رواية بك أحيا الفصل الحادي عشر 11 بقلم ناهد خالد
رواية بك أحيا الجزء الحادي عشر
رواية بك أحيا البارت الحادي عشر
رواية بك أحيا الحلقة الحادية عشر
توقفت حركت قدمه واستقام في وقفته حين اتاه فتح الخط ورد الأخر، فهتف متسائلاً بلهفة ودقات قلبه قد تعالت بصخب:
_ ها عرفت عنهم حاجة؟ آخر مرة قولتلك متكلمنيش إلا لو عندك معلومة!
اتاه الرد على الجهة الأخرى وهو يقول بتوتر ظهر في صوته:
_ خلصت جرد الاسماء، طبعًا الموضوع كان صعب اني ألم كل الي اسمهم محمود الدالي في محافظة سوهاج خصوصًا ان حضرتك مش فاكر غير الاسمين دول، ولقيتهم ٢١٠ شخص اسمهم محمود الدالي، صاحبي الي في السجل قالي انه هيقدر يساعدني في اني اعرف مين فيهم الي عنده بنتين وولد بالاسماء الي حضرتك قولتهالي، بس طبعًا الموضوع هياخد وقت، ومكنتش حابب ابلغ حضرتك دلوقتي بس حضرتك طلبت مني اي جديد ابلغك بيه.
زفر بضيق وهو يمرر كفه على وجهه قائلاً:
_ يعني لسه هستنى!
اتاه رد الاخر يقول:
_ ياباشا احنا قطعنا طريق طويل مبقاش غير اقل من رُبعه، من معندناش ولا معلومة توصلنا بيه لعرفنا انه من سوهاج بعد ما بالعافيه وصلنا للشخص الي كان مسؤول عن توظيف الصعايده وقتها، ولولا ان الراجل ده كان بيكتب بياناتهم في دفتر عنده مكناش عمرنا عرفنا هو من انهي بلد، لدلوقتي مبقاش غير اننا نعرف مين الي في ال٢١٠ دول عنده ٣ ولاد باسم خديجة ومصطفى وسارة وزوجته دنيا، الموضوع بقى اسهل اكيد، بس مسألة وقت لأنهم ٢١٠ يعني عدد كبير.
هز رأسه عدة مرات يقنع نفسه بما يستمع له، ثم أردف بحدة:
_ معاك شهر تكون خلصت بحثك وتديني معلومة عنهم سامع؟
اجابه الآخر بتوتر:
_ شهر ونص ياباشا، شهر ونص وابلغ حضرتك عنوانهم ده عددهم كبير.
صدم الكرسي الذي بجواره بقدمه ليسقط أرضًا متأثرًا بركلته، ورفع رأسه لأعلى يستدعى الهدوء قبل أن يهمس بنبرة مرعبة:
_ ٤٥ يوم مش هيزيدوا ساعة وإلا متلومش غير نفسك.
ودون السماع لرد كان قد انهى المكالمة، وجلس فوق أحد الكراسي يتنفس بعمق، فلقد ظن ان رحلة بحثه المقيتة انتهت، ولكن للأسف مازال هناك شهر ونصف أخرين عليه انتظارهم، هز رأسه مستنكرًا وهو يغمغم لذاته بعتاب:
_ ازاي عمري ما سألتها عن اسم بلدهم الي كل اجازة كانوا يسافروا لها! ازاي مفكرتش اعرف هم منين! لو كنت عرفت كان ده وفر عليَّ سنه كامله عدت عشان اعرف بس اسم البلد.
شرد بنظره في الفراغ وهو يتذكر حين كان عمره اربعة عشر عامًا اي بعد ذهابها بعام واحد، ووقتها اخبره والده انه كلف احد رجاله للبحث عنه، ولكن بعد مرور ثلاث سنوات دون أي معلومة من الرجل، شكَ “مراد” في أن والده قد كلفَ أحدهم بالبحث فعلاً لذا وبدون عِلم والده كان يكلف رجلاً آخر عُرف عنهُ براعته في مثل هذه الأمور، ولم يظهر لوالده أنه شكَ بهِ بل كل فترة يسأله إن كان رجله قد توصل لشيء والإجابة واحدة وهي “لاشيء”، نهض واقفًا واتجه لأحد الخزانات الموجودة في الجانب الأيسر من الغرفة وانحنى فاتحًا اياها لقصرها ليظهر أمامه العديد من الزجاجات فأخرج أحدهم واستقام بجزعه ليقرب كوب من الاكواب المرصوصة فوق تلك الخزانة الصغيرة، فتح الزجاجة وصبَّ البعض في الكوب قبل أن يلتقطه متجهًا لثلاجة صغيرة موجوده بجوار الخزانة وفتحها ملتقطًا مكعبان من الثلج وُضعوا في اناء على أحد رفوفها، اغلق باب الثلاجة واستقام واقفًا ثم اتجه للشرفة وهو يحرك الكوب يمينًا ويسارًا بحركات رتيبة فيصدر الثلج الموجود بداخله صوتًا خفيفًا، وقف في الشرفة بعدما احتسى القليل مما في الكوب ولم يظهر أي تعبير على وجهه، ونظر أمامه بأعين شاردة، دقتان فوق الباب أخرجوه من شروده ليدلف لداخل الغرفة وهو يردد بصوت أجش:
_ مين؟
أتاه صوت والدته الهادئ:
_انا يا مراد، افتح يا حبيبي؟!
تحرك على الفور واضعًا الكوب الذي بيده في الخزانة الصغيرة التي تحوي الزجاجات، وهو يجيبها:
_ ثواني يا ماما بغير هدومي.
والتقط الزجاجة يضعها بجوار الكوب واغلق الخزانة جيدًا، ثم التقط قميصه يرتديه بعجالة واتجه لباب الغرفة يفتحه وهو يشير لها بثبات:
_ اتفضلي.
ابتسمت له وهي تحرك كرسيها للداخل، بينما تقول:
_ مش نازل الشغل النهاردة ولا اية؟
_ لا هنزل، بس كنت بعمل مكالمة مهمة وهلبس اهو.
ضيقت عيناها وهي تقول:
_ مهمة! يبقى تخص خديجة، صح؟!
ابتسم ابتسامة صغيرة لتبرز غمزاتيهِ المزينتين لوجنتيهِ فبدى جذابًا بشكل مهلك وقال:
_ مش سهلة انتِ برضو يا لولة.
اتسعت ابتسامة “ليلى” وهي تلكزه بأصابعها في جانبه:
_ لولة! عيب بقى تقول لأمك كدة.
وضع كفه على جانبه مكان لكزتها وهو يقول بمرح لا يظهر سوى معها:
_ ده انا بدلعك هو انا بش… هو انا بغلط فيكِ.
عدلَ من حديثه حين وجد لسانه سيذل وينطق بما يثير غضبها، لتهز رأسها يائسه منه وهي تقول باهتمام:
_ المهم قولي، وصلت لحاجة.
اختفى المرح من معالمه وهو يزفر بتعب جالسًا فوق كرسي قريب من كرسيها وقال:
_ للاسف لسه، الراجل قدر يعمل حصر لكل الي اسمهم محمود الدالي في سوهاج، وطلعوا ٢١٠ شخص هيدور فيهم بقى.
عضت شفتيها بحزن على حالته، وقالت بحذر:
_ مراد.. هو يعني هتعمل ايه لو ملقتش خديجة.
لم يظهر اي ردة فعل على وجهه وهو يسألها بهدوء:
_ يعني اي ملقتهاش!؟ قولتلك هيدور في…
قاطعته وهي توضح قصدها اكثر:
_ هنفرض ملقتهاش.. هنفرض انهم سابوا سوهاج من كتير، او ابوها خدهم وسافر اي مكان تاني، حط احتمال انك ممكن حتى لو وصلت لعنوانهم متلقيهمش.. عشان بس متبقاش حاطط أمل كبير، الإنسان لما بيحط أمل كبير في حاجه ومتكملش بيكون زي الي وقع على جذور رقبته.
التواء طفيف في جانب فمه للأعلى أبدى سخريته وهو يقول:
_ انا مش حاطط امل كبير.. انا حاطط كل أملي.
اخفض رأسه ناظرًا للأرضية وبنبرة ظهر بها الاختناق جليًا:
_ يارتني قادر انساها، بس مش قادر ومش عارف، على قد ما بتعذب بحبها على قد مانا حابه.
رفع رأسه وعيناه قد غامت ببعض الدموع الخفية وقال:
_ يمكن حبها هو الحاجة الوحيدة الحلوة الي بقيالي من ذكريات طفولتي.. ذكرياتي معاها هي الحاجة الوحيدة الي مش عاوز انساها، انا معنديش اوبشن اني ملقيهاش، معنديش احتمالية اني افضل باقي عمري من غير ما اقابلها، مش عاوز حتى افكر في ده.. بس حتى لو وصلت لعنوانها وملقتهاش مين قال اني هيأس! حبي ليها مولد جوايا ثقة غريبة إني هلاقيها وهنتجمع من تاني.
ربطت على فخذه بكف والكف الآخر تمسح دموعها التي تساقطت حزنًا عليهِ وتأثرًا بما قاله:
_ ربنا يريح قلبك يابني.
التقط كفها مقبلاً اياه برفق، وقلبه يؤمن على دعائها.
_______________
انتهت من توضيب المنزل واعداد الطعام ودلفت لغرفتها لتنال قسطًا قليلاً من الراحة قبل قدوم والدها من العمل، تسطحت فوق الفراش وهي تغمض عيناها براحة شعرت بها فور فردها لجسدها، راحة لم تطول وهي تسمع صوت خافت يناديها:
– خديجة.
تكرر الصوت مرتان حتى انتبهت له، فتيبس جسدها بصدمة وهي تستمع لذلك الصوت.. انها تدرك هوية صاحبه جيدًا! وهذا ما جعل التيبس يكتسح جسدها، تكرر مرتان أخرتان ففتحت عيناها بصعوبة وأنفاسها بالكاد تختفي، نظرت أمام الفراش لتنتفض فزِعة وجلست فوقه وهي تطالع من أمامها بصدمة محملة بالخوف والذعر، هزت رأسها نافية تصديق ما تراه، لتجد من أمامها تقول بابتسامة بدت مرعبة:
_ ايه يا خديجة مبترديش ليه!؟
هزت رأسها أكثر بهستيريا وهي تقول:
_لالالا أنتِ مش هنا.. أنتِ مش حقيقية.
ولا تعلم لِمَ لكنها في غضبها او خوفها تجد ذاتها تتحدث بلهجتها القاهرية القديمة! اتسعت ابتسامة “سارة” وهي تقترب من الفراش ملتفة حوله لتصبح قريبة منها أكثر:
_ لا حقيقية، ياترى ليه مش مصدقة؟ عشان قتلتيني مثلاً!
انتباها الفزع أكثر فهمست بوهن وعيناها اغرورقت بالدموع:
_ سارة!
ابتسامة مرعبة أكثر هي ما ارتسمت على ثغر الأخرى وهي تقترب خطوتان حتى أصبحت أمامها تمامًا ورددت بهمس أشبه الفحيح:
_ ارتاحتي يا خديجة؟ ارتاحتي لما قتلتيني؟
نفت برأسها بذعر أكبر ودموعها تتهاوى بعجز وقالت نافية التهمة عنها:
_ لأ، مش أنا ده مراد.
هزت “سارة” راسها بلامبالاة وهي تقول:
_ وأنتِ ساعدتيه بسكوتك كنتِ موافقة انه يقتل أختك… عشان كدة هقتلك زي ما قتلتيني وبنفس الطريقة.
قالتها وهي تجذبها من خصلاتها بقوة تحت صراخ الأخيرة ومحاولتها للتمسك بأي شيء بداية من الفراش حتى الأرضية، ولكن لم تفلح حتى وصلت للخزانة ووجدت “سارة” تدفعها للداخل وتغلق باب الخزانة عليها لتصرخ “خديجة” عدة صرخات بفزع وهي تغمغم بكلمات غير مفهومة، وبعد ثواني بدأ العرق يغزوها وبدأت تشعر أن أنفاسها تخفت بالفعل وكأن الاكسجين انسحب من حولها، لتضرب على باب الخزانة بهستيريا شديدة وصرخاتها لا تتوقف، وفجأة فُتح باب الخزانة لتجحظ عيناها بقوة وهي تستنشق أكبر قدر من الهواء والواقف أمامها يناظرها بذهول وعدم فهم لِمَ حدثَ لها! حتى ردد بتساؤل قلِق وهو يسحبها للخارج حاملاً جسدها بالفعل فقدميها لا يحملانها:
– وه! مالك يا بتي؟ فيكِ ايه وايه خلاكِ تفوتي الدولاب وتجفلي عليكِ اكده!؟
رددت بضعف بالغ وقد شحب وجهها فأصبح يحاكي وجه الموتى:
_ مش انا.. دي هي.. هي الي قفلت عليَّ.
وضعها فوق الفراش وهو يجلس بجوارها قائلاً بعدم فهم:
_ هي مين يابتي؟ مفيش حد اهنة غيرك!
هزت رأسها بالكاد وهي تقول ببكاء بدأت فيهِ:
_ لا في.. هي هنا، قفلت عليَّ بالمفتاح.
أجابها بقلق على حالتها:
_ بس درفة الدولاب مكانتش مجفولة بالمفتاح واصل، الدرفة كانت مفتوحة لو كنتِ زجتيها كانت اتفتحت.
ازداد بكاءها وهي تردف من بين شهقاتها المتقطعة:
_لا.. كانت مقفولة.. انا… زقيتها كتير.. مكانتش مفتوحة.
وبعدها لم تتحمل أعصابها أكثر من هذا فأغلقت عيناها فاقدة الوعي مما آثار ذعر والدها عليها.
—————–
بعد مرور أربعة أيام….
عند خديجة الحال لم يصبح أفضل، بل بالعكس ساءت حالتها بدرجة أرغمت والدها لجلب الطبيب لها، أصبح وضعها لا يُسكت عليه، ناهيك عن كوابيسها التي تستيقظ فزِعة منها كل ليلة وصرختها تدوي في أرجاء المنزل، وشعورها احيانًا بطيف “سارة” يحوم حولها، تحدثها وتفزع منها واحيانًا تصرخ فجأة وباتت تحبس ذاتها في أماكن متفرقة وتدعي أن “سارة” من فعلت!!
والطبيب لم يكن مختص فنصحهما بالذهاب لطبيب نفسي في القاهرة ليشخص حالتها ويكتب لها الدواء المناسب، فهي على شفا حفرة من الجنون.
كانت تجلس مع “فريال” فهي بعد ساعتان ستذهب للقاهرة لتزور الطبيب الذي أخبرها عنه والدها، تحدثت بوهن وقد بدى جسدها أقل وزنًا ووجهها شاحبًا وأسفل عيناها أحيطت بالسواد، كل هذا دلَ على مدى معانتها، بنبرة مختنقة وأعين شاردة بعيدًا قالت:
_ انا مخبراش ليه بيحصلي اكدة، فجأة حياتي كلها اتشجلبت.. انا والله بشوفها يا فريال، بشوفها حجيجة كيف مانا شيفاكِ اكده، يبجى كيف بخرف.
ربطت “فريال” بكفها على كتف الأخرى وهي تقول بهدوء:
_ مصدجاكي، بس انتِ كمان خابرة انها مش حجيجة صُح! محدش بيشوفها غيرك يا خديجة، وسارة ماتت من سنين محدش فينا يجدر يشكك في اكده، ده عمي بذاته هو الي دافنها!
هزت رأسها بتعب وهي تقول متحسرة:
_ للاسف، خابرة ان محدش هيشوفها غيري! بس اعمل ايه والله بشوفها.
_ عشان اكده عمي هياخدك للدكتور في القاهرة وهو الي هيجولك ايه الي بيحصل وياكِ.
أردفت بها “فريال” وهي تنظر لملامح “خديجة” التي تثير الشفقة، لتهز “خديجة” رأسها بلامبالاة ومازالت واجمة ففكرت الأخرى في إخراجها مما هي فيه فقالت بمزاح:
_ بجولك.. ماتدوري على رفيج الطفولة بما انك مدلية “نازلة” القاهرة.
امتعضت ملامحها وقد ذكرته “فريال” في اكثر وقت لا تريد فيهِ تذكره، لتجيبها بحدة وملامح غاضبة:
_ فريال! جولتلك يوم ما حكيتلك عنه انك متجبيش سيرته واصل حُصل ولا لا!
توترت “فريال” من غضبها المباغت، لتجيبها بتردد:
_ جولتي.. معلش مكنتش خابرة ان سيرته هتعصبك اكده.
اغمضت “خديجة” عيناها بضيق من انفعالها قبل أن تقول باعتذار:
_ معلش. متزعليش، مجصدش اتعصب عليكِ، بس محباش افتكره، واحمد ربنا اني مفكراش ملامحه ولا شكله.
ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تسألها بفضول:
_ مفكراش شكله؟ كيف؟ ده كان اجرب حد ليكِ وجتها!
زفرت أنفاسها باختناق وهي تغمغم:
_ كنت صغيرة يا فريال، ٨ سنين افتكر ايه انا! اه فضلت فاكره شكله ليمكن سنه بعدها بس مع الوجت وبعد ما عدى اكتر من ٧ سنين مبجتش مجمعة شكله خالص.
سألتها مرة أخرى بفضول اكبر:
_ يعني لو شوفتيه دلوجتي متعرفيهوش!؟
هزت رأسها بضيق وهي تقول لها:
_ انتِ غبية! بجولك مفكراش شكله وهو صغير هعرفه بعد ما كبر! اكيد شكله اتغير كمان.
هزت رأسها بتفهم:
_ ايوه بس بيفضل ملامح من الطفولة، عمومًا انت اكدة او اكدة مش فاكرة شكله… المهم هترجعوا ميتى؟ “امتى”
رفعت منكبيها بجهل وهي تقول:
_مخبراش يمكن آخر الليل.
وفجأة نظرت خلف “فريال” ليشحب وجهها أكثر وتنتفض من جلستها واقفة وهي ترى “سارة” قادمة من خلفها:
_ بقيتي مجنونة يا خديجة!؟ هيودوكِ لدكتور بيعالج المجانين!؟
اذدردت ريقها بخوف وهي تجيبها:
_ انتِ مش حقيقية.
صدحت ضحكت “سارة” عاليًا وهي تقول:
_ لو انا مش حقيقية بتردي عليَّ ليه؟
ادمعت عيناها بقهر وهي تجيبها:
_ عشان.. عشان مش عارفة اتجاهلك.
هزت “سارة” رأسها إيجابًا وقالت:
_ بالضبط يبقى انا حقيقية! طول ما بتردي عليَّ يبقى انا موجودة يا ديجا.. مش كان حبيب القلب بيقولك كده برضو!
رجعت للخلف وجسدها بدأ ينتفض بقوة، وصرخت بها بضعف:
_ انا بكرهك.. وبكرهه.. بكرهكوا انتوا دمرتوا حياتي.
اختفى المرح من ملامح “سارة” واحتدت ملامحها وهي تقول:
_ انتِ الي بتكرهيني! اومال انا ايه! انا دمرت حياتك وانتِ خدتي حياتي كلها مني… انتِ قتلتيني.. قتلتي اختك.. موتي اختك يا خديجة.. موتيها..
رفعت كفيها تضعهما على أذنيها بقوة بعدما هوت جالسة أرضًا وصرخت بقهر:
_ مموتكيش.. مقتلتكيش. هو.. هو مش انا، ارحميني بقى.. ارحميني.
وفجأة استمعت لصوت آخر يناديها، ويد تحرك جسدها بقوة، فتحت عيناها ورفعت رأسها لترى الجميع أمامها، “فريال” و”محمود” و “مصطفى” هم من يحاولون اخراجها من حالتها تلك، وعمها و”سمية” و “ابراهيم” يقفون أمامها على بعد قليل، واختلفت انظارهم فعمها يطالعها بشفقة، وعمتها وولد عمها بنظرة ساخرة، حتى هتفت عمتها بنبرة قاسية:
_ لا، حالة بتك ميتسكتش عليها واصل.. لازمن تدلى مصر وتشوف حل لجنانها ده، ولا يكونش شبح سارة هانم هيطاردها!
صرخ بها “منصور” بحدة:
_ سمية! اجفلي حنكك” فمك” واعرفي بتجولي ايه.
ردت بانزعاج:
_ مغلطش ياخوي، مشايفش حالتها تصرخ كيف المجنونة.
نظر لها بنظرة أقلقتها وهو يقول:
_ جولتلك خشمك ده يتجفل واصل، سمعتِ!
اشاحت بنظرها بعيدًا والتزمت الصمت مرغمة، فهي تعلم جيدًا شقيقها حين يتحكم بهِ غضبه.
رفع “محمود” خديجة من ذراعيها فدفنت رأسها في صدرة وقد اجهشت في البكاء فقال بهدوء وهو يربط على ظهرها برفق:
_ من غير ما تجولي ياخيتي، هدلى بيها مصر الليلة لازمن دكتور يشوفها، مجادرش اشوفها اكده واسكت.
___________
وبنفس الوقت في مكان آخر بعيد..
كان يقف في وسط ذلك المصنع المهجور، بدت ملامحه غاضبة حد الجحيم، بدى كأسد على وشك الانقضاض على فريسته، وجميع من حوله يرتجفون رعبًا من حالته تلك ومن القادم معه، حرك رأسه يمينًا ويسارًا بحركة رتيبة، قبل أن يتسائل بهدوء تام:
_ مين جاب الاطفال دي هنا؟
وبسرعة أشار أحد الرجال لشخص ما واقف وهو يقول:
_ مسعد.. هو الي جابهم وقال الباشا الكبير هو الي أمر.
نظر للمدعو “مسعد” ليراه يبتلع ريقه بصعوبة وقد تعرق وجهه، محاولاً الحديث:
_ ياباشا والله الباشا الكبير الي أمرني، هو الي اجبرني اخطفهم واجبرني اجيبهم هنا، وحذرني اعرف سعادتك حاجة.
رفع حاجبيهِ بتفكير مصطنع، قبل أن يقترب خطوة واحدة أثارت الذعر في نفس الآخر وهو يسأله:
_ قولي يا مسعد كنتوا ناويين تستخدموهم في تجارة الاعضاء صح؟؟
يعلم أن الكذب معه سيأتي بنتيجة عكسية تمامًا، فمرغمًا اومئ برأسه، ليضغط “مراد” على أسنانه بقوة لاعنًا بلفظ بذيء قبل أن يقول:
_ قولت كام مرة أم الشغل ال****بتاعكوا ده مدخلوش اطفال فيه! قولت كام مرة لما تحبوا تجمعوا مي*** ** صفقة تجيبوا الناس بنت ال**** *** الي متلقحين في اي داهية تشبهنا، ايه الكباريهات خلصت! ولا شقق الدعا** فضيت عشان تلفوا على الناس التانية لا واطفال كمان يا ولاد ال******..
هتف الرجل بارتجاف:
_ ياباشا اقسملك الباشا الكبير الي اجبرني وانا خوفت.
ابتسم ابتسامتة المرعبة قبل ان يسأله بهدوء مبالغ فيهِ:
_ يعني لو مكونتش جيت بالصدفة عشان ابن الدكتور مكنتش عرفت الي بيحصل مش كده!
كاد “مسعد” أن يتحدث، لكن رفع “مراد” كفه ناهيًا ايه وهو يكمل بتساؤل:
_ قولي لو كنت رفضت كلام الباشا الكبير، كان هيعملك ايه؟
اذرد الرجل ريقه وهو يجيبه:
_ كان هيقطع عيشي ياباشا ويطردني.
اتسعت ابتسامته ومرر لسانه بداخل فمه قبل أن يخرج سلاحه من خلف ظهره وهو يشهره ناحيته قائلاً:
_ كان احسن من انك تخسر حياتك صدقني.
وقبل أن يصدر الواقف أمامه أي ردة فعل، انطلقت رصاصته لتسكن منتصف جبهته كأنها تعرف طريقها.
نظر “مراد” لجثته ببرود وقال:
_ ارموه في اي داهية، على ما انزل اشوف الواد الي تحت ده، والعيال دي الصبح يرجعوا لأهاليهم.. وعلى الله تيجوا تقولوا في عيال مش عارفين مين اهله.. اتشقلبوا ورجعوهم.
اومأوا جميعًا بفزع فما حدث أمامها الآن كان درسًا قاسيًا لهم جميعًا..
بعد عدة دقائق..
كان ينظر للاطفال بابتسامة هادئة تمامًا لا تنم عن شخصيته:
_ متقلقوش بكره هتروحوا كلكم وهترجعوا لأهاليكم.
اقتربت فتاة صغيرة منه تسأله ببراءة:
_ يعني مش هتموتونا؟ عمو الي كان هنا قال انكوا هتقتلونا.
انحنى لمستواها متلمسًا خصلاتها بحنان، والعجيب أنها لم تخشاه وكأنه مع الاطفال لديه سحر خاص للتعامل:
_ لا ياروحي محدش هيعملكوا حاجه خالص.
ناظرته بشك كأنها لا تصدقه، ثم رفعت خنصرها وهي تسأله بطفولة:
_ وعد؟!
ظهر التأثر في عيناه وهو يتذكر مشهد مماثل كهذا مع “خديجة” ابتسم بحنين لتلك الذكرى، قبل أن يرفع خنصره ولفه حول خنصرها قائلاً:
_وعد يا جميل.
_باشا..
استمع لندائه من أعلى ليعرف انه يريده، فقد منع نزول أحد للاسفل..
ربط على وجنة الصغيرة واستقام واقفًا، قبل أن يستقيم صاعدًا الدرج حتى وصل للواقف بالأعلى والذي قال فورًا:
_ الشرطة عرفت مكانا وداخلين على هنا.
صمت قليلاً يفكر ثم قال بأمر:
_امشي انتَ يا طارق من الباب الي ورا وخد رجالتك.
سأله” طارق” باستغراب:
_ وحضرتك ورجالة الباشا؟
التمعت عيناه بالكره وهو يقول بفحيح:
_ سيب رجالة الباشا ياخدوا جزائهم، متعرفهمش حاجة.
ثم لانت نبرته وهو يكمل:
_ انا هفضل مع الاطفال دول لحد ما الشرطة تاخدهم.
_ بس كده حضرتك هتتمسك! ممكن نخلي حد من رجالتنا او افضل انا.
هز رأسه رافضًا وقال:
_ مش هطمن عليهم مع حد تاني، ممكن بعد الي هيحصل من شوية حد منهم تطوله رصاصه ولا الشرطه تفجر المكان.. ومتقلقش انا عارف انا بعمل ايه محدش هيمسكني.
بالكاد انسحب “طارق” ورجالته بناءً على تعليمات رئيسه، ومعه ثياب “مراد” المنمقة التي خلعها مرتديًا ثوب بسيط وجده في مخزن المصنع، وبعدها تحدث مع الاطفال قليلاً وهو يطلب منهم بطريقته المدروسة ألا يذكره أي شيء عنهُ، ولأن الأطفال لم يستمعوا لحديثه مع “طارق” فرضخوا لرغبته وقد ظنوه شخصًا جيدًا.
بالخارج….
أشار للرجال باتباعه في صمت حين قاد هو عددًا منهم دالفًا من جهة واحدة، وباقي الفرقة فرقوا أنفسهم على جميع المداخل لينجحوا في تطبيق عنصر المفاجأة وتضييق الخناق عليهم حتى لا يلوذوا بالفرار، قتلوا كل من قابلوهم دون رحمة، فمن لا يرحم لا يُرحم.. ولكنهم احتفظوا بثلاثة ظهر أنهم القادة لمن كانوا بالمكان، فحرصوا على أسرهم كي يصلوا للمزيد من المعلومات عن ذلك التنظيم الذي انعدمت الرحمة من قلوب كل من هم فيه..
توقفوا في منتصف المكان بعدما لم يجدوا أثرًا للطفل بالمكان، فهتف “سيف” “من فرقة الأسود” :
_ آدم أنتَ مش قولت إنك اتاكدت إن مكانه هنا؟
زفر “آدم” بضيق شديد وقد كان يأمل أن يجد الطفل هنا:
_ اخر كاميرا في الشارع جابته كان في المنطقة دي.. ومفيش غير المصنع المهجور ده الي ممكن يكون فيه.. اصلاً أنتَ شايف حاجه حولينا غيره!
عقب “يحى” قائلاً:
_ ما نستجوب ال٣ الي في البوكس بره.
أجابه “حازم” ساخرًا:
_ نستجوب ايه؟ دول عاوزين ولا يومين عشان بس يفهموا احنا بنسأل على ايه! مفيهمش حتة سليمة يا بني.
وفي أثناء حديثهما استمعا لصوت طلقات نارية تأتي من مكان مجهول..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بك أحيا)