رواية براثن اليزيد الفصل الخامس 5 بقلم ندا حسن
رواية براثن اليزيد الجزء الخامس
رواية براثن اليزيد البارت الخامس
رواية براثن اليزيد الحلقة الخامسة
“لو كانت كثرة التفكير تقتُل لصعدت روحها
إلى السماء منذ أول وهلة رأته بها”
ألم تُنهي عقلها عن التفكير منذ أيام؟ ها هي الآن منذ تلك اللحظة تفكر وتفكر ولم يتوقف عقلها عن التفكير ولو لحظةٍ واحدة، تلك العائلة التي انتقلت إليها لتصبح عائلتها كما يحدث مع أي فتاة ولكن هي لم تكن أي فتاة فقد كانت تحمل كامل الاختلاف..
ترى معاملة والدته لها، يا لها من امرأة حادة الطباع أو ربما قاسية أو تحمل صفات دنيئة لا تدري ولكنها امرأة سيئة للغاية معها، تعاملها كما لو كانت خادمة أتت لتخدم في بيتها، لا والله فـ الخادمة عِندها تتلقى معاملة أفضل بكثير منها ولا تدري لما تفعل ذلك، إن لم تكن موافقة على تلك الزيجة فهي أيضًا لم تكن موافقة مثلها..
وتلك المسماة بـ “إيمان” وهي لا تعلم عنه شيء تأخذ صفات حماتها كما لو كانت ابنتها، وهناك المزيد والكثير فوقها، لا داعي لتذكر تلك المواقف الغبية والكريهة منها ومن حماتها البغيضة، عقلها لا يتوقف عن التفكير في هذه العائلة وأيضًا كبيرهم ذو الصفات الخفية لا ترى منه إلا نظرات مخيفة ويماثله “فاروق” تشعر من نظرته لها كما لو كانت أخذه دمائه، الوحيدة التي شعرت باختلافها عنهم هي “يسرى” فقد كانت فتاة مرحة، واستشعرت طيبتها ولكن مع ذلك توخت الحذر..
أما عنه فقد أخذ كل ما بعقلها إليه، سلبه بذكاءٍ ودهاءٍ لم تجربه من قبل، تفكر في طريقته منذ أول يوم رأته به فقد كان بارد، قاسي، متعجرف إلى أبعد حد، مغرور بنفسه وبكونه “يزيد الراجحي” ومن ثم كان وغد لا ينتقي كلماته يسمم مسامعها بأبشع الألفاظ عنها وعن عائلتها وكأنه لا يدري من هي عائلته وكأنه لا يدري من هي أيضًا!..
يبغض ابن عمها لأبعد حد ولا تعرف ما هو السبب وراء ذلك فهو لم يفعل له شيء ولم يدري أيضًا أنها كانت معجبة به بيوم من الأيام، تذكرت أنه من بعد هذه المرحلة وكأنه بسباق مراحلة متناقضة تغير ليضع نفسه على وضع الصمت، فلم يحدثها ولو بكلمة واحدة فقط ينظر إليها بعينه ذات اللون الأخضر أو الزيتوني تعتقد أنها زرقاء..
لا تدري ولكن نظراته تُربكها، تُخجلها وربما في بعض الأحيان تهابُها، نظراته بها الكثير والكثير من الكلمات التي لا تفهم معانيها والآن المعاملة بينهما لا تفهم ماهيتها وكأنهم عصافير تغرد ولا تدري ما هي التغريدات التي يلقونها على بعضهم فمنذ ذلك اليوم وهي لا تفهمه حقًا وها قد مضى خمسة أيام على يوم الزفاف، يوم اعتبروها جثة وليست عروس..
“قبل أسبوع”
“وقفت على أعتاب الغرفة وعينيها كـ شلال المياة، تتسابق دموعها على وجنتيها بلا توقف فقد كانت الصدمة حقًا كبيرة للغاية عليها، لم تكن تتوقع ذلك أبدًا لا منه ولا من عائلته وهي التي ارتدت فستان زفاف، تعتقد أنها ستأخذ أبسط حقوقها ولكن هو لم يفعل وعائلته لم تفعل، فقد سلبوا منها ذكرى السعادة التي من المفترض أن تحيا بها طيلة حياتها لـ يستبدلون غيرها ذكرى سوداء تحمل اللون حقيقي دون أي تغيرات لتحيا بها إلى أن تصعد روحها إلى بارئها..
خرج من المرحاض بعد أن بدل ملابسه بأخرى مريحه منزلية، وجدها تقف على أعتاب باب الغرفة تستند بيدها على الايطار وتنحني إلى الأمام، لم يطمئن من هذه الحالة التي هي عليها ليذهب إليها بحذر عاقد ما بين حاجبيه باستغراب لحالتها تلك، ناداها بخفوت بعد أن وقف خلفها ليراها وهي تستدير إليه ووجهها ملطخ بدموعها الممزوجة بكُحل عينيها، ولم يكن ذلك فقط فكانت ملامحها تحمل السخرية الكاملة وهي تنظر إليه..
اعتراه الاندهاش فور رؤية وجهها وملامحها وهو لم يفعل شيء بعد ولم يتحدث أحد من عائلته معها لما ذلك؟ سألها بهدوء محاولًا أن يجعله حقيقي فقد كان في الحقيقة برود وليس هدوء:
-مالك في أي؟ بتعيطي ليه كده؟!
ابتسمت بسخرية لاذعة استشعرها بوضوح بينما هي هزت رأسها يمينًا ويسارًا باستنكار ثم تحدثت قائلة:
-لدرجة دي موضوع الجواز رخيص عندك؟ أنا لو كنت أعرف كده حقيقي مكنتش وافقت حتى لو هتولعوا في البلد كلها، أنتَ مفكر أنك هتقلل مني وهسكت؟ لأ ده مش هيحصل
لم يفعل شيء ولن يفعل سيظل هادئ حتى يفهم ما تُرمي إليه وقد كان هذا ما حدث نفسه به حتى يظل هادئاً ولا يجعل غضبه يتحكم به:
-هو كان حد داسلك على طرف دلوقتي ولا حد كلمك؟ أنتِ اتهبلتي
ضحكت عاليًا بعد أن استمعت لكلماته، كما يقولون يضرب ثم يلوم، أحقًا لا يدري ماذا فعل؟:
-حد داسلي على طرف؟ هو أنتَ مش عارف إني من يوم ما عرفتك وأنا مش عايشه حياتي أصلًا، جبتلي فستان وقولت عادي مش مهم مع أن مفيش فرح زي أنتَ وعمك ما قولتوا شوية ظيطه وظمبليطه علشان سمعتكم وسط الناس وبردو قولت عادي ولبست الفستان وأنتَ عملت ايه؟ جايلي بقميص وبنطلون! كده مقللتش مني؟ في حد يعمل كده وأنا اللي قدرتك! طب بلاش دي أنا المفروض زي ما بيقولوا يعني عروسة تستقبلني في بيتك بالطريقة دي؟ هي دي رجولة منك؟
قالت آخر كلماتها وهي تشير إلى الغرفة التي كانت تحتوي على الفراش الذي فُرش بمفرش لونه أسود فقط ولا يتداخل به أي لون آخر وفي ظهر الفراش من الأعلى ورقة كُتب عليها بخط اليد “نورتي قبرك”..
هو لم يرى كل ذلك إلا الآن يُقسم أنه ليس من فعل ذلك ويعلم من فعلها ومن غيرها والدته، ولكن ليس هو، وهي معها كامل الحق فيما تقول ولكنه لم يفعل شيء، كيف سيبرر ذلك الآن وكيف سيتحدث معها، لا يعلم هل هو يشفق عليها أم!..
وقف أمامها ثم وضع يده في جيب بنطاله البيتي ومن ثم أخذ نفسٍ عميقٍ لينظر إليها من بعدها وتحدث بجدية شديدة:
-مش أنا اللي عملت كده، عايزة تصدقي أو لا بس مش أنا اللي عملت كده وآه متسأليش مين علشان مش هقولك
أخذت خطوة إلى داخل الغرفة دون أن تتحدث بحرف بعد أن استمعت له وكأنها طردت الأمر من رأسها ثم أمسكت بمقبض الباب لتغلقه عليها ولكنه أعاق غلقها للباب ووقف متسائلًا باستغراب مضيقًا ما بين حاجبيه:
-بتعملي ايه؟
زفرت بحدة ثم أجابته متهكمة:
-هغير ولا تحب أنام كده؟
دفع الباب بيده وتقدم منها وعلى محياه ابتسامة لعوب ترجمتها سريعًا وحاولت الهرب منه عندما وجدته يتقدم منها ولكنه حاصرها لتعود إلى الخلف بظهرها ولم تجد خلفها إلا الحائط ليقف هو أمامها مبتسم بمكرٍ وهي محاصرة بين يديه الاثنين:
-تحبي أساعدك؟
نظرت إلى عينيه التي تاهت بخيوطها متعددة الألوان، غابت في وجهه وملامحه، شردت في تفاصيله، استفاقت عليه وهو يقترب من شفتيها لتبعد وجهها للناحية الأخرى سريعًا وهتفت بحدة قائلة بعدما استعادت السيطرة على نفسها من حضوره الطاغي عليها:
-أبعد لو سمحت ماينفعش كده
عاد إلى الخلف سريعًا يحك مؤخرة رأسه نظر إليها ثم خرج من الغرفة ليترك لها المساحة الخاصة بها، ولكن لم يستطيع أن يفكر بشيء غيرها فقد كانت بين يديه مستسلمة للغاية، عينيها تجذبه إليها كما لو أنها بها سحرًا ما، شفتيها التي جذبته بسرعة البرق فقد أشعلت ما بداخله ولم يستطيع السيطرة على نفسه ليقترب منها لينال ما يريد ولكنها لم تجعله يتمادى ليعود إلى رشده سريعًا..
دق باب الغرفة عندما وجدها قد أخذت ما يُقارب الساعة لتبديل ثيابها، فتحت الباب منزعجة من حضوره إليها وقد لاحظ ذلك على ملامحها الصارخة بالانزعاج ليهتف وهو يتقدم إلى الداخل:
-كل ده بتعملي ايه؟ مش في واحد عايز ينام
استدارت إليه غاضبة من دخوله الغرفة وحديثه البارد مثله لتقول بتهكم:
-وأنا مالي ما تنام
جلس على الفراش ثم تمدد وأجابها قائلًا ببرود وهو يراها تشتعل أمامه:
-إزاي وأنتِ قافلة الباب؟
-أنتَ بتعمل ايه؟
ابتسم بهدوء وهو يراها تتقدم منه بعصبية ليهتف ببرود وسخرية:
-هنام يا مروتي
تغاضت هي عن مناداته لها بهذا الإسم، وقفت أمامه تهتف بحدة قائلة:
-اومال أنا هنام فين؟ يلا أطلع نام بره
نظر إليها بمكر وتلك النظرة اللعوب والابتسامة الخبيثة ترتسم على محياه ثم دون سابق إنذار جذب يدها بشدة لتقع فوقه ومن ثم قلبها لتكن أسفله وهو يعتليها ليتحدث وهو بالقرب من وجهها الذي لا يفصله عنه سوا نسمات الهواء:
-أنا هنام هنا وأنتِ هتنامي هنا.. دي اوضتي وده سريري وأنتِ مراتي.. وآه أي اعتراض ممكن اعمل حاجات تانية غير أنك تنامي جنبي وبس ويعني في الآخر الإختيار ليكي
ألقى بقية جملته وهو يجوب بعينيه على كامل وجهها بنظرته الماكرة، خفق قلبها بشدة من تصرفه الغير مرحب به، عقلها وقف عن التفكير لوهلة وهي تستمع إلى حديثه، فقط تنظر إلى ملامح وجهه التي تغيب فيه كل مرة تنظر إليه، استمعت إلى بقية حديثه وعملت ما يرمي إليه لتقول بحدة وهي تبعده عنها:
-طب أبعد خليني أعرف أنام
ابتسم الآخر بمكر وعاد إلى مكانه بالفراش ينام عليه بظهره واضعًا يديه أسفل رأسه ونظر إليها وجدها تنام بأخر ركن به تدير إليه ظهرها وهي تتمتم بكلمات لا يعلم ماهيتها ليبتسم مرة أخرى ولكن كانت ابتسامة حقيقية هذه المرة..
____________________
-بس هو انتوا إزاي جيتوا هنا يعني أنا مش فاهمه مش بتقولي كنتوا في الصعيد تقريبًا؟
تلك الكلمات قالتها “مروة” متسائلة باستغراب وهي تجلس مع “يسرى” التي استشعرت مدى طيبتها..
-أيوه وحتى جدك، بصي ياستي اللي أنا أعرفه إن هما كانوا عايشين في نواحي الصعيد حتى تلاقي ماما وعمي وفاروق لهجتهم مختلفة شويه مش كتير بردو لأن إحنا هنا من زمان، جدي وجدك كانوا شركا جم هنا وكل واحد أخد بيت لعيلته وكان بابا معاه وعمي سابت وبعدين كبروا في الشغل وفجأة سمعنا أن جدي أفلس إحنا منعرفش السبب ولا ايه اللي حصل بس عمي سابت قال إن جدك آسفة يعني نصب عليه وبعدين جدي مات وبعديها بكام شهر بابا مات كل ده طبعًا أنا مفتكرش منه حاجه لأني كنت صغيرة بس سمعت الكلام ده أكتر من مرة
نظرت أمامها في الفراغ المتواجد حولها من الأراضي الخضراء وهي لا تصدق ما استمعت له، هي لم تستمع إلى هذه القصة من قبل، هل من الممكن أن يفعل جدها هذا؟ لقد مات شخصين بسببه؟ لا مستحيل فهو كان طيب، حنون، رجل وقور، عادل، مؤكد لم يفعل ذلك هناك خطأ هي حتى لا تتذكر جيدًا..
خرجت من شرودها على صوت شقيقة زوجها المُتسائلة باستغراب:
-ايه يا بنتي روحتي فين؟
ابتسمت بود ثم اجابتها وهي تعتدل في جلستها لتواجهها من جديد:
-هنا، هو يزيد بيشتغل ايه وفاروق؟ أنا هنا بقالي أسبوعين ومش شايفه حد فيهم بيشتغل خالص
جلست “يسرى” القرفصاء ثم تحدثت بحماس قائلة:
-لأ إزاي بيشتغلوا طبعًا، شغلهم كله في الخشب فاروق أخويا وعمي ليهم هنا مَغلق داخل نواحي البلد وكده أما يزيد ماسك المصنع اللي في القاهرة ودايمًا قاعد هناك
استغربت لسماعها لتلك الكلمات البسيطة التي لأول مرة تعلمها عن زوجها وقد جال بخاطرها فكرةٍ ما فسألتها قائلة بجدية:
-بجد أنا أول مرة أعرف كل ده ظروف جوازنا كانت صعبة أنتِ أكيد عارفه.. بس هو معقول بيروح ويجي ده سفر من هنا للقاهرة
ابتسمت “يسرى” بحزن هادئ ملائم للموقف وللحديث الذي قالته زوجة أخيها:
-عارفة للأسف بس إن شاء الله كل شيء يتحل، بس يزيد أصلًا ليه بيت هناك.. أقصد إن حياته هناك أصلًا وبيجي هنا إجازات بس
ابتسمت مروة باتساع وكأنها كانت تغرق ووجدت وسيلة النجاة التي ستأخذها للشاطئ مما جعل “يسرى” تندهش لابتسامتها تلك ولكنها لم تكن تعلم ما الذي يدور بخلدها..
-صدعتك برغي يا يسرى صح؟
ابتسمت “يسرى” ثم هتفت قائلة بحماس وهي تعتدل على مقعدها:
-بالعكس ده أنا كنت خلاص هطق والله يا مروة أنا أغلب الوقت لوحدي، الكميا بيني وبين إيمان بايظه خالص ولا حتى ماما ومن يوم ما خلصت كلية وأنا زي ما أنا كده لحد ما أنتِ جيتي بقى
سألتها “مروة” مرة أخرى باستغراب:
-ليه محاولتيش تكوني صاحبة إيمان مثلًا
زفرت “يسرى” بضيق شديد قد ظهر على تعابيرها ثم اجابتها قائلة بجدية:
-بصي صحيح إيمان من هنا يعني أقصد فاروق خطبها من هنا مش من الصعيد الجواني ولا حاجه، بس دماغها قفل أوي وزي ماما كده ساعات بحس أنها بتاكل بعقل فاروق حلاوة بجد خبيثة أوي وعمري ما ارتحت معاها، من يوم ما خلصت تجارة وأنا قاعدة زي ما أنتِ شايفه
صمتت لبرهة ومن ثم تحدثت قائلة:
-طب عارفة لما جيت أدخل كلية التجارة وقفت لفاروق وقالتله جوزها بلا علام بلا بتاع وقعدت تقول الست ملهاش غير جوزها وماما وافقتها وحتى عمي سابت بس يزيد وقف معايا وخلاني أكمل تعليم غصب عن الكل، أنا ويزيد مش زي الباقي خالص
اومأت لها “مروة” برأسها ثم قالت بخفوت وهي تقترب منها برأسها بحركة مضحكة لتفعل الأخرى المثل:
-أنا كمان بحسها مش سالكة وبصراحة وقفالي زي اللقمة في الزور وبتعمل معايا حركات بايخة تتصنف بيها حرباية
ارتفعت ضحكات “يسرى” بعد حركات “مروة” العفوية وهي تتحدث وتصف “إيمان” زوجة أخيها ولكنها صمتت عندما تحدثت “مروة” مرة أخرى سائلة إياها بجدية بعد طرأ السؤال عقلها لتعلم الإجابة الصحيحة منها دون كذب من شخص آخر:
-بس هو ليه بعد خمس سنين فتحتوا موضوع التار يا يسرى، وبعدين أصلًا ابن عمي اتحاكم ومشي وكان من غير قصده، ليه عملوا كده؟
صمتت “يسرى” قليلًا ثم نظرت إليها بجدية وتحدثت بعد أن تنهدت بهدوء:
-إحنا مكناش نعرف حاجه يا مروة ولا حتى يزيد، يزيد اعترض وحصل خناق وسمعنا صوته وهو بيقول إنك ملكيش ذنب في حاجه زي دي بس عمي سابت وماما وفاروق كلموه وبعدين غير رأيه ووافق
صمتت “يسرى” عن الحديث عندما وجدت “إيمان” تخرج من باب المنزل مقبلة عليهم في الحديقة تبتسم ببرود..
اقتربت منهم ثم وقفت أمامهم متحدثة بضجر:
-ايه هتفضلوا قاعدين هنا طول النهار؟ قوموا ساعدونا يزيد عازم ضيوف عنده النهاردة
نظرت إليها “مروة” باستغراب فهو لم يقل إليها شيء كهذا.. غبية ولماذا سيقول لها، هو يتعامل معها كما لو أنها ليست موجودة من الأساس، ابتسمت “إيمان” باستفزاز عندما رأت تعابير وجه “مروة” هكذا لتسألها بتهكم:
-هو يزيد مقالكيش؟
أجابتها وقد أحمرت وجنتيها من الخجل:
-لأ ممكن يكون نسي
ابتسمت “إيمان” بسخرية لاذعة ثم تحدثت بتهكم وهي تتجه للداخل مرة أخرى:
-نسي آه، طب يلا يا ماما أنتِ وهي تعالوا ساعدوا
وقفت “مروة” و “يسرى” مثلها يسيرون للداخل فتحدثت “يسرى” إليها بجدية:
-متبقيش هبلة وضعيفة معاها ولا تكشفي ورقك ليها لتفكرك بتخدمي عندها وتستغل طيبتك
نظرت إليها “مروة” نظرة ممتنة فهي حقًا في تلك الأيام كانت ونعم الصديق لها في ذلك المنزل البغيض..
__________________
لقد طفح الكيل حقًا من هذه المرأة وزوجة ابنها، هي لا تكف عن ازعاجها، تستغل كل فرصةٍ ولو كانت حتى من اللاشيء لتحزن قلبها، تتذكر منذ أن دلفت هذا المنزل وهي تعاملها باحترام ولم تغلط معها ولو بحرفٍ صغير ولكنها تفعل العكس تمامًا، لا تناديها إلا بابنة عائلة “طوبار” وهل هذا شيء مشين؟! أنها غريبة الأطوار حقًا، لقد تفاوتت المرات السابقة ولم تتحدث، ازعجتها كثيرًا، تساندها “إيمان” تلك البغيضة مثل حماتها، تُكاد تُجن من أسلوبهم وتلك الطريقة الرخيصة التي يتبعونها، لو لم تكن “يسرى” معها وتحاول الدفاع عنها بكل الطرق وتحاول التهوين عليها لما بقيت هنا معهم..
استدارت والدة زوجها “نجية” إليها لتنظر إليها بحقد وكراهية ومن ثم هتفت قائلة بتهكم:
-هاتي الخضار اللي هناك ده يابت عيلة طوبار
تركت “مروة” السكين من يدها والذي كان تقطع به قطع اللحم لتتجه إلى الطاولة التي بالمطبخ موضوع عليها طبق الخضار الكبير أخذته واتجهت إليها وهي تعد بداخلها من واحد إلى عشرة حتى تهدأ ولا تثور على هذه المرأة العجوز، تعثرت في طريقها بسبب حبة من البصل واقعة على الأرضية ولم تراها ليقع منها الطبق محطم وتناثرت محتوياته على الأرضية وقد جاهدت حتى لا تفقد توازنها ونجحت في ذلك..
شهقت “يسرى” بفزع واتجهت إليها على الفور مسانده إياها ثم هتفت قائلة بقلق واهتمام:
-أنتِ كويسه؟ حصلك حاجه؟
لم تستطع “مروة” أن تُجيبها حيث أن والدتها قد تحدثت بحدة وعصبية لا مبرر لهما فقد كان من الممكن تفاوت الأمر:
-مهي قدامك أهي كيف القرد تمام محصلهاش حاجه، كسرت الصحن ووقعت الخضار على الأرض هو ده اللي عملته بت طوبار، عَيله جايه من عِيلة غم بصحيح
وقفت “مروة” مدهوشة من حديثها الفظ، بدلًا من أن تتسائل إن كان حدث لها شيء، سألت نفسها لماذا وافقت على هذا العذاب؟ ما ذنبها لتتحمل كل هذه الإهانة من سيدة مثلها، تربيتها لا تسمح لها أن تعاملها بالمثل ولكن أن اضطرت ستفعل، هي لا تحتمل بكل الأوضاع..
لم تتحدث معها بل انحنت على الأرضية تلملم ما تناثر عليها وتساعدها شقيقة زوجها بينما وقفت “إيمان” ووالدة زوجها بعيد نسبيًا، ابتسمت “إيمان” بوجهها ثم تحدثت قائلة بحماس:
-والله براوة عليكِ يا مرات عمي، البصلة اللي وقعتيها كانت هتجيب أجلها
ابتسمت “نجية” وقد ظهرت تجاعيد وجهها وهي تقول والحقد يملئ قلبها:
-ولسه.. لسه مشافتش حاجه بت عيلة النصابين
تريثت قليلًا ثم هتفت ببرود وسخرية بذات الوقت وهي تنظر إليها عندما كانت تجمع ما وقع على الأرضية:
-أمها ماتت وهي عَيله والله تلاقيها طفشت من همها ولا حد رباها بعد المرحومة اللي سبتها من غير رباية
وقع ما كان بيدها ليستقر على الأرضية مجددًا، وقفت على قدميها وتركت كل شيء وهي تنظر إليها بصدمة فقد كانت كلماتها واضحة كوضوح الشمس، ترقرقت الدموع بعينيها ومن ثم تسلقوا جفنيها ليسيروا على بشرتها الناعمة، نظرت إليها وهي تبكي قهرًا على ما تفعله بها وعلى هذا الحديث الجارح، فهي تتحدث عن والدتها وعن تربيتها التي لو لم تكن موجودة لما تركتها تفعل ما يحلو لها، ولكن يكفي حقًا..
رفعت سبابتها في وجهها وتحدثت بحزم وجدية شديدة والدموع تنهمر على وجنتيها بلا توقف:
-اسمعي ياست أنتِ أنا من يوم ما جيت هنا وأنا سيباكي تعملي اللي عايزاه براحتك ومعترضتش لكن عند أمي وتقفي دي ميته عند ربنا مش معانا هنا وأنا مش هسمحلك تغلطي فيها
تركتها وذهبت سريعًا لتخرج من هذا المكان الذي ضاق فيه صدرها لينطبق على قلبها وكأنها ستلقى حتفها به، كلماتها لم تكن هينة أبدًا، فقد ذكرتها بوالدتها الرحلة والتي لم تحظى بالوقت معها..
اصطدمت بجسده الواقف أمامها ولم تكن تراه بسبب محاولتها إزالة الدموع من عينيها وهي تسير في ردهة المنزل لتصعد إلى غرفتها، عادت للخلف بجسدها ونظرت إليه والدموع تنهمر من عينيها بكثرة بعد أن رأته وتذكرت خيبتها..
نظر إليها باستغراب وهو يراها تبكي وعيونها منتفخة، تبكي وتنتحب أمامه ولا يدري لما، بكائها هكذا يقطع أنياط قلبه إلى أشلاء، رؤيتها هكذا كما لو أن هناك نصل حاد يأتي بقلبه نصفين، حاولت أن تذهب ولكنه أمسك بيدها متسائلًا باستغراب وقلق جلي:
-مروة اهدي، مالك فيه ايه؟
نظرت إليه بحزن خالص ونظرة عتاب لم يراها منها من قبل وكأنها تلومه على كل شيء ومن ثم سحبت يدها وصعدت على الدرج دون أن تتحدث أو تجيبه على سؤاله فقد زاد بكائها الذي جعله يندهش ويتسائل ما الذي حدث لكل ذلك، ولكن هو الآن يعلم أن ضعفه يكمن في بكائها، كلما رأها تبكي شعر بضعف وعجز شديد لم يشعر به في حياته..
____________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية براثن اليزيد)