رواية غوثهم الفصل السادس والستون 66 بقلم شمس محمد
رواية غوثهم الفصل السادس والستون
رواية غوثهم البارت السادس والستون
رواية غوثهم الحلقة السادسة والستون
“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل السادس والستون”
“يــا صـبـر أيـوب”
_____________________
_سبحانك يا كريم أكرمتني
وبعطفك من قلبي القاسي رحمتتي..
فسبحانك وجل عُلاك يا من تعطي
القلب من كرمٍ وتغمره رحماك..
اللهم إني أسألك القرب منك
ولا أبعد يومًا عن السير نحو خطاك
أعني عليَّ فأني ابتليت بنفسي
وبلاء النفس في للنفسِ فتاك…
_”غَـــوثْ”
__________________________________
سنون مرت بدونِك كانت كما سنوات العُجاف،
وكان مجيئك يشبه مجيء عام الحصاد…
لذا لا يليق بكِ سِوىٰ الود أو حقول الوردِ،
فنعم أني أحبك…
برغم كل شيء أنا أحبك
رغم أنف الغُربة المفروضة…
والكُربة الموجودة، إلا أنني أحبك
والحُب فيكِ يلزمه عهود مصونة..
فأنتِ من أتيتي رحمة لقلبٍ أكلته وحشة الطُرق..
وفاجئته قسوة المُدن، أنتِ فقط لا غيركِ
فمن غيرك أصبح له العهد يـخان..
والقمر في كل ليلةٍ بدونك ينقصه الأمان..
أنتِ وفقط من أصبحت معها كل ليالي المرء
في أمان…
<“آهٍ لو نعلم أن الرحيل قد أتىٰ”>
كل شيءٍ حدث بلمح البصر دون أن تعي هي أي شيءٍ من هذا القبيل، فقط دماؤه لطخت كفيها وملابسها، صوت الناس حولها مثل الطنين المنبعث من موجات البحر للأذن أثناء فترة الغرق، كل الأصوات غمغمة وكل الكلمات مُبهمة، تحتضنه هي غارقًا في دمائه بعدما لفظ آخر كلماته متقطعة بصوتٍ شبه معدوم حينما أخبرها:
_جـ….”جــودي” يا….
“جودي” يا “نـ..ور”، سامحيني.
حتى الحروف تقطعت هي الأخرى ليلحقها صوت صراخها باسمه تتوسله أن يفيق، ترجوه أن يفتح عينيه مرة أخرى يطالعها بهما، ظلت تربت على وجنته وهي تتوسله باكيةً بقولها:
_لأ علشان خاطري…
علشان خاطري قوم وأنا والله مش هامشي..
هفضل هنا والله علشانك أنتَ، قوم بس رد عليا.
حينذاك أتت سيارة الإسعاف التابعة للمطار وقامت بحملهِ وسط صرخاتها باسمه، كانت تتوسلهم أن تبقى معه ولا تتركه وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_أنا وهو ملناش غير بعض، علشان خاطري خليني معاه، مش هينفع اسيبه والله، لو سمحت.
سمح لها المُسعف أن تجاوره في السيارة وهي تتمسك بكفهِ المُرتخي، كانت تضغط هي على كفهِ تحثه على فتح عينيه أو حتى التحدث من جديد، لاحظت حركة العِرق النابض في رقبتهِ، لاحظت أنه النفس لازال موجودًا، أملٌ حيا بداخلها من جديد أن يعود لها، وأن يكون الرحيل فقط مؤقتًا، ظلت تردد بداخلها عدة مرات تتوسل للخالق أن يحفظه، ترجوه أن يعود لها من جديد، ليس بعدما تأكدت من حبه يتوجب عليه أن يُفارقها، قصتهما منذ بدايتها مؤلمة ونهايتها من المفترض أن تكون رحيمة، لكن حتى النهاية مشارف بدايتها تنطق بكل وجعٍ..
دقائق قليلة وصلت خلالها إلى المشفى برفقته، مشفى استثماري على الطريق بقرب المطار تم اختياره وفقًا لحالته وكانت تركض هي خلفه بعدما تم وضعه على الفراش المدلوب الحديدي، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الموت بسبب ذُعرها، لقد رأت الموت بعينيها حقًا، ارتمت على أول مقعد يقابلها ثم نظرت لكفيها المتلخطين بدمهِ وهي تبكي بندمٍ وكأنها هي المُتسببة في قتلهِ..
دقائق مرت عليها تحاول فيها الخروج من مشهد غرقه في الدماء ونبرته التي لازالت محفوظة في سمعها، حاولت أن تفكر فيمن ينقذها فلم تجد سوى والدها وعمتها لذا بحث بعينيها الزائغتين عن الهاتف ولم يغيثها عقلها أن الهاتف في جيب سترتها، كانت مثل الورقة في مهب الريح، تتحرك مصطدمة بموجات الهواء لتتكرر الصدمة في أغصان الأشجار ومع كل صدمة ينكسر فيها شيءٌ، أخرجت هاتفها الذي صدح برقم والدها بلهفةٍ وكأنها مثل التائه في الصحراء يسير مهتديًا بالنجوم وما إن وصلها صوت والدها القلق بكت هي بألمٍ ظلت تبكي وتبكي حتى اقتربت منها الممرضة وأخذت منها الهاتف تخبر المتحدث بما حدث.
انتفض “عـادل” بفزعٍ أمام شقيقته وما إن أخبرها بما حدث ركضت خلفه هي الأخرى تلحق به نحو سيارته ليتجها إلى “نـور” التي لو تركت هناك بمفردها من المؤكد ستموت من الخوف.
__________________________________
<“نعود للقاء العهد، وتلك المرة حتى نصونه”>
أنهى العمل أخيرًا ورحل بعدما تفاقم الغضب بداخلهِ، أراد لوهلةٍ يصرخ فيهم ويطردهم للخارج لكنه هدأ نفسه أن يتريث لو قليلًا حتى لا يقع في عواقب وخيمة، قرر قبل أن يفعل أي شيءٍ أن يطمئن على شقيقته أولًا، تلك التي قامت باخفاء حزنها لأجلهِ، يعلم أن الأمر لم يمر بهذه السهولة عليها لكنها هي من تتعمد ذلك حتى لا تحزنه.
دلف “يـوسف” شقته يطمئن على أهلهِ وخاصةً “قـمر” التي ما إن رأته اعتدلت في جلستها بلهفةٍ لتجده يقترب منها يجلس بقربها ثم رفع ذراعه يضمها إليه يمسح على ظهرها، أما هي فكانت مثل هرة صغيرة ظلت تموء حتى أتى صاحبها يحميها بين ذراعيه، تمسكت به وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا مش خايفة، كفاية إنك هنا.
حرك رأسه يُلثم جبينها بحنوٍ ثم قال بنبرةٍ رخيمة:
_ودا اللي أنا عاوزه منك، متخافيش علشان أنا هنا ومحدش يقدر يقرب منك حتى لو كان مين، عاوزك متزعليش نفسك كدا وتضحكي وتهزري، ولا هو الضحك لـ “أيـوب” بس؟.
سألها بمعاتبةٍ ممازحة جعلتها تضحك بسعادةٍ ثم شددت مسكتها له وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا ضحكت معاه علشان هو برضه عرف يطمني، أنا كنت مرعوبة منه يقول حاجة تشكك فيا أو توجعني، كنت خايفة أوي يقولي حاجة تزعلني منه، بس برضه مش “أيـوب” اللي يعمل كدا، دا أجمل وأطيب من إنه يصدق حاجة وحشة على حد غريب، مابالك بيا وأنا طارفة عينه؟.
ضحك “يـوسف” لها ثم أبتعد عنها ليتسنى له رؤيتها وهتف بصدقٍ حقيقي يخبرها بما يفكر هو فيه تجاه زوجها:
_عارفة ؟ أنا كنت مستني منه حركة متعجبنيش أو حتى نظرة لوم ليكِ ساعتها كنت هخسره، حاجة جوايا كانت بتقولي أختبر موقفه دا علشان أتأكد إنه إنسان يستاهلك، بس لقيت قدامي واحد عنده استعداد يهد الدنيا فوق دماغ الكل ويحرق الحارة ومهمهوش حد غير أنه يرد حقك، كلامه عنك في الجامع قدام الكل، خلاني اتصدم من قوته كراجل فرتك واحد في الشارع، لواحد بقى زي الطفل الصغير، تصدقي إنك محظوظة بيه؟.
ابتسمت بسعادةٍ فور سماعها لاطرائهٍ وثنائه على “أيـوب” وقد عانقت شقيقها من جديد تبتسم بحبٍ، كانت دومًا تدعو بإتمام الصداقة بينهما، كانت تتمنى أن يكون كلاهما عونًا للأخر وتتمنى أن يحتمي شقيقها في زوجها كما تأخذ هي منه القوة، أما “يـوسف” فظل بجوار هذه الصغيرة يمسح على رأسها وهي ساكنة بين ذراعيه وقد ألجمته حينما أغمضت جفونها تهتف براحةٍ:
_تصدق أنا حاسة أني حاضنة بابا؟.
جمدته وثبتته على الفور بهذه الجملة حتى رفعت رأسها تلثم وجنته ثم أعادتها من جديد على صدره وهي تقول بنبرةٍ هادئة تتمتع بقرب شقيقها:
_كان نفسي أجرب حضنه أوي، قولي كان حضنه حلو؟..
لمعت عيناه على الفور عند تذكره لوالده وللمشاعر التي تشعر بها حبيبة روحه، كان يعلم أن الجواب في غاية الصعوبة لذا هتف بنبرةٍ محشرجة توسطها البكاء الذي منعه من التنفس بصورةٍ طبيعية:
_كان حلو أوي، كان كله أمان وطيبة،
محستهمش غير في حضن “غَـالية” لما جيت، وحضن “عبدالقادر” لما حضني على أساس إني هو.
لمعت عيناها هي الأخرى بالدموع لكنها رفعت رأسها له تقول بنبرةٍ هادئة وهي تتجول في ملامحه بنظراتها تتشربها بكل شغفٍ:
_أنت فيك منه كتير أوي، كل حاجة تقريبًا، الحمد لله إنك جيت تاني هنا وبقيت معايا، ربنا رحيم بيا أوي أوي فوق ما تتخيل علشان رجعك ليا في أكتر وقت أنا بحتاجك فيه.
ضمها من جديد له متغاضيًا عن حديثها الذي ألمه، وأي ألمٍ هذا بعدما ضَيع النسخة الأصلية منه وقرر ان يمازحها بقولهِ وهو يضع رأسها على صدرهِ:
_طب متبقيش رخمة بقى وخليكِ كدا شوية.
سكنت من جديد بين ذراعيهِ مبتسمة الوجه فيما سكن هو أيضًا بجوارها لثوانٍ أو ربما دقائق لا يعلم الوقت المار عليهما معًا، لكنه يرى نفسه صغيرًا بجوارها متناسيًا كل ما مر عليه، وحدته وحزنه وبؤسه وكل شيءٍ تسبب في ألمهِ تنساه معها وهي بجواره حتى أتت “غـالية” من شقة أخيها تلج شقتها لتراهما معًا بهذه الصورة التي جعلتها تبتسم بسعادةٍ وهي تقف تتابعهما بنظراتها.
أما عن “عـهد” فكانت تجلس فوق سطح البيت بجوار الزرع والزهور وقفت تشتم عبير الورد من حولها مع نسمات الليل التي بدأت تزور المكان، حاولت أن تتغافل عن اليومين الماضيين لكن الذكرى أبت الرحيل، ظلت الوساوس تلعب في عقلها أن ربما تكون المسألة وقتية فقط ويتم نشر الصور من جديد، كانت تخشى كل شيءٍ حولها حتى نفسها..
تذكرت أمر كابوسها فجرًا وكيف ماتت وعاشت من جديد، أجزمت أن ذلك الكابوس هو الأكثر قتلًا لها، لقد وجدت نفسا عارية بين الناس تحاول مد ذراعيها لستر جسدها العاري والناس يشيرون عليها بتشفٍ وضحكات عالية وعلى رأسهم “سـعد” يقوم بالإشارةِ عليها، كان الكابوس واقعيًا لدرجةٍ كُبرى جعلتها عاجزة عن استيعابه، ظلت تصرخ بتوسلٍ أن يبتعدوا عنها لكي تستر جسدها حتى وجدت “يوسف” يركض لها من وسطهم يستر جسدها بثيابهِ ثم ضمها إليه يحميها من نظرات الناس حتى أتت ضربة فوق رأسه من الخلف أجبرته أن يبتعد عنها…
حينها استفاقت من نومها تصرخ بهزيانٍ وهي تتوسل الجميع بالابتعاد عنها والرأفة بها، كانت تصرخ حينما استيظقت وأدركت أمر الصور الخاصة بها فظلت تصرخ بقولها باكيةً:
_دي مش أنا والله مش انا…
مش أنا والله، دي مش أنا خالص.
اندفع “يـوسف” نحوها وهي تصرخ بهذه الكلمات حتى ضمها إليه يهتف بلوعةٍ أكلته عند سماعه لصراخاتها:
_أهدي خلاص مفيش حاجة والله، أهدي بالله عليكِ..
ظلت تصرخ بنفس الكلمة دون توقف أنه قام بفضحها حتى دون أن تعي لنفسها لطمت كفيها معًا، الكابوس والواقع امتزجا سويًا في صورةٍ قتلت المتبقي من ثباتها، لم تعد تفرق بين كليهما حتى أن قلبها من كثرة الخوف تضاعف عمله وهو ينبض بقوةٍ بين الضلوع..
قلبٌ يحاول أن يحتمي وقد تخلت عنه الدروع
تخلله الألم ليبقى في محله من بعد القتل كما المصروع.
ضمها له بقوةٍ يمسح على ظهرها يُطمئنها بقوله القوي لعله يخرجها من حالتها هذه وهي تهذي بنفس الكلمة:
_فضحني…فضحني.
حينها هتف بجوار أذنها بقولهِ:
_معملش حاجة، مقدرش يعمل حاجة وأنا هنا، بقى مرمي في الحجز زي الكلب، فوقي بنفسك كدا وفتحي عينك وبصيلي أنا عمري ما هكدب عليكِ يا “عـهد”، والله ما عمل حاجة ولا حتى معاه حاجة، بصي بنفسك.
فتحت عينيها على وسعيهما تتفحص غرفتها وكل ما حولها حتى طالعت “يـوسف” من جديد وبكت أمام وجهه وهي تسأله بلهفةٍ:
_هو بجد معملش كدا؟ طب دا كان حلم بس؟.
حرك رأسه موافقًا عدة مرات حتى رفعت كفها تُدلك موضع قلبها الذي يؤلمها وهي تحاول ابتلاع ريقها بصعوبةٍ بالغة فيما سألها هو باندفاعٍ متلهفٍ عليها:
_تشربي ؟.
حركت رأسها موافقةً فقام بسحب حافظة المياه التي وضعتها أمها بجوارها ثم ساعدها أن ترتشف منها حتى هدأت تمامًا فرفع كفه يمسح لها وجهها وهو يراقب ملامحها الذابلة بشفقةٍ، أصبحت مثل زهرةٍ انقطعت عنها المياه، أنتظر بثباتٍ ينافي قلقه من الداخل حتى وجدها تطالعه بخوفٍ فسألها بتعجبٍ من نظرتها:
_مالك؟ عاوزة حاجة تاني؟.
حركت رأسها نفيًا ثم هتفت بنبرةٍ أقرب للبكاء:
_خايفة يطلع دا كمان حلم وأصحى ألاقيك مشيت.
ابتسم لها رغمًا عنه ثم أقترب منها يضمها بقربهِ وهتف بتأكيدٍ يطمئنها من جديد باثًا في كل كلماته كل الأمان بقولهِ:
_بس دا مش حلم، أنا هنا بجد وجيت لقيتك كنتي بتصلي وشيلتك نيمتك على السرير وفضلت قصادك لحد ما نمتي، اللي شوفتيه هو اللي كان كابوس، إنما وجودي هو الحقيقة بنفسها، الحقيقة اللي أنا وأنتِ مش هينفع نكدبها.
أطلقت أنفاسها المحبوسة أخيرًا في ذهنها وفي واقعها حينما خرجت من شرودها على رائحته التي ملأت المكان حولها، حركت رأسها نحو الباب بتأهبٍ لتجده يدلف لها مبتسم الوجه لتبادله هي نفس البسمة بحماسٍ عند رؤية خليلها أتيًا لها، أما هو فدلف السطح بعدما ترك شقيقته ومر عليها يطمئن نفسه لتخبره والدتها أنها صعدت للأعلى بمفردها.
أقترب يجلس بجوارها يسألها باهتمامٍ:
_أنتِ كويسة دلوقتي؟
فقط ابتسمت له وهي توميء موافقةً له تؤكد ما تفوه بهِ ليبتسم هو الأخر لها، لحظة صمت مرت عليهما سويًا، هي لم تتفوه بأي كلمة وهو يخشى أن يسألها عن أي شيءٍ رغم فضوله لمعرفة كل شيءٍ حدث، أما هي فحركت رأسها للجهة الأخرى تراقب الزهور والزرع لعلها تشرق مثلها.
__________________________________
<“في إنتظار الخبر قبل الرحيل”>
أتى “عـادل” إلى المشفىٰ برفقة شقيقته وقد وجد ابنته تجلس باكيةً بمفردها وهي تطالع نقطة وهمية تنظر في اللاشيء أمامها، صورته لم تنفك عن عقلها ونبرته لم تترك سمعها، أخر ما تركه لها قبل أن يغيب عن عينيها، قفزت إلى سمعها جملته الأخيرة وهو يسألها بأملٍ مقتولٍ:
_”نــور” هو كدا خلاص صح؟.
بكت من جديد بصوتٍ عالٍ جعل أبيها يحتضنها مربتًا على ظهرها وهو يطمئنها عليه بقولهِ:
_متخافيش يا حبيبة بابا، هيخرج بخير، اتطمني.
بكت من جديد أيضًا وهي تلوم نفسها وتلقي عليها الذنب، وقد أتت الممرضة لهم بهاتف “سـراج” الذي أخذ يصدح برقم “إيـهاب” الذي كان ينتظره فجاوبه “عـادل” بنبرةٍ حاول جعلها ثابتة:
_”سـراج” في مستشفى****** مضروب عليه نار وللأسف محدش عارف أي حاجة، بس أدينا مستنيين.
نزل الخبر عليه كوقع الصاعقة، أصابه الخوف بحقٍ على رفيقهِ أغلق الهاتف دون أن ينتبه لذلك وما إن سأله “نَـعيم” عن مجيء الأخر أخبره بقولهِ ضائعًا:
_”سراج” مضروب عليه نار في المستشفى.
تفاجأ “نَـعيم” بما قيل له وبدا مشوشًا أمام الجميع، ابن رفيقه والأمانة المتروكة في عاتقهِ لذا حاول أن يكون ثابتًا قدر الإمكان وهو يلقي الأمر بالتحرك إلى هناك، أمرهم بلهجةٍ جهورية وهو يشير للشباب:
_انتوا هتقفوا تتفرجوا عليا؟ قدامي منك ليه يلا.
صرخ فيهم ليتحرك “إيـهاب” وخلفه شقيقه وخلفهما “مُـحي” الذي سحب مفاتيح السيارة يقوم بتجهيزها حتى التفت “نَـعيم” يهاتف “سمارة” بقوله الصارم:
_البت يا “سـمارة” !! أمانة في رقبتك، خلي بالك منها لحد ما نشوف هنعمل إيه ومحدش يقولها حاجة، فاهمة؟؟
حركت رأسها موافقةً بخوفٍ وهي تراقب حالة التوتر التي أصابت البيت فجأةً، لكنها لاحظت قدوم “مـيكي” نحو الداخل يهتف لها بلهفةٍ:
_ست “سمارة” أنا هنا علشان “عمهم” طلب الرجالة تفضل في حماية البيت ولو حد فيكم عاوزه حاجة يقولنا، أنا برة في خدمتك، عن إذنك.
تابعت تحرك الشاب من أمامها وهي تفكر في الصغيرة النائمة بغرفة خالها بهذا البيت، دلفت لها بخطواتٍ وئيدة تراقب سكونها، ملاك صغير ينام وسط الفراش لم يعي بما يدور حوله، دنيا قاسية وقاتلة للأحلام قبل أن تفتك بالمرء، ومن فرط قسوة البشر فيها لم يراعوا أن الصغير فيها يعاني بقدر ما يتحمل الكبير، تنهدت مُطولًا ثم رفعت الغطاء تدثرها به وهي تجلس بقربها ثم هتفت بصوتٍ منكسرٍ:
_ربنا يردله عافيته علشانك أنتِ، ملكمش غير بعض.
ساعة…
المدة المستغرقة من منطقة نزلة السمان إلى المشفى هي ساعة فقط، كانت السيارة تشق الطريق شقًا على الطريق، نحو المشفى التي قضى فيها “سراج” ليلته، ومن بعد وصولهم دلفوا للداخل مع بعضهم وأولهم “نَـعيم” باحثين عنه حتى أرشدهم العامل إلى هناكَ..
وقف “عادل” أمامهم يطالعهم بخيبة أملٍ بعدما طال الانتظار ليخرج الطبيب قبل أن ينطق أحدهم وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_الحمد الله الرصاصة مصابتش أي أعضاء حيوية جت في الكتف الشمال من فوق، والحمد لله إنه وصل وفي وقت مناسب منزفش فيه دم كتير، إن شاء الله هيخرج وكلها ساعات ويفوق، عن اذنكم وحمدًا لله على سلامته.
طمئنهم بقوله لتهلل “نـور” بنبرةٍ مختنقة من كثرة الفرح بقولها:
_الحمد لله يا رب، الحمد لله..
بترت حديثها وهي ترتمي بين ذراعي عمتها التي ظلت تمسح على ظهرها وهي تربت عليها، فيما تنهد “نَـعيم” بعمقٍ وكأن هناك همٌ خرج من فوق صدره، الأمانة التي توجب عليه رعايتها لم يفرط بها بل كتبت له فرصة جديدة حتى يقوم بدورهِ في رعايتها.
دقائق ودلف “يـوسف” لهم بخطواتٍ راكضة بعدما حدثه “إسـماعيل” يخبره بما حدث لرفيقهم وبرغم كل شيءٍ ترك مكانه على الفور وترك زوجته وذهب إليهم ليصل عند الخبر المُفرح أن صديقه قد نجا من الموت.
وقف “إيـهاب” يفكر باهتمامٍ فيما حدث بعدما اختلى بنفسه للخارج يدخن سيجارته بشراهةٍ أمام المشفى، يفكر بكل عمقٍ فيما حدث فمن سوف يستفيد من إصابة “سراج” غير “ماكسيم” ؟ ومن يبرع في القتل غير “منذر” ؟؟ تأهبت حواسه وذكر اسمه بنبرةٍ مسموعة وهو يهتف بدهشةٍ:
_”مُـنذر” !!
جاوره “يـوسف” الذي خرج هو الأخر وما إن وجد ملامحه مشدودة بهذه الطريقة وكأنه ينتظر قدوم فريسته سأله متعجبًا مما يراه على وجهه:
_إيه يا “عمهم” مالك؟.
انتبه له “إيـهاب” الذي قال بنبرةٍ جامدة:
_تيجي معايا دلوقتي؟.
انكمش مابين حاجبيه بحيرةٍ فيما تجاهله “إيـهاب” وأخرج هاتفه يطلب رقم شقيقه في الداخل وما إن اتصلت الخطوط ببعضها هتف بلهجة قوية:
_”إسماعيل” أنا رايح مشوار على السخان وراجع تاني، مش هتأخر و “يـوسف” معايا، سلام.
أغلق مع شقيقه ثم توجه إلى السيارة الخاصة بـ “بوسف” يركبها فيما ركب “يوسف” وجلس على مقعد القيادة يقودها وما إن سأله عن وجهته التي سيذهب إليها أشار الأخر له أن يتبع حركات إشاراته حتى أذعن الأخر له بإنصاتٍ تام وقاد سيارته وفقًا لاشارات الأخر حتى أوقفها في بناية قرب منطقة الهرم ونزل من السيارة يتبعه “يـوسف” لداخل البناية.
دلف “إيـهاب” إلى هناك وتوجه إلى شقة “مُـنذر” يطرق الباب بغضبٍ وما إن فُتِحَ الباب له أمسك تلابيبه يقبض عليها وهتف بنبرةٍ هادرة يسأله بانفعالٍ أعرب عن غضبه:
_بتضرب نار على “سراج” ليه يا “مُـنذر” !! ما ترد عليا، مقولتليش ليه إنه هيعمل زي ما كان عامل مع “إسـماعيل”؟
اندهش “مُـنذر” من الحديث وقبل أن يتحدث وجد “يـوسف” يسأله بلهفةٍ:
_أنتَ اللي عملتها في “سراج” يا “مُـنذر”؟.
هتف حينها بنبرةٍ عالية بعدما دفع كفي “إيهاب” عن سترته:
_والله العظيم ما أنا، أنا معرفش إن “سراج” هيتضرب أصلًا، ولو كنت عرفت كنت هقولكم تحذروه، مش أنا اللي عملتها والله.
اندفع “إيـهاب” نحوه يصرخ في وجهه بقولهِ:
_أومـال مـين غيـرك؟؟ مين بيعرف يضرب نار واتعلم إزاي ينشل صح؟ الطلقة جت فيه من ورا قريب من القلب، يعني اللي ضربه قاصد إنه ميجيبهاش فيه، يبقى مين غيرك؟؟.
رفرف “مُـنذر” بأهدابهِ عدة مرات خلف بعضها مستنكرًا ذلك الحديث وقد يبدو أنه تم التلاعب به، سحب هاتفه يطلب رقمًا على أحر من الجمر، كان ينتظر الجواب الذي وصله ليقول بنبرةٍ عالية لمن يحدثه:
_بقولك إيه هو إيه اللي بيحصل عندك؟
أخبره من يحدثه بنبرةٍ خافتة:
_عم “ماكسيم” الكبير مات والعيلة كلها اتجمعت علشان تقسيم الإمبراطورية الخاصة بالعيلة، وكلهم في انتظار “ماكسيم” بما إنه أكبر واحد بعد عمه، على فكرة هو وصل المطار وقرب يركب الطيارة خلاص.
شدد “مُـنذر” على خصلاته وأغلق الهاتف ليصله مكالمة من رقم “ماكسيم” جعلته يرد عليه وقد فتح السماعة الخارجية ليصل الحديث على مسامع الآخريْن، فقال الأخر ببرودٍ:
_كدا غالبًا هماعندك يا “مُـنذر” وريني شطارتك وخلص عليهم قبل ما هما يخلصوا عليك، أنا هروح أشوف حاجتي وعاوز أرجع ألاقيك مكسر الدنيا، أنا سايبك خليفتي في مصر.
هتف “مُـنذر” بشرٍ له وهو يتابعهما بعينيه:
_يعني أنتَ بتحطني معاهم في الحيطة، بس وماله، أنا مبخسرش شوف تحب أخلصلك على مين فيهم دلوقتي؟.
ضحك “ماكسيم” بصوتٍ عالٍ ثم هتف بسخريةٍ:
_وأنتَ برضه هتضيع نفسك قبل ما تلاقي اللي منك؟ هتضيع كل دا بعدما بذلت كل دا مجهود؟ على العموم براحتك يمكن تلاقي اللي بتدور عليه، دا لو كان لسه حي أصلًا، بس أنا مستنيك يا “مُـنذر” لو عمك مرضاش يصدقك.
قبل أن يرد “مُـنذر” أُغلِقَ الهاتف في وجهه مما جعل بصره يزوغ بنظراتٍ تائهة في وجهيهما حينما تأكد أن كل شيءٍ تم كشفهِ، كل ما فعله لأجل الوصول إلى ابن عمه ضاع منه والآن يتوجب عليه أن يحاذي حذو أفعاله السابقة لذا قال بنبرةٍ ضائعة:
_المفروض إني أسيب كل حاجة هنا وامشي، بس أنا عاوز أروح أشوف “سـراج” بس قبلها هلم حاجتي علشان لازم أسيب مكاني دا وأشوف مكان تاني آمن ليا واللي عاوزين تعرفوه أنا هقوله ليكم.
نظر له كلاهما بدهشةٍ فالموقف بأكمله لم يتم إدراكه من قبل آفاق عقلهما، الحديث غريب والموقف أكثر غرابة وما عليهما فقط التروِ والتريث حتى يقوم هو بشرح كل شيءٍ لهما خاصةً بعد مكالمته مع الآخر التي زادت من ريبتهما.
__________________________________
<“مرة واحدة سُمح لك فيها باللقاء، استغلها”>
وصل “مُـنذر” للمشفى معهما بعدما جمع حقيبته وثيابه وكل ما يخص عمله وبحثه وترك الشقة، يعلم أن برحيل “ماكسيم” من مصر ستكون له حرية التحرك خاصةً وهو يعلم من يراقبه جيدًا، يستطيع أن يفلت منهم ويجيد الخفاء عنهم، ستطول مدة غياب الأخر مما يجعله قادرًا على البحث من جديد.
نظر له “نَـعيم” بلهفةٍ لا يعلم سببها، وجده أمامه هو الأخر مع بقية الشباب ولقد ثبت عينيه عليه وكذلك “مُـنذر” أيضًا الذي تعلقت أنظاره بعمهِ، أراد أن يذهب إليه ويرتمي بين ذراعيه يحتمي فيه لكنه حكم عقلهِ على عواطفهِ بينما “نَـعيم” نظر لـ “إيـهاب” و “يـوسف” باستغرابٍ شديد جعل الأول يغلق جفونه يطمئنه بنظراتهِ على عكس “إسـماعيل” الذي أقترب منه يسأله بنبرةٍ جامدة:
_مش أنتَ اللي جيت قبل كدا تهددنا؟ جاي هنا ليه؟.
طالعه “مُـنذر” بنظراتٍ ثاقبة ثم ابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_متقلقش يا “حوكشة” أنا أمان.
تعجب “إسماعيل” من هذا اللقب ومعرفته به لذا هتف بنبرةٍ جامدة بعدما فلتت أعصابه منه تمامًا:
_وإيه حكاية “حوكشة” دي؟ أنتَ مين.؟؟
هتف “إيـهاب” بنبرةٍ خافتة في أذنه:
_دا “مُـنذر” ابن عمك “إبراهيم الموجي”، فاكر لما خدوه معاهم برة؟ هو عايش مماتش زي ما كنا فاكرين، صاحبك القديم أهو.
حرك “إسماعيل” رأسه نحو “مُـنذر” الذي طالعه للأسف بشوقٍ وبعدة مشاعر مبهمة، حيث الأخر يظنه ابن عمه ومن الممكن حقًا أن يكون ابن عمه، وإذا لم يكن ذلك فيكفيه أن يكون رفيقه الأول، في صغرهما كانا معًا وسويًا في اللعب والدراسة وفي كل الخطوات أقترب “إسـماعيل” منه يطالع ملامحه بعينين ترقرق بهما الدمع فاحتضنه الأخر في عناقٍ أقرب للخطف، ضمه بذراعيه وهو يقول بنبرةٍ حاول التحكم فيها بقولهِ الموجوع:
_وحشتني أوي يا “إسماعيل” وحشتني فوق ما تتخيل، أنا مقدرتش أنساك ولا عرفت حتى أصاحب حد غيرك، مكانش عندي “حموكشة” تاني غيرك.
ابتعد عنه “إسماعيل” يهتف بلهفةٍ يخبره بعدم نسيانه:
_والله ما نسيتك ولما سألت قالوا إنك في الغالب مت برة، كنت فين كل دا؟ وإيـه اللي بيحصل دا؟ و “ماكسيم” بيعمل إيه وأنتَ معاه، وإيـه حوار إنك ميت دا؟ إزاي وأنتَ عايش؟.
ابتسم له “مُـنذر” وهو يقول بنبرةٍ منكسرة:
_مسير الحي يتلاقىٰ يا ابن عمي…
وقف “يـوسف” بتيهٍ أمام الجميع وقد مال على أذنه “مُـحي” يهتف بسخريةٍ من الوضع:
_شوف مش أنا مبطل شرب ومكتفي بالسجاير بس؟ بس وربي اللي بيحصل دا مكيفني اكتر من الحتة أم ٢٠٠، مين دول؟ أنا بتاع كيميا آه بس مش كدا.
ابتسم “يـوسف” بسخريةٍ وهتف في أذنه بسخريةٍ هو الأخر وهو يرى هذه الأوضاع الغير مصدقة أمام عينيه:
_دي تقريبًا حتة جديدة اسمها
“الضُفر ميطلعش من اللحم”.
كتما ضحكتهما أمام الجميع بينما “مُـنذر” ثبت عينيه على ابن عمه المعروف “مُـحي”، هذا الأرعن الذي ورث صفات عمه كاملةً، نفس حب النساء والحياة المُرفهة الخالية من أية مسئوليات تقع على عاتقهِ، يعيش منصاعًا خلف أهوائهِ ولولا سيطرة الشباب عليه وفرض “إيـهاب” سيطرته لكان أصبح الآن نسخة أخرى من “شـوقي” بكل تفاصيله خاصةً إذا كانت رغباته تدعوه لذلك..
دقائق قليلة مرت تبعها خروج “سـراج” على الفراش المتحرك نحو الغرفة العادية بعدما خرج من غرفة العمليات، من تعمد إصابته كان محترفًا بدرجةٍ كبرى حيث أصاب منطقة لم تؤثر بالجسد، أراد”ماكسيم” أن يفعلها حتى يخبر “مُـنذر” بطريقةٍ غير مباشرةٍ أنه يستطيع فعل مايريد حتى دون الحاجة إليه وأنه كشفه وعلم حقيقته..
بينما انتقامه من “سراج” فله أسباب خاصة لم يعلمها إلا”سراج” نفسه مما أدى إلى محاولة قتله أو تهديده بحياته بصورةٍ لم يتوقعها، أما “يـوسف” فشعر حقًا بالتعب، أراد أن يجلس على أي مقعد فمنذ فجر اليوم وهو لازال مستيقظًا حتى شارف الفجر الثاني على القدوم..
كانت “نـور” أول من انتفضت من محلها تتحرك خلف الفراش نحو الغرفة لكنها تفاجئت بطاقم التمريض يمنعها من الدخول واغلقوا الباب في وجهها حتى جلست أمام الغرفة تثبت عينيها عليها باكيةً.
__________________________________
<“مهما غابت الشموس، غدًا ستشرق من جديد”>
في صبيحة اليوم الموالي..
لم يترك الشباب محل المشفى بل بقوا بداخل السيارات مع بعضهم يخطفون بداخلها ساعات النوم القليلة، أما “نَـعيم” فجلس بالمكان بعد رحيل “عـادل” وأسرته فجرًا بعدما رفضت “نـور” تركه لكن والده والشباب أصروا على رحيلها حتى هتف “إيـهاب” بنبرةٍ جامدة:
_روحي أحسن يا “نـور” هو لو فاق وعرف إنك فضلتي هنا هيتضايق، روحي أحسن وبكرة تعالي شوفيه براحتك.
حينها رحلت رغمًا عنها بخوفٍ أن يأتيها أي خبرٍ ينهي عليها، فهي في العادة تكره الفراق والرحيل خاصةً فراق الأحبة، وهذا الماثل بداخل غرفة المشفى يضجع في فراش المرض، كان في يومٍ من وسط الأيام كل ما يشغل عالمها، والحقيقة أيضًا أنه لازال كذلك.
أما “يـوسف” فظل يتابع أخبار أسرته وزوجته عبر الهاتف وقد علم أن زوجته كعادتها استيقظت ليلًا تبكي وتصرخ من نفس الكابوس لكن والدتها كانت معها وبالرغم من محاولاتها إلا أنها استغرقت وقتًا كثيرًا حتى خرجت من نوبة الهلع هذه بعد ما يقرب الساعة غالبًا من البكاء والصراخ.
في حارة العطار..
بعد مرور ساعات أخرى حتى ظهرت شمس الظهيرة يتبعها خروج الموظفين من الأعمال وقد خرجت “نِـهال” من عملها كعادتها تنتظر الصغير الذي طال انتظاره حتى وجدته يخرج له من وسط الصغار بملامح ضاحكة وما إن وقع بصره على نقطة وقوفها تلاشت ضحكته وتهجمت ملامحه وقد بدا التعجب على وجهها وقبل أن تقترب منه وجدت إمرأة أخرى تركض نحوه وهي تذكر اسمه بلهفةٍ.
تعجبت منها “نِـهال” واقتربت منه تسألها بنبرةٍ جامدة:
_مين حضرتك ؟ وبتعملي هنا إيه؟.
طالعتها “أماني” بتعجبٍ وهي تسألها باندفاعٍ:
_أنتِ اللي مين؟ ومالك وماله؟.
هتفت الأخرى تجاوبها بإصرارٍ بالغٍ تؤكد ما يصدر منها:
_حضرتك دا ابني، مين حضرتك؟.
ابتسمت “أماني” بسخريةٍ وهي تطالعها باذدراءٍ:
_والله؟ لما أنتِ أمه أنا أبقى مين إن شاء الله؟.
بدا الاستنكار واضحًا على ملامح “نِـهال” التي رمشت بتعجبٍ من الحديث ونظرت في وجه “إيـاد” الذي بدا أمامها حزينًا، وقد فهمت أن هذه هي أمه حقًا، لذا وجدت الأخرى تقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا كنت معدية من جنب المدرسة قولت أتطمن عليه، وحشتني أوي يا “إيـاد” عامل إيه يا حبيبي طمني؟.
طالعها بنظرات زائغة وقد سبق وتذكر موقفها معه حينما رفضت أن تسلم عليه خشيةً على الأموال المأخوذة مقابلًا له لذا شبك كفه بكف “نِـهال” وهتف بثباتٍ:
_أنا كويس جدًا الحمد لله، يلا يا ماما.
اتسعت عيناها وكذلك “نِـهال” أيضًا التي أخفضت رأسها له بدهشةٍ فوجدته يضيف لها بنبرةٍ مُحذرة:
_يلا ولا مش ناوية تعملي الكيكة اللي قولتلك عليها؟.
ضحكت له رغمًا عنها من بين دموعها فيما طالع هو وجه “أماني” وهو يقول باستفزازٍ بعدما رسم بسمة صفراء خالية من أي ودٍ أو ذرة مشاعر تجاه هذه المسماة أمه:
_عن إذنك علشان منتأخرش على بابا.
سحب “نِـهال” من المكان وكأنه كره وقف أمه الأصلية أمامه في هذا التوقيت، كان يسعد عند خروجه من باب المدرسة لأنه يعلم أن هناك من تنتظره أما هذه فيبدو إنها أتت حتى تعكر صفو رأسه، وقد لاحظت “نِـهال” صمته أثناء السير فسألته بتعجبٍ:
_ساكت ليه؟ معملتش أي حاجة تقولي عليها؟..
رفع رأسه نحوها وهو يقول بقلة حيلة:
_متضايق بصراحة، ماكنتش عاوز أشوفها تاني، هي عمرها ما جت تاخدني ولما كنت بطلب منها كانت بتقولي مش فاضية وعلى فكرة مكانتش بتعمل حاجة ساعتها، دلوقتي بقت تيجي؟ أنا أصلًا لما بشوفها بفتكر كل حاجة هي زعلتني فيها، هي أصلًا طول عمرها مزعلاني.
لم تفهم هي مشاعرها المتناقضة في هذه اللحظة لقد فرحت أنه يفضلها على أمهِ وفي نفس التوقيت شعرت بغصة مريرة في حلقها، وضعت نفسها مكان أمه للحظةٍ وخشيت أن يكرهها هي الأخرى لذا هاتفته بمزاحٍ تغير حالته:
_وأنا اللي كنت ناوية أهرب بعد كدا؟؟
خلاص ياعم أحسن تكرهني أنا كمان مش هروح في حتة، خليني أعمل في كيك ومكرونة المهم إنك تكون مبسوط بس.
ضحك لها وهتف يغير الحديث هو الأخر بقولهِ:
_والله العظيم أنتِ ست زي العسل على رأي بابا.
ضحكت بخجلٍ لوهلةٍ وسألته بمرحٍ خبيث:
_يعني لما بغيب عنكم شوية بتجيبوا في سيرتي أنتَ وأبوك؟ عيني عينك كدا يا ابن “أيـهم” ؟؟ طب داروا عليا حتى.
أمسك كفها من جديد يهتف بصدقٍ:
_علشان وأنا وهو بنحبك بنحب نتكلم عنك.
ضحكت من جديد واستأنفت السير معه وهي تحثه على الحديث كعادته حتى بدأ يسرد لها مغامراته التعليمية في فصله الدراسي وسط البقية، يخبرها عن تعامله طوال اليوم وهي فقط تستمع له بكافة حواسها المُرهفة له لكنها لم تنس هيئته حينما أتت أمه أمامه وكيف نطقت ملامحه بكل أسى وكأنها تفننت في وجعهِ، لكن يبدو أنه تخطى ظهورها حيث عاد كما كان بالأيام السابقة.
__________________________________
<“لا تقل نعم، بل افرض رفضك”>
عاد “أيـهم” من قسم الشرطة صباحًا بعدما ذهب لرؤية أصدقائه هناك وتمم على كل شيءٍ يخص أمر “سـعد”، طالعه من على بعدٍ وهو يتلقى الضربات من الداخل، يجلس حبيسًا في الغرفة بمفردهِ كافة الأدلة الجنائية وقعت ضده، شبه أعترف بما فعله وينقص فقط بعض ذلك تحقيق النيابة واستجواب “عـهد”.
دلف محل “بـيشوي” الذي كان يتحدث مع أحد التجار وما إن رأه أغلق هاتفه وسأله باهتمامٍ:
_ها ؟؟ عملت إيه؟ عرفوا يتصرفوا؟.
زفر بقوةٍ ثم هتف بنبرةٍ هادئة:
_لحد دلوقتي عمه مكبر وأبوه بيلف شوية، بصراحة خليهم كدا مكيفيني أوي وهما دايخين عليه، ما إحنا ياما دوخنا على حد يساعدنا أيام “أيـوب”، بس تقول إيه بقى؟ الناس طماعة عاوزة تعض في غيرها ومحدش يقرب منها، على العموم يعني أنا أهو بتابع مع “أكمل” لو فيه حاجة هيرسيني، المهم كلمت “تَـيام” ؟؟.
هز رأسه موافقًا وهتف بقلة حيلة:
_آه، بس حاسس إن دا ضغط عليه وهو مش بيسمع الكلام علشان كدا قولت الحج يقنعه أحسن، مش علشان الشقة يعني هيتعب نفسه كدا، الصبح في المصنع واخد باله منه وبليل في الوكالة، بس أقولك؟ خليه واد جدع وراجل.
هتف “أيـهم” بثقةٍ يخبره بطريقة تفكير رفيقهما:
_أنا فاهم هو بيفكر إزاي، “تَـيام” مش عاوز يحرم “آيـات” من حاجة، فاكر أنه لو عمل اللي يقدر عليه كدا مش هيليق بيها، فعمال يدوس على نفسه في الشغل على أساس ميتقالش إن فلوس أبوها هي السبب، هو راجل وكل حاجة وشهامة، بس مشكلته أنه رابط الماديات بعلاقته بيها، وأنا مش هقدر أقوله علشان ممكن يفهمني بقلل منه، رغم إنه مش كدا وأنا لو عارف إنه وحش عمري ما هوافق أنه يدخل بيتنا، بس دا متربي على أيدينا.
ضحك له “بيشوي” وهتف بسخريةٍ يمازحه:
_المصيبة في كلمة أنه أتربى أيدينا دي.
ضحكا سويًا ثم عادا لمتابعة سير العمل بينهما من جديد بعدما تخطى كلاهما كل الأمور المنقلبة رأسًا على عقبٍ واستأنفا عملهما، أما في المصنع الخاص بعائلة “العـطار” تحديدًا في صنع المواد الرُخامية ومواد البورسلين، كان “تَـيام” هناك يتابع العمل بنفسهِ، الشئون القانونية التي يتولاها هو، وأمر الأجور والرواتب والمكافآت…
كان يشعر بالتعب حقًا وقد ظن أن العمل سيكون سهلًا لكنه تفاجأ بكبرهِ وحجمه وحجم المسئولية الواقعة عليه، وما يتوحب عليه هو إثبات كفاءته لهم جميعًا ولوالدها قبل البقية، لذا تمم تسليم الأجور والرواتب ثم قام بتسوية ملف الضرائب حتى صدح صوت هاتفه برقمها فابتسم هو بحماسٍ وجاوب على المكالمة بقولهِ الهاديء:
_وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، إن شاء الله يعني تكوني اختارتي إحنا عاوزين إيه علشان أبعت الحاجة للراجل يبدأ شغل، ها اختارتي؟؟
طالعت شقيقها الجالس أمامها يقوم بتفحص هاتفه تاركًا لها الحرية في الحديث وقد هتفت بنبرةٍ هادئة:
_الحمد لله اختارت، أنا بس كنت عاوزة أقولك إنه ملهوش لزوم كل دا، أنا مش فارق معايا أي حاجة غير الإنسان اللي هعيش معاه، أهم حاجة إنه يراعي ربنا فيا ويعاملني بما يرضي الله، أي حاجة تانية مش مهم، على الأقل بالنسبة ليا وصدقني دي مش مثالية زيادة أو دي حاجة مش فيا، بس أنا عاوزة كل حاجة على قد المعقول أحسن.
ابتسم على الجهة الأخرى وقال بنبرةٍ هادئة:
_علشان أنتِ راضية بكل حاجة الحمد لله ربنا مسيرها عليا، شغل المصنع مش وحش خالص بالعكس دا شيء في صالحي أنا، علشان كدا بقولك دا رزق جه في وقته، بعدين معلش يعني أنا مش عاوز حد يقول طمعان فيها ولا حد ساعده، أنا راجل في الحاجات دي عندي عزة نفس، وأكيد أنتِ فاهمة حاجة زي دي صح؟؟.
قلبت الحديث في عقلها لثوانٍ ثم زفرت بقوةٍ وقالت بعدما استعادت ثباتها:
_ربنا يوفقك ويقويك ويرزقك باللي بتتمناه، إن شاء الله يعني لما تيجي الحارة تقدر تعدي علشان تشوف الحاجة وتاخد أرقامها كمان بالظبط.
كانت حجة منها حتى تراه أمامها وقد فهم هو ذلك فلم يرد إحراجها بل هتف يؤيدها بقولهِ الوقور الذي تنافى مع خبث ملامحه:
_أنا بقول كدا برضه، أحسن ما تبعتيهم يعني وأتلغبط فيهم، الأفضل أني أجي بنفسي حضرولي بس عصير حلو.
كتمت ضحكتها وقالت بحماسٍ لم تسيطر عليه:
_عصير وكيك علشان خاطرك كمان.
انتبه لها “أيـوب” وضحك رغمًا عنه حتى أغلقت هي المكالمة معه ثم جاورت شقيقها تقول بنبرةٍ هادئة:
_طلع طيب أوي يا “أيـوب” أول مرة أخد بالي من كل الصفات الحلوة دي فيه، فاكر لما كنت بقولك لو مش هييجي بكل مواصفاتك أنا مش هوافق؟ طلع فيه مواصفات تانية برضه خلتني أتشد ناحيته أهمهم أنه مسئول بجد، وأنه بيعمل كل حاجة تخليه يوصل من غير ما يزعجني، أنا دلوقتي بس حسيت إني مع الإنسان اللي حلمت بمواصفاته بس لسه أهم صفة عاوزاها تيجي منك.
حرك رأسه باستفسارٍ لها فوجدها تقول بلهفةٍ:
_عاوزاه يكون إمام ليا في الصلاة، عاوزاه يكون بيشاركني طريق الالتزام كأني همشيه من الأول، واحدة واحدة مع بعض، أنا مش هقدر أطلب منه كدا بس هعتمد عليك من بعد ربنا إنك تساعده وتعرفه أكتر.
رفع كفه يضعه على كتفها ثم قربها منه ولثم جبينها بفخرٍ وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما أحتواها بين ذراعيه:
_اللي أنتِ بقى متعرفيهوش إن “تَـيام” جه سألني عن كل الحاجات دي وبدأ كمان يذاكر ويقرأ كتب كتير علشان من هنا لحد ما تكوني مراته يكون الراجل اللي كان نفسك فيه، مش واخدة بالك أنه بطل حاجات كتير؟ أهمها الأغاني اللي كان بيحطها؟ وبدأ ينزل ابتهالات وفيديوهات قرآن، الواد دا يستاهل أنه يتحط في العين.
ابتسمت بسعادةٍ بالغة طفقت تعلن عن نفسها فوق ملامحها ووجهها المتورد فقام “أيـوب” بالمسح على رأسها ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_تستاهلي كل خير والله، ربنا يرضي قلبك.
في هذه اللحظة فتح باب البيت ليطل منه “إيـاد” ركضًا لهما بحماسٍ فيما وقفت “آيـات” تنتظر زوجة شقيقها بحماسٍ وقد وقف “أيـوب” بجوارها ومال على أذنها يهتف بسخريةٍ:
_الله يرحم أيام ما كانت التانية تطل عليكِ تقومي واخدة بعضك على جوة، بقينا بنقف ونستنى ونضحك ؟؟ دنيا.
لكزته في مرفقهِ وقالت بنبرةٍ ضاحكة وخافتة:
_بتقارن إيه بإيه؟ دا دي حتة مانجا.
حمل “أيـوب” ابن شقيقه حينما أصبح أمامه وهويلثم وجنتيه ويطمئن على أحواله فيما دلفت “نهال” تلقي عليهما التحية مبتسمة الوجه وكأنها حقًا تقر إنها في محطة الأمان، تقف أمام “أيـوب” وبجواره “آيـات” بدت وكأنها أمام ملاذٍ آمن وخاصةً “آيـات” أو كما لقبتها هي ملاك البيت وفقط ينقصها ضلوع البيت زوجها.
__________________________________
<“صدفة غريبة أصبحنا على أثرها هنا”>
اليوم الثاني على التوالي له هنا بمقر العمل..
بالأمس كان مطمئنًا بسبب وجود “يـوسف” معه أما اليوم فهو لم يرْ “يـوسف” ولم يقابله في البيت وقد أتى إلى هنا مثل الأمس تمامًا، لقد وجد العمل سهلًا على عكس عمله السابق، لم يكن منكبًا على طاولة غير مريحة يهاتف العملاء لمدة اثنا عشر ساعة متواصلين، هو هنا في عملٍ أكثر رقيًا من السابق، يجلس على مكتبه المريح تصله ايميلات نصية وإلكترونية يقوم بترجمتها هو، عمله الذي يحبه في أكثر مكانٍ يكرهه..
طرقَ باب مكتبه وتبعه دخول “رهـف” له مما جعله يرفع رأسه الحاسوب ويتوجه إليها برأسه فوجدها تقول بنبرةٍ هادئة:
_دا وقت الاستراحة لو حابب تطلع تتغدى أو تشرب حاجة، الموظفين كلهم سابوا شغلهم قولت أعرفك يعني.
ترك مقعده وأقترب منها يسألها باهتمامٍ نتج عن حيرته:
_معلش يعني هو فيه مكان مخصوص هنا للموظفين يقعدوا فيه؟ ولا بيخرجوا برة؟ وأهم حاجة الوقت قد إيه يعني؟.
سحبت نفسًا عميقًا وقالت بنبرةٍ عملية:
_فيه مكان هنا على النيل علطول، فيه أكل وشرب وتسالي وكل حاجة نفسك فيها، والوقت ساعة كاملة فات منها ١٠ دقايق كاملين، إمبارح علشان مكملتش ومشيت النهاردة يعتبر أول يوم فعلي وعملي ليك، يلا؟.
تحرك معها نحو الخارج أو نحو الأسفل وهي ترشده إلى المكان المُطل على نهر النيل حيث استراحة الموظفين من العمل، حينها اندهش “عُـدي” وتعجب مما رأه نصب عينيه، وجد مكانًا يخطف الانظار حيث لمعة المياه البراقة وهي تتعامد عليها آشعة الشمسِ، تزامنًا مع رائحة الدفء التي أتت من المياه والزرع على ضفافها.
وجد “رهـف” تجلس على أرجوحة مستطيلة وعريضة ثم وضعت الطعام المنزلي الخاص بها وزجاجة العصير أيضًا وقد جلس بجوارها يسألها باهتمامٍ:
_هو عادي أجيب أكل من هنا أو برة؟.
انتبهت له وحركت بؤبؤيها في نقطةٍ ما خلفه ثم عادت له بعينيها من جديد تهتف بموافقةٍ:
_”يوسف” أصلًا فاتحلك حساب هنا، يعني أي أكل أو شرب أو حاجة هتطلبها عليه هو أو على حساب الشركة، بس محدش يعرف كدا علشان محدش يشك في حاجة، متقلقش أخوك مظبطك أوي.
ابتسم لها ثم سحب نفسًا عميقًا وهو يطالع المياه أمامه فسألته هي بتعجبٍ من سكونه وعدم تحركه لجلب الطعام:
_هو أنتَ مش هتجيب أكل؟ بعدين ليه باين إنك متوتر؟.
بدت وكأنها ضغطت على زر الانفجار لديه لذا هتف بنبرةٍ تائهة أو ربما ضائعة من أصلها:
_علشان أنا فعلًا متوتر، أنا هنا زي اللي ماشي في حقل ألغام وأي حركة غلط بفورة هتبوظ الدنيا، خوفي مخليني عاجز حتى إني أقدم مساعدة لأخويا، وأنا مشكلتي إني بحب الاستقرار مش بحب الحاجة اللي ملهاش مركز ثبات.
فهمت هي عليه وأدركت مشاعره المختبطة لذلك قالت بنبرةٍ هادئة تبثه القوة التي كانت تُبَثْ لها في قديم الوقت السابق لهذا:
_كتر خوفك هيضيع عليك متعة الشيء، فيه مرة حد قالي إن خوفك وحجم تقديرك للشيء بيتناسب بصورة غير مباشرة مع حجم ابداعك فيها، لأن حجم خوفك هيحركك ويخليك تبذل مجهود أكبر وطاقة أكتر علشان تدي الشيء دا اللي أنتَ عاوزه، لولا خوفك من الشيء في بعض الاحيان أنتَ مش هقدر تثبت نفسك فيه، يعني مثلًا لو استهترت بالشيء وقللت منه تلقائيًا هتستخسر جهدك فيه، وهتشوف نفسك كبير عليه، لكن لما تخاف منه وتحطه في حجمه وقصاده تبذل المجهود اللي مناسب خوفك هتتفاجيء بالنتيجة في الأخر، أي شيء لو مفيهوش خوف، هتبقى نتيجته استهتار، شطارتك إنك تخلي حجم الخوف طبيعي ميتحكمش فيك.
استشف الحكمة من كلماتها وفهمها بكل صدرٍ رَحب، وجد فيها شخصية أخرى غير التي تصدرها هي له، بخلاف إنها مسئولة عن العمل وتبدو عليها القوة إلا أن هناك شخصية حكيمة تفهم الأمور جيدًا وتساعد من حولها، لذا ابتسم لها وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_اللي قالك كدا عظيم أوي، شخص تفكيره عملي وحماسي مقارنةً بأي شغل فيه نسبة خوف، أبقي خليني أقعد معاه يمكن نكسب شوية من خبراته دي.
رفعت عينيها له وتلاشت بسمتها وهي تقول بآسفٍ:
_للأسف هو مش معانا هنا، هو في مكان تاني أحسن بكتير، بس ربنا يوفقك ويقويك ولو عاوز أي حاجة هنا هتلاقيني موجودة وهحاول أساعدك باللي أقدر عليه، ربنا معاك.
لاحظ هو تبدل ملامحها وتغير صوتها وكأن الحزن ظهر عليها ولم يخفى عليه نظرة عينيها التي تبدلت تمامًا إلى نظرة أخرى تبدو ضائعة، أما هي فلاحظت أنه لم يتناول الطعام لذا مدت يدها له بعلبة الفطائر المحشوة بالدجاج وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_ممكن تاكل معايا لو مش عارف تاكل إيه من هنا، اتفضل.
وزع نظراته بينها وبين العُلبة ثم أمسك فطيرة منهم وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسم لها بامتنانٍ:
_شكرًا يا حضرة المديرة، كمية تواضع رهيبة.
ضحكت له ثم فتحت زجاجة العصير وسكبت منها في الكوب له وهي تقول بذات النبرة الضاحكة من جديد على جملته:
_بجملة التواضع بقى يا حضرة المترجم.
ضحك لها هو الأخر ثم أخذ منها الكوب، كان يشعر أنه برغم توتره إلا أن العمل هنا معها وبجوارها بثه كمًا هائلًا من الطمأنينة مما يبدو أنه حقًا لن يضيع هنا، بل ستظل هي معه.
وقفت “شـهد” صدفةً تطالعهما سويًا وقد تعجبت من جلوس “رهـف” معه وهي تتناول الطعام ويبدو أنه يشاركها فيه وقبل أن تقترب منهما اعترضت “مادلين” طريقها وهي تقول بنبرةٍ جامدة كأنها تأمرها:
_”عـاصم” مستنيكي في المكتب عاوزك تخلصي الورق اللي طلب منك ترتبي تواريخه، أظن دا أفضل ليكِ من التطفل على حياة الناس والتدخل في شئون متخصكيش.
رفعت “شـهد” حاجبيها وهي تقول بتهكمٍ:
_وهي فين بقى شئون الآخرين دي اللي أنا تدخلت فيها؟ أنا واقفة هنا بتفرج، منعتوا الفُرجة كمان يا طنط “مادلين”؟.
أقتربت منها “مادلين” خطوة أخرى وهتفت بثقةٍ:
_بعيد عنك الفراغ قاتل ومميت، خصوصًا لو مع ناس شايفة شغلها كويس مقارنةً بواحد قاعد ملهوش شُغلة ولا مشغلة، فالأحسن يقوم يشوف شغله بدل ما يشوف شغل الناس، ولا إيه؟ ربنا يتوب علينا كلنا من الفراغ يا رب.
وقفت “مادلين” أمامها تنتظر القادم باستعدادٍ بلغ أشده فلم يكن على الأخرى غير الانسحاب من المكان كله تحت نظرات التشفي من “مـادلين” التي ابتسمت بخبثٍ ثم سحبت كوب القهوة ترتشف منها بتلذذٍ شديد بعدما انتصرت عليها كلاميًا وواقعيًا عن طريق تخريب كافة مخططاتها بشأن سير العمل.
__________________________________
<“قد يكون الفعل خاطئًا لكنه كان ممتعًا”>
كانت “عـهد” بغرفتها تضجع على الفراش بعدما تناولت الطعام من يد أمها وحاولت القيام برفع ذراعها المتألم لكن للأسف ألمها بقوةٍ جعلتها تنزله من جديد وتضعه بداخل الحامل القماشي، شردت في غيابهِ عنها طوال اليوم منذ الأمس حينما تركها وركض نحو رفيقه المصاب حتى أن هاتفها تدمر تمامًا وعجزت هي عن مهاتفته.
وصلها صوت صياحٍ من الخارج جعلها تضحك رغمًا عنها حينما وصلها صوت “ضُـحى” يتبعه صوت “قـمر” هي الأخرىٰ لتضحك بسعادةٍ في انتظار دخولهما تصاحبه الغوغاء وبالفعل دلفت لها الأولى تقول بمرحٍ:
_إيه يا ست !! مالك كدا صحتك مش جاية على الخطف ليه؟ ما تقومي كدا وفوكي عن نفسك معانا دا أنا جاية أفرحك حتى بخبر حلو بما أني قربت أسيب الشغل.
انتبهت لها بكل حواسها المتأهبة وقد دلفت “قـمر” هي الأخرى وبعد الاطمئنان عليها وعلى صحتها جلست بجوارها ومقابلًا لوضعهما جلست “ضُـحى” التي قالت بحماسٍ:
_”إسـماعيل” صاحب “يـوسف” طلب أيدي.
شهقة تلقائية خرجت من الاثنتين معًا فيما بدأت هي تسرد عليهما الموقف وكيف ذهب إليها يطلب يدها للزواج، أخبرت بكافة التفاصيل التي حدثت يومها حتى ركوبها سيارته مما جعل “قـمر” تندفع وهي تسألها بغيظٍ:
_يا وقعة أهلك السودا؟ ركبتي عربيته؟ يخربيتك.
رفعت “ضُـحى” طرف شفتها العُليا بتهكمٍ لتضيف “قـمر” بضجرٍ منها:
_هو أنتِ يا بت معندكيش مخ؟ واحد راح يطلب إيدك يومها كدا تركبي عربيته؟ طب يقول عليكِ إيه ؟ هتتخطفي يعني ولا الهانم صغيرة؟.
أشارت “ضُـحى” إلى الآخرى وهي تقول بصوتٍ ساخرٍ في إشارتها نحو “عـهد”:
_يا سلام؟ وهي الهانم كانت صغيرة؟ ماهي اتخطفت وبصي وشها وإيدها عاملين إزاي ؟ هو شهم وخاف أركب الأتوبيس حد يضايقني، بعدين لو مكانش عمل كدا كنت هقول عليه لطخ بصراحة ومعدوم الرجولة، بس طلع رجولة وشهامة وخد نقطة، عاش ربنا يحميه.
ضحكت “عـهد” بصوتٍ عالٍ رغمًا عنها من طريقة “ضُـحى” المرحة في الحديث عنه فيما ضربت “قـمر” كفيها ببعضهما وهي تقول بتلقائيةٍ في الحديث:
_يا صبر “أيـوب”.
ضحكت “عـهد” من جديد فيما قالت “ضُـحى” بسخريةٍ:
_اتفضلي، أهو كل ما حد يتكلم تجيب سيرة “أيـوب” بت أنتِ هتعملي فيها متربية عليا؟ نسيتي لما كنتي بتحبي “أيـوب” قبل ما الحوارات دي كلها؟ فاكرة كنتي بتفضلي تدعي ربنا وما تصدقي خالك يقول فيه فلوس هتتدفع تطيري فُريرة على حارة “العطار” علشان تشوفيه.
هنا تدخلت “عـهد” في الحديث تهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_أنا شايفة إنكم خدتوا عليا أوي، لدرجة ماضيكم كله بقى عندي هنا، ارتحتولي بزيادة شكلكم كدا.
هنا اغتاظت “قـمر” وامسكت الوسادة تضرب بها “ضُـحى” وهي تقول بغيظٍ مكتومٍ من بين أسنانها:
_أديكِ قولتي أهو كنت بدعي ربنا وباجي أسلم الأمانة وامشي، ماكنتش بركب العربية بتاعته وأجي فرحانة أوي كدا، شكلك زفت والطريق نفسه غلط.
هتفت “ضُـحى” بحماسٍ يصاحبه الفخر بما فعلت:
_بس بقولك إيه؟ دا أحسن غلط عملته في حياتي، الواد راسي وتقيل وكاريزما وفي نفس الوقت باين يعيني أنه لو حب، هيحب بجد، حاجة كدا فيها ميكس بين حاجات كتير، طب أقولكم على حاجة من غير هزار وبجد؟.
تحولت نبرتها كُليًا لتستحوذ على فكرهما مما جعلها تضيف بصدقٍ وهي تخبرهما بما تشعر به:
_لما قعدنا مع بعض أنا حسيت فجأة كدا بمسئولية ناحيته، حسيت إني عاوزة أقوله مالك، وفيك إيه، حسيت إني عاوزة اسمعه تاني أكتر من الأول، حاسة إن فيه حاجة تانية أكبر من مجرد خطوبة أو علاقة بينا، ومش عاوزة أسأل “يوسف” أنا عاوزة اسمعه هو، عاوزاه يخليني أساس مشاركته، عاوزة أحس أني كل حاجة عنده، نفسي أجرب الإحساس دا أوي…أنتوا جربتوه صح؟.
سألتهما بأملٍ وكأنها تقر عما تسأله وفي الحقيقة هي أقرت بالفعل، فـ “يـوسف” حتى الآن جعل زوجته تبصم بكافة أصابعها إنها محور الكون لديه، منذ ليلة اعترافه بمشاعره وهي ترى بصورة أخرىٰ، الأمان بأكملهِ أختصرته فيه هو، أما “قـمر” فابتسمت حينما تذكرت أمر حديثه بالمسجد وكيف مدح علاقته بها أمام الجميع وكأنه يقطع العهد على نفسه أمام مولاه أن تكون مصونة بداخل قلبه.
لاحظت “ضُـحى” حالة الهيام التي سيطرت على الاثنتين فرفعت كفيها تهتفت بحماسٍ شديد:
_عقبالي يا رب أنا كمان زيهم.
ضحكت لها الفتيات فيما قامت هي بإخراج هاتفها تلتقط صورًا للذكرى برفقة “عـهد” المُصابة ثم قامت بإرسال الصورة إلى “يـوسف” دون أن يطلب هو ذلك ثم كتبت أسفل الصورة بكل غرور:
_بطمنك عليها من غير ما تطلب أهو، علشان تعرف أني بنت بلد فلو تعلمني السواقة هكون شاكرة ليك جدًا.
لم يصلها الرد بل لم يفتح من الأساس وحينها قامت بالتقاط صورة لها وهي تضحك بسعادةٍ بعدما قامت بتحريك أناملها في قدمها ثم أرسلت له الصورة أيضًا وكتبت أسفلها:
_ضحكتهالك أهو، أديني مفاتيح عربيتك بقى.
ثواني قليلة مرت تبعها دخول “مَـي” وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_فيه ناس جاية تشوفك يا “عـهد” وتطمن عليكِ.
انتبهت لها “عـهد” واعتدلت في الفراش لتجد فتيات الحارة معًا أو بالأدق صديقاتها حيث أتت “آيـات” برفقة “مارينا” و “مهرائيل” معهما حتى يزورن “عـهد” التي فرحت بقدومهن ثم بدأ تعارف الفتيات على بعضهما من قبل “عـهد”، كانت من الأساس هناك معرفة طفيفة بينهن لكن اليوم حتمًا سيتم توطيدها أو ربما الآن حيث انقلب كل شيءٍ رأسًا على عقبٍ من جديد وسط الضحكات العالية والمرح وصوت الغناء الذي أخذ يعلو من جديد بالغرفة.
__________________________________
<“عاد الأمل ومعه الوعي من جديد”>
استفاق رويدًا رويدًا من أثر البنج الكُلي الذي خدره تمامًا حتى عملية استخراج الرصاصة من جسده، يبدو أنه استسلم لفترة نومٍ عميقة جعلت القلق يساورهم جميعًا لكنه أخيرًا استفاق من نومهِ أو غيبوبته القصيرة وما إن بدأ يفرق جفونه عن بعضها مع صدور همهمة خفيفة منه ركضت له “نـور” تسأله بلهفةٍ باكية:
_”سـراج” !! أنتَ فوقت خلاص؟ فتح عينيك كدا.
فتح عينيه واقتربت منه الممرضة تطمئن عليه من خلال المؤشرات الطبية خلال الشاشة الصغيرة المُعلقة فوق الفراش، فيما حاول هو أن يرفع جسده لكنه تألم وأطلق تأوهًا عنيفًا من الحركة حتى أبلغته الممرضة بنبرةٍ عملية:
_مش هينفع يا أستاذ الحركة لو سمحت، ثانية والتمريض هيدخلوا لحضرتك يساعدوك.
بعد مرور دقائق بدأ تم عدلهِ على الفراش ليجلس في وضع أكثر أريحية ثم تم رفع ذراعه وكتفهِ أيضًا بداخل حامل قماشي حتى لا تصيب حركته أي جزء من المصاب في الخلف ويتسبب في ألمهِ، كان صامتًا يبعد عينيه عنها حتى لا يتفاجأ بعدم تواجدها، دلف الشباب معًا وعلى رأسهم “نَـعيم” يطمئنون عليه بلهفةٍ واضحة فحرك عينيه نحوها أخيرًا ليجدها تطالعه بعينين باكيتين فسألهم بسخريةٍ:
_هما حاطين حشيش في البنج ولا هي موجودة بجد؟.
كان يشير عليها بسؤالهِ مما جعلهم يضحكون عليه وقد تقدم منه “نَـعيم” يهتف بسخريةٍ بعدما جلس بقربهِ:
_يا أخي أتلم بقى نشفت ريقنا من إمبارح، حشيش إيه وهباب إيه فوق دماغك، قولي عامل إيه ؟ كويس؟.
طالعه “سراج” بصدقٍ وهو يهتف بوجعٍ من هذه اللحظة التي مجرد التكفير فيها ألمه:
_كويس الحمد لله، كنت هبقى مش كويس لو صحيت من حالتي دي وملقيتش حد منكم معايا، وبالذات أنتَ، كنت هتأكد إنك لسه شايل مني وإني لسه من غير ضهر.
أقترب منه “إيـهاب” يلثم جبينه ثم هتف يمازحه بقوله:
_شوف ياض مش أنتَ سماوي وابن ستين *** بس قلبك فيه حتة نضيفة، حتة بجد مش حتة بـ ٢٠٠ ها.
ضحكوا على مزاح “إيـهاب” بينما “إسـماعيل” و “يـوسف” وقفا بجوار بعضهما حتى هتف هو بتهكمٍ:
_طبعًا كان نفسكم تيجي في القلب علشان تخلصوا مني بس دا بعينكم، قاعد على قلبك أنتَ وهو وخصوصًا أنتَ يا “يـوسف”.
هُنا رد عليه “يـوسف” بوقاحةٍ يقصدها حين هتف:
_والله أنا كان نفسي تيجي في مكان تاني خالص، علشان تريح حبة كدا، بس وماله شد حيلك ووعد هديهالك أنا الطلقة دي علشان أخلص من أمك.
هتف “سراج” بضيقٍ ردًا عليه:
_أنتَ قاعد هنا ليه ما تهبط في أي حتة.
جلس “يوسف” على الأريكة الجلدية يهتف بتبجحٍ ردًا عليه:
_مكانتش مستشفى اللي خلفوك علشان تتكلم بعين قارحة كدا، ثانيًا أنا كنت مستني أخلص ورق خارجتك بس محصلش نصيب، أديني مستني بقى، ورَيح شوية كفاية خرمانين من الصبح بسبب أهلك.
أقترب “إسـماعيل” منه يسأله بنظراتٍ ثاقبة:
_مين اللي عمل كدا يا “سـراج”؟ وعمل كدا ليه؟
زفر “سـراج” مطولًا ثم تابع بقولهِ:
_”ماكسيم” مفيش غيره ولو هتسأل ليه هقولك إني بلغت عن البيت اللي اشتراه وبدأ حفر فيه والرجالة اتقبض عليهم والبيت كان هيقع فوق دماغ الكل، أكيد عرف إن أنا اللي بلغت فحب يديني قرصة ودن، المهم دلوقتي “جـودي” فين؟.
سأل بلهفةٍ جعلت “نَـعيم” يطمئنه بقولهِ:
_متقلقش، “جـودي” في الحفظ والصون في بيتنا.
هتف حينها بإصرارٍ:
_طب أنا عاوزها، حد يجيبهالي.
رد عليه “إيـهاب” بنبرةٍ جامدة ينهره:
_تيجي فين أنتَ مجنون؟ محدش قايلها حاجة.
حينها زفر بقوةٍ ورفع صوته يقول بنبرةٍ جامدة:
_هتجيبوها ولا أمشي أنا من هنا؟ مش هقعد من غير ما أشوفها، من غير يمين لو “جـودي” مجاتش أنا همشي.
لاحظ “يـوسف” انفعاله فزفر مُطولًا ثم وقف وهو يقول بنبرةٍ جامدة:
_حاضر يا “سـراج” هروح أجيبهالك وأجي، كلم مراتك يا “إيـهاب” تجهزها لحد ما أروح أجيبها.
سأله “نَـعيم” بنبرةٍ جامدة يوقفه عن فعلهِ:
_هتسمع كلامه؟ دا مجنون ابن مجانين.
حرك “يـوسف” عينيه نحو “سـراج” وهتف بثباتٍ:
_علشان أنا أكتر واحد حاسس بيه، وعارف أنه محتاج يتطمن عليها، ولا عاوزينه يتحرك بالعافية ويحصله حاجة؟ إحنا ملصمين فيه بالعافية.
قال حديثه وقبل أن يتحرك لاحظ محاولة “نـور” في التحدث معه لكنها خجلت بسبب تواجد الشباب وزع نظراته بينها وبين “سـراج” الذي كان ينظر بجانب عينيه نحوها فقال مشيرًا للبقية يفرغ عليهما المكان:
_طب يا جماعة ياريت نفضي الأوضة عليه، ونسيب “نـور” علشان تطمن هي كمان، يلا.
في هذه اللحظة تحديدًا كان “سراج” ممتنًا له أو أكثر من ذلك بكثيرٍ رآى بعينيه الغرفة تخلو من الجميع عداها هي اقتربت تجلس على الفراش مقابلةً له بعينين باكيتين فسألها هو بنبرةٍ مبحوحة:
_ممشيتيش ليه يا “نـور” شغلك محتاجك هناك.
مسحت دموعها وهتفت بثباتٍ تخبره بكل صدقٍ وكأنها تحاول إثبات الحقيقة لنفسها قبله، في الأمس فقط رأت فقدانه بعينيها من أصعب ما يمكن أن تعايشه لذا هتفت:
_في داهية كل حاجة المهم أنتَ عندي، الشغل مش أهم من حياتك ووجودك يا “سـراج”.
رفرف بأهدابه كثيرًا فور سماعه لحديثها فيما طالعته هي بأسفٍ وكأنها تعتذر له لتتصل نظراتهما سويًا لأول مرة منذ قدومها إلى أرض الوطن من جديد تتلاقى نظراتهما سويًا، صدق من قال أن الأعين بالكلام سوابق حيث قالت عيناها كل ما يُقال وردت عليها عيناه بكل الحديث وفقط الألسنة صامتة.
في الخارج أخبرهم “يـوسف” برحيله إلى بيت “نَـعيم” حتى يأتي بالصغيرة إلى خالها يطمئن عليها، أما هم فوقفوا في الرواق الرخامي أمام الباب لحين عودة الطبيب لهم يخبرهم بحالته تفصيلًا وإجمالًا، وقد تحرك “يـوسف” لخارج المشفى وقد وجد “مُـنذر” بجوار سيارته وهو يتحدث في الهاتف بنبرةٍ أعربت عن ضجرهِ بقوله:
_ولما هو عارف إن أنا ابن أخو “نَـعيم” ومتأكد إني عرفت أكيد جايبني هنا لمهمة تانية وسايبني أكملها علشان يوصل هو للي عاوزه، وأكيد هيكلمني ويقولي هي إيه.
اندهش “يـوسف” من الحديث واندفع يسأله بغير تصديق جمده بمحلهِ أو ربما تيبس جسده كما تتيبس الأشجار بالأرض:
_هو مين دا اللي ابن أخو “نَـعيم” ؟؟! وأنتَ مين أصلًا.؟؟
وضع في خانة اليك حقًا والآن قد دنى من الهلاك أو فضح أمره، لقد أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت، والموت في حالته عن طريق فضح أمره وكشف هويته قبل أن يصل لما يريد، والآن فقط يبدو أن هويته ضاعت في سرابٍ
______________________
لا تنسوا الدعاء لإخواننا في فلسطين وسوريا والسودان وتذكروا أن الدعاء هو السلاح الوحيد والكلمة جهاد.
_______________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)