روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادي والأربعون 41 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الحادي والأربعون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الحادي والأربعون

غوى بعصيانه قلبي 2
غوى بعصيانه قلبي 2

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الحادية والأربعون

الفصل الواحد والأربعـون
(11) ج 2
-خُلق القلب عصيـًا ..
” قال أحدهم ذات مرة :
-عليك أن تتخيـل صعوبة انتهاء أثر المُخدر عن عمله بالجُزء الأهم والأخطر بالعمليـة !
لقد كان رحيـلك بمُر هذه المعاناة تمامـًا ”
••••••
في لحظة وآخرى تبدل كل شيء ، اندس حزن الأعوام بملامحها ليحولها لعجوز تتجاوز السبعين من عمرها ، شعور من الوحدة خيم على قلبها مؤلم حد القتل ، كطفلة اختبأت بخزانة ملابسـها إثر ضجيج الحرب بالخارج ، لا ترى نفسها إلا ضحيـة لقصة مؤلمة ، بدأت بالفقد وانتهت بالحزن ..
أبلغ عاصي سائقه بالعنوان الذي أخبرته به طبيبتها لتذهب لطبيب أخر قريبًا منها ، مسكت الهاتف من يده ورفعت جفونها الذابلة إليـه وتوسلت إليـه :
-مش عايزة أروح لدكتور .. مش عايزة أخد مهدئات تانية ..
عارضها بإصرار:
-ماينفعش !! جسمك كله بيترعش لازم دكتور يشوفك ..
ترجته بزُرقة عينيها القاتلة وقالت ببكاء :
-هتعب أكتر ، أنا عايزة ارجع الأوضـة وأنام ..
-رسيل .. نطمن عليكي وبعدين هنفذ لك أي طلب ..
تشبثت بيده أكثـر وقالت بوهن :
-أنا هرتاح كده ..
استسلم لرغبتها ولبى رجاء عينيها فأمنت له وعادت لتستريح على جدار صدره الذي احتوى كسرتها ، تحول حزنها لبقعة مياه صغيرة على قميصـه وهي تسرد همومهـا :
-كُنت طفلة عشر سنين يوم ما بابا قرر يشتري المركب دي .. وكتب عليـها اسمي ، رسيل .. معنى المياه العذبـة ، قال لي لازم نغري السمك ونقنعه أن في أحلى من الميـه الملاحة ، أنا لسـه فاكرة تفاصيل اليوم ده وهو بيأكد على العُمال يكتبوا الاسم في كل مكان على المركب ، لسه فاكرة أول رحلة صيد عليها ، والرزق اللي ربنا بعتهولنا ، وقتها بابا شالني وفضل يقول لي ” عروسة البحر ”
صمتت لتبتلع مرارة ذكرياتها وتمنح عينيها تنزف على مهلٍ ثم أكملت :
-بعدها بابا بقى من أكبر المعلمين في الغردقـة ، اشترى بدل المركبة أسطول مراكب ، مسك السوق من أوله لأخره ، ولحد أخر لحظة كان بيطلع على المراكب ويصطاد بنفسـه .. لحد اليوم ده …
ابتعدت عن حضنه متذكرة :
-كنت معترضـة ننزل المية ، وهو صمم ومحدش يقدر يعارضه ، وكانت أول مرة البحر يغدر بينـا ..
قفلت جفونها بتوجس وحاولت تتذكر تفاصيل هذا اليوم ، صرخة الاستغاثة ووقوعها بالبحر ، وتقاذف الموج لها حتى غابت عن الوعي تمامًا .. انخرطت دموعهـا بغزارة وقالت :
-أنا كنت راضيـة بحياتي كده .. أيه حصل قلبها للدرجة دي !! فجاة بقيت واحدة تانيـة مع ناس تانيـة وبحارب عشان بس أوصل لحقي مش أكتر ..
وضع كفه على وجنتها برفق وقال راجيًا:
-ينفع تثقي فيا المرة دي وبس .. !!
ردت بحرقـة :
-سبق ووثقت بالبحر ، خد مني أغلى ما ليا وخد حياتي .. أنا خلاص مبقاش عندي حاجة اخسرها علشان أثق او مثقش في حد !
مسح على شعرها لتستشعر حنوه وقال :
-كل التفاصيل المؤذيـة اللي مرت عليكِ كانت بوابات فتح جديدة لعاصي دويدار ، تعرفي الحكمة اللي بتقول “مصائب قوم عند قوم فوائده ” .. أحنا لسه موصلناش لنهاية الحدوتة علشان نحكم عليها !! البدايات المؤلمة نهايتها هترضينا ..
أطالت النظر بعينيه ثم قالت :
-يعني لو وثقت فيك مش هتخليني أندم !
أصدر صوتًا نافيًا :
-تؤ
ثم ضمها إلى صدره وأخذ يُداعب شعرها و أكمل :
-وقتها اختار المـٰوت ولا اوصلك لشعور زي ده ..
ثم هتف آمرًا للسائق :
-اطلع على الفندق ….
••••••••
‏لماذا لا نخسر الأشياء مرة واحدة ونبكي بكاءً واحداً ؟
لِمَ يقف لنا كل ما فقدناه بالزاوية ليُذكرنا بما فُقد ؟!
لِماذا لا تلمع الأشياء إلا عندما نفقدها ؟!
لماذا يحترق قلبي كُل يوم بألمٍ جديدٍ ؟! لما لا يتبخر الوجع منه ويتحول لرماد ولا نتذوق مرارة الألم مرة آخرى ؟!
دخلت ” عالية ” غرفتها ورمت حقيبتها بالأرض وتوسدت منتصف فراشها وأخذت تبكي بصوت مرتفع ، أزميل الوجع لم يتوقف عن النهش بقلبها ، والحرق بروحها ..
تركت نوران ما يشغلها وركضت إليها بلهفـة :
-عالية !! مالك .. حصل أيه ؟ مش عاصي ده قال لك هيخلصك من الموضوع اللي فتحته الست أمك..
لم تجد جوابًا منها بل تضاعف بُكاءها أكثر ، جلست نوران على طرف الفراش وربتت على كتفها :
-طيب طمنيني بس ! العياط مش هيحل حاجة والله .. لو في مشكلة نحلها سوا ..
اعتدلت عاليـة بتكاسل شديد وهي تجفف دموعها الغزيـرة وتخبرها بكلمات متقطعـة :
-روحت لمراد الشركة ..
ذهلت نوران بعتبٍ :
-يانهارك مش فايت !! أيه وداكي عنده أصلًا ..
ردت بندم يأكل بقلبها :
-عشان غبيـة ، غبية ومعرفش عملت كده أزاي !
-طيب أهدي واحكي لي .. هو زعلك ..
هزت رأسها بالنفي وقالت :
-لا خالص ، أنا روحت عشان أقوله مش مضطر تصفي شغلك وتخسر كل ده اللي حصل حصل …
زفرت نوران بضيق:
-وانتِ مالك !! كده هيفهم أنك مهتمة ومتابعـة أخباره !!أف غلطانة يا عالية !! كُنتِ قولتي لي ..
أجهشت بالبكاء وصرحت :
-وحشني يا نوران ، فجأة لقيت رجليا وخداني علي هناك ، لما شفته كُنت هعيط وأغير كل كلامي .. أنا نفسي نرجع ويكون لنا بداية جديدة مع بعض ..
صمت للحظة ثم أطرقت بحزن :
-بس شكله أخد قراره خلاص ..
-ازاي !! فهميني ..
-كان في مهندسـة كده نظراتها مش مريحة ولازقة له ، وكل شوية تتحجج بحاجة وتيجي تقطع كلامنـا وتسأله ، واضح أن في حاجة مابينهم …
فكرت نوران طويلًا متذكرة تحذير كريم لها من قبل ، طردت تلك الفكرة من رأسها وقالت :
-أكيد مش بالسرعة دي …… طيب قوليلي أول ما شافك عمل أيه .
هزت كتفيها بلامبالاة :
-ولا حاجة رحب بيا ، وقالها دي تبقى بنت خالتي ، الكلمة وجعتني أوي يا نوران ..
وضعت نوران وجنتها فوق كفها مزمجرة :
-آكيد مش هيقولها طليقتي يعني !!
-والحل ؟!
-ما أنتِ عكيتي واللي كان كان .. حل أيه بقا ..
رمقتها عالية بتوجس :
-أنا مش عايزاه يفهم أني بتلكك عشان أشوفه، أوف أنا عقلي كان فين وأنا بعمل كده !! نوران ؛ انا ممكن اكلمه أوضح له سبب زيارتي واعتذر لو كنت عطلته وكده …!! عشان ما يفتكرش أنه ….
قاطعتها نوران بحيرة :
-بس يا عاليـة .. بس متفكريش تاني ممكن ، واللي حصل حصل ..
فكر الثنائي لدقائق حتى قطعهم صوت رنين الهاتف ، أخرجت عالية هاتفها من الحقيبة بملل حتى زام فمها بذهول :
-ده هو !
وقفت نوران كالملدوغـة ونصحتها :
-أوعي تردي .. استني بس نفكر نقول أيه وبعدين كلميـه وقوليلو كنت في المحاضرة وأي حجة ..
عارضتها عالية :
-يعني اسيبه يرن كده !! لالا قلة ذوق !
-اسمعي كلامي بس ، وبعدين ماينفعش تردي وأنتِ ضايعـة كده ..
ألقت نظرة أخيرة على اسمه الذي يُنيـر شاشتها وقالت :
-بس !!
شدت نوران منها الهاتف عنوة :
-هاتي الموبايل واسمعي مني لو لمرة بس … ومراد ده هنربيه من أول وجديد ..
تأفف عاليـة وقلبها بأكمله عاصيًا لخطة نوران الذي صنفتها بالعبث ، توقف رنين الهاتف فتركت الأخيرة المحمول وجلس مقابلها لتبدأ في النصح وفي أقل من دقيقة عاود مراد الاتصال بها مرة آخرى ، التقطت عالية الهاتف بسرعة وقالت :
-ارد بس والمرة الجاية هسمع كلامك بالحرف ..
جذبت الهاتف وركضت نحو النافذة وتحمحم بخفوت و ردت :
-ألو … !!
أتاه صوته الثابت الذي توارت خلفه مشاعر قلبـه ، فقال معتذرًا :
-سوري يا عاليـة ، أنتِ في الجامعـة !
أحست بالاضطراب وقالت :
-ااه ، قصدي لا ، يعني كنت ولسه راجعة .. في حاجة ؟
تحجج قائلًا :
-بتصل بس بأمي عشان اطمن على هدير ، هي جمبك ؟
تحيـرت قائلة :
-مش عارفة لسـه تحت ولا مشيت ، تحب انزل أشوفها ؟
تحمحم بجدية :
-لالا خلاص ، أنا هحاول أكلمها مرة تانيـة .. أنتِ كويسـة ؟
ضاقت عينيها بشك :
-ااه كويسة ..
-تمام يا عاليـة وسوري لو ازعجتك ، هقفل عشان عندي شغل ..
مجرد ما أنهى المكالمة رمى هاتفه على سطح المكتب معاتبـا نفسه :
-أيه لعب العيال ده!! أعقل يا مراد ، البنت تقول عليـك أيه دلوقتِ!!
أما عنها ظلت شاردة تائهة تتأمل الهاتف ، اقتربت منها نوران التي تشع غضبًا :
-عايز أي ابن الست جيهان ؟
تنهدت عالية بسذاجة :
-ولا حاجة ، مش عارف يوصل لمامته ، فكلمني.. يعني قصده خير ..
حدجتها نوران بغيظ :
-والله ! وأنتِ صدقتي ؟! عالية مصيبة لو صدقتي العبط اللي هو قالـه ده ؟!
-يعني ايه ؟!
-يعني البيه بيصطاد في المية العكرة … أقولك تعالى تعالى أحنا كمان هنشتغله في الأزرق ، بس تسمعي كلامي …!!
••••••••
••••••••
” مسـاءً ”
عادت شمس بعد يوم طويل من العمل ، فتحت الباب بعد ما اطرقت بخفوت واطمئنت على حالة أختها ، دخلت الغُرفـة فوجدته جالسًا أمام أحد لوحات الرسم الهندسي، اقتربت منه مُلقيـة التحيـة :
-مسـاء الخير !!
ترك القلم من يده وبرقت عينيه بمجيئها :
-مساء النور .. حمد لله على السلامة .
ابتسمت بحرج :
-أنا أسفـة عارفة إني اتأخرت ، بس غصب عني .
-أهم من الشغل ، مودك كان عامل أزاي وأنتِ بتشتغلي ؟
عقدت حاجبيها بتردد :
-أممم يعني ، بصـراحة بعيدًا عن طحنة الشغل كُنت قلقانـة عليك ، وخايفة سيدة تسرح وتنسى الدواء ..
ثم اقتربت من التسريحة وهمت بنزع حجابها بعفويـة ، ثم حررت شعرها ليتنفس .. ذاب في حركتها التلقائيـة وقال هائمًا :
-أحكي لي .. عملتِ أيه النهاردة ..
اتجهت نحو الخزانـة وعلقت ملابسـها على ساعدها وقالت :
-اليوم كان طويل ومهلك بجد ، يا دوب أخد شاور ، وأنام ..
حرك مقعده الكهربي ودنى منها أكثر وباغتها بمسك كفها ، فزعت شمس المغمسة في اختيار ملابسـها بشهقة عالية جعلته يتعجب قائلًا :
-أي مالك .. !!
بررت موقفها :
-اتخضيت بس ..
رفع جفونه إلى الضلفة التي تضب ملابسها وأشار على بيجامة قطنيـة باللون الوردي وقال :
-ملبستيش دي ..
ابتسمت باستغراب :
-عادي ، هتفرق ..
رفع حاجبه مستنكرًا :
-يعني لبستي كل الحاجات اللي اختارتهم نوران ، والحاجات اللي اخترتها أنا لا !! ده اسمه أيه ؟
أحمر وجهها بخجل :
-معرفش والله ، عادي اللي كان بيجي قُدامي كنت بلبسه ..
مدت كفها المرتعش لتُخرج ما أشار إليـه حتى سقطت قطعة على ساقيه ، فأعتذرت بتوتر :
-سوري !! أنا مش عارفـة مالي ؟!
انحنت لتأخذ ما سقط عليه فأمسكه مستلذًا بقربها الفاتن وتأمل ملامحها عن قُرب ، تنهدت متأزمـة من نظراته المُربكة وقالت :
-تميـم !!
همس بشوق يمزق قلبـه أربابًا وقال :
-وحشتيني على فكرة ، المكان كله كان ممل من غيرك ، كنت بعد الساعات عشان ترجعي !!
جف حلقها متسائلة :
-هاااه !!
أكمل بنفس النبرة الحارة :
-حتى اسألي سعيد ، كنت اكلمه كل خمس دقايق اطمن عليكي ؟!
تسارعت ضربات قلبها وهي تجيبه باعتراض :
-ليه ده كله ، أنا بس كنت في الشغل مش مهاجرة ..!!
ثم أغمضت جفونها لتهدأ قليلًا وتستجمع نفسها :
-تميـم أنت بتقول كده ليـه ؟!
اتسعت ابتسامته التي سترت مشاعره وقال :
-لاني هموت من الجوع ولحد دلوقتِ مأكلتش ومستنيكي ..!!
••••••••
-علي فكرة أنتِ موتراني ومش عارفـة اذاكر ..
أردفت نوران جملتها بعد ما القت القلم من يدها إثر تجول عاليـة بالغرفـة يمينًا ويسـارًا بصخب وهي تلومها :
-لالا أنا قلقانة ومش مطمنـة ، أنا اصلا غلطت أني سمعت كلامك ..!
تركت نوران مجلسها الكائن بمنتصف السرير ووثبت قائمة :
-وأحنا عملنا أيه لكُل ده !! شوية ميك أب على صورة حلوة ونزلتيها استوري عادي !!
ترددت عاليـة :
-كده هيفهم أني مبسوطة وعايشة حياتي ..
هزت نوران كتفيها بلامبالاة :
-هو ده المطلوب فعلًا !! أصل الرجالة دول مش عايزين غير كده !! اكرفي لهم يلزقوا ..
ثم زفرت متنهدة :
-افتحي كده شوفي شافها ولا لسـه !
تحركت عاليـة بتوجس نحو هاتفها المتروك فوق المكتب ، أخذت نفسـًا طويلًا قبل أن تفتح الصورة التي رفعتها على تطبيق ” واتساب ” ، فتحت قائمة الروئ فشهقت ملهوفة :
-فتحها .. شاافها شافها يا نوران .. أيه ده !! حاسة قلبي هيقف .. بصي !
ركضت نوران إليها :
-وريني !!
ألقت نظرة طويلة ثم تساءلت :
-أيه الرخامة دي !! طيب حط لايك حتى !! الولد ده شكله رخم وهيغلبني !!
سألتها عاليـة بحيرة :
-يعني أيه ؟!
تمتمت نوران :
-شاف الصورة مفيش أي ريأكشن يعني !!
قالت عاليـة مقترحة :
-ابعت له أيه رأيك في الصورة ؟!
اتسعت عيني نوران بذهول :
-أبوس أيدك بلاش تفكري ..
-ليه بس ؟!
خرجت نوران عن شعورها :
-كمان مش عارفة ليه ؟! ماهو كده يا فالحة هيفتكر أنك منزلاها عشانه .. اف !! خلاص خلاص الصبح نفكرله في حاجة جديدة …
أما عنه ظل في مكتبـه أمام صورتها لوقتٍ طويلٍ بعد ما سرقها على هاتفـه ، يتأمل ملامحها البريئة المتزينـة بلمسات تجميليـة هادئة ، ابتسامتها الطفولية وروحها الجميلة التي تشع من الصورة .. أخذ يحاورها من وراء الشـاشة متسائلًا :
-أخ يا عاليـة !! بنيتي بينـا سور ملهوش أخر !!
ثم قفل الشاشة وقلب الهاتف على مكتبه غائصًا في الموقف الاخير الذي حسم فيـه قراره ببعده عنها ، فسب نفسه معترضًا :
-مش كنت تصبر شوية !! أهي البنت عايشة حياتها ولا فارق لها وجودك أصلًا ..
ثم عاد مرة أخرى وطالع صورتها بنظرات الشوق :
-ما هو لازم يكون في حل !!
••••••••
-الفاتحـة بقا على روح المرحوم …
تلك الجملة الأخيرة التي أردفها فريد بفظاظة وهو يزف إليها الخبر المنتظر ، وثبت عبلة بفرحة :
-بجد !! حسين مات ؟!
قهقهه فريد بفخر :
-وشبع موت ، عملية ما تخرش الميـة ، بس بردو ما عرفتش تارك أيه مع الجدع ده ؟؟
تراقص قلب عبلة من شدة الفرح وهي تهتف :
-يااه يا فريد كابوس وانزاح !! أنت ما تتصورش أنت قدمت لي جميل مهم أزاي ..
-أنا دايمـًا في الخدمة ياهانم ، قولي يا فريد بس هتلاقيني شُبيك لُبيك ..
ضحكت عبلة بميوعة وقالت :
-وأنت كمان ليك عندي خبـر حلو ..
-يا ريت .. العملية ناشفـة أوي !
-عاصي لسه قافل معايـا ووافق يشتري منك كل الكميـة ..
قفز فريد من مكانه بفرحة :
-ومش عايزة تقولي من الصبح !! هقابل عاصي بيه أمتى بقا ؟!
فكرت عبلة لبرهة بتردد ثم قالت :
-عاصي بره مصر حاليـًا ، أول ما يرجع هظبط لكم ميعاد ، المهم في حاجة كمـان ..
لم تمهله المدة ليُفكر في حقيقة إخفاءها عليه وجود عاصي بالغردقـة ولكن ذلك لم يبتر أقدام الشك برأسه ، أكملت عبلة :
-في واحدة كده عايزة أربيها وعايزين نقعد سوا عشان نفكر أزاي هنخلص منها ..
لا زال فريد غارقـًا بحيرته وقال بعدم اهتمام :
-هي مين ؟!
ردت على الفور :
-شمس ، البنت دي اتجاوزت حدودها معايا ولازم تتربى ….
•••••••
” بالغـردقـة ”
مدد على الأريكـة بجوار الفراش الذي تركض عليـه وظلت رأسه تخلق الكثير والكثير من الأسئلة ، أولهمـا ما هو السبب القوي الذي ربطها بقلبـه ولا يود الانفلات عنها ؟!
ظلت نفسه تقنعـه بالانسحاب من منتصف الطريق ، أن يترك يدها ويولي ظهره مُلتفتًا لحياته السابقة ، الحياة التي اختارها منذ سنوات؟! وكان جاءه صوتها الصارخ بحوار ليحطم شُتات نفسه المتكدسة ..
فزعت رسيل من نومتها ترتجف ، تصرخ ، كل إنشٍ بها يستغيث ، اندفع إليها بلهفـة وفتح الأباجورة جالسًا على طرف الفراش وربت على كتفها :
-أنتِ بخير ؟! أهدي ..
انهمرت العبرات من عينيها وهي تبوح له عما رأته :
-رشيد ويونس بيدوروا عليا ، أخواتي عايشين يا عاصي ..
ثم ولت ظهرها متأهبة للذهاب :
-أنا لازم اروح لهم ، مش هينفع أقعد متكتفـة هنا !
منعها بإصرار :
-رسيـل استنى هتروحي فين دلوقتي ؟!
ترجته ببكاء :
-مش هينفع ، أخواتي في خطر .. المعلم قنديل هيزعل مني أنا لازم أروح لهم .. سيبني وحياة بناتك .. أنا هتجنن ..
وقف أمامها كالحصن المنيـع وأخذ يمسح على رأسها كي تهدأ :
-هعمل لك كل اللي أنت عايزاه ، بس أهدي واصبري ، أهم حاجة تبقي كويسـة وتستردي صحتك والباقي عليـا ..
وضعت كفها المرتعش فوق قلبه وترجته :
-أنت مش فاهم أي حاجة ، لازم أرجع ، الدنيـا هتبوظ من غيري ..
-طيب ممكن نتكلم بالعقل ، عايزة تعملي أيه دلوقتِ وهنعمله ..
فكرت طويلًا حتى استجمعت افكارها :
-هرجع بيتنا وحياتي .. المرسى والمراكب ، العُمال اللي بيتها اتخرب دي ، أخواتي لازم القاهم هما محتاجين لي ..
ثم انهارت بين يديه بضعفٍ :
-انا مش عارفة بجد !! أنا المفروض ابتدي منين ؟ حاسه الحيـاة كُلها اتقفلت في وشي ..
ختم جملتها بعناق قوي منه كأنه أراد ليخبرها رغم قسوة العالم فلا يوجد أحن من قلبي عليكِ ، استكانت بين يده كطفلة صغيرة هرمت من عناء البحث عن أمها دون جدوى ، طفقت يديه تتحرك من أعلى لأسفل على شعرها حتى أحس بهدوء ضجيج قلبها في حضنه ، دقائق كثيرة مرت عليهم أعاد فيها ترتيب نفسه وحسم فوضته ، وتخلصت فيهم رسيل من أنياب الوحدة التي تنهش بروحهـا ..
رفعت رأسهـا قليلًا ونظرت فيه عينيه متسائلة :
-ليــه ؟!
رفع حاجبـه مستفهمًا ، فأطرقت بخفوت بعد ما طوت مغزى سؤالها الحقيقي وهو سبب هدوئها بين يديه :
-بلاش تورط نفسك معايا ، ارجع لحياتك وسيبني أرجع للحيتان اللي في حياتي .. !!
ابتسم بعرفان :
-ما أنا اتورطت خلاص ..
-لا لسـه ، عشان كده بقول لك بلاش ..
ثم غادرت حضنه وارتشفت القليل من الماء الموضوع بجوارهم وأكملت بحسـرة :
-أنت محتاج حياة هاديـة تتصالح فيها مع نفسك ، أما أنا حياتي مفيهاش هدوء ، اللي بتدور عليـه مش موجود عندي ..
-بالعكس .. أنا لقيت فيكي اللي ملقتهوش في واحدة تانيـة ؟!
تحركت لتجلس على الأريكة وأكملت بحزن :
-صدقني أنت غلطان ، أنا واحدة قفلت قلبها من بعد اللي حصل ، أنا مش عايزة أظلمك معايا .. عاصي ، أنت رجل أعمال ناجح وكل حاجة بتقدمها بتنتظر مُقابلها ، أنا معنديش حاجة أديهالك صدقني ..
جلس بجوارها تعمد أن يُغازل خصلات شعرها السوداء :
-في دي عندك حق ، ولأول مرة أحس أني طماع وعايز اللي بقدمه ليكي يرجع لي أضعاف مضاعفـة منك ..
-شفت !! مش أنا دي ، أنا لا هينفع أبقى أم لولادك وأسس حياة وأسرة ، عاصي أنا واحدة مدمرة بتحاول بس تقف علي رجليها ، كفاية لحد كده وكل واحد فينـا من طريق ..
عندما تعطيك الحياة سبباً لتيأس، اعطها ألف سبب للاستمرار، لا شيء أقوى من إرادة الإنسان على هذه الأرض .. استقبل كلامها متكئًا على جدار الصبر وقال :
-لما أوصل لك لبـر الأمان ، هنفذلك كل طلباتك ، لكن دلوقتِ ما ينفعش أرميكي فـ الميـة وأنتِ مش بتعرفي تعومي !!
-بس !!
وضع أصابعه على شفتيها مُقاطعًا لمبرراتها وقال :
-أنا مش هسيبك فاهمـة !
قد تلجأ أحيانًا إلى وضع نُقطة مؤقتة في علاقةٍ ما، إلى حين أن يعي الطرف الآخر بقيمة كل الفواصل التي وضعتها سابقًا ..
لم تنكر سعادتها لانه لم يتركها تسير الطريق بمفردها ، أنه أعلن بكامل رغبته عن مساندتها ، أنه حطم الباب الأشرس للوحدة في حياتها !!
قطع حبال النظرات الممتدة بينهم متسائلًا :
-تحبي تشربي أيه ؟
-مش عايزة ؟!
حاول مُلاطفـة الأجواء المشحونة معها وقال ممازحًا :
-ولا عايزة حاجات غريبـة من الصيدليـة !
ابتسمت بخفوت وهي تتحاشى النظر إليه بخجل :
-لا شُكرًا ..
اصدر إيماءة خبيثـة وسألها :
-أنتِ جبتي أيه صحيح ؟!
نفذ صبرها من سخافته وقالت هاربـة :
-أنا هنام تصبح على خير….
ما كادت أن تفارقه فأمسك برسغها ووقف أمامها :
-بكرة هنرجع القاهرة ، وفي الوقت المناسب هنيجي تاني هنا ، الوقت اللي أحس فيه أن رسيل استقوت وتقدر تقف قُدام الدنيا كلها ، ااه ومتقلقيش أخواتك مش هبطل أدور عليهم ..
ثم وضع كفه على وجنتها بحنو وأكمل بنبرة دافئة :
-ما دام وثقتي فيـا متشليش هم حاجة ، أنا عارف بعمـل أيه كويس أوي .. المهم عندي صحتك وبس ..
لأول مرة تستشعر أحاسيس الأمان والدلال ، بعد ما كانت تنعم بمعاملة ولد ثالث لأبيها ، والضلع الأهم بالنسبة له .. تذوقت للمرة الأولى معنى أن تستريح ، أن تحس أنها إمراة لا يمكنها إلا الاعتناء بقلبهـا فقط كل ليلة !! طالعته بعُرفان :
-بجد مش عارفـة أقولك أيه أنت جيت لي من السما ؟!
ذاب بسحر عيونها الشاكرة التي تجذبه من ياقته إليها ، اكتفى بتربيته على كتفها وقال :
-ارتاحي.. هعمل كام مكالمة شُغل وأرجع لك ..
•••••••
صباح اليـوم التالي ؛ طرقت سيدة باب الغُرفـة الخاصـة بعبلة وقالت بها باستيحاء :
-أنا اسفة يا هانم ، بس كُنت طمعانة في شهر أجازة من الشغل ..
تركت عبلة قلم ” الروج ” من يدها وقالت بضيق :
-نعم ؟! مفيش الكلام ده يا سيدة !! أنت الوحيدة اللي عارفة تفاصيل المكان هنا ؟!
توسلت لها سيدة :
-معلش يا ست عبلة ، بنت أختي ولدت ومش معاها حد ولازم أقف معاها ..
أصرت عبلة على موقفها :
-ماليش فيه تتصرف تشوف أي حد تاني يخدمها غيرك ، أنت مش فاكرة اللي حصل لما سبتي البيت السنة اللي فاتت !!
ابتلعت عبلة بقية الكلام وقالت باستغراب :
-هي مش دي بنت اختك اللي ولدت بردو من كام شهر !! هي لحقت تولد تاني؟
بررت سيدة :
-اه هي ، بس هنعمل ايه ؟! دي والده على السابع وحالتها خطرة لازم اقعد جمبها واخد بالي منها ..
تأففت عبلة بضيق :
-أسبوع بس يا سيدة ، اسبوع وترجعي هنا .. وقولي لبنت اختك دي كفاية كده مش كل سنة تولد .. !!
فرحت سيدة عندما نالت صك الإفراج من عبلة وركضت مسرعة لتلملم أغراضها ، ضربت عبلة كف على كف باستغراب :
-أيه الست اللي كل شوية تولد دي ؟!
” بالأسفل ”
انتظر ” كريم ” خروج عاليـة بفارغ الصبر كي يُهاتف ” نوران ” .. وما حان الوقت لتنفيذ مخططه فاجئته جيهان قائلة :
-انت واقف تحت السلم زي الحرامية كده ليـه ؟!
-هااه؟! بلقط شبكة بس ؟! المهم انتِ متشيكة كدة وعلى فين ؟!
-يلا عشان تيجي معانا ، هنروح نقدم بلاغ في عاصي ..
زام كريم ثغره :
-ليه كده ؟! أنتوا مكبرين الموضوع على فكرة ، الراجل مش عايز يخلف خلاص هو حر !!
انفجرت جيهان بوجهه :
-وحق اختك ورميتها على السلم ده عادي !!
-خلينا متفقين أن هدير بنفسها قالت انها وقعت وهو مش قاصد يعمل كده وهي اللي خرجته عن شعوره .. يبقى ليه نتبلى على الناس ..
حدجته جيهان بعتبٍ :
-انت مالك بقيت تتكلم زي اخوك مراد كده !! مش عاصي ده اللي واكل فلوسنا !!
-وعاصي دا اللي أحنا قاعدين في بيته وبناكل كُلنا من خيره بردو ، مطردناش بعد مافلسنا وبقى لا معانا أبيض ولا أسود !! أنا شايف أن هدير وعاصي يحلو مشكلتهم بعيد عن المحاكم ويا دار ما دخلك شر !!
••••••••
نهض تميم على صوت رنين هاتفـه ، ليسمع الخبر المُحزن فيما يخص العم حسين ، استيقظت شمس النائمة بجواره وسألته باستغراب :
-مين بيكلمك بدري كده ؟!
أجابه بحزن :
-عم حسيـن تعيشي أنت .
خيم فطر الحزن على ملامحها وتمتم :
-لا حول ولا قوة إلا بالله .. مين قال لك ؟!
-قال لي الراجل اللي سايبـه يراقبهم ، وقال لي حاجة كمان ..
اعتدلت شمس في جلستها باهتمام :
-حاجة أيه يا تميـم ؟
-عبلة راحت له من يومين !
تحولت ملامحها لعلامات استفهام وشك :
-تفتكر ليه ؟! واشمعنا دلوقتِ !! تميم هي عبلة مراقبانا ؟
رد بيقين :
-ده آكيد ، هي فعلًا مراقبة كل خطواتنا وبعد اللي حصل ده هتزود المُراقبة علينا ..
أحست شمس بالقلق :
-كل يوم بتأكد أن الست دي خطر ووجودها وراه كارثـة .. أصل مفيش حد حريص كده غير اللي خايف سره ينكشف !!
شرد تميم مُتسائلًا :
-تفتكري ليها علاقة بمـٰوت عم حسين !!
فكرت شمس بحيرة حتى ردت بتردد :
-والله مش بعيد عنها أيه حاجة .. تميم أحنا لازم نشوف حل للست دي في أسرع وقت ، ولو هي فعلا اللي عملت كده في عم حسين ، يا عالم الدور على مين !!
••••••••
انتصف النهار وعاد عاصي إلى شقته بصُحبـة رسيـل ، قفل الباب ورائه وأمسك بيدها ليجلسا على أقرب مقعد ، وسألها :
-هتفضلي حزينة كدة لحد أمتى ؟!
تنهدت بحرقـة :
-مش عارفة ، حسيت روحي بتفارقني وأنا مفارقة الغردقـة .
ضم كفيها الاثنين بحب :
-مش أنا قولت لك هنرجع تاني ؟! انسى كل اللي فات وركزي بس في اللي جاي ، عشان نقدر نكمل ..
ردت بأسى :
-انسى أيه ولا أيه بس .. أنت ما تعرفش بابا كان بالنسبة لي أيه .. وأخواتي ؛ أنا كنت أمهم ، فجأة شمل العيلة كله اتشتت ، استوعب أزاي !
-مش هتنسي ، ومش بقول لك أنسي ، بس ماتنسيش نفسك أنتِ كمان .. متطفيش روحك في ملوحة الحزن ..
أومأت رأسه بالإيجاب متفقـة مع كلامه :
-معاك حق ..
ابتسم بلطف وقال بتلقائيـة :
-رسيـل ..
فوجئ بيدها المُرتعشة على شفتيـه ليصمت وقالت برجاء :
-حيـاة ..
ثم ابتلعت مرارة حُزنها وقالت :
-رسيل كل حياتها مآسي مش عايزة افتكرها ، المرة دي هستسلم للموج اللي خدني ليك قبل كدة ، وهجرب أعيش قدري الجديـد مع حيـاة ..
ابتسم بفرحـة بعد ما طبع قُبلة طويلة بداخل كفهـا واعترف :
-حيـاة ..
-بس اشمعنـا حيـاة ؟
في تلك اللحظة قطع حديثهم صوت دق الباب ، تراجعت للخلف مبتعدة عنه :
-أنت مستنى حد !
وثب قائمًا ليفتح الباب ، فهلت منه سيدة برفقـة أحد رجاله ، أشار للرجل ان يذهب وسمح لسيدة بالدخول .. وعندما رأت حياة اندلعت منها شهقـة قويـة وقالت بفرحة :
-ست حياة !!
وقفت حيـاة ورحب بها ولكن مجرد المصافحة لم تكن كافيـة بالنسبـة لسيدة التي ضمتها إليه بحب :
-القصـر ملهوش لازمة من غيرك والله .. الحمد لله إنك بخير !!
ثم أخذت تحسس على كتفيها ووجهها وقالت بتعجب :
-الست هانم وشها مصفر ودبلانة كده ليـه يا بيـه !!
ثم أضافت :
-أنتِ حامل صح ؟!
تحمحم عاصي بخفـوت بعد ما التقى بعيني حياة المستغيثة وقال :
-ياسيدة ، مش هوصيكي تحطي الهانم في عنيكي ..
-من غير توصية يا بيه ، دي في عينيا ..
ثم رمقتها بشك :
-أنت ما كنتيش بتاكلي ولا أيه !
تدخل عاصي قائلًا :
-عملتي زي ما قولت لك !!
-بالظبط يا بيه ، قلت للست عبلة اني رايحة البلد لبنت اختي ، وبعدين أنا في دي الساعة لما اخدم القمر ده ..!!
-تمام يا سيدة ، روحي شوفي المطبخ ناقصـه أيه وخلي البواب يجيبه ..
-أوامرك يا بيه ..
قالت جملتها الأخيرة وهي تركض نحو ما أشار إليها ، اقترب عاصي من حياة واضعًا يديه على كتفها وقال :
-كدة هابقى مطمن عليكِ أكتر ..
ابتسمت حياة بخفوت :
-انا بحبها أوي أصلًا ..
-اليومين الجايين هكون مشغول عنك شويـة ، وميصحش أسيبك لوحدك ، شوفي عايزة أيـه وبالتليفون هيكون عندك ..
رمقته بإعجاب و ميض من الشكر :
-تمـام ..
أزاح خصلة من شعرها وغمز بطرف عينه :
-خلي بالك على نفسـك ..
سألته بهدوء :
-هتنزل …
-ااه في شغل مهم متأخر .. وبعت اشتريلك موبايل جديد عشان تشغلي نفسك ..
لم يكتفِ بهذا الحد ، بل طبع قُبلة خفيفة على رأسها وربت على كتفها وقال ممازحًا :
-افتكر ان سيدة مش هتخلي عندك وقت فراغ أصلًا ..
مجرد ما أنهى جملتـه أخذ مفاتيحه وهاتفـه متأهبًا للذهاب ، شعرت بسقيع بعده عندما ولى ظهره ليُفارقها بعد ما اعتادت وجوده معها ، غمغمت بتردد :
-هتيجي بالليل …؟
ثم بررت :
-يعني عشان العشا ..
-ممكن ، بظروفهـا بقي ..
••••••••
••••••••
( عودة للقصـر )
-أنت ما بتزهقش ! رن رن ، أيه الالحاح ده ؟!
قالت نوران جملتها بتأفف بعد ما خرجت إلى شُرفة الغرفة لترد على كريم الذي عاتبها :
-عشان أنتِ مش بتردي من أول مرة !
-أنت مش واخد بالك أنك خدت عليا أوي ؟! أخرك معايا موضوع عاليـة وبعدين هفتح دماغك لو شوفت اسمك تاني على تليفوني ..
ضحك كريم على تلقائيتها وقال قاصدًا إثارة غضبهـا :
-ما تخفي تناكة بقا أومال لو كنتِ حلوة شويـة كنتِ عملتي فينا أيه !
تفاقم غضبها وقالت بغيظ :
– واضح أنك سخيف زي أخوك وأنا مش عالية عشان تستحمل التهريج ده ..
فرمل كريم معتذرًا :
-ياستي بهزر ، أنتِ ست الستات كُلهم ، المهم مفيش جديد عندك ؟!
زفرت بضيق :
-أقول لك أيه بس ! البنت هتتجنن من عمايل اللوح أخوك وهو مقضيها من المهندسة دي لدي ..
-لا افهم عشان أعرف أحل …..
••••••••
وصل عاصي القصر وبعد ما قضى قرابة النصف ساعة مع بناته واتفق معهم بزيارة حياة في عطلة الأسبوع ، تركهم وذهب إلى غُرفة هدير .. طرق الباب وما أن سمحت للطارق بالدخول فوجئت به يقف بشموخه أمامها .. اعتدلت من نومتها وقالت :
-عاصي بيه بنفسـه هنا !! والله كتر خيرك لسه فاكر مراتك ..
قفل الباب خلفـه :
-يارب تكوني عقلتي بس عشان نعرف نتكلم ..
-نتكلم في أيه ؟!
ثم اقتربت منه ووقفت شامخة مستخدمة اسلحتها الماكرة :
-ولا جاي تطمن علينا .. ااه أنا وابنك ؟!
عقد حاجبيـه مشدوهًا :
-هو مش نزل ؟
ضحكت بخبث :
-لسه متبت في الحياة ، لسـه عايز يجي الدنيـا ويشوف باباه .
-ايه التهريج ده ؟! هدير مش وقت سخافتك !
نزل الخبـر على رأسه كالصاعقـة ، فأكملت هدير بخ سُمها :
-الحمد لله الدكاترة لحقـوا الموقف بعد النزيف ، والأ كان زمانك في القسـم دلوقتي وانا جاية ازورك بعيش وحلاوة ..
كظم غضبه في نفسـه وقال بهدوء تام :
-تمام ، جيت أقولك بس حمد لله على سلامتك أنتِ والبيبي ..
-وبس كده !! لا كتر خيـرك ؟
هز رأسه نافيًا :
-لا مش بس كده .. أنتِ طالق يا هدير ، وكل حقوقك هتوصلك على داير مليـم .. سلام .
•••••••
في العاشـرة مساءً ؛ أعدت سيدة كوب من الحليب الدافىء وطبق كبير من الفاكهة وجاءت بيهم إلى حُجرة الجلوس التي تقعد فيها حياة تشاهد التلفاز ..
وضعت المائدة فوق الطاولة ثم مدت لها كوب الحليب وقالت :
-اشربي دي كلها بقا عشان الكالسيوم أهم حاجة للحامل ..
استغربت حياة مما تقـوله سيدة فضحكت بستهزاء :
-بس أنا مش حامل يا سيدة !! وبلاش تقولي كده لو سمحتي
جذبت سيدة الوسادة ووضعتها على الأرض وجلست فوقها وقالت بعفوية :
-ليه بالصلاة على النبي !! مش أنت وسي عاصي متجوزين وبتحبوا بعض !! وبعدين ملامحك باهتـة ووشك مخطوف كده ، لا بقول لك أيه أنا خبرة في الحاجات دي ؟! أقدر أبص في عين الواحدة كده واعرف إذا كانت حامل ولا لا !
طوت صفحات الحزن الممدود بداخلها ، وتذكرت تلك الليلة التي جمعها به على سهوة فنفضت غُبار الفكرة تمامًا وحمدت ربها لعدم صحة ما تقوله سيدة لأنها لو أرادت طفلًا تريد أن تختاره في وقتـه المناسب مع الشخص المناسب ..
بلعت مرارة ذكرياتها ومازحت سيدة :
-صدقيني يا سيدة مفيش الكلام ده .. وغيري الموضوع بقا ..
رمقتها سيدة بعدم تصديق وقالت :
-هتخبي عليـا يعني ، خلاص براحتك .. هو عاصي بيـه مش هيجي ولا أيه !!
-براحته بقا يا سيدة ..
-حد يسيب القمـر ده يسهر لوحده ؟!
انتهت سيدة من تقشيـر التفاح وقدمتها إليها :
-اتفضلي ..
أخذت حياة الثمرة منها وسألتها :
-أنتِ قاعدة كدة ليه ؟! رجلك هتوجعك .. قومي أقعدي على الكرسي ..
-أنا متعودة يا هانم ، وأصلًا شويـه وهقوم أنام .. بالحق أنتِ سبتي القصر عشان اللي عملته الست هدير ! بصراحـة يا زين ما عمل سي عاصي !
لكت ثمرة التفاح بفمهـا باستغرابٍ :
-هي عملت أيه هدير !!
-يوووه شكل البيه مقالكيش ، فاكرة يوم الحفلة، يجي أكتر اسبوعين كده .. يومها مش صدعتي وتعبتي !! طلعت الست هدير متفقة مع البت الشغالة تحط لك حاجة صفرا في العصير ، عشان هي وبس اللي تظهر للمعازيم ، بس سي عاصي طرد البت بتاعتها وأنا اللي عرفت الموضوع كله وقولتله .. واضح أن البيه بيحبك قوي يا ست حياة ..
تشعر ببكاء طفل مُحتبس في قلبها .. تود البكاء وتعجز عن فعلهِ .. تختنق من حبل الحزن ولا تجد من ينقذها .. وقعت التفاحة من يدها بصدمة وقالت بذهول :
-بقا الموضوع كده ؟!
اخذت تثرثر سيدة بمواضيع شتى حتى غلبها النُعاس فاستأذنت من حياة وذهب لغرفتها ، أما عن حيـاة فأخذت تتشاجر مع كل ما يقابلها ظلت تجوب المكان ذهابًا وأيابًا حتى غلبها الصُداع ، تناولت مسكنًا وتناولت الهاتف الذي احضره الرجل وجاءت لتُهاتفه ولكنها لا تعرف رقمه ، رمت الهاتف بكلل حتى دقت عقارب الساعة مُعلنة تمام الثانية عشر بعد منتصف الليل ..
لم تجد جدوى من الانتظار فجلست على الاريكة حتى غلبها النعاس ، وضعت الوسادة تحت رأسها واستسلمت للنوم هروبًا من معارك الحيـاة القاتلة ..
في تمام الساعة الثانيـة بعد منتصف الليل جاء عاصي إليها بعد ما أعلن وجهته من الشركة إلى القصر ، انزل السائق وبدل الأماكن وانطلق إليها .. فتح الباب بحذر وصوت التلفاز يخترق مسامعـه .. قفل الباب خلفه بهدوء ثم قفل التلفاز ورمى سترته السوداء على المقعد المجاور ..
دنى منها مناديًا باسمها بخفوت فلم تنهض ، جلس بجوارها وأخذ يتأمل تفاصيل وجهها وملامحها النائمـة بلذة ، أخذت يداه تُغازل شعرها المتدلى بخفـة ، تململت في نومتها بدون وعي فتهامس متسائلًا :
-في حد ينام هنـا ومن غير ما يتغطى !!
تمتمت بكلام مُبهم الذي يتوارى خلفه غضبها منها :
-دلـوقتي يجي وو
ابتسم بخفة ثم حملها بين يده قائلًا لها :
-يعني كُنتِ مستنياني !
ما زالت تحت تأثير مخدر النوم والغضب ، فتعلقت بعنقه وتمتمت :
-أنت جيت !
همس بحب أثناء سيره لغرفـتها :
-اتعودت على وجودك معايا ..
تململت بتكاسل ثم غرقت في نومها مرة أخرى ، وضعها على الفراش بلُطف ثم شد الغطاء فوقها وولى ظهره ليُبدل ملابسـه ، تمسكت بكفه متسائلة :
-رايح فين ؟
-هغيـر هدومي ..
تمسكت بكفه كالطفلة الصغيرة :
-لا .. أنا خايفـة .
-حياة !! أنت نايمة ولا بتدلعي !
تمتمت بكلمات غير مفهومة ، جعلته مكتفيًا بخلع حذائه والتخلص من حزامه الجلدي وأخذها في حضنه كصغيرته المُدللة وغرق معها في بحر أحلامه السعيدة بقُربـها ..
مرت ليلتهم بسـلام حتى انفلق صباح اليوم الجديد ، رفعت حياة جفونها فوجدت نفسها مُغلغلة بأصفاد شوقه ، يديه تحاوطها من جميع الاتجاهات ، طالعت ملامحه النائمـة بإعجاب ، تلك الملامح التي رضخت ولانت للحُب بعدما كانت عاصيـة عاتيـة يهابها كل من يقترب منها ..
أغمضت جفونها مرة أخرى بعدما غرقت برائحة عطره التي ادمنتها فجأة وأخذت تملأ رئتيها منها .. سحبت كفها الذي يُعانقـه بدون إرادة منها ، ألف عاصفـة تحمسها أن تنهض وتنفجر بوجهه وألف مثلهم استسلما لسطوه وحنيته المُفرطة على قلبها التائه ..
بعد معركة طاحنة في نفسها ، بعدت عنـه فأحس بُعدها ، تبسم براحة تامـة وهو يقول :
-نمتي كويس ؟
فاصطدم بردها الجافي :
-أنت ليه خبيت عليا اللي عملته هدير ….. ؟!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى