روايات

رواية مملكة سفيد الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم رحمة نبيل

رواية مملكة سفيد الجزء الثالث والثلاثون

رواية مملكة سفيد البارت الثالث والثلاثون

رواية مملكة سفيد
رواية مملكة سفيد

رواية مملكة سفيد الحلقة الثالثة والثلاثون

كانت الجملة التي نطق بها سالار في هذه اللحظة أعلى من مستوى تفكير تبارك التي ازداد تنفسها بشكل مريب تحت أعين سالار الذي ابتسم لها، يحرك كتفه بهدوء :
” نعم ستكون حربًا ”
ختم جملته المعقدة تلك وتحرك بعيدًا عن تبارك تاركًا إياها تقف في منتصف الساحة وحدها، وحولها تنتشر العديد من الجثث لكثير من الأشخاص، نظرت في محيطها تحاول أن تتنفس بشكل طبيعي، قبل أن تبصر من مكانها إيفان الذي قطع طريق سالار .
وأصبح الإثنان في مواجهة بعضهما البعض في تلك اللحظة، وهذا ما جعلها تبتلع ريقها بخوف شديد وهي تقترب بتأني وقلق شديد، هل يعقل أنها قد تتسبب بغبائها في شقاق بينهما .
اقتربت أكثر ليصل لها صوت إيفان الذي كان يضم ذراعيه لصدره مبتسمًا بسمة مريبة :
” احسنت يا قائد، أتممت دورك كقائد للجيش، وفشلت في دورك كصديق، وبالطبع أخفقت في دورك كشقيق لي سالار”
اتسعت أعين سالار بقوة من قوة تلك الكلمات، يمسك مرفق إيفان بسرعة قبل أن يتحرك الاخير :
” لا لا مهلا إيفان، ما …ما الذي … أنا…..ليس بهذا الشكل، أنت لا تعلم شيئًا لقد ..”
جذب منه إيفان مرفقه بقوة يقول بملامح متكدرة ووجه مقتضب واعين حادة :
” هذا هو مربط الفرس سالار، أنا بالفعل لا اعلم شيئًا فأنت لم تتكرم وتخبرني بشيء، اسررتها بنفسك، ورأيت أنني لا استحق معرفة مشاعرك تجاه …”
صمت ينظر للخلف حيث تبارك التي كانت شاحبة الوجه :
” تجاه المرأة التي كادت تصبح زوجتي ”
ختم حديثه ينظر في محيطه، ثم رأى أن يتحرك قبل أن يتجاوز أحدهما في حق الأخر على مرأى ومسمع من الجميع:
” لا اعتقد أن الوقت أو المكان مناسبين لمناقشة مثل هذه الأمور يا قائد، هيا لنكمل العمل ”
صمت ينظر صوب تبارك مرة أخرى يقول بصوت مسموع وواضح لها :
” تحركي صوب القصر سمو الأميرة، فساحة الحرب لا تناسب النساء ”
ختم حديثه يتحرك من المكان بأكمله تاركًا الجميع خلفه يحدقون في أثره، وقد شعر سالار في هذه اللحظة بفداحة ما حدث، استدار نصف استدارة يبصر أعين تبارك التي بدأت تمتلئ دموع، فابتلع ريقه يردد بصوت خافت :
” سمعتي أمر الملك مولاتي، عودي للقصر رجاءً”
فتحت فمها بغية التحدث، لكنه في هذه اللحظة لم يكن حقًا في مزاج يسمح له بالحديث مع أحد :
” رجاءً نفذي ما اقول دون نقاش ”
سقطت واخيرًا دموعها التي حبستها طوال هذا الوقت، تهز رأسها بهدوء وهي تتحرك بخطوات بطيئة ميتة صوب القصر وسيفها مهدل يقطر دماءً وقد كانت أشبه بجندي عاد من حربه خاسرًا وحيدًا بعدما فقد فيها كل عزيز، وكذلك فقد نفسه، وتبارك التي لم تكن شيئًا في الوقت الحالي كان ذلك اقرب وصف لها ..فقدت نفسها .
وسالار الذي كان يتابع كل ذلك تألم من اعماق قلبه لنظرتها، لكن في الوقت الحالي لا شيء ليفعله بشأن ذلك، ابتلع ريقه ينظر حوله في الساحة وقد خمدت الحرب، وهرب بافل، جذر الفساد لم يُقطع بعد …
تنفس بصوت عالي وهو يبصر جنوده ينتشلون أجساد شهدائهم الطاهرة من الأرض لدفنهم في مكان استشهادهم، ويبدو أن ارض سفيد ستحفظ الكثير من الجثث الطاهرة اليوم .
تحرك سالار ببطء يراقب الأجساد حوله، هذا كان تلميذه، وهذا تحدث معه بالأمس، وهذا جاء له يومًا يطالبه بإجازة لأجل ولادة طفله، آباء وأبناء وأخوة رحلوا اليوم، عائلات كثيرة ستبيت ليلتها باكية، فقدوا الكثير ومازالوا يفقدون .
جلس سالار ارضًا جوار أحد الأجساد والذي كان يعود لشاب في التاسعة عشر من عمره انضم لهم قبل عام واحد آنفًا كارهًا، مازالت صدى كلماته ترن في أذنه..
” ابي هو من أراد أن انضم لجيش المملكة، لكنني لا أريد ذلك، أبي شيخ واخي طفل، من يتكفل بهم إن حدث لي مكروه ؟!”
وبعد مرور اشهر على وجوده تعلق قلب الفتى بالجهاد وأبى إلا أن يستمر في الجيش، ورغم أن إيفان كان رافضًا أن يكون المعيل الوحيد لأسرته في الجيش إلا أن إصرار الفتى منعه من الاعتراض .
ابتسم سالار بسمة صغيرة وهو يتأمل الشاب بأعين ملتمعة بعدة مشاعر هامسًا وكأنه يجيب سؤاله بعد مرور عام كامل :
” يتكفل بهم الله يا فتى، وأنت هنيئًا لك الشهادة يا بني ..”
تنفس بصوت مرتفع وهو ينهض حين وصل الجنود لانتشال جسد الشاب من أمامه، وسالار يحرك عيونه في المكان يدرك أن إيفان يتكفل بشكل كامل بجميع أسر الشهداء والسجناء، لكن أي كفالة تلك تعوضهم غياب احبائهم .
” رحمة الله عليكم ..”
___________________
كان في هذه اللحظة لا يستوعب ما يحدث، مظهر زمرد مضجرة في دمائها بين ذراعي تميم قتله، ليقترب منهم يصرخ باسمها دون وعي وقبل أن يأخذ خطوة إضافية لها سمع صوت مهيار يركض في الممرات وهو يشير لتميم أن يتبعه :
” من هنا تميم بسرعة ”
كان يركض وتمتم يركض خلفه بجسد زمرد وهو ما يزال يقف أمام المشفى كالجماد لا يأتي بأية حركة، لكن حالته تلك لم تستمر إلا ثواني معدودة قبل أن ينتفض يركض بسرعة كبيرة خلفهم وهو يصرخ باسمها في جنون تام، يهذي بكلمات غير مفهومة :
” ماذا فعلتم لها، من …من أصابها ؟! كيف …خرجت لماذا؟! تميم ما الذي فعلته ؟؟”
وضع تميم جسد زمرد على الفراش تاركًا إياها لمهيار وهو يدفع بدانيار للخارج تحت كلمات مهيار الذي قال بسرعة :
” ليرسل أحدكم في إحضار المزيد من المساعدة فالجرحى كُثر، أرسلوا أيضًا في احضار الملكة ”
ختم حديثه تزامنًا مع غلق باب الغرفة من قبل تميم الذي نظر بغضب لدانيار والذي كان يحاول الإفلات منه ودخول الغرفة مجددًا :
” دانيار توقف بالله عليك، دع شقيقك ينتهي من عمله في الداخل ”
نظر له دانيار بانهيار وهو يشير للداخل برعب :
” لقد كانت …لقد …كيف حدث هذا؟! أين كانت ؟! لِمَ خرجت و..”
فجأة ودون سابق إنذار توقف هزيان دانيار عند نقطة أضاءت في عقله وهو يحاول تخيل ما يحدث، فما حدث منذ دقائق كان مع قومها و…شقيقها، أيعقل ؟؟
كانت تلك الفكرة في حد ذاتها سبب ليشعر دانيار بقرب جنونه، يستند على الجدار خلفه وهو يحاول التماسك من هول ما يحدث، قبل أن يسمع صوت تميم الذي جاء من بعيد :
” لقد وجدتها جوار أحد الأبواب الجانبية ملقاة ارضًا في دمائها جوار سيفٍ ما بهذه الحالة ”
كلمات وكلمات وكلمات لكنها تصل مشوشة له، وهو الذي انهار شيئًا فشيء حتى سقط ارضًا يمسك رأسه بين يديه وقد شعر في تلك اللحظة بالرعب، بل كان الرعب كلمة لا تصل لمقدار المشاعر التي يختزنها دانيار داخله .
” ياالله، يا الله ”
كانت همسات تخرج منه دون وعي، كيف تجاهل هذه النقطة ؟! كيف تجاهل طبيعة زمرد المتهورة والتي لا تنفك تجد حرب فتقفز بها، فما بالكم بحرب تخصها ؟؟
ابتلع ريقه وهو متأكد أن السبب في حالتها تلك هو أحد أفراد ذلك الشعب النجس إن لم يكن شقيقها، فما كان لرجالهم أن يرفعوا سيفًا على امرأة.
ساعات قضاها في الخارج وهو يتجاهل كل ما يحدث حوله، فقط يهيم في ذكرياته معه، ويجلد روحه بسياط الندم لتركها تتحرك ذلك اليوم دون أن يخبرها أنه يريد معرفة الحقيقة بالكامل .
طال الوقت أو هذا ما شعر به، ولم يشعر بتميم الذي تحرك ليطمئن على زوجته، ثم يعود، كل ذلك وهو يجلس دون أن يبدي أي ردة فعل ..
كان هذا حتى سمع صوت مهيار يخرج ومعه تبارك التي لم يعلم متى جاءت بالتحديد وهو هنا لم يتحرك، هز رأسه دون اهتمام يتساءل بلهفة ورعب :
” مهيار كيف هي ؟! هي بخير ..صحيح ؟؟”
نظر له مهيار بشفقة، يشفق عليه من نفسه وعقله، تنهد يربت على كتفه :
” ستكون بخير لا تقلق، السيف لم يصب أنسجة حيوية، لكن الجرح ليس بالصغير أو البسيط، بل هو عميق بعض الشيء سيستلزم وقت لشفائه ”
هز رأسه وهو ينظر له بلهفة ورجاء :
” يمكنني الدخول لها صحيح ؟؟”
صُدم مهيار من كلمات شقيقه والذي لا يبدو في وعيه :
” الدخول إلى أين دانيار ؟! هذه امرأة أجنبية عنك يا أخي، أفق لا يمكنك الدخول عليها بالطبع ”
شعر دانيار بعالمه يتهشم هامسًا بصوت خافت متوسل :
” إذن يمكنني الزواج بها إن كان ذلك سيتيح لي رؤيتها ”
” حسنًا عندما تستيقظ أخبرها بذلك، فنحن لن نزوجها إياك وهي لا حول لها ولا قوة ”
شعر دانيار أنه لن يتحمل كل ذلك الوقت حاول البحث عن شيء في عقله يساعده، وخابت جميع آماله وهو يستند على الجدار بتعب يسمع صوت تبارك له :
” لا تقلق دانيار هي ستكون بخير، فقط تحتاج وقت لتلتئم الجروح ومن نعمة الله عليها أنها الآن لا تعي ما يحدث حولها كي لا تتوجع لجرحها الذي ما يزال حيًا، دعواتك لها وستصبح بخير، أنا سأذهب لاطمئن على برلنت ومن ثم سأعود لها مجددًا ”
هز دانيار رأسه هزة صغيرة يقول بصوت خافت موجوع:
” حسنًا لا بأس، شكرًا لكِ مولاتي ”
ابتسمت له تبارك بسمة صغيرة وهي تتحرك لترى برلنت ومن ثم ستباشر معالجة الجنود، كل ذلك وقلبها يمتلئ بالعديد من المشاعر المشوشة، لكن لربما كان كل ذلك فضل من الله لتنشغل عن أفكارها بالعمل.
رحلت ومازال دانيار يقف محدقًا بباب غرفتها لا يسمع كلمات مهيار الذي يتحدث له منذ رحلت تبارك، كل ما يراه هو جسدها المصاب وعقله يعرض له صورتها التي وصفها تميم وهي في وسط بركة دمائها وسيفها مـ
فجأة توقفت أفكاره وانتفض يهمس بإدراك لأهمية السيف لها والذي كادت تفقد روحها لأجله، السيف نفسه الذي قربه منها :
” سيفها ؟؟؟ السيف أين هو ؟!”
____________________
صوت اقتحام المكتبة تسبب في انتفاضة جسد العريف بقوة وهو يلتقط السيف الذي كان مستقرًا على الطاولة للدفاع عن نفسه، تحرك ببطء صوب الباب صارخًا بصوت جهوري :
” اظهر نفسك، هل تظن أنني عجوز أعجز عن قتالك يا هذا ؟؟ ”
ختم حديثه ينظر صوب الباب بشر كبير وتحفز اكبر وقد اتخذ وضع الهجوم ممسكًا بالسيف، لكن شيئًا فشيء تهدلت كتفه وهو يبصر ذلك الجسد الذي يتوسط مدخل المكتبة بملامح كئيبة متعبة .
انزل العريف السيف وهو يحدق في صاحب الجسد بخوف هامسًا :
” ما بك؟! هل حدث شيء في الخارج ؟!”
رفع صاحب الجسد رأسه يهمس بصوت متعب :
” نعم، لقد خسرت ”
فزع العريف من تلك الكلمة يركض بسرعة صوب ابواب المكتبة وقد ظن في رأسه أنهم خسروا الحرب وجسده بأكمله يرتجف :
” يا الله رحمتك بنا، خسرنا ؟؟ كيف لقد كان الملك يخطط لكل شيء بدقة و…”
” لا لا ليس الملك، أنا فقط من خسرت، أنا الخاسر الوحيد اليوم يا عم ”
شعر العريف بضربة قوية توجه لصدره وهو يغلق أبواب المكتبة بسرعة كبيرة بعدما تأكد أن لا أحد يتبعه، يجذب يده صوب الداخل يهتف بخوف من تلك الملامح والجسد المرهق بشكل مريب :
” بني، ما الذي حدث لك ؟؟ لا أراك الله خسارة يا عزيزي، ما الذي تسبب لك في كل ذلك الوجع الذي أراه!!”
رفع سالار رأسه يهمس له بصوت موجوع يجاهد كل تلك الصراعات داخله :
” ألم اكن وصية ابي وابنك لك يا عم ؟؟ ”
هز العريف رأسه وقد بدأ صدره يرتجف على ذكرى والد سالار وولده هو، يرفع كفه يمسك وجه سالار بحنان :
” أنت اغلى ما امتلك سالار ”
” إذن لِمَ ارتضيت لي الوجع يا أبا دارا ؟؟”
كانت تلك الكلمات هي اقسى ضربة تلقاها العريف، كلمات سالار بهذا الشكل وهذه الطريقة جعلت يتراجع بصدمة ووجه شاحب يهز رأسه رافضًا مرتجفًا :
” ماذا ؟؟ أنا ؟؟ أنا لم أفعل يومًا معك بني، يا ويلي ليقبض الله روحي قبل أن أمسك بسوء أنت لست فقط وصية جوبان ودارا لي، بل أنت رفيق حياتي وبني الذي عوضني فقدان أحبتي سالار ”
سقطت دموع سالار يهتف بوجع :
” لماذا إذن يا عم شهدان ؟؟ لماذا إذن فعلت كل هذا بي ؟؟”
ابتلع ريقه يهتف بصوت متألم متقطع :
” لماذا ارسلتني أنا لاحضرها، لماذا ألقيت بي في دهاليز لا علم لي بها، مالي أنا ومال تلك المشاعر ؟! أخبرتك أنني فقط هنا كي انتقم لوالدي، وأنت…”
صمت ثواني بقهر قبل أن يضرب طاولة جانبية بقدمة في عنف مخيف يصرخ بصوت مرتفع :
” وأنت فقط ألقيت بي بين غياهب الحب، ارسلتني متعمدًا في رحلة لن ينالني منها سوى الوجع، كنت تعلم، كنت تعلم أنني سأفعلها، كنت تدرك أنني سأسقط في حبها ورغم ذلك ارسلتني، كنت تعلم أنني سأأثم ورغم ذلك أقنعت الملك بأرسالي، لقد دمرتني، دمرتني، والآن أنا هنا بين شقيّ الرحى، إما أن اتنحى جانبًا واترك المرأة الوحيدة التي احببت لآخر، أو احارب ذلك الآخر والذي للصدفة هو نفسه أخي الذي كنت على استعداد للتخلي عن حياتي لأجله، لكن ليس هي …”
صرخ بجنون وهو يضرب ما أمامه:
” ليس هي أيها العريف، أنت السبب في كل ذلك، لو أنك لم تقترح عليه أن يرسلني أنا لها، لو أنني لم أرها ذاك اليوم تبكي كالطفلة، لو أنني لم اقترب منها، يا الله ما الذي فعلته بي، لقد أصبحت آثمًا، جعلتني آثمًا لأجل حب يا عم ”
كان العريف يتابع كل ذلك بملامح متغضنة يرى أمامه الشخص الوحيد الذي حارب لأجله منهارًا وعلى وشك السقوط، عادت ذاكرته في لحظة لذلك اليوم الذي أبصر ولده دارا والذي كان قائدًا للرماة في الجيش سابقًا، يدخل عليه المنزل وهو يمسك بيد سالار باكيًا بصوت موجوع وهو يصرخ :
” لقد فقدت جوبان يا أبي، فقدت قائدي وصديقي، لقد قتلوه هؤلاء الملاعين، قتلوه وقتلوا الأميرة عائشة ”
منذ تلك اللحظة التي أبصر بها العريف ولده مدمرًا لأجل رفيقه وابصر ارتجاف الصغير سالار بين يده، وضمه لصدره وقد تعهد لنفسه ألا يدع مكروهًا يصيبه، وأقنع الجميع بمن فيهم تلك الحرباء شهرزاد أنه ابعد طفل جوبان عن المملكة مقابل أن تدعه هي جانبًا، وهذا بعدما اكتشفت هي أنه الناجي الوحيد من تلك المعركة، لكن هل فعل وأبعده حقًا ؟؟
بل أحضره والقاه بين الصبية الذين جاءوا لتعلم القتال وجعله يلتحق بالجيش مثله كأي طفل صغير ولم يقترب منه يومًا إلا في الخفاء، وسالار لم يخيب آمال والده ودون تدخل من أحد حاز مكانة والده السابقة عن جدارة واستحقاق ليصبح خليفة له في ساحات القتال، يقتص لوالديه ولولده دارا الذي قُتل غدرًا ولحق بهما .
اقترب العريف من سالار الذي لم يكن يبصر أمامه سوى سواد وإثم سيطيح به، ضم وجنتيه بين يديه بحنان شديد :
” لم أكن أعلم، اقسم بالله أنني في البداية لم أكن أعلم أنها هي المقدرة لك يا بني، لو علمت لاخبرتك وارسلتك لتحضرها لكن كزوجتك أنت، لم اعلم إلا بعدما جاءت ورأيتها و…ابصرتها تُزف لك في أحد الاحلام، عندما تذكرت تلك الرؤية بخصوص الملكة من عالم المفسدين، خانني عقلي وظننتها تقصد إيفان، ونسيت أنك الملك المقدر هنا وليس إيفان، إذن هي لك أنت يا سالار منذ البداية وليست لايفان ”
عض سالار شفتيه يهمس :
” من سيخبر الجميع بذلك يا أبا دارا، فأنا سأصبح في أعين الجميع مجرد حقير خان ملكه واحب زوجته المقدرة، سأصبح مجرد قذر خائن نظر لمن لا تخصه، و…”
صمت يهتف ببسمة موجوعة :
” أوتعلم، سيكون لهم كامل الحق في هذا الاعتقاد، فأنا بالفعل اخطأت وبشدة، لو أنني فقط تعاملت معها كما تعاملت مع الجميع، لو أنني ما سلمت نفسي للشيطان واحببتها، أيا ليتني قُتلت في إحدى المعارك التي اتفاخر بها وما وقعت في هذا الإثم ”
أضاف باكثر نبرة متألمة سمعها العريف :
” لقد …لقد …لقد تجاوزت الكثير في حبها، يا ويلي لقد عانقتها في الخارج مرتجفًا على مرأى ومسمع من الجميع، كنت ا…”
صمت يدفن وجهه بخزي بين ذراعيه، أيًا كانت المشاعر اللعينة التي يمتلكها تجاهها ما كان عليه التجاوز لهذه النقطة، كان يمكنه إنقاذها دون أن يظهر ضعفه تجاهها للجميع، دون أن يظهر ذلك الخزي أمام الجميع وخاصة إيفان الذي أبصر نظرة خذلان تعتلي عيونه قبل أن يقذف له بسيفه ..
” ما الذي سأفعله الأن ؟! أنا لا أستطيع أن أرفع وجهي في وجه أحدهم بعد الآن، لقد خذلت الجميع وقبلهم نفسي، خذلت إيفان وأخذت منه زوجته ”
” هي زوجتك أنت بـ ”
قاطعه سالار صارخًا بجنون :
” لكنها كانت أمام الجميع وأمامي زوجته المستقبلية، حتى لو أنها المقدرة لي ما كان على ذلك أن يدفعني صوب الوقوع في حبها وأنا أدرك داخلي أنها للملك ”
ابتلع العريف ريقه يقول :
” ملك غير الملك وملكة لا تمت للملكة بصلة، المقصود بهذه الكلمات هو إيفان وكهرمان ”
نظر له سالار بعدم فهم ليتابع العريف بصوت منخفض :
” ملك غير الملك هو إيفان، وملكة لا تمت للملكة بصلة يُقصد بها كهرمان، فالملك الحقيقي هو أنت والملكة هي تبارك ”
ابتسم سالار بعدم تصديق لما يُقال أمامه:
” هل كنت تستمتع بمشاهدتي أعاني يا أبا دارا ؟؟ هل كانت أوجاعي وصراعاتي الداخلية تستهويك لدرجة أنك لم تفكر يومًا في مصارحتي بكل ذلك ؟؟”
رفع العريف عيونه الدامعة لسالار :
” ما كان لي أن أتدخل في علم الغيب يا بني، كل تلك كانت مجرد احلام ورؤى والغيب بيد الله، كلها مصائر ما كان لي أن أتدخل بها، ثم إن أخبرتك أو أخبرت أحدهم بما رأيته لأجله كان سيسارع ليحارب مصيره، وهذه إرادة الله فوق كل شيء، لذلك كان من المفترض للحياة أن تسير دون أي تغيير في الأقدار ”
انهار سالار ارضًا بقوة وهو يشعر بالمكان يدور به، يهتف دون شعور منه :
” ليتني رفضت الذهاب وإحضارها، ليتني لم أرها، ما كان عليّ أن آثم بهذا الشكل ”
” إثم ؟؟ هل تسمي معرفتك لي إثم سالار ؟!”
تجمد جسد سالار للحظة يستمع لصوتها وهو يبتلع ريقه، يغمض عيونه بقوة يستند برأسه على أحد ارفف الكتب خلفه :
” هل سيسعدك العلم أنني بالفعل آثم وهذا الإثم كان حبك ؟؟”
تأوهت تبارك تبتسم بعدم تصديق، هي من كانت تبكي بخوف عليه، قبل أن تقرر المجئ للعريف واللجوء له وأخذ نصيحته، لتكتشف أنها إثم.
” لا، لن يسعدني معرفة أن قائد جيوش سفيد أصبح آثمًا في حبي، لن يسعدني أن أصبح إثم لمن لا إثم له”
ابتلعت ريقها تحاول الحديث :
” لكن في النهاية أنت بشري والجميع يخطأ سالار، الجميع يأثم نحن لسنا في المدينة الفاضلة ”
ضحك سالار بقهر يهمس لها وهو يحرك يديه أمامه :
” وأنا يا سيدتي عشت في مملكة؛ حيث لا آثام ولا آثمين، فكنت أول الآثمين وكان إثمي الحب ”
سقطت دموع تبارك بقوة تشعر بشدة القهر في نبرته، والوجع المتمثل في حركات يده، كل ذلك قتلها ببساطة، لقد دمرت بمجيئها هذه المملكة وقلبتها رأسًا على عقب .
رفعت عيونها صوب العريف الذي كان يراقب كل ذلك بوجع شديد لا يملك شيء يساعدهم به :
” هل هذا كان قصدك ؟؟”
رفع العريف عيونه لتبارك بعدم فهم، لتقول بوجع مقتربة منه :
” حين أخبرتني أنني سأغير تاريخ سفيد، هل هذا ما كنت تقصده ؟! لم تخبرني أنني سأدمر البلاد يا عريف بوجودي ؟؟ ”
ابتسم العريف بسمة صغيرة من بين نظراته الموجوعة:
” ما حدث كان بداية التغيير يا ابنتي ”
هزت تبارك رأسها ببطء تقول :
” أنا..لا اريد أن أفعل هذا، لا أريد تغيير تاريخ سفيد، أريد فقط أن… أرحل، اعدني لمنزلي يا قائد وليعد كل شيء لما كان عليه ”
رفع سالار رأسه التي كانت مستندة على قدمه في صدمة شديدة يهتف :
” ماذا ؟؟”
” كما سمعت، أريد الابتعاد قبل أن تسوء الأمور بسببي أكثر، كل شيء سيصبح بخير حينما أغادر ”
نهض سالار من مكانه كالملسوع يصرخ بجنون في وجهها :
” ما الذي تهزين به يا امرأة ؟! هل تظنين أن رحيلك سيصلح كل ما فسد ؟؟ لقد حدث وفسد وانتهينا، ورحيلك لن يغير شيء فيما حدث، لن يفعل شيء ”
نظرت له بدموع تتراجع للخلف بعيدًا عن امواج غضبه وهو ما يزال يتحدث بجدية من أسفل أسنانه بغضب شديد :
” ذهابك لن يؤثر بشيء، هو لن يفعل شيء سوى أنه
….سيقتلني أنا، هذا ما سيفعله رحيلك ”
رفعت تبارك عيونها له بصدمة ليقول سالار وهو يشعر أنه يتمادى في اثمه، لكن إن كانت هي إثم، فهو يتقبله بصدر رحب ولتصبح هي أول آثامه، وهو أول الآثمين .
” أنا لن احارب هنا واقاتل لأجل لا شيء، أنتِ لن ترحلي وتتركيني في هذه الحرب وحدي، لا اطالبك بالقتال، لكن على الأقل اريدك أن تنتظريني حين العودة من تلك الحرب بأدويتك لتعالجي جروحي، أوليست هذه مهنتك ؟؟ تعالجين الجرحى ؟؟ وأنا بعد هذه المعركة سأكون ملئ بالجراح تبارك ”
انهارت تبارك في هذه اللحظة وقد شعرت بالوجع في صدرها، لا تدري ما الذي يجب فعله، يقتلها رؤيته بهذا الشكل، وتلك الكلمات التي خرجت منه بهذا الشكل اوجعتها واصابتها في مقتل ..
” أنا لا…”
” هل ستنتظرين عودتي تبارك ؟؟ ”
رفعت عيونها له موجوعة تشفق عليه كل هذه المعارك التي يخوضها لأجلها :
” بل أريد خوضها معك إن استطعت يا قائد ……”
ابتسم لها سالار بسمة صغيرة باهتة يفرك وجهه :
” هذه الحرب الوحيدة التي لن أسمح لكِ أن تشاركيني فيها …مولاتي .”
__________________
يتحرك بين الممرات وهو ينظر أمامه نظرات جامدة بين الجنود من حوله يتجنبون الاحتكاك به ولو دون قصد وهو فقط لا يبصر أمامه سوى مشهد سالار الذي يضم تبارك لصدره وكأنها ستتلاشى .
ابتسم يتذكر كلمات والدته التي بدأت ترن في أذنه نزع سترته الخاصة بالحروب يلقيها دون اهتمام أين تسقط وسيفه يقطر دمًا لا يعلم لمن يعود، لكنه يعلم أنه ملوث بالفعل .
وفجأة وفي وسط موجة الأفكار التي عصفت بإيفان ابصرها تسير أمامه لتذكره بأن سالار لم يكن الآثم الوحيد في هذا القصر .
وعند هذه النقطة أطلق إيفان ضحكة صاخبة رنت بين جدران قصره تسببت في جعل الجميع ينظر له بذهول وخاصة هي التي شعرت أن هناك شيء خاطئ يحدث، نظرت حولها بريبة تقول :
” مولاي، هل أنت بخير ؟؟”
رفع إيفان عيونه لها يقول بنبرة بها أثر لضحك :
” في الحقيقة هذا سبب ضحكاتي، هل أنا بخير ؟؟ هل تسير الأمور على ما يرام ؟! ”
لم تفهم كهرمان ما يقول وقد شعرت أن هناك شيء مريب به :
” مولاي هل ….هل تلقيت ضربة على رأسك خلال الحرب ؟!”
نظر لها إيفان بصدمة كبيرة سرعان ما انقلبت لضحكات أعلى وأكثر صخبًا من السابقة، وهي تتابعه بعدم فهم وقد بدأت تتراجع بخوف من ضحكاته ونظراته تلك، لكن قبل الرحيل بشكل كامل أوقفها إيفان بسرعة يقول :
” لا لا، مهلًا مهلًا أنا فقط آسف، يبدو أنني فقط مرهق مما حدث و..”
صمت يتنحنح ليعود إلى وجهه الراقي والهادئ والجاد، لكنه لم يستطع التحمل لأكثر من ثواني لينفجر مجددًا في الضحك وهو يستند على الجدار خلفه :
” أنا فقط ….فقط أشعر أنني كنت اركض في دوامة و ..”
رفع عيونه لكهرمان يقول دون مقدمات أو حاجة لقول ذلك :
” هل أبدو مريبًا الآن لكِ ؟؟”
ورغم أنها لا يجب أن تفعل ذلك إلا أنها اومأت له بنعم، وهو ابتسم يقول براحة وكأنه كان ينتظر اجابتها تلك :
” جيد إذن، واستغلالًا لتلك الحالة التي تجعلني أبدو لكِ كالمجنون في هذه اللحظة، دعيني أخبرك أنني كنت اعاني كثيرًا في التحدث معكِ دون القول أنكِ رقيقة للغاية سمو الاميرة، هذا حقيقة عانيت كثيرًا في كتمها عنك رغبة مني ألا اتجاوز حدود ديني وحدود لباقتي، لكن الآن ليس على المجنون حرج، و…اعتقد أنه يحق لي قول ذلك للفتاة التي ارغبها ولو لمرة واحدة صحيح ؟؟”
كانت نظرات كهرمان له مريبة وكأنه للتو أخبرها أن السماء تمطر زهور أو أن الجبال تحولت لحلوى، وفي الحقيقة ما نطق به إيفان للتو فاق كل ذلك جنونًا، لكن إيفان في هذه اللحظة لم يشعر بنفسه سوى وهو يعبر لها عما يضمر .
” أنا الآن وقح حقير تعديت على حرمة صديقي وغازلت شقيقته، و…هذا أكبر خطأ أنا آسف حقًا، سوف اتحدث لارسلان واعتذر منه عن ذلك وأخبره أنني أخطأت وغازلتك”
كانت كلمات إيفان في هذه اللحظة مريبة غريبة لكهرمان بشكل غير طبيعي، هذا الرجل الذي يهزي بكلمات غير متزنة أمامها، ليس هو نفسه الملك الذي كان يجعل الجميع يفغر فاهه من مقدار حكمته وخبثه .
وإيفان في هذه اللحظة لم يكن حقًا يدرك ما يخرج من فمه، فقط هز رأسه وتحرك صوب مخدعه وهو يردد كلمات لم تصل لها واضحة، تاركًا إياها تعاني الحيرة جراء ما قال، لكنها لم تتوقف كثيرًا وهي تتحرك بعيدًا عن المكان بخجل شديد تشكر لثامها الذي أخفى احمرار وجنتيها عن الأعين حولها .
بينما الجنود في الممر كانوا مصدومين مما يحدث، في البداية قائد الجيوش والآن الملك، ما الذي أصاب رجال هذا القصر يا ترى ؟؟
_______________________
تحرك داخل غرفتها يستشعر هدوء كبير ليبتسم بحنان وهو يهمس :
” الحرب في الخارج والسلام في غرفتك برلنت ”
اقترب من الفراش يميل عليها مقبلًا رأسها يهتف بصوت خافت وصل لها واضحًا، إذ كانت تدعي النوم لترى ما يفعل :
” كيف حال صغيرتي اليوم، يبدو أنكِ كنتِ تشتاقين النوم كثيرًا، أنتِ هكذا منذ أيام طويلة، تنامين دون شعور لمن جافاه النوم لأجلك ”
شعرت برلنت بالصدمة وهي تستمع لكلماته، رددت بصوت هامس دون شعور و بصدمة كبيرة :
” أيام ؟؟”
ربت تميم على شعرها بلطف:
” تحبين رؤية خوفي عليكِ، لذلك تستمرين في النوم تاركة إياي اعاني بعدك هنا ؟؟”
حاولت برلنت كبت بسمتها على كلماته التي جعلتها تسعد، وهو مال عليها يقبل رأسها بحنان :
” لكن لا بأس صغيرتي، يمكنك النوم كما تريدين إن كان ذلك يريحك ولاذهب أنا للجحيم ”
صمت ثم قال مجددًا :
” أنا فقط أخشى أن انشغل يومًا عنكِ واهملك بيرلي، لذا اتخذت قراري صغيرتي، لو كان عملي سيمنعني عنكِ.. سأتزوج بأخرى تعتني بكِ لأجلي ريثما انتهي من عملي ”
في هذه اللحظة أبصر تميم اهتزاز جسد برلنت بقوة ليبتسم ساخرًا :
” ومن يعلم، ربما تكون من اللطف لتعتني بي كذلك، وأنا بالفعل قد وجدت تلك الزوجة الصالحة التي سـ ”
فجأة فتحت برلنت عيونها بقوة وكأنها لم تغلقها يومًا تقول بصوت خرج منها غاضبًا رغم ضعفه :
” ما الذي قلته ؟؟ تريد الزواج بأخرى فقط لأنني تعبت لأيام ؟؟ ماذا إن مت؟؟ ستتزوجها لتقوم بواجب العزاء تميم ؟؟”
ابتسم تميم بسمة واسعة لها يقول وهو يميل ليقبل وجنتها بحنان :
” مرحبًا بعودتك بيرلي ”
نظرت له برلنت بغضب تبعده عنها وهي تحاول الاعتدال في جلستها، لكن فجأة شعرت بدوار كبير يصيبها لتسقط مجددًا على الفراش بشكل جعل تميم يزجرها هاتفًا :
” هل جننتي أنتِ ؟؟ مازال جرحك حيًا ”
رمقته برلنت بتعب شديد وقد ازداد دوار رأسها تمسك رأسها بشكل جعل تميم ينتفض بخوف وهو ينادي :
” ما بك بيرلي ؟؟ مهيار …مهيار ساعدني ”
أمسكت برلنت يده وهي تقول بصوت منخفض :
” أنا بخير لا تقلق، فقط شعرت بدوار وتعب شديد يصيب رأسي، لا تقلق ”
نظر لها بتردد وهي ابتسمت له تقول :
” تخاف وتريد إحضار زوجة أخرى لك تميم ؟! كم أنت خائن حنون ”
نظر لها تميم ثواني قبل أن يضحك ضحكة صغيرة يقترب منها يجاورها على الفراش يضم جسدها له :
” فقط كي تعتني بكِ ”
نظرت له بحنق تردد :
” إن رأيتني انازع الموت وزواجك من أخرى هو ما سيحييني، فلتجهز لي قبري افضل تميم ”
حدجها تميم بشر مانعًا إياها من نطق تلك الكلمات :
” أطال الله في عمرك بيرلي، لا أراني الله بكِ سوءًا، لقد كدت أموت رعبًا حين أبصرت ما حدث لكِ ”
تنهدت برلنت ترتاح برأسها ببطء شديد على صدره، ثم قالت بصوت منخفض هامس:
” هل غبت كثيرًا عن القصر ؟؟ أين الفتيات ؟؟ لا أحد هنا سواك ”
نظر لها بشفقة ولم يرد أن يخبرها عما حدث خلال تلك الأيام كي لا يسبب لها وجعًا أو إرهاقًا :
” كانوا هنا منذ ساعات قليلة وأنا من طلبت منهم أن ينالوا قسطًا من الراحة، فهم يرابطون عند غرفتك منذ ما اصابك”
ابتسمت برلنت بحب شديد تستكين قبل أن تهتف بصوت منخفض :
” وابي وامي ؟! هل …هل جاء أحدهم ليراني تميم ؟؟”
توقفت يد تميم عن مداعبة وجنتها فجأة وكأنها باغتته بهذا السؤال، ابتلع ريقه يجيب على نصفه متجنبًا النصف الآخر :
” لا اعتقد أن أحدهم أخبر والدتك بما حدث لكِ، وهذا يذكرنا أننا اغفلنا جزء والدتك ولم يتحدث لها أحد بعدما جاء والدك ولا بد أنها وحيدة قلقة خائفة”
ضربت برلنت تلك الفكرة بعنف لترتجف بإدراك:
” أمي، يا ويلي لقد كان والدي انيسها الوحيد، ترى ما حالتها الآن ؟! لا بد أنها مرتعبة مما يمكن أن يحدث ”
هز لها تميم رأسه بحنان :
” لا بأس بيرلي أنا سأذهب لها بنفسي واحضرها هنا إن اردتي و…”
توقف ثواني لا يدرك وقع ما سيقوله عليها خاصة أنه حين قاله للمرة الأولى لم تكن هي واعية :
” وكذلك سأحضر ابي وأمي لرؤيتك ”
كلمات بسيطة خرجت منه لتترك برلنت شاحبة وهي تشعر أنها أخطأت السمع ربما، فوالد تميم مات و..والدته من المفترض أنها تأثرت بموته ولحقت به، أو هذا على الأقل ما علمته من والدها :
” و…والديك ؟؟؟؟”
____________________
يتوسط عرشه الذي صُنع خصيصًا ليحتوي جسده وأمامه يركع الجميع بكل خزي وجبن، ترتجف أجسادهم مما ينتظرهم على يد ذلك المتجبر الذي يحدق بهم .
ابتسم أرسلان بسمة واسعة وجواره يجلس الملك بارق ينظر لهم بتشفي، هؤلاء الذين هاجموا بلاده مرارًا وتكرارًا ليضعفوه وقد كادوا ينجحون لولا دعم إيفان له بالعديد من جنوده ليدافعوا عن بلاده لحين يسترد جيشه قوته وقد كان .
صدح صوت أرسلان يهز جدران القاعة التي تلوثت بمعاصي وآثام القوم :
” يا ويلي من قذارتكم، سلبتم مني قصرًا واعدتموه لي حظيرة، لكن على من العتب ومن سكنه كان حفنة من الحيوانات اعاذنا الله، وعذرًا للحيوانات لتشبيهها بقومٍ امثالكم، والآن أين هو قائدكم الهمام الشجاع الذي قادكم نحو مملكتي ؟؟”
لم ينطق أحدهم بكلمة واحدة فابتسم لهم أرسلان بسمة واسعة يهتف :
” تدور الدنيا ويعود كلٌ لمكانه، أنا لعرشي، وأنتم أسفل النعال، والآن للمرة الأخيرة سأكون رحيمًا مع امثالكم”
صمت يطيل النظر في عيونهم المرتقبة :
” أين يمكن أن يختبأ ذلك الحشرة بافل؟؟ أخبروني بمكانه ولكم مني وعد بالرحمة ”
ولم يتحدث أحدهم، بل فقط اخفضوا رؤوسهم لتشتعل أعين أرسلان يقول بكل هدوء وتجبر :
” لا بأس كانت تلك فرصة أخيرة مني لكم، على كلٍ لا ثأر لي معكم في الحقيقة، ثأري مع بافل فقط، أما أنتم فلا شأن لي بكم ولن امسكم بسوء ”
تعجب الرجال الجالسين ارضًا من حديثه وتعجب جنود أرسلان مما سمعوا وكذلك جنود بارق، عدا بارق الذي نظر نظرة غامضة صوب أرسلان يدرك جيدًا أنه يخفي شيئًا داخل صدره .
رفع أرسلان رأسه يقول :
” أطلقوا سراحهم يا رجال، لا ثأر لنا معهم ”
علت الهمهمات بين الجميع وقد ازدادت الاصوات، وارسلان لم يضف كلمة أخرى، حتى تحرك المعتصم قبل الجميع يفك وثاق الرجال اجمعين والذين لم يصدقوا أنه تركهم، أرسلان الذي سمعوا عن تجبره يتركهم وشأنهم ؟؟
نظر لهم أرسلان يشير لهم بالخروج، وهم شعروا بالغدر فتحدث أحدهم بشك :
” وما ادرانا أنك لا تنصب لنا فخًا أنت أو رجالك ؟!”
ابتسم له أرسلان ببساطة :
” لك كلمتي ألا يمسك سوءًا مني أو رجالي حتى تخرج من المملكة ”
وهذا كان أكثر من كافيًا لتنتفض أجساد الرجال راكضين بسرعة مخيفة خارج القصر غير مصدقين لما سمعوا، لكن حتى ولو كان فخًا فسوف يحاولون الفكاك منه، كانوا من اليأس الذي جعلهم يفتحون ابواب القصر الداخلية وينطلقون للساحة دون أن يمسهم أحد رجال أرسلان كما وعدهم .
كل ذلك وارسلان يراقبهم من نفس الشرفة التي كان يتخذها بافل نقطة ليراقب بعيونه معاناة شعبه، ها هو يقف يراقب بها نهاية قومه .
اتسعت افواه الرجال بسعادة كبيرة يبصرون باب القصر الخارجي يقترب منهم، وأصوات الحرية تناديهم من خلفه، لكن لم يكادوا يصلوا صوب تلك البوابات حتى وجدوها فُتحت فجأة، وكأن ابواب الجحيم فُتحت عليهم ليروا سيل من شعب مشكى ينتظرونهم أمام بوابات القصر بنظرات قاتلة وعيون متقدة بالكره والغضب والمقت، أجساد مشتدة وعروق نافرة وثأر يلتمع بالاعين، الآن وقد حان وقت القصاص، جاء كل من فقد عزيز ليأخذ بثأره، الصدور كانت ممتلئة بغضب لا مثيل له ..
صدح صوت أرسلان الجهوري في المكان وهو يتمسك بإطار الشرفة :
” اخبرتكم أن ثأري ليس معكم، ولا أنا أو أحد رجالي سيمسكم بسوءٍ، لكن هم ….هم ثأرهم معكم وهم شعبي وليسوا جنودي، لذا لعنة الله عليكم جميعًا إن ظننتم أنني سأسلب شعبي حق القصاص لذويهم، لتحترقوا في الجحيم مع امثالكم من الكفار ”
صمت ثم أطلق صرخة غاضبة :
” خذوا ثأركم، لا تدعوا تضحية ذويكم تذهب هدر ”
وبهذه الكلمات أعلن أرسلان بداية طوفان شعب مشكى، الذين عانوا لشهور طويلة، حتى فاضت كؤوس صبرهم.
بكاء الليالي ودعوات القهر وصرخات الوجع ومشاهد الموت كلها مرت أمام أعين شعب مشكى الذين فاضوا كالسيل على من تبقى من رجال بافل .
صرخاتهم التي كانت تصل لارسلان في الاعلى جعلت ملامحه تزداد تجمدًا حتى سمع صوت بارق خلفه يقول :
” والآن ماذا أرسلان ؟؟”
طالت نظرات أرسلان لبلاده التي تحولت لخراب، دمار ومنازل مهدمة، لقد جعلوا البلدة كبلدة اشباح، بلاده التي كانت عنوان الرخاء أضحت مقابر جماعية لساكنيها ..
استدار أرسلان ينظر خلفه لرجال شعبه الذين تحولوا لجنود ومقاتلين بتدريب من المعتصم والذي كان أحد قادة جيش سفيد الأقوياء، ابتسم له أرسلان يقول بنبرة ابعد ما تكون عن بسمته :
” الآن سنعيد بناء مشكى على أنقاض رجال بافل…”
___________________
” قائد الجيوش يطلب الأذن في رؤيتك مولاي ”
ابتسم إيفان بسمة لا معنى لها وهو يهتف :
” مرحبًا بقائد الجيوش دعه يدخل ”
فجأة فُتحت الابواب تكشف عن سالار خلفها والذي رفع عيونه صوب إيفان يرسم بسمة أخرى مماثلة لخاصة إيفان قائلًا :
” مولاي ..”
” مرحبًا بابن العم، انتظرت مجيئك منذ انتهاء الحرب، تعال”
تقدم سالار داخل الجناح حتى توقفت أقدامه أمام المقعد الذي يتوسطه إيفان، ثم جلس دون كلمة واحدة أو دون أن ينتظر أمر من إيفان، ليرتفع حاجب إيفان، ليس استنكارًا لما فعل فهو بالفعل يمنح سالار امتيازات لا يمنحها لأحد، بل لأن سالار الذي يعلمه ما كان ليتجاوزه بهذا الشكل .
بينما سالار نظر لها بهدوء ثواني قبل أن يقول :
” إذن هل يمكننا التحدث كأشقاء وليس كملك وقائد جيوشه ؟؟”
ابتسم له إيفان يجيب بسخرية :
” جيد أنك مازلت تتذكر أننا أشقاء سالار ”
” ما تفكر به داخل عقلك ليس صحيحًا إيفان، دعني أوضح لك ما رأيته”
رفع إيفان حاجبه بسخرية :
” وهل هناك شيء غير واضح فيما رأيت ؟؟ هل هناك صورة أخرى تختبأ حول احتضان قائد جيوشي لزوجتي المستقبلية في منتصف الساحة على مرأى ومسمع من الجميع، بل ونظراتك لها بكل حب ؟؟”
بُهت وجه سالار بخزي مما فعل، هو بالفعل لن يسامح نفسه على هذه الذلة أبدًا :
” أنا…أنا لم أكن بوعيي حين فعلت هذا إيفان و…”
صمت ولم يحسن اختيار كلماته بينما إيفان كان يراقبه بهدوء شديد قبل أن يقول بجدية شديد :
” منذ متى سالار ؟؟”
رفع سالار عيونه له يبصر شك يلوح بعيونه ليسارع منتفضًا وهو يصرخ دون وعي :
” إياك إيفان، إياك وأن يدفعك شيطانك صوب تلك النقطة، والله الذي لا إله إلا هو، ما أذنبت يومًا في حق نفسي قبلًا متعمدًا، وأنني يومًا لم أبح لها بما اضمره، وحتى اللحظة الأخيرة كنت بعيدًا عن المشهد، والله ما خنتك متعمدًا إيفان، فلا تسولن لك نفسك بمثل هذه الاتهامات ”
نهض إيفان يواجهه بقوة وقد كان ينافس سالار طولًا ينظر في عيونه بترقب:
” إذن أخبرني منذ متى تضمر كل هذا في نفسك ؟؟”
شحبت ملامح سالار بقوة يتراجع للخلف بينما إيفان ينظر له بقوة منتظرًا منه إجابة تشفي نيران صدره :
” منذ متى اضمرت كل ذلك في نفسك سالار ؟؟ هل لهذه الدرجة أصبحت بعيدًا عنك، لتكتم عني مثل هذا الأمر الخطر ؟؟”
ابتلع سالار ريقه وهو يبعد عيونه عن إيفان رافضًا أن يواجهه في هذه اللحظة، ابتلع ريقه يغير هذا الحديث :
” إيفان اسمعني أنا..”
وإيفان لم يكن في حالة تسمح له بسماع شيء، بل اندفع بقوة يجذب سالار من تلابيبه صارخًا بجنون :
” اسمع ماذا ؟؟ اسمع ماذا ؟؟ اسمع كيف أخفى شقيقي عني حقيقة حبه للمرأة التي كانت ستصبح زوجتي ؟؟ اسمع ماذا سالار ؟؟ لقد كدت تلقي بنا في الهاوية أيها الحقير”
ازدادت صرخاته جنونًا :
“أيها الحقير كيف كنت سأنظر في عيونك وعيونها إذا اكتشفت هذا بعد زواجي بها ؟؟ ماذا كان سيحدث لي حين اكتشف أن المرأة التي تزوجت وتسكن أسفل سقف غرفتي تسكن كذلك في قلب قائد جيوشي وشقيقي؟؟ كيف كنت سأنظر لنفسي حين أدرك أنني تزوجت المرأة التي أحببت أنت، وأنت…”
صمت ثواني يرى نظرات سالار تتسع بقوة وكأنه للتو استوعب ما كان سيحدث إذا تم هذا الزواج، هو بالفعل لم يكن سيستطيع النظر في عيونه، بل ربما كان سيترك القصر بأكمله للجميع ويعتزل على الحدود مع جيشه .
ارتجف جسده لهذه الفكرة وصوت إيفان يهدر بصوت مرعب :
” وأنت كيف كنت ستنظر لي وقتها سالار ها ؟؟ هل كنت ستراني الملك الخاص بك وشقيقك، أم كنت ستنظر لي نظرة كره وحقد لسرقة المرأة الوحيدة التي احببت ؟!”
تنفس سالار بصوت مرتفع :
” أنا فقط لم …لم أرد أن أصبح خائنًا في عيونك إيفان ؟؟”
هدر إيفان بجنون وهو يلقيه للخلف صارخًا :
” فاخترت أن تجعلني مغفلًا في عيون نفسي، وحقيرًا في عيونك بعدما اسلبك إياها ؟؟ ما الذي فعلته بنا سالار ؟؟ ما الذي كان سيحدث لو أنك جئت لي واخبرتني أنك تحبها وهي تبادلك المشاعر ؟؟ هل كنت سأقتلكما ؟؟ يا ويلي ما الذي فعلته بنا، كيف اوصلتنا لهذه النقطة ؟؟ لقد شاهدك الجميع في الساحة تضمها لك مرتجفًا ومشاعرك تنعكس في عيونك ..”
نظر سالار أمامه وللمرة الأولى يعترف أنه أذنب وأخطأ في حق نفسه قبل الجميع، ضم يديه يواجهه خطأه بكل قوة وهو ينتظر حكم إيفان :
” أنا جاهز لأي حكم تصدره مولاي ”
نظر له إيفان وهو يمسح وجهه بقوة وقد شعر في هذه اللحظة برغبة عارمة في ضربه، لذا هو لم يتأخر في تنفيذ رغبته إذ رفع يده بلكمة قوية على وجه سالار صارخًا :
” لقد اسقطتنا في مشكلة كبيرة بعدما ابصرك الجميع، لقد سمعت بأذني الجنود يتحدثون في الأمر، لو أنني علمت مسبقًا لكنت تدبرت الأمر سالار، أنت الآن في أعين الجميع مذنب بالنظر لزوجة الملك أيها الحقير ”
كان غضب إيفان من سالار في هذه اللحظة نابعًا من خوفه عليه، يا الله هو لا يود أن تتبدل نظرات الجميع لسالار بعد كل تلك السنوات التي افناها في بناء مكانته .
ابتلع ريقه يقول بصوت منخفض :
” أوتعلم سالار، جميعنا آثمين، لا الومك أن خنتني وقد خنت بالفعل نفسي وتبارك، احببت غيرها وخنتها، ربما نحن متعادلان الآن ”
نظر له سالار ولم يبدي أي ردة فعل، بل فقط قال بهدوء ينذر أن القادم لن يكون هينًا بأي شكل من الأشكال :
” والآن ماذا ؟؟”
نظر له إيفان ولم يغفر له بعد ذلته تلك التي كادت تودي بعلاقتهما للجحيم :
” الآن ستتعرض للمحاكمة الملكية أمام الجميع لنصمت جميع الألسنة سالار، وستنال حكمًا عادلًا …”
_______________________
تحركت داخل المشفى بسرعة تحمل العديد من الاعشاب بين يديها وهي تبحث عنه بين الجميع حتى أبصرته يخرج من إحدى الحجرات فانطلقت تعدو صوبه متحدثة بسرعة ولهفة :
” سيدي الطبيب ”
رفع مهيار عيونه بسرعة صوب ذاك الصوت الذي يدرك صاحبته جيدًا لكنه لا يدرك سبب وجودها في مثل هذه الظروف هنا :
” ليلا ؟! ما الذي تفعلينه هنا ؟؟”
ابتلعت ليلا ريقها تشير للجندي الذي يحمل الاعشاب خلفها :
” لقد جئت أوصل لك الاعشاب التي تحتاجها و…ربما اساعدك إن احتجت لذلك ”
نظر لها مهيار برفض ولم يكد يتحدث بكلمة حتى أبصر الفوضى التي تعم حوله فقال بسرعة :
” تستطيعين ؟!”
ابتسمت له ليلا بسمة واسعة تهز رأسها بسرعة :
” نعم، استطيع لا تقلق ”
تنهد مهيار بصوت مرتفع يشير صوب إحدى الغرف :
” في هذه الغرفة مريضة تعرضت لضربة سيف قوية، وقد أصيبت على إثرها بحمى عنيفة، يمكنك الاعتناء بها واعطاءها الاعشاب اللازمة ؟؟”
هزت ليلا رأسها بسرعة وهي تتحرك صوب غرفة زمرد تضم الاعشاب لصدرها، وفي عيونها يلتمع حماس كبير لمساندة مهيار الذي ابتسم لها بسمة صغيرة، ثم هرول يكمل ما كان يفعل .
وليلا دخلت الغرفة بسرعة تضع الاعشاب على الطاولة، ثم انتقت من بينهم الوعاء المخصص لحالة زمرد وشرعت تطحن تلك الأعشاب وتضعها بالشكل الصحيح لزمرد والذي كان يستلزم أن تفرد جزء منها على مقدمة رقبتها لتنزع ليلا العقد وتنظر حولها بحثًا عن مكان تضعه به حتى استقرت أن تضعه في ثوبها، ثم تسلمه لذويها .
وبالفعل اندمجت ليلا في وضع الاعشاب لزمرد التي كانت قد بدأت تهذي بكلمات غير مفهومة وتردد كلمة معينة بشكل متكرر ( منبوذة ).
نظرت لها ليلا بعدم فهم، لكنها لم تعبأ فقط استمرت في وضع الاعشاب لها بسرعة كبيرة، ثم حينما انتهت حملت باقي الاعشاب وخرجت تبحث عن مهيار تسأله ما يمكن فعله ..
وهكذا استمرت ليلا لساعات طويلة تساعد مهيار في معالجة بعض المرضى، وهي تدور يمينًا ويسارًا، حتى شعرت بالتعب الشديد لترتكن لأحد الجدران تلتقط أنفاسها، حتى فجأة أبصرت مهيار يخرج من إحدى الغرف يحاول هو كذلك التقاط أنفاسه، كان الأمر صعبًا كونه المسؤول الأول في مثل تلك الحالات، وربما كان الوقت غير مناسبًا لقول ذلك، لكنه بهذه الحالة وهذه النظرات كان أكثر من وسيم في عيونها و…عيون تلك المرأة التي تقترب منه مبتسمة يشكل مستفز تتحدث بكلمات وصلت بها إذ كانت تجلس بالقرب منهما:
” أحسنت سيد مهيار، لقد تداركنا الوضع تقريبا وبعد ساعة يمكننا المرور مرة إضافية على الحالات أجمع و….”
” مهيار لقد انتهيت للتو مما وكلتني به ”
ورغم أنها لم تكن معتادة على نطق اسمه مجردًا بهذا الشكل، إلا أن الغيرة المندفعة لصدرها في هذه اللحظة قاسية لتتحمل تلك النظرات .
ابتسم مهيار بارهاق شديد دون أن يبصر نظراتها التي توجهها صوب طبيبة القصر :
” احسنتي ليلا، لقد ساعدتيني اليوم أكثر مما كنت اتوقع، أنا حقًا مدين لكِ بالكثير ”
نظرت له ليلا ثم تحركت عيونها صوب الطبيبة تقول دون شعور وبلا مقدمات :
” لا بأس مهيار فهذا واجبي كزوجة لك، لا شكر بيننا صحيح ؟؟”
صُدم مهيار تلك الكلمات التي تخرجها للمرة الأولى صراحة، بينما الطبيبة شعرت بالذهول لتقول :
” زوجة ؟؟”
” نعم زوجته، ألم يخبرك مهيار أننا سنعقد القرآن قريبًا جدًا؟! لقد كان من المفترض فعل ذلك منذ أيام مضت، لكنكِ تعلمين أن الحرب حالت ما دون ذلك، لكن لا بأس ها نحن انتهينا منها وانتصرنا بفضل الله والآن نحن سنتزوج وأنتِ بالطبع مدعوة، أليس كذلك مهيار ؟؟”
هز مهيار رأسه ببسمة يتحدث للطبيية :
” نعم صحيح، سأكون سعيدًا إن أنرتنا بوجودك ”
شحب وجه الطبيبة، لكنها رغم ذلك ابتسمت تقول كلمات مقتضبة قبل أن تتحرك بعيدًا عنهما تاركة ليلا ترمقها بشر وبمجرد أن اختفت عن الأنظار استدار لها مهيار مبتسمًا :
” لقد فاجئتني برغبتك في تعجيل الزواج، ما رأيك بعدما تفيق زوجة أخي نـ ”
لكن ليلا نظرت له بشر تقول :
” تعلم أن تضع حدودًا بينك وبين النساء سيدي الطبيب، وتوقف عن حديثك المعسول هذا مع أي امرأة تقابلها كي لا ترتفع طموحاتهن ”
اتسعت عين مهيار لا يفهم ما تقصد وقبل أن يطالبها بتوضيح تركته ليلا تتحرك بسرعة مبتعدة عنه بغضب، وهو فقط تساءل بصوت مرتفع :
” مهلًا إلى أين ليلا ؟؟”
” إلى مرجان فقد انتهيت هنا، لقد كان على حق بأنك شخص عابث ”
اتسعت أعين مهيار بعدم فهم، بينما هي تجاهلت كل ذلك تخرج صوب المكتبة وقد كان صدرها مشتعلًا بالغيرة …
___________________
بعد ساعة من انتهاء كل تلك الفوضى بالقصر وأخيرًا تماسكت لتتحرك صوب كهرمان تخبرها ما حدث، وها هي كهرمان تركض بين طرقات القصر مرتعبة بعدما قضت الساعة السابقة تبحث عنها في كل مكان .
كانت تركض باكية وهي تلوم نفسها :
” يا ويلي كل هذا بسببي، ما كان عليّ أن اسمح لها بالرحيل، أنا السبب في كل ما حدث لها، لن اسامح نفسي إن أصابها سوء ”
توقفت أمام غرفة زمرد التي كان يرابط عندها دانيار يضم سيفها منتظرًا أي إشارة تدل على أنها بخير، حتى تفاجئ باندفاع جسد كهرمان للغرفة تصرخ باسمها :
” زمرد عزيزتي، أنا آسفة، يا ويلي ما كان عليّ تركك ترحلين، سامحيني زمرد، سامحيني حبيبتي ”
كانت تميل على رأس زمرد تقبلها باكية تهمس لها بالعديد من الكلمات، وتبارك تقف أمام الباب تراقب كل ذلك بأعين دامعة، حتى رأت أن ترحل تاركة الاثنتين وحدهما ..
وبالفعل خرجت وتحركت بعيدًا عن المكان بأكمله وهي تشعر بضيق شديد يجثم أعلى صدرها، تشعر أنها لا تستطيع التنفس الاحزان تراكمت والخوف حُشد على أبواب قلبها والمستقبل مجهول، لكنها تثق به، تثق أن كل شيء سيكون بخير .
أو ربما لا ……
تلك النظرات التي يرميها البعض بها جعلتها مرتابة، فالبعض يحدق بها ويهمس، والآخر يطيل النظر بها دون سبب وجيه، أسرعت تبارك من خطواتها في المكان وهي تحاول تلاشي كل تلك النظرات .
ومن بين خطواتها تلك سمعت صوتًا يخترق أذنها بكلمات زلزت كيانها ( لقد ابصر الجميع القائد يعانقها في الساحة دون خجل، ربما كانت تربطهما علاقة أو ما شابه، لا أحد يدرك الحقيقة و..)
و..لا شيء، لم تقف لتسمع باقية الحديث وهي تركض بضيق وقد عادت لها ذكريات الحارة المجيدة حين كانت النسوة تتهامس على اخبارها، لكنها ما كانت تهتم وقتها وقد اعتادت الحديث، لكن الآن وهو في هذه الحسبة، تغيرت جميع الأمور وأصبحت تهتم، فإن لم يكن لأجلها، فلاجله .
سقطت دموعها تركض بسرعة بين الممرات تبحث بعيونها عن غرفة الملك تدعو الله أن تجده هذه المرة وليس كالمرة السابقة حين جاءت تخبره بعدم رغبتها في الزواج .
تذكرت حين تحركت من أمام جناح سالار مسرعة صوب القاعة وجناح الملك لتتفقده وتخبره بقرارها، لكنها لم تجده وقد أخبرها الجنود أنه تحرك بالفعل صوب مكان الاحتفال، لو أنها فقط لحقت به حينها، ابتلعت ريقها تمسح دموعها وهي تشعر باهتزاز صدرها بالخوف، هي لم تكن ستدع الزواج يتم وكانت ستقاطعه وتطالب الملك بحديث خاص بعيدًا عن الجميع وترفض، كانت سترفض بعيدًا عن سالار كي لا يتأذى، لكن فات الأوان لذلك .
________________________
كان يجلس مع العريف في المكتبة وقد ثارت ثائرة الاخير ينتفض عن مقعده بغضب شديد تسبب في طيران بومته بعيدًا بخوف :
” هل جُن إيفان ؟؟ يعرضك لمحاكمة ملكية ؟! لقد جن بالطبع ”
ابتلع سالار ريقه يحاول أن يُهدأ العريف :
” إيفان لا يفعل ذلك سوى ليساعدني، فقد تأزمت الأمور في القصر، والاخبار تنتشر كالنار في الهشيم، ولكي يدفن الأقاويل في أرضها عليه أن يصدر حكمه على مرأى ومسمع من الجميع .”
رفض العريف وشعر بأن الأمور قد بدأت تزداد سوءًا :
” لكن الجميع سوف … أنا لا اقبل بهذا الشيء وسوف اعترض في المحاكمة بموجب السلطة المخولة لي كعريف لهذه المملكة، سوف اعترض عن المحاكمة بأكملها و…”
” وماذا أيها العريف ؟؟ هل ستستطيع أن تصمت جميع الأفواه في هذه المملكة ؟؟”
رفع العريف رأسه بسرعة صوب إيفان الذي ظهر في منتصف المكتبة فجأة، ينظر لهما بترقب بينما العريف اشتعل غضبًا يضرب الطاولة :
” سأفعل كل ما استطيع لأبعد أي شر عن بني إيفان”
نظر له إيفان ثواني دون ردة فعل ليتدخل سالار بسرعة كارهًا ذلك الحديث :
” ما بك يا عم، إيفان لا يطمح لاذيتي، لا تنس أنه يفعل كل ذلك لأجل مصلحتي ”
صرخ العريف وقد جُن جنونه لا يعي لما يحدث حوله سوى أن سالار سيتحول لمحاكمة قد تؤدي إلى تدمير اسمه ومكانته التي عكف على بنائها طوال سنوات عمره عملًا بوصية والده :
” لا، أنا لن أهدأ حتى يتعهد الملك امامي في هذه اللحظة أنه لن يمسك بسوء وأن هذه المحاكمة مجرد أمر صوري لن يمس مكانتك واسمك في المملكة”
نظر له إيفان مطولًا يهمس :
” يبدو أن ثقتك بي كانت أقل مما توقعت أيها العريف ”
” أنا لا اثق بأحد ولا اطمئن لأحد في هذا القصر عدا ولدي أيها الملك، وخاصة أحد أفراد العائلة الملكية الذين لا يضمرون لسالار سوى الشر، وأنت سيد العالمين ”
انتفض جسد سالار بقوة وقد شعر أن العريف تجاوز حدوده صوب نقطة محذورة بالفعل :
” يا عم، رجاءً توقف، إيفان اخي وأنا أثق به أكثر من نفسي، وهو لن يؤذني يومًا، فوالله الذي لا إله إلا هو لو طلب مني إلقاء نفسي في بركان لادركت أن نيران تلك البركان ستكون بردًا وسلامًا عليّ أكثر من بحيرة باردة”
شعر إيفان بالوجع يوجه لمنتصف صدره لكلمات العريف، فابتسم بسمة صغيرة يقول :
” لا بأس سالار أنا أدرك جيدًا ما يقصد العريف، دعه يتحدث بما يريد فلربما ساهم ذاك في إطفاء نيران غضبه ”
تنفس العريف بصوت مرتفع وهو يبعد عيونه عن إيفان، وقد ازدادت بسمة إيفان في هذه اللحظة سوداوية .
وفي هذه الثانية التي كان الجميع يتحدث بها اقتحمت ليلا المكان دون أن يشعر بها أحد، وحين رأت أن الساحة مشتعلة بالفعل بين الجميع تراجعت بشكل تلقائي تتنفس بصعوبة وقد رأت أن تعود لاحقًا .
لكن ما كادت تخطو للخارج حتى سمعت صوت الملك يهتف بنبرة خالية من أي مشاعر :
” أنا أقدر خوفك على سالار من جميع أفراد الأسرة الملكية أيها العريف، لكنك تدرك جيدًا في نفسك أنني يومًا لن اتسبب في أذية سالار ولو كان المقابل حياتي، كما تدرك أفضل من الجميع هنا ما يحدث لست أنا المتسبب به ولم اختره بملء إرادتي، ولو كان الخيار لي لاخترت ضرري على أذية سالار ”
انتفض سالار يقترب منه بسرعة هامسًا :
” إيفان…”
قاطعه إيفان يرفع في وجهه قبضة يده :
” لا بأس سالار، أنا بالفعل أدرك كل ما يحدث حولي، والعريف يدرك ذلك، هو يعلم، يعلم أنني ما اخترت أن ما اخترت أيًا مما أعيشه الآن، وانما أجبرت على ذلك ”
نظر له العريف وقد شعر بالوجع لأجله، وشعر أنه تجاوز حدوده فقال بصوت خفيض، فهذا إيفان طفله كذلك وهو يدرك جيدًا كيف هو، لقد تجاوز واعماه خوفه على سالار :
” إيفان أنا….”
قاطع كل الكلمات التي كانت على وشك الخروج من العريف صوت تحطيم قوي جاء من الخلف جعل الرؤوس بأكملها تستدر بقوة .
نظر الجميع لبعضهم البعض قبل أن تحلق الأعين حول ليلا التي نهضت بسرعة تعتذر بخجل بعدما أصم في الطاولة أثناء خروجها :
” اعتذر منكم، أنا فقط جئت لرؤية اخي، لكن يبدو أنه ليس هنا، أنا…أنا آسفة سوف…سوف ارحل ”
ختمت حديثها تركض بسرعة تحت أعين الجميع التي كانت مصدومة من سماعها لما حدث، ولم يكد إيفان يعود لحديثه، حتى أبصرت عيونه شيئًا ساقطًا جذب أنظاره ..
تحرك ببطء يلتقط ذلك الشيء الساقط يطيل النظر به في شرود، ثواني أو دقائق لا يدرك كم كان عددها يطيل النظر لذلك الشيء وهو يحاول معرفة أين أبصره من قبل، هو يدركه جيدًا، وكيف ينساه وهو آخر ذكرى من بقايا حب والده الاسطوري ؟!
فجأة وعند هذه اللحظة، لمع الإدراك في عقل إيفان وسقطت صاعقة أعلى رأسه وصوت قوي يضرب رأسه ينتفض بشكل مخيف وهو يصرخ صرخة هزت جدران المكان بأكمله:
” أنـــــــــتِ توقــفـــي ”
انتفض جسد ليلا التي كانت تهرول في الممرات وقد شعرت فجأة بقرب توقف ضربات صدرها حين سمعت هدير الملك خلفها، استدارت ببطء تبصر ركض الملك لها وهو يرفع شيء في الهواء متسائلًا بشراسة :
” من أين احضرته ؟؟ من أين احضرتي هذا العقد؟؟”
نظرت ليلا للعقد بيده قبل أن تتحسس جيب ثوبها لتشهق وهي تقول بسرعة :
” اقسم أنني احضرته من مريضة في مشفى القصر، أنا لم اسرقه أنا فقط احتفظت به حتى تستيقظ ”
ردد إيفان بشحوب :
” مريضة ؟؟ أي مريضة تلك ؟؟”
في هذه اللحظة اقترب منه سالار وهو يتساءل عما يحدث ليسمع صوت ليلا تقول بارتجاف :
” هذه فتاة أُصيبت بطعنة وكنت اساعدها في وضع الاعشاب، احتفظت بهذا العقد فقط حتى تستيقظ و…..”
وقبل أن تكمل كلماتها تركها إيفان وهرول بجنون في طرقات القصر كما لو أن شبحًا يلحق به، كان يركض وهو لا يرى أمامه حتى وصل صوب المشفى يتخبط بين الغرفة يبحث عمن يرشده، يرى مهيار ليمسك به يتحدث وهو يرفع العقد في وجهه :
” أين صاحبة هذا العقد مهيار ؟!”
نظر مهيار للعقد بجهل :
” اي عقد هذا ؟؟ أنا لا اعلم عما تتحدث مولاي و…”
“تلك الفتاة شقيقة مرجان أخبرتني أنها أخذته وهي نعالج فتاة مصابة بطعنة هنا ”
فكر مهيار ثواني قبل أن يتساءل بجدية :
” زمرد ؟؟”
” اسمها زمرد ؟؟ أين هي ؟؟”
أشارت مهيار على غرفة زمرد بعدم فهم لينطلق لها إيفان غير عابئًا بأحد حوله وسالار يلحق به بعدم فهم، اقترب من الغرفة بتردد شديد وهو يشعر بالجنون قد أصابه منذ أبصر ذلك العقد الذي يعلمه تمام العلم، توقف أمام الغرفة يبصر جسد دانيار الذي كان يضم بين ذراعيه سيف لم يبصره بسبب ضبابية الرؤية .
وقبل أن يتحدث بكلمة سمع صوت سالار خلفه يقول بتسائل :
” إيفان ما الذي يحدث معك هنا؟؟ ما هذا العقد وما سبب جنونك حين رأيته بهذا الشكل ؟!”
استدار له إيفان ببطء وهو يرفع العقد له يقول بصوت خافت وجسد مرتجف:
” هذا …هذا العقد …هذا العقد صنعه والدي خصيصًا لأمي سالار ”
هتف سالار وهو يقترب منه بهمس وريبة :
” الملكة شهرزاد ؟؟”
سقطت دمعة من عيون إيفان يقول بصوت مرتجف وهو يهمس لسالار بصوت لم يصل لغيره وعيونه مثبتة على العقد يضم قبضته عليه بقوة :
” لا بل آمنة، أمي الحقيقية سالار، هذا عقد والدتي…….”
_____________________
الكل آثم …والاثم واحد .

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية مملكة سفيد)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى