رواية مملكة سفيد الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم رحمة نبيل
رواية مملكة سفيد الجزء الثاني والثلاثون
رواية مملكة سفيد البارت الثاني والثلاثون
رواية مملكة سفيد الحلقة الثانية والثلاثون
ما بين اليقظة والحلم كان .
قويًا كعادته رغم تلك الجروح البارزة في وجهه، بأعين تفيض حنانًا رغم ذلك الخوف والقلق الذي يملؤها، كان كما هو لا شيء تغير به سوى أن الزمان أبى إلا أن يذيقه مرارته ويترك أثره على وجهه، عدا ذلك كان هو، كان أرسلان الحبيب ..
شقيقها الحنون يجلس هنا على فراشها يربت على خصلات شعرها ويحدق في ملامحها بحب، حلم تتمنى ألا ينتهي يومًا، لا تصدق أن الاحلام قد تبدو حقيقية يومًا بهذا الشكل .
تلك اللمسات كما لو أنها واقعًا بالفعل .
أغمضت كهرمان عيونها ببطء تتساقط منها الدموع وهي تحاول التنفس بشكل طبيعي تهمس لنفسها :
” أنتِ بخير كهرمان، لن ينال منك الضعف الآن، ليس الآن”
” وليس أبدًا حبيبتي لن ينال منكِ الضعف طالما حييت وكانت هناك أنفاس بصدري ”
سقطت دموع كهرمان أكثر وبدأت اصوات البكاء تخرج منها وهي تهتف دون وعي وكأنها بحلم :
” آه يا أرسلان، لقد …لقد اشتقت لك يا أخي، لقد تعبت، لقد تعبت اقسم لك، أنا لا أريد أن اخذلك أرسلان، لكنني تعبت يا اخي، تعبت في بعدكم ”
ختمت حديثها تنفجر في بكاء عنيف بصوت مرتفع وهي تنهض عن الفراش تلقى برأسها على قدم أرسلان، تضمها لها وهي تقول كلمات غير مفهومة تكتمها في قدمة .
وهو يشعر بقلبه يرتجف وجعًا لأجل دموعها، أين كانت مدللته الحبيبة وعلى أي حال أصبحت !؟
اغمض عيونه وهو يهتف بصوت هامس :
” ياالله رحمتك ”
رفع أرسلان يده يربت على شعرها وهي تهتز في أحضانه تبكي بعنف شديد تهتف بكلمات مختلطة بشهقات باكية غير مفهومة .
دقائق مرت على هذا الوضع قبل أن ترفع هي رأسها تهتف بجدية :
” أريد الرحيل معك أرسلان، لقد …لقد سئمت من هذه الحياة أخي، خذني معك أتوسل إليك”
ابتسم لها أرسلان بسمة صغيرة يهتف وهو يداعب وجنتها بحنان :
” سوف نرحل سويًا جميلتي، سوف نعود للوطن، قريبًا جدًا وهذا وعدٌ قطعته على نفسي جوهرتي الغالية”
سقطت دموع كهرمان تهمس بصوت منخفض موجوع :
” لقد اشتقت لبلادي، اشتقت لحياتي القديمة أرسلان، مللت تلك الحياة، اشتقت لك ولامي، لا اريد العودة لتلك الحياة التي أحيا بها كعاملة، لا اريد العودة لتلك الحياة الباهتة دونكما، خذني معك ارجوك ”
كان أرسلان يستمع لها وهو يحاول فهم تلك الكلمة التي نطقتها :
” عاملة !! أي عاملة تلك !!”
هزت رأسها تقول بصوت منخفض وعقلها لم يستوعب بعد أنها لا تحلم وأن كل ما يحدث حولها حقيقة وواقع :
” لقد ذهبت لسفيد وعشت هناك كعاملة في القصر اخي و…”
صمتت فجأة حينما اندفعت العديد من الصور لعيونها، صور كثيرة لايامها في القصر، وجميع تلك الصور كانت تحتويه هو، بنظراته الجادة القوية، وبسماته وهدوءه وجديته وكل لفتة كانت تصدر منه، أغمضت عيونها بقوة وهي تفتحها مجددًا ولم تكد تتحدث بكلمة حتى انتفض جسد أرسلان بقوة عن الفراش يهتف بشر وصوت مرتفع :
” إيفان أيها الحـــقيــر ”
تحرك بسرعة خارج الغرفة صارخًا بجنون :
” ايها القذر هل تركت شقيقتي تعمل خادمة في قصرك ايها النذل ؟؟”
فتح الباب بشر وهو يبحث بعيونه عن إيفان الذي تركه مع سالار وآزار وتبارك التي رأت أن تتركه مع شقيقته وحدهما .
كل ذلك تحت نظرات كهرمان المصدومة مما يحدث، تنظر حولها تحاول أن تستوعب أين هي ؟! هل نادى إيفان منذ ثواني ؟؟
انتفضت تلحق به وهي تراه يمسك بثياب إيفان بشر وسالار يحاول أبعاده صارخًا، هل …هل هو حي ؟؟ هل أرسلان حي حقًا ؟؟
لحظة إدراك متأخرة ضربتها وهي تحدق بشقيقها لا ترى في المكان سواه ولا تبصر ما يفعل ولا تدرك ما يحدث، كل ما تراه وتدركه الآن أنه حي …
كان الغضب في تلك اللحظة هو ما يسيطر على صوت أرسلان الذي يصرخ بجنون :
” أنت تركت شقيقتي تعمل خادمة لديك أيها النذل الحقير ؟؟ كان آخر من تبقي لي من عائلتي ولم ترعها ؟؟ هل تلك امانتي التي تركتها في عصمتك يومًا إيفان ؟! ”
تنفس بصوت مرتفع واعين حمراء والقهر يملئ صدره، مدللته الأغلى سُحب منها دلالها وعملت كخادمة في قصر رفيقه ؟!
” لقد أخبرتك يومًا، إن حدث لي شيئًا، فكهرمان وصيتي لك، اوصيتك بها أنت وذلك القذر الآخر، تحدث ”
ختم حديثه ينظر بشر لسالار الذي كان يحاول إبعاده عن إيفان، حتى سمع سبته فتركه يقول بتهكم :
” لعنة الله على الكافرين ”
بينما إيفان يترك له نفسه بهدوء شديد ويهتف ببرود أشد :
” فقط تحدث معي بلسانك وسأتحدث ”
رمقه أرسلان بشر يشدد من جذبه له تحت أعين كهرمان المتسعة بصدمة كبيرة والدنيا تدور حولها حتى أنها كادت تسقط في اغماء آخر…
” يبدو أن شقيقتك عزيزي أرسلان لم تخبرك أنها أحبت ذلك الدور الذي لعبته أسفل سقف قصري ؟! هل أخبرتك أنها لجئت لحمايتي وأنا نبذتها واجبرتها على العمل كعاملة ؟؟”
نظر له أرسلان بعدم فهم فابعد إيفان يده يهتف بضيق :
” شقيقتك لم ترث منك عنادك وغباءك فقط أرسلان، بل ورثت منك نفس الكبرياء اللعين الذي جعلها تدخل القصر كعاملة وتحيا به كعاملة وترفض حتى أن تخبرني أنها شقيقتك ”
ختم حديثه ليستدير أرسلان ببطء صوب كهرمان التي لم تكن تعي ما يحدث حولها، ابتلع أرسلان ريقه يهتف لها بتسائل :
” هل هذا صحيح كهرمان ؟!”
حرّكت كهرمان عيونها له تهتف بصدمة كبيرة :
” أنت….حقيقة ؟؟”
نظر لها أرسلان بعدم فهم لتقترب منه كهرمان تنظر له بحرص خوفًا أن يتلاشى، ثم حدثت في إيفان تسأله برجاء :
” هل ما يحدث حلم ؟؟ أخبرني أنها حقيقة ارجوك ؟!”
سقطت دموعها ليتوجع إيفان لأجلها، يكفيه اصوات بكائها التي أصابته في مقتل منذ دقائق حين كانت بالغرفة مع أرسلان .
تنهد بصوت مرتفع يخفف غصته هاتفًا :
” أرسلان حي سمو الأميرة..”
ارتعشت كهرمان ليمسكها أرسلان وهو يضمها له يهمس بحب شديد وخوف :
” كهرمان عزيزتي، أنا هنا غاليتي، أنا جوارك حبيبتي”
نظرت له كهرمان تهمس بدموع :
” أرسلان ؟؟”
” نعم حبيبتي، هذا أنا أرسلان ”
فجأة ودون مقدمات وللمرة الثانية تنفجر كهرمان في البكاء ليجذب أرسلان رأسها لصدره وهو يقبلها هامسًا :
” لقد انتهى كل شيء، انتهى كل شيء حبيبتي، كل شيء سيصبح بخير الآن”
بكت كهرمان أكثر وهي تهتف بوجع :
” أرسلان، لقد عدت، الحمدلله .. الحمدلله”
سقطت دموع تبارك التي كانت تراقب كل ذلك واعين سالار الذي تحرك لأحد الأركان تراقبها، انعزل عن الجميع يراقب هذا المشهد بهدوء شديد دون أن يبادر بقول كلمة .
جسده كان هنا، وعقله غدًا في الاحتفال الوطني.حيث من المفترض أن يكون يوم نحر قلبه…..
___________________________
كان يتحرك بعيدًا عن السجن وهو لا يرى أمامه، الحياة بدأت تتحول الاسود أمام عيونه في تلك اللحظة .
من المنبوذين ؟؟ واحدة منهم ؟! لا لا ليست واحدة منهم، بل ابنة زعيمهم وشقيقة بافل ؟!
توقفت اقدام دانيار عن التحرك وشعر فجأة بعدم قدرته على أخذ ذرة اكسجين واحدة، قبض على صدره جهة قلبه تحديدًا وهو يحاول التنفس .
” كيف؟؟ كيف حدث كل ذلك ؟؟”
تحرك بشرود لا يشعر بقدمه أين تتحرك أو بعقله فيما يفكر .
كان ما يزال مأسورًا في تلك اللحظة التي سمع بها صوت ذلك الرجل ينطق تلك الكلمات .
ودون أن يشعر وجد نفسه يتوقف في الحديقة التي كان يقابلها فيها يحرك عيونه في المكان بحثًا عن طيفها القديم، طيف تلك الشرسة التي رآها هنا منذ أشهر تتحرك بكل قوة، والتي استمرت على مدار الأيام السابقة في تحديه بشجاعة أعجبته وبشدة ..
أين هي الآن من تلك الصورة التي اقتحمت عقله لفتاة تربت وترعرعت بين فئة لا يستحسن أن يمسهم نعاله…
مسح وجهه يدفن وجهه بين قدمية بعدما ارتكن لإحدى الأشجار يهتف بينه وبين نفسه بكلمات خرجت منه يائسة :
” ربما اخطأت الفهم، ربما …هي …ليست مثلهم، تلك الفتاة التي ..التي علمتها منذ اشهر ليست مثلهم، ولا يمكن أن تكون بمثل تلك الخسة والوضاعة التي يسبح بها هؤلاء الأشخاص القذرين”
انتفض جسده بأمل كبير وقد انتعش داخل صدره شعور أنه ربما أخطأ الفهم، هو سيذهب لها ويعلم منها ما حدث وما يقصد، لن يتركها هذه المرة إلا بعدما تخبره كل ما يتعلق بها وبماضيها ….
وعندها هي ..
وبعد انهيار لحظات وسماعها لأصوات الضحكات الخاصة برجال شقيقها :
” يبدو أنني زدت الأمور سوءًا زمرد صحيح ؟؟”
تحدث آخر بسخرية لاذعة :
” ألم يكن ذلك الرجل يعلم حقيقتك القذرة زمرد ؟! هل أتوهم أم أنكِ بتِ تخجلين من حقيقتك ؟!”
ضحك الاول بصوت أكثر ارتفاعًا وهو يجيب :
” ومنذ متى افتخرت تلك الناكرة للجميل بنا يا صديقي ؟! لكن انظر اليها الأن ؟؟ خسرت كل شيء، خسرت صفنا وصفهم وأضحت منبوذة حقًا ليس اسمًا فقط ”
نهضت زمرد ببطء تحاول أن تتماسك لتغادر ذلك المكان، لكن وقبل تحركها ازدادت الضحكات بشكل جعل عقال صبرها يفلت من بين أناملها لتنقض على القضبان تخرج الخنجر الخاص بها تمسك ثياب الرجل تمنعه من الإبتعاد عن القضبان، تغرز خنجرها في معدته تضغط على أسنانها بقوة هامسة بصوت مرعب :
” ربما انحدر منكم بالفعل، لكنني يومًا لن أصبح مثلكم أبدًا مهما وصلت بوضاعتي وحقارتي، فما لكم من منافس يا رجال ..”
ختمت حديثها تسحب خنجرها من معدته تسلب من فمه صرخات هزت جدران السجن، ثم دفعته بقوة ترمي الباقيين بنظرات مرعبة، ومن بعدها تحركت ركضًا خارج المكان .
وقبل أن تنهي السلم، ابصرته يقف على بدايته وهو ينظر لها بصدمة، بينما هي ابتسمت بسمة صغيرة موجوعة له وقد أدركت أنه رأى ما فعلت منذ ثواني :
” أمل أن يكون ذلك العرض اعجبك سيدي القائد، عرض مبتذل لشجار بعض المنبوذين بين بعضهم البعض ”
صمتت ثم رفعت عيونها له تقول بعدم اهتمام ظاهري :
” على كلٍ لقد انتهيت مما جئت لأجله بالفعل، والآن اعذرني عليّ الرحيل من هنا قبل عودة الجنود لئلا ينتهي بي الأمر في أحد سجون المملكة مع باقي قبيلتي وقومي .”
ابتسمت تتحرك ببساطة من أمام عيونه تاركة إياه يحدق في الفراغ الذي خلفته خلفها بصدمة ولم تعطه حتى فرصة نطق كلمة واحدة ..
أما عنها فبمجرد أن خطت الممر الخارجي حتى أطلقت لساقيها الريح وهي تركض بشكل جنوني تشعر بعدم قدرتها على التنفس وقد بدأت الدموع تتجمع في عيونها مجددًا ..
لحظات هي حتى وجدت نفسها أمام فراشها تلقي جسدها عليه لتنفجر في بكاء عنيف وهي تكتم صرخاتها .
تضغط على العقد الذي تخفيه أسفل ثيابها تهتف بوجع :
” امي.. أين أنتِ ؟؟ ليتك ما رحلتي وتركتني وحيدة”
سقطت دموعها أكثر وهي تزداد في البكاء وصوت والدتها يرن في أذنها وهي تردد لها بعض الآيات لتنام ..
________________
وها هي ليلة مرت على الجميع بكآبة للبعض وترقب للآخر، ليأتي اليوم المرتقب للجميع والذي سيقرر شأن الكثير منهم .
تقف أمام المرآة لا تصدق ما تراه أمامها في هذه اللحظة، كيف وصلت لهنا ؟؟ هي ترى أمامها فتاة تشبهها بكل شيء، لكن للعجب تلك الفتاة كانت ترتدي ثوب زفاف وتضع على وجهها حجاب يخفي ملامحها المزينة، هيئة كانت ستحبها تبارك في حياة أخرى..
ابتسمت تبارك بعدم تصديق وهي تنظر حولها للجميع تطلب منهم تأكيد لما تراه، هل هذه نهايتها ؟! تُزف لمن لا تحب ؟!
ربما في الحياة الأخرى كانت ستحب الزواج من شخص كإيفان، لكن ليس في هذه الحياة، ليس الآن وهي بالفعل تحبه هو، هو دون غيره من يسكن قلبها .
شعرت أن نبضات قلبها تزداد وهي تستدير حولها صوب جميع الفتيات اللواتي كن يساعدنها في التجهز، ودون مقدمات تحركت بسرعة بعيدًا عنهم صوب الباب الخاص بالجناح دون الاهتمام بأي نداء يعلو خلفها وامامها لا ترى طريق سوى طريق غرفته هو .
تتحرك دون توقف وفي عيونها إصرار شديد، هي لن تتزوج إيفان اليوم لن يحدث كل هذا، لن يتم شيء دون إرادتها .
ألم يعلمها سالار طوال تلك الشهور أن تصبح صاحبة قرار وجادة، وها هي ستطبق اول قراراته عليهم .
توقفت أمام جناحه تتنفس بصوت عالي، رفعت يدها تطرق بجنون على باب الجناح، وبعد ثواني من الطرق المستمر فتح هو الباب بغضب شديد، هو منذ الصباح لا يطيق همسة جوار أذنه.
فجأة اتسعت عيونه بصدمة حين أبصرها بفستان زفافها على اعتاب غرفته، ابتلع ريقه يشعر أنه جُنّ لشدة تفكيره بها منذ الأمس .
فتح فمه ينطق بصوت هامس :
” مولاتي …”
” لا أريد الزواج ”
كانت كلمات قاطعة نطقت بها وهي تستند به مستخدمة عيونها، وهو يحدق في وجهها بصدمة وشحوب، الآن وفي هذه اللحظة تعترض ؟؟
قال باستنكار شديد رغم ضربات قلبه التي هللت بسعادة كبيرة وعقله الذي بدأ يرسم خطط عديدة عن كيفية اخذها والهرب بها من المكان بأكمله والاختفاء عن الجميع معها :
” ماذا ؟! ما الذي تقولينه ؟! هل تعلمين ما …”
” نعم أعلم ما اقول، أنا بكل بساطة اود الرحيل من هنا قبل الزواج، لا اريد أن يتم هذا الزواج ”
اشتد جنون سالار من كلماتها تلك رغم حديث قلبه وعقله له الآن:
” أنتِ بالطبع تمزحين معي؟!”
نظرت له بقوة في عيونه :
” لا أفعل، أنا أتحدث بجدية، هل ستساعدني في التملص من هذا الزواج ام أفعل أنا ما قررت له ؟!”
” وما الذي قررتيه يا ترى ؟! ”
نظرت له بإصرار تكرر كلماتها :
” لن تساعدني !!”
” مولاتي ..”
” لن تساعدني ؟!”
ابتلع ريقه وهو يحدق بعيونها طويلًا وشعور قوي بالخيانة ملئ حلقه، هو الآن داخل صدره قد اتخذ قراره، ليُصنف خائنًا لهم، ولا يخونها هي .
وتبارك التي فهمت صمته الطويل بشكل خاطئ هزت رأسها بكل جمود وقوة تتراجع للخلف بظهرها مرددة :
” جيد إذن، سترى بعينيك ما سأفعل، أراك في الزفاف يا …قائد ”
ختمت حديثها تتحرك من أمام عيونه تحت نظرات مدهوشة من سالار الذي صُدم مما فعلت، هل تركته للتو قبل أن يخبرها أنه سيساعدها ؟؟
بل هل نظرت له بتحدي منذ ثواني ؟! تبارك بدأت تتغير بشكل …مخيف .
________________
الكثير من أفراد الشعب كانوا يجتمعون بساحة القصر يهللون ويحتفلون باليوم الوطني للمملكة، مثلهم كباقي الممالك .
ومن النافذة فوق كان يقف إيفان يحدق بهم بأعين ضبابية قليلًا قبل أن يتحرك صوب المرآة يحمل تاجه يرتديه بكل رقي، ومن ثم فتح الابواب يتحرك للخارج وخلفه تحرك بعض الحراس في ممرات القصر يقابل في طريقه العريف الذي ابتسم له بسمة صغيرة ينحني له نصف انحناءة وكذلك فعل مرجان.
هز لهم إيفان رأسه ببسمة صغيرة شبه جامدة، يقابل دانيار الذي كانت ملامحه غير مُفسرة، لكنه أجل الحديث حتى ينتهوا من اليوم الطويل ذاك .
ودانيار فقط ارتدى ثياب الاحتفال الخاصة به يتحرك خلف الملك بهدوء شديد صوب الشرفة التي تطل على الجميع .
في الوقت الذي خرج عليهم تميم والذي ترك برلنت مع مهيار وبعض الحراس لحين انتهاء هذا الاحتفال، وقد بدأت حالتها تثير رعبه، وجنونه يشعر أنه سيُجن إن لم تستيقظ، وقد قرر أنه وبعد انتهاء هذا اليوم سيذهب ليترجاها أن تستيقظ ولن يتحرك حتى تفيق.
وقف إيفان يراقب المكان الذي زُين خصيصًا لأجل زفافه من تبارك والجميع يرتقب، كان المكان أشبه بخيمة من القماش الابيض المطرز بالخيوط الذهبية بها طاولة واريكة وكل ما يلزم لعقد قرآن الملك .
استند ايفان على سور الشرفة وهو يحدق في المكان أمامه يقول بهدوء شديد :
” أين هو سالار ؟؟”
سمع صوت من خلفه يهتف بهدوء شديد :
” هنا مولاي ..”
ابتسم إيفان يستدير له ثم قال بجدية :
” إذن هل نبدأ ؟!”
ورغم ضربات قلبه التي تزايدت مع تلك الكلمة نطق سالار بالتزامن مع اقتراب خطوات تبارك منهم وخلفها زمرد التي اخرجتها بصعوبة من غرفتها وكهرمان التي لا تدرك سبب إصرار تبارك على حضورها وتركها شقيقها، رغم كل ذلك إلا أن سالار نطق بجمود نسبي وصوت واضح للجميع :
” لنبدأ مولاي فالجميع ينتظر وصولكم في الاسفل .”
__________________
عيونها تراقب الانوار الواضحة من بعيد، حيث القصر الخاص بولدها أو بالأحرى الملك الذي تسبب في عزلها عن قصرها .
ابتسمت شهرزاد بسمة غير مستوعبة بعد لما حدث، طفلها الذي ضحت لأجله بالكثيرين يلقي بها بهذا الشكل المخزي ؟! لقد ..لقد خسرت كل شيء لأجله هو، باعت الجميع واشترته .
عند هذه النقطة أطلقت شهرزاد صرخة مرتفع وهي تدفع طاولة زجاجية أمامها تسقطها ارضًا لتتهشم جزيئاتها مصدرة صوتًا صاخبًا ذكرها بصوت مشابه نابع من ماضيها ..
كانت تسير بين طرقات القصر حتى سمعت صوت تحطم جعل رأسها تستدير وهي تنظر لتلك الفتاة التي تساويها عمرًا أو تكبرها بعام لتصرخ في وجهها بجنون :
” أيتها الغبية ما لكِ تتحركين دون وعي ؟! هل تدركين ثمن ما حطمتي الآن ؟!”
نظرت لها الخادمة برعب وهي تحاول الحديث :
” أنا… أنا لم اقصد، اقسم لكِ لم اقصد أن..”
ولأن شهرزاد في هذه اللحظة كانت في أشد حالاتها غضبًا قاطعت كلمات الخادمة بصرخة غاضبة أشد من السابقة :
” وتجادلين أيضًا ؟؟ هل جننتي أيتها الوضيعة؟؟” ”
” شهــــرزاد ”
توقفت شهرزاد عن الحديث بصدمة حين سمعت تلك الصرخة الجهورية والتي جعلت جسدها يرتجف كجميع الأجساد الاخرى استدارت ببطء صوب الخلف وهي تنظر جهة زوجها برعب، بينما الأخير رمى بنظرة للعاملة يأمرها أن ترحل، ثم أشار لها أن تلحق به دون كلمة واحدة ورحل .
هكذا كان ” تقيّ الدين ” يتميز بالجمود والتجبر، رجل مخيف لا يمتلك ذرة لين ومشاعر واحدة في صدره .
أو هي من فشلت في إخراج كل ذلك منه، حتى جاءت أخرى ونجحت فيما فشلت هي به .
تقدمت شهرزاد من جناحهما بارتجاف وهي تهمس بصوت منخفض :
” تقيّ الـ ”
قاطعها صوته الهادئ المخيف بحق وهو يردد :
” كم مرة عليّ أخبارك أن تنتبهي لتصرفاتك مع الجميع ؟! أنتِ هنا الملكة فانتبهي لنفسك وتصرفاتك”
” لقد …لقد فقط كنت …أنا ..”
كانت تبكي مرتجفة تردد بصوت منخفض وهي تفرك كفيها معًا :
” لقد مررت فقط بوقت سييء و…هي …والدتك لقد كانت ..”
صمتت وهي تنظر لملامحه الباردة وهو ينتظر أن تكمل باقي حديثها وبالفعل كان حين قالت :
” لقد كانت تتحدث معي عن الإنجاب و…”
تحرك تقيّ عن مقعده بشكل جعلها تنتفض للخلف رغم أنه فقط نهض ليواجهها، رفع حاجبه بتعجب ولا يدرك حقًا سبب رعبها الكبير منه رغم تلك الأشهر التي مرت على زواجهما ولم يعاملها خلالهما يومًا بشكل سييء .
” لا تتراجعي حين اتقدم لكِ، وتوقفي عن التفكير بأمور هي في الأساس بإرادة الله، الانجاب والأطفال رزق من الله، يرزق به من يشاء ويحرمه من يشاء لحكمة لا يعلمها إلا هو، فلا تسلمي أذنك لأمي ”
كاد يتحرك صوب المرحاض لولا كلماتها التي نطقت بها وهي تقول بصوت مرتجف باكي :
” لقد …لقد أخبرتني أنني سأكون السبب في ضياع الحكم منك ومن ذريتك وسينتقل لعائلة ابن عمك، فهو بالفعل رُزق بصبي منذ أشهر وبهذا يصبح الوريث، وأنت لم …”
نظر لها تقيّ بشر وهو يهمس من بين أسنانه:
” وإن كان ؟! ما دخل النساء بأمور الحكم ؟! إن أردت أنا تخليت عن الحكم لعائلة ابن عمي ولا شأن لكم بما افعل، ثم أنا بالفعل انتوي أن أجعل الحكم لسالار حتى إن رزقني الله بطفل، فحسب القوانين هو الأكبر في الجيل القادم من رجال العائلة وهو من يحب أن يتولى الحكم كما حدث وتوليته أنا لأنني اسبق ابن عمي في العمر، الحكم هنا ليس وراثة، بل استحقاق وقوة، وسالار إن استحقه، اخذه”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عنها تاركًا إياها تراقب ظهره وقلبها ينتفض رعبًا من تلك الفكرة، ليس بعدما عانت كل ذلك يأتي طفلها ليصبح مجرد تابع لابن جوبان، هي لن تأتي بطفلها ليتجرع الذل، الحكم سيكون له ولو رغم أنف زوجها …
استفاقت شهرزاد على حقيقة واقعها، الطفل الذي حاربت القوانين لأجله جاء هو ليحاربها لأجل فتاة، لكن ليس هذه المرة، لن تهدأ حتى تعود لمكانتها ولو كلفها ذلك أن تتحد مع الشيطان …مجددًا .
________________
كان يقف عند سفح الجبل الذي يقبع أعلاه قصر سفيد يقود خلفه جيوش مختلطة ما بين رجاله ورجال حليفه العزيز، يراقب الجبل ببسمة واسعة وهو يهتف :
” هل انتم جاهزون يا رجال ؟!”
ارتفعت الأصوات خلف بافل بتهليل وسعادة وقد قرروا استغلال الاحتفال ليحيلوا المتبقي من ايام شعب سفيد لجحيم :
” جاهزون يا سيدي …”
وفي الاعلى حيث قصر سفيد وفي المكان المخصص للاحتفال بالزواج كانت تتحرك هي بقوة تخفض رأسها ارضًا وخلفها صديقاتها صوب الجزء المخصص لعقد القرآن، وفي عيونها إصرار مخيف .
وسالار يقف خلف مقعد إيفان يراقبها تتهادى صوبهم لتُزف لرجل غيره، شعور جعل يده تتحرك دون شعور صوب السيف الخاص به، وفي هذه اللحظة تحديدًا كان على استعداد تام لاعلانها حرب على الجميع .
وإيفان كان شاردًا لا يبصر في الجميع سواها، تزف له عروسه بيدها، ياللسخرية …
بينما دانيار اختفى الجميع من حوله وهو يراقبها تتجنب النظر له، وفي هذه اللحظة كان لا يدرك شعوره نحوها، شعور مبهم بالفقد والكره لذاته لما فعل، أحب أحدهم .
نطق الشيخ بصوت مرتفع :
” اجتمعنا اليوم جميعًا لنحتفل بعقد قرآن الملك إيفان”
كلمات كان ينطق بها الشيخ وهو يخطب بينهم عن أسس الزواج وغيرها من الأمور التي لم تصل لعقل سالار وهو يراها قد اقتربت بالفعل لتأخذ مكانها مقابل إيفان، الشيء الذي جعله ينتفض وقد فاض صبره وعقد العزم على سلبها من بين الجميع الآن ولو حدثت حرب في هذه اللحظة .
لكن وقبل أن يتحرك خطوة شعر بمن يجذبه بسرعة للخلف مكبلًا إياه بقوة .
نظر بصدمة ليبصر تميم الذي نظر له بدهشة لما سيفعل بينما دانيار جذب يده الأخرى بعيدًا عن الجميع، وسالار يقاومهم بشر :
” ما بكما دعاني، اتركني تميم هذا أمر”
تحدث دانيار برعب من تلك الكارثة الوشيكة وهو يجذب سالار بعيدًا عن المكان لأحد اركان الساحة :
” لا تفعل تميم، يا ويلي ستحدث كارثة، لنبعده من هنا ”
وعند هذه الكلمات شعر سالار بروحه تُسحب، كان يظن أنه يستطيع فعلها والتحمل، لكن لا والله الأمر اصعب من قدرته على التحمل .
المرأة الوحيدة التي أحبها اضاعها بكل غباء .
في هذه اللحظة أزاح سالار العقل جانبًا وهو يندفع بجنون يحاول العودة صوب الجميع لينتزعها من بينهم، لولا دانيار الذي كان ينظر له برجاء :
” ما بك يا قائد، أفق أنا ارجوك، سوف تدمر كل شيء، توقف عن هذا الجنون يا قائد ”
ختم حديثه بصرخة جعلت سالار ينظر له بأعين حمراء بعدما كان يراقب من بعيد موكب الزفاف ليهتف بصوت مرعوب :
” سوف يأخذونها مني، ابتعد عني دانيار، اقسم إن خسرت تبارك لاحطمن البلاد فوق رؤوس من بها، ابتعد عن طريقي ”
صرخ به دانيار بجنون وهو يدفع للجدار يمنعه عن أي فعل قد يدمر حياته ويؤدي به إلى حتفه :
” الآن وقد ضاعت منك، أفقت الآن ؟؟ هل تمازحني ؟!”
نظر له سالار وهو يردد بلهفة ورعب من تلك الفكرة :
” ستضيع مني دانيار، اتركني، ابتعد، ابتعد تميم، دعاني ارحل ”
وللعجب ابتعد عنه تميم بشكل جعل أعين دانيار تتسع وهو يصرخ فيه :
” ما الذي تفعله أنت تميم؟! هل جننت ؟!”
دعه يذهب دانيار لا يمكنك أن تكون انانيًا بهذا الشكل وتحرم القائد من المرأة الوحيدة التي أحب”
صرخ به دانيار بجنون وهو يحاول السيطرة على سالار الذي كان يود الاندفاع صوب الجميع كرجل كهف يختطف امرأته من بينهم .
” اناني ؟؟ أيها الغبي إن فعل القائد ما يريده سيكون بمثابة خيانة وسيُحاكم عليها وقد تضيع حياته ”
كانت يتحدث وهو يحاول أن يعيد لتميم عقله، لكن الأخير كان يدرك شعور أن تفقد الشخص الذي تحب:
” حينها سيكون مرتاحًا على الأقل، لا تجبره على الموت حيًا دانيار، توقف عن الأنانية ”
نظر له دانيار بصدمة وقبل أن يتحدث أحدهم بكلمة ارتفعت أصوات صرخات قوية آتية من الساحة جعلت جميع الأعين تتحرك صوبها لتتسع بصدمة حين أبصروا النيران التي بدأت تلتهم المكان بمن فيه وخاصة..موكب الزفاف الذي تقبع هي به .
وصرخته الهلعة تلاشت بين الصرخات الأخرى وهو ينادي اسمها كالمجنون .
” تـــــبــارك ”
عند تبارك كانت تسمع كلمات الشيخ وهي تنظر حولها تتحسس ذلك الخنجر الذي أخذته من زمرد وهي ترى تحفز جسد زمرد التي تخفي بين ثيابها سيفها .
زمرد العزيزة التي أبت أن تُسجن تبارك وحدها لمخالفة القوانين فاقسمت على المحاربة معها لأجل حبها، وكهرمان التي لا تدرك شيئًا كانت تحاول التحلي بالجمود والصبر .
قررت الاعتراض وإن فشلت ستنتفض .
نظرت تبارك لزمرد نظرة جانبية لتبتسم الأخيرة وهي تردد داخل صدرها ( إن لم أستطع أنا الفوز بحبي، فلأساعد تبارك وكهرمان على الأقل لفعل ذلك )
وفي ثواني كانت تبارك تصرخ بصوت مرتفع :
” توقف يا عم لـ …”
وقبل أن تكمل كلماتها التي جذبت جميع الأنظار لها، أبصر الجميع قذائف نارية تسقط فوق رؤوسهم بشكل مرعب جعل الصرخات تعلو بشكل مخيف والجميع يتفرق هلعين .
فتحت زمرد فمها بصدمة وهي تعود للخلف بريبة قبل أن تركض صارخة :
” اركضوا جميعـــًا ”
انتشر الجميع وتفرقوا، بينما أنتفض جسد إيفان يلقي عن اكتافه العباءة وهو يستل سيفه صارخًا بصوت جهوري :
” كلٌ لمكانه …احملوا الأسلحة .”
ختم حديثه وهو يرى بالفعل أفراد شعبه حوله وقد اخرجوا أسلحتهم، والذين كانوا في الأساس من جنوده حسب خطته ..
أشار للجميع وهو يركض بين الطرقات صارخًا بهم أن يتخذوا ساترًا لهم :
” ليتحرك كلٌ لمكانه، أمنوا النساء، الملكة والجميع أمنوا النساء ”
كان يصرخ وهو يحرك نظراته بين الجميع ليبصر فجأة قذيفة تتحرك صوب الموكب بشكل مرعب جعله يصرخ بصوت مرتفع وهو يرى تبارك التي تجاهد للتحرك بفستانها .
لحظات هي علت بها صرخات زمرد و كهرمان باسم تبارك وصدمة إيفان الذي ما كاد يتقدم خطوة واحدة صوبها حتى أبصر سالار يركض لها بلهفة ارعبته، ينطق اسمها بنبرة جمدته ارضًا ..
وسالار الذي كان يركض صوب تبارك التقط جسدها بسرعة كبيرة يجذبها بعيدًا عن الأعمدة التي تحمل أفرع الزينة المحترقة والتي بدأت تتساقط على الجميع، جذبها بسرعة قبل انهيار أحد الأعمدة عليها وهي التي ظلت مصدومة لا تستطيع التحرك خطوة بعدما شلها الفزع .
شعرت بيد تلتف حول خصرها تجذبها للخلف بلهفة، حتى أنهما سقطا ارضًا يزحف ذلك الشخص بها للخلف..
وصوت يردد كلمات غير مفهومة لها في هذه اللحظات، فقط كل ما تراه هو العمود الخشبي المشتعل الذي كاد يسقط فوقها وأصوات الصرخات حولها وتلك اليد التي تجذبها لصدر صلب والرائحة التي تألفها، والصوت الهامس لها .
” أنتِ بخير، أنتِ بخير، لن أتركك، لن أفعل، أنتِ بخير عزيزتي، لا تقلقي ”
كانت تبارك في هذه اللحظة لا تعي سوى أنها بين أحضانه يضمها له بحنان، وبعد تلك اللحظات التي كانت قاسية على اعصابها، وما رأته الآن، شعرت واخيرًا بالراحة تتسرب لها وهي تهمس دون وعي :
” سالار ”
هتف سالار بصوت مرتجف وهو يحاول أن يطمئن قلبه أنه لم يفقدها ويده ترتعش بعدم استقرار لما عاشه :
” حياته أنتِ تبارك ”
وهذه الكلمات كانت أكثر من كافية لها لتبتسم وهي تترك لعقلها واخيرًا حرية التوقف عن العمل وتسقط في اغماءة سريعة جعلت أعين سالار تتسع برعب وهو يهزها :
” يا ويلي تبارك، تبارك ما بكِ، هل أنتِ بخير ؟؟ ارجوكِ لا تفعلي هذا بي، تبارك أنا آسف، اقسم أنني ما كنت لاسمح لهم باخذك مني، أنا آسف ارجوكِ ”
كان يهزها برفق يترجاها أن تستيقظ، ولم يشعر سوى بمن يسحبها منه، وقبل أن يصرخ معترضًا حدجه إيفان بنظرة قوية صارخًا في وجهه :
” قم وأحمل سيفك سالار ودع تبارك لهم ليعالجوها ”
نظر سالار صوب كهرمان وزمرد اللتين حملتا تبارك متحركتين صوب المشفى، بينما هو يجلس ارضًا بصدمة مما حدث كان كمن تجمد، ولم ير سوى سيف أُلقي أمامه وصوت إيفان خرج منه غاضبًا ساخرًا :
” أحمل سيفك وقم يا قائد، الحرب لن تنتظر أن تلملم شتات نفسك ”
رفع له سالار عيونه بصدمة مما حدث منذ ثواني، كيف حدث كل هذا له، اغمض عيونه بقوة يحاول تمالك نفسه، يستغفر ربه يحتقر ذاته، قبل أن يمد يده ويمسك السيف بقوة يفتح عيونه بشكل مرعب ينهض وهو ينفض ثيابه يتحرك لصفوف الجيش المجهزة مسبقًا يهتف بصوت قوي مرتفع بينهم :
” هذه حربـكم، وارضكم، وانتم هنا اليد العليا، اروهم كيف يحارب الرجال يا قوم، لا أريد أن يبصر هؤلاء القذرين شيئًا عدا الجحيم، اجعلوا سفيد مقبرة تضم أجسادهم العفنة، ولا تأخذكم بهم رأفة….”
ختم تلك الكلمات وهو يقف أمام بوابة سفيد وقد تجمع خلفه الكتيبة الاولى بقيادته يصرخ في حراس الابواب :
” افتحــوا الابـــواب ..”
وبالفعل فُتحت الابواب الخاصة بقلعة سفيد ليظهر من خلفها بافل ورجاله والذي ابتسم يقول بشكل مقزز :
” مرحبًا بسالار العزيز ..”
بادله سالار البسمة يرفعه سيفه عاليًا معلنًا بذلك بدء الحرب وهو يردد بصوت ساخر :
” أخبرتك أنه القائد سالار بالنسبة لك، يبدو أنك من ذلك النوع الغبي بافل، لا تفهم الحديث إلا حينما يتبعه صفعة، وهذه الصفعة أنا من سيرميك بها ….”
_____________________
كانت تحمل تبارك بمساعدة كهرمان والتي كانت ترتجف برعب مما يحدث في الخارج تناجي ربها وتنادي شقيقها..
وصل الجميع للمشفى وبمجرد أن وضعوا تبارك على الفراش تحركت زمرد بسرعة مرعبة للخارج جعلت كهرمان تمسك يدها وهي تصرخ باكية :
” إلى أين ؟! لا تتحركي من هنا، لقد …لقد سمعت الجنود المرابطين في الابراج يقولون أن بافل هو من يقود الجيوش في الخارج، لا تتحركي زمرد ابقي هنا”
نظرت لها زمرد بأعين حمراء وغضب تغلب على قهرها تصرخ بصوت هائج وهي تبعد يد كهرمان عنها دون اهتمام :
” لهذا بالتحديد سأخرج، لن اقف هنا مقيدة بينما أحدهم في الخارج يقتل ذلك القذر، بافل لي أنا، أنا فقط من يحق له قتله، ليس بعد كل تلك السنوات يموت بهذا الشكل، ليس دون أن انتقم لروح والدتي”
ختمت حديثها تركض بسرعة كبيرة تاركة كهرمان تحدق في أثرها بصدمة جعلت جسدها ينتفض راكضة خلفها وهي تصرخ بصوت مرتفع :
” لا زمرد، لا تفعلي، ارجوكِ لا تفعليها زمرد ”
لكن زمرد في تلك اللحظة كانت بالفعل في طريقها للخارج تنتزع سيفها تتحرك بين الجميع دون الاهتمام بإمكانية موتها والتي كانت كبيرة للحق، فهذا ليس شجار بين أفراد عشيرتها والذي كانت تخرج منه مدمرة بالمناسبة، بل هذه حرب رجال فقط، وهي لا مكان لها بها، لكنها أخذت على نفسها عهدًا قديمًا، والآن فقط ستنفذه، موت بافل على يديها ..
في الساحة تحول أفراد الشعب الذين جاءوا لحضور زفاف الملك والعيد الوطني، لجنود مسلحين في ثواني معدودة حسب خطة إيفان.
فبعدما نشروا في المملكة اكملها أن العيد في موعده وتأكدوا أن الأخبار وصلت لبافل، نشر إيفان جنود لأسر المتبقي من المنبوذين بين الشعب وأعلن بشكل طارئ توقف تجهيزات العيد بشكل ظاهري، وفي الداخل رتب هو لاحتفال خاص به وبجنوده كمصيدة لهم .
وها هم يحتفلون به مع رجال بافل، وأعوانه .
كان بافل يرابط أمام باب القصر وخلفه الآلاف الرجال الذين يحملون أسلحة حازوا عليها بالسرقة والخديعة، وخلف هؤلاء الرجال الذين سيستخدمهم كمجرد إلهاء حتى يفسح الطريق، رجال آخرون أشداء مُدربون على تلك الحروب ينتظرون أن تنتشر الفوضى ليفرضوا سيطرتهم على المكان، خطة استخدمها بافل سابقًا مع مشكى والآن مع سفيد، والوقت واحد، في مشكى داهمهم في صلاة الفجر وفي سفيد ها هو يدق أبوابهم يوم عيدهم الوطني .
وبالفعل بمجرد أن فُتحت الابواب كان هو مبتسمًا ينتظر أن يرى الدمار يعم المكان والتشتت عنوانهم، لكن ما حدث هو أنه لم يقابل سوى جيش يقوده سالار .
ورغم صدمة بافل الكبرى في هذه اللحظة إلا أنه تداركها يقول ببسمة واسعة :
” مرحبًا بسالار العزيز ..”
فوق القصر كان يقف دانيار وهو ينظر صوب بافل ورجاله بأعين مخيفة يحمل سهامه وخلفه جزء من جيش الرماة الخاص به، وعلى المبنى المقابل له باقي الجيش .
يحدق بوجه بافل الذي يظهر له ضبابي لبعد المسافة بينهما، لكنه كان يراه بشكل جيد، وسؤال يدور داخل عقله، ترى هل تشبهه هي ؟؟
كان يبحث دون إرادة في ذلك الرجل المقيت عن أي علاقة بينهما والنتيجة لا شيء، لا شيء في هذا الخسيس يمت لزمردته بصلة ..
في الاسفل تحرك بخطوات هادئة يتقدم من مقدمة الجيش يقف جوار سالار الذي كانت ملامحه لا توحي بشيء، وبافل ينتظر منهم إشارة البداية .
ابتسم إيفان يقول بهدوء :
” أوه هذا بافل هنا في قصري ؟؟ يا ويلي ما هذه المفاجأة ؟! غير متوقعة بالمرة ”
رفع بافل حاجبه بسخرية وهو يرمق الرجال الذين احاطوا به والجيوش التي تتوسط المباني في الأعلى ثم قال :
” حقًا، كل هذا وغير متوقع ؟! ماذا إن توقعت مجيئ ؟!”
ابتسم له إيفان يجيب بهدوء شديد وهو يحرك سيفه بين قبضته :
” ما هذا السؤال بافل ؟؟ إن توقعت ما كنت لادع قدمك تلك تلوث تراب سفيد ”
شعر بافل بالغضب من حديث إيفان، لكنه لم يعلق عليه وقال دون مقدمات :
” لا بأس في المستقبل ستعتاد سفيد على تلك الاقدام التي ستخطوها يوميًا بعدما تصبح لي ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة رنت في المكان بأكمله وهو ينظر حوله لجنوده الذين كانوا ينتظرون كلمة واحدة منه :
” أنت ومن يا ترى ؟! جيش الخراف الذي تقوده ؟!”
” لا تستهن بعدوك إيفان فهذا العدو هو نفسه من أسقط رفيقك ودهسه أسفل أقدامه وكان ذلك مجرد فرقة إصبع فقط ”
ابتسم له إيفان بسمة جانبية وهو يقول بصوت متسائل :
” أتلمح بحديثك هذا لارسلان ؟؟”
ابتسم له بافل بسمة مقيتة، بينما إيفان نظر صوب سالار يقول بتسائل :
” ما هذا الحديث سالار ؟؟ هل أخبرك أرسلان بشيء من هذا القبيل ؟؟ أي اقدام تلك التي دهسه الحقير أسفلها ؟!”
ابتسم له سالار يقول بهدوء شديد :
” لا مولاي لم يذكر المرحوم أرسلان أي شيء بخصوص اقدام بافل عدا أنه ترك له ذكرى لا تُمحى على مقدمة ساقه اليسرى ”
ختم سالار حديثه يميل بعض الشيء وهو ينظر لساق بافل وكأنه يبحث عن ذلك الأثر بالفعل، و بافل يسمع هذا الحديث وهو لا يفهم شيئًا، احاديث تدور حوله لا يدرك مقصدهم بها :
” وكيف سيخبركم رفيقكم ما حدث له على يدي وهو قد تبخرت عظامه ؟!”
اتسعت بسمة إيفان بشكل جعل بافل يخشى القادم، وقد كان محقًا في خوفه ذلك إذ قال إيفان بصوت قوي :
” أتقصد الملك أرسلان الذي يتوسط عرش مشكى في اللحظة التي اتحدث أنا بها لك الآن ؟! ”
انتفض جسد بافل بشكل قوي ورجاله حوله قد بدأوا يتهامسون بعدم فهم ولا أحد في الواقفين يدرك ما يحدث في هذه اللحظة .
بينما إيفان لم يوضح لهم شيئًا وهو يخرج سيفه من غمده بقوة جعلت جميع الرجال خلفه يفعلون المثل وهم يخرجون سيوفهم كذلك وصوت سالار يهتف بينهم بصوت جهوري :
” هذا الحقير جاء بلادكم مُغير تسبقه نيته السيئة، فماذا أنتم فاعلون يا رجال ؟!”
ارتفعت أصوات الرجال الجهورية والصيحات القوية التي تسببت في تراجع اقدام بافل بشكل تلقائي للخلف وهو يرمقهم بريبة يهتف لهم محاولًا الثبات :
” إن ظننتم أنني سأكون لقمة سائغة في افواهكم، فاللعنة عليكم أجمعين، أنا جئتكم اليوم قاتلًا أو مقتولًا ”
أخرج سالار سيفه بسرعة وهو يقول بسخرية :
” الخيار الثاني سيكون مناسبًا لي اكثر”
ابتسم لهم بافل وهو يقول بصوت ساخر قوي ولم يتنحى كبرياؤه بعد عن الساحة :
” إن ظننتم أنني جئتكم اليوم دون تخطيط فأنتم مخطئون، أنا جئت اليوم لسفيد ولن أرحل عنها إلا عندما تكون لي ولرجالي ”
صحح له إيفان بهدوء وهو يحرك إصبعه في الهواء ببساطة :
” تصحيح، تقصد رجال الملك آزار وبعض الذكور من جانبك ”
وبمجرد أن ختم إيفان حديثه بدأ الرجال الحلفاء لبافل والذين كانوا يحتلون مؤخرة جيشه يرفعون أسلحتهم على بافل ورجاله، ليصبحوا بين المطرقة والسندان .
اتسعت أعين بافل بصدمة وهو يرى انقلاب الجنود عليه وقد بدأت ضربات قلبه تتباطؤ بشكل مخيف حين سمع صوتًا يهتف من الخلف :
” مالك ورجالي بافل ؟؟ إن أردت أخذ شيء فخذه بنفسك وتوقف عن الزج برجال مملكتي في مشاكلك كما فعلت سابقًا بموافقة ذلك الحقير الذي وضع يده في يدك ”
نظر بافل صوب آزار والذي كان يتقدم منهم بهامته المرتفعة وهو يرتدي ثوب الحرب يحمل سيوفه في حزامه يحيط به رجاله .
وحين وصل صوب إيفان ابتسم يقول :
” عيبٌ عليك بافل، تستغل سذاجة بني وتسحبه لصفك ؟؟ هل ظننت من كل عقلك أن نزار يمتلك سيطرة على جيشي أكثر مني ؟؟ ”
كان بافل في هذه اللحظات لا يعي ما يقال أمامه لتعلو صرخة آزار الذي تلقى ضربته الموجعة حين اكتشف أن من وضع يده في يد بافل ودمر مملكة مشكى واسقطها هو نفسه نزار ابنه وبعضٌ من جنوده القذرين .
” هل تعتقد أنني سأسمح لكم أن تلوثوا اسم آبى بقذارتكما تلك ؟! تبًا لك وله واللعنة عليكما سويًا، ليس آزار من يرتبط حرف من أحرف اسمه بكما، حتى وإن كان ذلك الرابط هو ولي عهده الوحيد ”
ختم حديثه بملامح محتدة ودماؤه تتحرك داخل أوردته بشراسة لا يرى أمامه، منذ اكتشافه لما حدث وللفساد الذي كان يعم مملكته بسبب ولده وهو يشعر بالغضب، ولده الذي كان يفرض على الشعب ضرائب ويصعب عليهم حياتهم تحت اسمه، بل وطعنه في ظهره وتعاون مع ذلك الحقير لإسقاط مملكة رفيقه وحاول قتل ابن رفيقه .
أخرج آزار سيفه وهو يصرخ :
” أنت وذلك القذر ستنالون نفس المصير ”
تراجع بافل للخلف وهو يشعر بأن نهايته اقتربت وبشدة، الرجال خلفه لن يحمونه في هذه اللحظة، هو يدرك جيدًا أنهم الآن يرتجفون أكثر منه .
” وهل تظن أنني اخافك أنت ومن معك آزار ؟؟ لم يولد بعد من يتحدى بافل ”
ختم بافل حديثه يسحب السيف لتشتعل الحرب في لحظات حتى أن الجميع لم يبصروا ما حدث، فجأة التحم الجيشان بشكل مخيف، وذلك كان فرصة له لينفذ خطته المتبعة في مثل هذه الحروب منذ قديم الزمان، خطة اعتمدها بافل هو ووالده حينما كانت جيوشهم الضعيفة تلتحم في حرب خاسرة مع جيوش الممالك، ألا وهي محاولة التلاشي بين الجميع والهرب، ونجح ذلك مئات المرات، لكن كيف الآن وجميع الأعين كانت تحلق حوله هو تحديدًا، خاصة عيونها هي والتي كانت تنتظر فرصتها لتشفي صدرها ……
________________________
ابتسم وهو يتحرك يقف أمام القصر وخلفه عدد الرجال الذين جمعهم منذ أيام .
المعتصم يتقدم رجال مشكى يتحركون صوب القصر بكل قوة، يحملون السيوف التي دخلت لهم عن طريق حدودهم مع سفيد، الجميع يلتمع في عيونه الاصرار والغضب .
واخيرًا وصلوا لبوابة القصر ليتوقفوا خلف المعتصم الذي هتف بصوت قوي :
” ها هي بوابتكم للتحرر من هؤلاء القذرين يا رجال، إن فاقوكم عددًا، فقتوهم قوة وإيمانًا، الله أكبر”
وبهذه الكلمة أشعل المعتصم النيران داخل صدور الشعب ليندفع الجميع صوب القصر كالسيل الجارف يزيحون من أمامهم، والذين كانوا اعدادًا لا يُستهان بهم، تركهم بافل ليحموا عرشه الذي سلبه بصعوبة من فك أرسلان.
والآن جاءوا هم ليعيدوا العرش .
كان رجال بافل يقفون أمام البوابة يحمونها وهم ينتظرون عودة جيش بافل منتصرًا يتضاحكون ويسخرون، لكن فجأة علت أصوات صاخبة مهللة تقترب منهم، نظر الجميع صوب تلك الأصوات لتتسع الأعين صدمة مما رأوا حتى أن أحدهم همس بارتجاف :
” يا ويلي، هل هذه القيامة ؟!”
انطلقت الصيحات رجال مشكى بالتكبير وهم يركضون صوبهم بشكل جعل أحد الرجال يلقي السيف ارضًا وهو يراقبهم بأعين متسعة .
كان مظهر الرجال ورغم أنهم مجرد رجال مسالمون وليسوا رجال حرب، إلا أن ركضهم بهذا الشكل جعل عقيدتهم الواهنة تهتز واحدهم يهتف برعب :
” حرب، الحرب …هذه حرب، جيوش الممالك الأخرى تهجم علينا، احتموا بالقعلة بسرعة ”
كان الغضب يحرك رجال مشكى، جثث ذويهم ورماد منازل، صرخات الصغار ونحيب النساء وقلة حيلة الكبار كانت تلوح أمامهم .
حتى أن دموع أحد الرجال سقطت وهو يهبط في رأس أحدهم بالسيف صارخًا بقهر :
” هذه لأجل زوجتي ورضيعي ”
والصغير تاج الدين الذي أبصر استشهاد والده وشقيقته أمام عيونه، كان يحمل سيفًا يفوقه حجمًا يصيب به من تصل له يده دون أن يهتم باحتمالية موته، طالما سينال قصاص عائلته .
كان الحقد والغضب في أعين الرجال مرعب، مرعب بحق، كان الأمر أشبه بحبسك لعشيرة اسود في أقفاص وقتلك اشبالهم على مرأى ومسمع منهم لاطمئنانك أن القضبان تحميك، وفجأة وعلى حين غرة منك تُفتح الابواب لينقضوا عليك ..
والخوف يا عزيزي كان المايسترو الاول للأخطاء، فها هو الرعب يحرك رجال بافل صوب الخطأ، إذ فتحوا الابواب ليحتموا بالقلعة وأعطوا لشعب مشكى الفرصة لدخول القلعة كذلك واندفعوا للداخل بشكل جعل بعض الرجال يحاولون تدارك الأمر، سارعوا يغلقون الابواب، لكن وقبل أن تنغلق اتسعت أعين أحدهم وهو يصرخ بهاع متراجعًا للخلف صارخًا :
” شبح …شبح .”
نظر له رفاقه برعب واحدهم يصرخ به :
” أيها الحقير تعال واغلق معنا الباب، أي شبح هذا الذي تتحدث عنه، نحن من سنصبح اشباحًا إن لم تسارع وتساعدنا ”
لكن الرجل كانت عيونه معلقة بتلك الفتحة الصغيرة في بوابة القصر والتي كانت تظهر له من خلف أجساد الرجال فرس يهرول صوبهم يحمل فوق ظهره فارسًا مشهرًا سيفه وفي عيونه تلتمع قوة جعلته يرتجف وهو يهمس :
” هذا …هذا أرسلان ”
كان يتحدث مشيرًا للخارج لتلتفت جميع الأعين صوب المكان الذي أشار إليه، وعلت الصدمة أعين جميع الرجال وخاصة رجال مشكى الذين صرخوا باسمه وقد ظن البعض منهم أن روح الملك جاءت لتساندهم في القتال..
إذ كان ملكهم يتقدم جيش ضخم من الرجال الأشداء، جيش سبز الذي يقودهم بارق خلف أرسلان، بعدما ذهب آزار بجيشه لمساندة سفيد .
صرخ بارق بصوت جهوري :
” خذوا قصاصكم من هؤلاء القذرين يا رجال ”
و أرسلان رفع سيفه يهتف لهم بصوت مرعب رنّ صداه في المكان :
” مرحبًا بكم في جحيمي يا أوساخ…”
___________________
كانت فكرة هروبه ممكنة بالفعل وقد كاد ينجح ويتسلل من بين جنوده لينجو بجسده وروحه، لولا صوتها الذي اخترق مسامعه وهي تمسك به على أطراف القلعة قبل الهروب تجذبه بعيدًا عن حصانه مسقطة إياه ارضًا بغضب شديد صارخة :
” مرحبًا يا أخي، هل اشتقت لي ؟؟”
تجمد جسد بافل وهو يستدير ببطء صوب الخلف ليراها تقف وهي تحمل سيفها، كما هي لم تتغير مقدار شعرة واحدة، نفس وقفتها ونفس طريقة حملها للسيف، ابتسم بسمة جانبية يقول :
” لا تخبريني أنكِ جئتِ هنا لتنقذي شقيقك المسكين من هذا العالم؟!”
” بل جئت لانقذ العالم من شقيقي المسكين بافل ”
رفع بافل حاجبه يقول بسخرية لاذعة :
” فشل الجميع في مسي بخدشٍ وأنتِ هي من ستفعل ؟! حقًا زمرد ؟! ”
” ما رأيك أن نجرب ؟! ”
نظر لها بافل طويلًا قبل أن يبتسم باستهانة يستدير ليكمل هروبه صوب أي حصان قد يحمله بعيدًا عن تلك المعمعة :
” لا لست متفرغًا لالعابك تلك زمرد، اذهبي واكملي اختبائك عند هؤلاء القوم، واحرصي ألا تظهري في وجهي مجددًا فالمرة القادمة لن تنجي من بين قبضتي ”
وما كاد يخطو خطوة إضافية حتى شعر فجأة بضربة تصيب ظهره، أطلق صرخة مرتفعة يستدير صوبها بصدمة ليرى في عيونها إصرار مخيف جعله يخرج سيفه وهو يصرخ بجنون :
” سأقتلك … سأقتلك أيتها الوسخة يا ابنة الساقطة”
ختم حديثه يتحرك صوبها بقوة مرعبة، يصرخ بصوت مرتفع وهي رفعت سيفها تصد ضرباته تهتف من أسفل أسنانها :
” هذه المرأة كانت أشرف من عشيرتك بأكملها يا حقير، اقسم أن نهايتك على يدي ”
ابتسم لها بافل وهو يقول بصوت خافت يقترب منها :
” كنت أود أن ارحمك مني اليوم، لكن يبدو أنكِ تتعجلين نهايتك زمرد ”
انتهى يرفع قدمه فجأة يضربها بها في معدتها بشكل جعل جسدها يندفع بقوة للخلف مصطدمًا في جدار القلعة لتعلو صرخة زمرد التي لم تتوقع ما فعل .
رفعت رأسها بسرعة لتتحدث لكن توقفت كلماتها حين هبط هو بقبضة السيف على رأسها متسببًا في سقوطها ارضًا .
غدّار، وما يليق الغدر بسواه، المرة الأولى التي تتغافل هي عن الغدر مع سيد الغدر وها هي تلقت عقابها، سقطت دموع زمرد مختلطة بدمائها وصوت بافل جوارها يهمس بشر :
” قذرة تمامًا كوالدتك، لولا أن والدي كان يحب ترويض المهور الشرسة ما جئتِ أنتِ لهذه الحياة، أنتِ الخطأ الأكبر الذي ارتكبه أبي، ليتني قتلتك منذ لحظة ولادتك الاولى واتبعت والدتك الفاسقة بكِ يا وسخة ”
سقطت دموع زمرد وهي ترى نهايتها ووالدتها تضمها وهي تهمس لها أنها اطهر من الجميع هنا، هي اطهرهم وانقاهم، هي أفضلهم واكثرهم طيبة، هي اقواهم .
” ربما هم اليد العليا هنا يا ابنتي، ربما تعالى ذاك القذر الذي يسمى والدك، لكن فوق كل كبير هناك من هو أكبر وفوق الجميع الله أكبر، فلا تظني يومًا أنهم قد يتعالون في هذه الأرض دون رد من الله إنما يؤخرهم ليوم تشخص به الأبصار، ويل للمنبوذين من يوم تجتمع فيه الخصوم، والله لأكونن خصيمة هذا الشعب فرد فرد، موعدنا يوم المحشر، الله حسبي ووكيلي ”
سقطت دموع زمرد بقوة وهي تشعر أن القصاص الوحيد الذي قد تناله سيكون يوم تنال والدتها القصاص من الله، لن تناله في هذه الحياة، لقد غرتها الحياة واقنعتها قوتها الواهية أنها قد تنافس الرجال قوة .
فجأة سمعت صوت ضحكات بافل المرتفعة وهو ينهض يقف على قدميه يهمس لها. :
” أتدرين الشيء الوحيد الذي ورثتيه عن والدتك كان جمالك الشرس هذا، لكن القوة هي تفوقك بها، يا ويلي كانت جميلة بشكل يغوي القديس لا عجب أن والدي سقط لها وأبى قتلها يوم مقتل زوجها ”
رفعت زمرد عيونها له بصدمة من تلك الكلمات القذرة وهو فقط رفع سيفه لا يهتم لتلك النظرات، يريها مقدار الشر في عيونه والحقد ولم يكد يهبط بضربته فوق ظهرها حتى ارتفع صوت قنابل مرعب في المكان جعل جسده يتدحرج للخلف بشكل أعطاها الفرصة لتمسك سيفها وتنهض بسرعة .
كان السقوط هذه المرة من نصيب بافل، نظرت له زمرد من الاعلى وهي تهمس بصوت منخفض :
” أتدري أن الشيء الوحيد الذي أصاب به أقذر والدك هو تسميتك ببافل ؟؟ نعم أنت حقًا بافل ولايليق بسواك أن يكون بافل أنت الوحيد الذي يليق به أن يكون صغير حقير قذر ”
وبهذه الكلمات ختمت زمرد حديثها لتهبط بالسيف فوق جسد بافل مصيبة إياه بجرح انطلقت على إثره صرخة تلاشت بين اصوات القنابل .
ابتسمت بسعادة وقد انتفض صدرها احتفالًا بما يحدث ولم تكد تهبط بالضرب الثانية حتى شعرت هي بتلقي ضربة من الخلف اتسعت على إثرها عيونها، استدارت ببطء تبصر الصغير شقيق بافل والذي تسلل خلف شقيقه للهرب فابصر ما يحدث .
تحركت عيون زمرد للاسفل تحاول أن تتماسك لكن ذلك الوجع الذي أصابها لم تتحمله ليسقط جسدها ارضًا بقوة وكان آخر ما ابصرته هروب بافل بمساعدة شقيقه ….
_______________________
في طرف القصر الآخر كان تميم يقف يراقب ما يحدث مبتسمًا فدوره في هذه الحروب كان زرع القنابل في أماكن الخروج الجانبية لمنع هروب أي قذر منهم، وقد نجحت تلك الخطوة فبمجرد اقتراب أحدهم من باب جانبي كانت القنابل تنفجر بهم أجمعين..
الأمر كان أشبه بمذبحة وتطهير عرقي لهؤلاء القذرين اجمعين .
حرك تميم القنبلة بين أنامله وهو يبتسم بسمة متسعة، ثم تحرك بعيدًا عن الجميع يطمئن أن كل شيء أصبح بخير، لكن وقبل تحركه عن مكانه جوار البوابات الجانبية تفاجئ لرؤيته جسد متكوم ارضًا، رفع حاجبه محاولًا رؤية ما يقبع في ذلك الركن، تحرك ببطء يخرج سيفه بتحفز شديد قبل أن يتوقف أمام ذلك الجسد متسع الأعين هامسًا بصدمة :
” أليست هذه هي نفسها صديقة برلنت ؟؟ ”
صمت يحاول تذكر اسمها، لكن حالتها التي ابصرها منعته من مواصلة التفكير وهو ينحني بسرعة يحمل جسدها بعدما وضع السيف في الغمد، يركض بها بين الطرقات صوب المشفى وهو يصرخ باسم مهيار :
” مهيار …مهيار ساعدني، مهيار النجدة الفتاة تكاد تلفظ أنفاسها .”
استدار له مهيار والذي كان يستقبل الجرحى ليعالجهم، يتعجب صراخ تميم، لكن فجأة وحين وصل له تميم وابصر تلك الفتاة التي تتوسط ذراعيه والتي تعرف عليها من نظرة واحدة، وكيف لا وهي نفسها الفتاة التي يعشقها شقيقه .
همس دون وعي في اللحظة التي اقترب بها دانيار ليطمئن عليه :
” هل هذه …”
قاطعه صوت دانيار الصارخ والمرتعب :
” زمرد …..”
______________________
فتحت عيونها منتفضة عن الفراش بسبب اصوات القنابل في الخارج لتجد نفسها في الغرفة وحدها، أبعدت تبارك الغطاء عنها وهي تتذكر ما حدث، ارتجف جسدها وهي تركض للخارج بسرعة تهمس باسمه في رعب شديد متذكرة ذلك المشهد في الهجوم الأخير حين تكالبوا على سالار للإطاحة به :
” سالار ….سالار ”
خرجت من المشفى ليقابلها مشهد خرج من الجحيم بالخطأ، ساحة القصر كانت أشبه بقطعة من الجحيم، ابتلعت ريقها تركض بين الأجساد تبحث عنه برعب شديد وقد انقبض صدرها بشكل مخيف تمسك اول سيف أبصرته ارضًا وهي تبكي مرتعبة عليه :
” يا قائد”
تناديه باكية خائفة وقد نست أن الخوف المستحق الآن عليها هي وليس هو، وأن هذا الذي تبكي رعبًا على مكروهًا قد يصيبه، هو نفسه قائد الجيوش الذي خاض في حياته معارك وخرج منها منتصرًا بفضل الله .
فجأة وأثناء بحثها بعيونها وسط هذه المعمعة عن سالار أبصرت الكثيرون يتكالبون حول إيفان لتركض بصعوبة صوبه وهي تصرخ :
” مولاي …خلفك ”
استدار إيفان بسرعة كبيرة يشق من يقف خلفه لنصفين دون الوقوف متعجبًا وجود الملكة بين كل هذا، وحين تأكد أنه بخير نظر لها بصدمة وشر يهتف في وجهها صارخًا للمرة الأولى :
” ما الذي تفعلينه في هذه الحرب ؟! هل جننتي يا امرأة ؟!”
وهي لم تتوقف عن صراخه، ولم تهتم به حقًا بل قالت برجاء بخوف :
” سالار … أين سالار، هو …هو بخير ؟! هم يريدون قتله، الهجوم السابق كان هو هدفهم الوحيد، أين هو ؟!”
اهتز جسد إيفان لوهلة بسبب تلك المشاعر التي انبثقت من عيون تبارك، كانت مرعبة، كان يرى أمامه امرأة قد تقتل الجميع لأجل سالار، وهذه الحقيقة صفعته لا يصدق أنه اغفلها طوال هذا الوقت …
ابتلع ريقه يقول بصوت حاول جعله جامدًا :
” عودي للقصر سمو الأميرة، والقائد ليس طفلًا تخشين عليه الإصابة ”
اتسعت أعين تبارك لا تستوعب ما يقول، وإن كان يعتقد أنها ستمسك طرف فستانها المزعج الان وتنحني نصف انحناءة وتقول له ( أمرك مولاي ) فهو مخطئ، ابتسمت له بسمة شرسة وهي تهتف :
” آسفة مولاي، لكنني الآن لست في مزاج يسمح لي بتنفيذ أوامرك، وبما أنك لن تساعدني في الوصول لسالار، فسأجده وحدي ”
ختمت حديثها تركض بعيدًا عنه تاركة فم إيفان مفتوح بصدمة يراقب تصرفات تبارك التي كانت تخجل النظر في عيونه ثواني، ولم يستطع منع بسمته وهو يردد بذهول :
” سالار آخر ؟؟”
وعند هذا السالار الآخر، كانت تتحرك بين الجميع تضرب بسيفها من يعترض طريقها تبحث عنه بين الجميع، وقد هداها عقلها أن تبحث عن اكبر تجمع وستجده في المنتصف، وقد كان ….
ها هو تجمع من الضباع المتشردة حول أسد بغية إسقاطه للتغذي عليه، لكن ليس وهي تتنفس .
انطلقت لهم تصرخ بصوت مرتفع مسقطة اول من قابلها ارضًا دون اهتزاز أو ارتجاف .
وسالار الذي كان في المنتصف اتسعت عيونه بصدمة وهو يراها تهجم على الرجال بشراسة ليهتز قلبه خوفًا للمرة الأولى وهو يرفع سيوفه يقاتل بها :
” ما الذي تفعلينه هنا ؟! عودي للقصر والآن، اذهبي أيتها الغبية ”
نظرت له تبارك برفض ولم تكد تتشدق بكلمة واحدة حتى شعرت بيد سالار تجذبها صوب ظهره بسرعة كبيرة وهو يمثل لها جدار وعيونه تطلق شرارًا صوب الجميع :
” سأؤمن لكِ طريق العودة وأنتِ غادري للقصر ”
كان يتحدث وهو يقاتل من أمامه والإعداد تتزايد ينتظر منها إشارة الموافقة على حديثه، لكن اعينه اتسعت حين سمع همستها له من الخلف :
” لا ”
الذهول الذي ملئ نفسه في هذه اللحظة جعله يتناسى أنه في حرب ولا يجب عليه أن يبعد عيونه عن خصمه، استدار لها يحدجها بأعين مصدومة متسائلة عن هوية تلك الـ ( لا ) التي نطقت بها .
وهي لم تهتم تخرج من حمايته ترفع سيفها قائلة بنبرة ثابتة قوية :
” إما أن اساعدك ونخرج من هذه الحرب سويًا، أو أموت واسبقك أنا، وصدقني لن اقبل بخيار ثالث ”
ختمت حديثها تندفع صوب أحد الرجال تقاتلهم بشراسة جعلت سالار يخشى عليها، لكن في الحرب لا فرصة أمامه للتفكير فيما تفعله هي، لا يجب عليه أن يتوقف عن القتال لئلا يتكالبون عليه .
كان يقاتل، عين على العدو، وعين على الحبيب ….
مشاعر الحماية التي تلبست سالار في هذه اللحظة جعلته يدق الأعناق بقوة دون اهتمام وهو يضرب الرجال أمامه ويبعدهم من أمام تبارك، والتي على عكس مرتها الأولى كانت تقتل من يقابلها دون أن تتردد، إن كان الهدف سالار، فاللعنة عليهم أجمعين .
مرت دقائق والحرب مستمرة، انتفض سالار وهو يبعد عنه اخر الرجال ثم انطلق صوب تبارك يجذب الرجل الذي يقاتلها من ثيابه وقبل أن ينطق الرجل بكلمة كان سيف سالار يصمته للأبد..
نظر لها تتنفس بصوت مرتفع، ليبتسم هو لها يقول :
” ربما أخبرتك بهذا مرات معدودة فقط، لكنني يومًا لم افخر بتلميذ لي كما أفعل معكِ، وفي الحقيقة ليست مشاعر الفخر هي ما تملئ صدري فقط في هذه اللحظة ”
رفعت تبارك رأسها له بصدمة من كلماته تحاول أن تقنع نفسها أنه لا يقصد ما تريد هي سماعه، وهو شرد بملامحها يبتسم وصوته حين أخبر أرسلان أنه لا يريد أميرة مدللة، بل يريدها مقاتلة قوية، يرن في أذنه .
وفي الحقيقة في هذه اللحظة أدرك سالار أنه حتى لو كانت تبارك أميرة مدللة كان سيسقط لها بنفس الشكل ولن يهتم .
دار بعيونه حوله يبصر جنوده يتوسطون الساحة بعدما أسقطوا من أسقطوا وبدأت نيران الحرب تهدأ.
” لست ذلك الرجل الذي قد يغير رأيه في شيء بسهولة أو يتنازل عن شيء لأجل أحد، لكن في الحقيقة، هذا المشهد الذي أراه امامي قد يدفعني لتغيير التاريخ، فما بالك بتغيير رأيي ؟!”
” لا افهم ما تقوله سالار ”
تبارك التي كانت تتنفس بصوت مرتفع لم تكن تفهم ما يقول هو، بينما سالار ابتسم لها وقد التمعت عيونه بتصميم يقترب منها يطيل النظر لعيونها يخبرها بصوت خافت :
” هل تعلمين عدد الحروب التي خضتها سابقًا مولاتي ؟؟”
نظرت له بشرود ولم تاتي بأي ردة فعل من صدمتها لتلك النبرة وتلك الكلمات وهو ابتسم لها يقول ببساطة ضاربًا بكل ما يحدث عرض الحائط إن كانت هي الهدف:
” خضت في حياتي مائة واثنين وعشرين معركة، خسرت بهما ثلاث معارك فقط، واحدة يوم رأيتك للمرة الأولى، والثانية عندما أبصرت عيونك عن قرب، والثالثة تتجدد خسارتها مع كل مرة اسمع اسمي منكِ….”
فقدت تبارك الشعور بما حولها ليزيد سالار طينتها بلًا بكلماته الأخيرة :
” فما رأيك بإعلان الحرب المائة وثلاثة وعشرين ؟!”
______________________
إذن الحرب المائة وثلاثة وعشرين ؟؟
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مملكة سفيد)