومكسور الجناحين، تذكر أيام صغرهما سويًا حينما كانت أحلامهما بسيطة، وقد تذكر موقفًا لهما في الثامنة من عمرهما حينما قال كلاهما للآخر عن أحلامه هاتفًا:
_أنا لما أكبر هكون طيار وعندي طيارة ولما أبوك يزعلك هاخدك في الطيارة يا “إسـماعيل” متزعلش، وهاخد “إيـهاب” كمان علشان هو كبير ومش بيخلي حد يزعلنا.
_لأ يا عم أنا عاوز أكون ظابط، وأي حد مش طيب نحطه في الحجز، وأبويا لو زعقلي تاني هحطه هناك شوية بس هخرجه تاني، علشان ميزعلش مني ويخرج يزعقلي تاني.
هكذا دار الحوار بينهما في الصِغر وتذكره “مُـنذر” الذي ابتسم بسخريةٍ قارنها القهر ثم مسح على منابت رأس الآخر وهو يقول بتهكمٍ:
_حتى أحلامنا العبيطة الدنيا استكترتها علينا، كأن الحلم حرام رغم إنها أحلام بسيطة مبتزعلش حد، لا أنا بقيت “طيار” ولا أنتَ بقيت ظابط، بقينا عرايس لعبة في إيدهم، غلابة إحنا أوي في الدنيا دي، النوم بالنسبة لينا هنا، بس نومتك كدا وحشة أوي، أوي خصوصًا ليا وأنا غريب وسط الكل وتايه بتعلق فيك أنتَ.
وصل “تَـيام” عند بداية الحديث واستمع له كاملًا بعدما ولج بهدوءٍ تامٍ جعل الآخر ينتبه له فاعتدل واقفًا ومسح وجهه يخفي أثر ملامحه السابقة كأنه يخشى الإمساك به، فيما ابتسم له “تَـيام” وأشار نحو المُتسطح وهتف بنبرةٍ متباينة المشاعر:
_من ساعة ما شوفتك بتبصله وأنا متأكد إنك بتحبه أوي، بحسكم شبه بعض أصلًا، متقلقش عليه هيقوم ويبقى زي الفل من تاني، بعدين يعني أكيد وجودك فارق معاه، أدعيله وخليك جنبه، علشان لما يفوق يرتاح شوية لما يتأكد إن فيه ناس حواليه بتحبه.
أومأ له “مُـنذر” موافقًا ثم عاد يجلس بجواره على طرف الفراش بينما الآخر جلس على المقعد يطالعهما بشفقةٍ وحزنٍ وفي الحقيقة هو يحتاج لمن يشفق عليه كونه نحى حزنه جانبًا وأتى إلى هنا.
في المشفى الاستثماري…
المكان سادته حالة الهرج والمرج حينما ولجت الممرضة الغُرفة الخاصة بـ “نـادر” لتعطيه الإبرة الطبية تزامنًا مع قدوم “فاتن” برفقة “عـاصم” لتجد المكان منقلبًا رأسًا على عقبٍ وزوجها يصرخ ثائرًا في الجميع يطالبهم بالبحث عن ابنه المُختفي تمامًا من الغرفة والمشفى ثم ارتفاع صرخات زوجته تنادي على ابنها بحثًا عنه، لكن الحالة أختفت تمامًا ولم يظهر لها أي أثرٍ، فمن الخافي؟ ومن المُتسبب؟ سنعلم لا شك في ذلك، وهاهي فتحت أبواب الألغاز من جديد.
____________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)