روايات

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم رحمة نبيل

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الجزء الثاني والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة البارت الثاني والعشرون

رواية ما بين الألف وكوز الذرة الحلقة الثانية والعشرون

هي خطوة … إما أن تخطوها بكاملك، أو لا تفعل، فلا يمكنك أن تخطو نصفها وتتجاهل النصف الآخر، وهذا ما فعله سعيد، قرر أن يتعالج، لكن هل جميع اخطائه تكمن في مرضه؟؟ أم أنه تجاهل شروره وأفعاله، فإن عالج النفس، من يعالج القلب وما فيه من سواد ؟!
خطى لتلك العيادة التي أخبرته زهرة عنها، ينظر حوله وهو يشعر أنه يريد الهرب، هذا ليس مكانه، هذا ليس ملجأه، وإن فكرنا قليلًا، فلا مكان له أو ملجأ سوى بجانب زهرته .
ابتلع ريقه يتوجه صوب الاستقبال يخفي وجهه بقناع طبي اسود ونظارة سوداء كذلك ..
” لو سمحت كنت حابب استفسر عن ميعادي مع الدكتور علاء ”
نظر الرجل في الحاسوب أمامه ينقر عليه بحركات سريعة :
” اسم حضرتك ؟!”
أجابه بهدوء يتجاهل لقبه المعروف به :
” سعيد جاد محمد ”
ابتسم له الرجل بهدوء وأشار له على غرفة الانتظار بكل هدوء وعملية :
” اتفضل ارتاح يا استاذ سعيد، شوية وهنادي حضرتك، قدامك بس شخصين ”
حسنًا ربما هذه إشارة له كي يهرب من المكان، إشارة كي يغير رأيه، ربما يستطيع الكذب على زهرة ويخبرها أنه بالفعل ذهب لطبيب وهي لن تعلم شيئًا .
كانت هذه كلمات سعيد لنفسه وهو يتحرك صوب الغرفة التي أشار لها الممرض، لكن فجأة توقفت اقدامه وتغيرت وجهته، وتحرك بسرعة صوب باب الخروج ، وقد قرر أنه بالفعل سيهرب، هو لا قِبل له أن يجلس أمام شخصٍ غريب ويصف له آلامه وحياته فقط لأن بطاقته تحمل لقب طبيب ..
وقبل أن يخطو للخارج اصطدم بقوة في جسد جعله يتراجع بحدة، وما كاد ينطق بكلمة حتى تحدث ذلك الجسد بجدية كبيرة وسخرية لاذعة :
” كنت عارفة انك هتعمل كده يا سعيد ”
رفع سعيد رأسه كالرصاصة صوب زهرة التي ضمت ذراعيها لصدرها بتحفز، تشير بعيونها صوب الداخل في إشارة واضحة له أن يعود حيث كان .
ابتلع سعيد ريقه متوترًا من مجيئها غير المتوقع :
” أنا بس …بس كنت رايح اجيب حاجة اشربها لغاية ما يجي دوري ”
ارتسمت بسمة سخيفة ساخرة وارتفع طرف شفتي زهرة تزامنًا من سخريتها الواضحة :
” طب ادخل وانا هروح اجبلك يا سعيد ”
هز سعيد رأسه وهو ما يزال يحدق بها وقد نسي لثواني ما كان يهرب منه أو ما يفكر فيه، إن كان دخوله لذلك الرجل وجلوسه على مقعد أشبه بالفراش والتحدث معه بأريحية عن حياته، سببًا لبسمتها فهو على استعداد تام ليكرر الأمر يوميًا دون كلل أو ملل .
دخل سعيد للعيادة مرة أخرى وزهرة التي قررت أن تبقى خلفه لتجبره على العلاج، شفقة أن يتحول من كائن مسالم لذلك الوحش القذر، حتى وإن لم يُقدر لهما البقاء سويًا، لكن يكفيها أن تساعد أحدهم في عيش حياة سعيدة مسالمة ..
كل ذلك وجملة ابن عمها الحبيب _ والذي تلقى من سعيد ضربات قاتلة _ تتردد في أذنها:
” ده نفسه الشاب اللي كنتِ بتحكيله عليه ايام الجامعة صح؟؟”
نظرت له زهرة من بين دموعها، ثم هزت رأسها:
” أيوة هو ”
“طب ليه قررتي تسيبيه ؟؟”
نظرت له زهرة ثواني، هي لا يمكنها أن تفشي أي اسرار حتى وإن تلقت تلك الأسرار بصفة أخرى غير طبيبة، حتى وإن أخبرها سعيد بماضيه باعتبارها صديقة وليست طبيبة، لا تستطيع أن تفشيها، لذلك قالت بشكل محايد ..
” احنا مش شبه بعض، ولا عمرنا هنكون شبه بعض، سعيد اللي اتعلقت بيه زمان مش هو سعيد بتاع دلوقتي، باختصار سعيد بالشكل ده مستحيل أفكر فيه كشخص في حياتي، عمري ما هقبل ارمي نفسي في حفرة زي دي، الحياة بينا مش هتمشي والعواطف مش هتقدر تزق مركبنا”
صمت ابن عمها ثواني قبل أن يضيف بعفوية :
” طب ما تجربي ترجعيه للي كان عليه زمان، جربي تساعديه يا زهرة، أنتِ بتساعدي ناس كتير، مش هتساعدي الشخص الوحيد اللي بتحبيه ؟؟ ”
” مش هقدر اعامل سعيد بنفس معاملتي لأي شخص مريض عندي، وإلا وقتها هكون بمارس عليه دور غير الدور اللي المفروض امارسه وهيكون في نظري مجرد مريض بساعده ”
وكان الرد في منتهى البساطة :
” خلاص حطيه على الطريق وساعديه كصديق بلاش كطبيبة ”
وقد كان فها هي تحاول مساعدته، لكن بشكل غير مباشر فهي لن تمارس على شخصٍ_ قد تتخذه يومًا شريكًا_ مهنتها، هي لا تستطيع أن تفعل ذلك وتتقبله بعدما عالجته ..
تنفست بعمق تراقب سعيد يجلس جانبًا على أحد المقاعد وقد أخرج هاتفه يعبث به دون أن يهتم لأحد حوله، ولم تكد تتقدم منه حتى سمعت رنين هاتفه لينتفض جسد سعيد ويتحرك خارج الغرفة ..
وقفت زهرة أمامه ليقول بهدوء وبسمة صغيرة :
” متخافيش مش ههرب، هشوف بس الرسايل دي بعيد عن الدوشة ”
نظرت له بشك فابتسم لها بسمة مطمئنة :
” أنا وعدتك اني مش ههرب ”
ورغم شكها به إلا أنها قررت أن تمنحه الثقة وتتركه يتحرك بينما هي تحركت لأحد المقاعد وجلست عليه تهز قدمها لا تدري هل ما تفعله جيد ام لا ؟؟
ابتلعت ريقها وهي فقط تعد نفسها أنها ستتأكد من دخوله للعيادة، ومن ثم تتركه ولن تتدخل في رحلة علاجه، يكفيها فقط أنها أوصلته لهنا وهو سيكمل طريقه، وإن احتاج ستدعمه خفيةً ..
في الخارج كان سعيد يراقب هاتفه بعيون ضيقة قبل أن يطلق سبة عالية، يسارع للاتصال بأحدهم وجسده يغلي غضبًا، لكن لم يصل له أي رد ليطلق سبة أعلى جعلت الجميع ينظر له، لكنه لم يهتم وهو يصرخ بجنون :
” هقتلك يا ميمو، والله لاقتلك ”
وبتلك الكلمات نسي سعيد ما وعد به زهرة وما جاء لأجله وهو يسارع كالمجنون صوب الخارج، يحطم الأرض أسفله، والصور التي وصلت له للتو كرسالة متأخرة جعلته يُجن جنونه، ميمو تهدده بصور ومحادثات بينه وبين عمر مقابل ان يتخلى عن صفقته الأخيرة، أو سترسل كل شيء لزهرة .
في ذلك الوقت سمعت زهرة سباته وخرجت سريعًا خائفة أن يكون تشاجر مع أحدهم، لكنها ابصرته يركض بجنون خارج العيادة ليشتعل جسدها بقوة وتشعر بالغدر للمرة الثانية، عضت شفتيها بقوة وهي تركض بسرعة مخيفة خلفه ..
في الوقت الذي صعد به سعيد للسيارة كاد يتحرك وهو لا يرى أمامه سوى دماء ميمو، لكن وقبل أن تتحرك السيارة خطوة وجد زهرة تلقي نفسها أمام السيارة وهي تضرب على مقدمتها لتتسع عيونه بقوة وقد نسي الأمر تمامًا، أوقف السيارة مرتعبًا وهو يهبط :
” أنتِ مجنونة ؟؟ كنت ههرسك تحت العربية ”
تحركت له زهرة دون كلمة واحدة ومن ثم رفعت حقيبتها بقوة تضربها في وجهه باقسى ما تملك صارخة بغضب مخيف :
” أنت واحد حيوان يا سعيد، حيوان وكداب وانا استاهل اللي بيحصلي عشان اصدقك تاني، أنت واحد كداب، سامع كداب، كداب ومريض ومش هتتعالج لو فضلت كده ”
كانت تصرخ بجنون ودموعها هبطت لشدة غضبها وسعيد وقف مبهوتًا أمامها يستوعب فجأة أنه للتو وبسبب غضبه وجنونه أضاع فرصته الأخيرة معها ..
تحركت زهرة صوب سيارتها بعنف شديد تلتهم الأرض أسفلها في خطوات غاضبة، وهو يراقبها قبل أن يركض صوبها يمسك ذراعها بسرعة ولهفة شديدة :
” لا لا والله العظيم يا زهرة ما قصدي اكدب عليكِ، والله انا …أنا بس …اسمعيني ارجوكِ…أنا جاتلي مكاملة مهمة وحصل مشكلة كبيرة اوي في الشغل ومن عصبيتي اتحركت وانا ناسي أنا هنا ليه اساسا، ارجوكِ والله ما بكدب ..اسمعي يا زهرة ارجوك ”
نظرت له زهرة بقسوة تبعد ذراعه عنها، ثم قالت تدعي قسوة ليست بها، لكنها أدركت الآن أن سعيد لن يتقدم إلا عندما يلاقي قسوة منها :
” أنت طلبت مني مساعدة قبل كده، ودوري اني اساعدك واجيبك عند دكتور كويس، اهو الدكتور قدامك يا سعيد حابب تدخل ادخل مش حابب براحتك، مبقتش فارقة أنا ريحت ضميري من ناحيتك ”
وما كادت تخطو للسيارة حتى شعرت بسعيد يمسك كم ثيابها بسرعة وهو يتحدث بصوت مختنق :
” والله العظيم ما كدبت لما قولت اني هتعالج، زهرة أنا والله بحاول احسن حياتي عشانك، فارجوكِ صدقيني ”
هزت زهرة رأسها تستشعر بقرب انهيارها بين ذراعه الآن، لكن هي لا تستطيع، تقسم أنها لن تستطيع العيش معه وهو بهذه الحالة، لن تتقبله بهذه الصورة، هي طبيبة وتدرك جيدًا كيف يكون الحال عند العيش مع شخص بمثل حالته، ابتلعت ريقها تقول ببساطة :
” الله معك يا سعيد، اتعالج عشان نفسك، دي نصيحتي ”
” و…ولو اتعالجت، هتـ…هتقبلي تكوني معايا ؟؟”
نظرت له وودت لو تصرخ بنعم، لكن كل ما فعلته هي أن ابتسمت وقالت :
” سيبها لوقتها يا سعيد، أنت بس صلح حياتك، ولو عليا متقلقش أنا خلاص اكتفيت في الحياة دي باللي شوفته فمش هتيجي تلاقيني مع حد تاني متقلقش ”
أنهت كلماتها ببسمة صغيرة ودموع ابت أن تهبط على وجهها، ثم سحبت يدها منه ببطء وهي تراقبه ينظر لها بضعف وحب، وهي لم يهن عليها أن ترحل وتلك النظرة تعلو وجهه، ضعفت وستعاني لأجل ضعفها ذلك :
” كون بخير عشاني يا سعيد، اتعالج وصلح حياتك عشانك…….وعشاني ”
ختمت جملتها وهي تصعد للسيارة تتمنى أن تكون كلماتها تلك الداعم له في ذلك الطريق، وهي ستكون كذلك لكن دون أن تلعب مع دور الطبيبة، ثم رحلت سريعًا دون أن تنظر خلفها وهو ابتسم بسمة صغيرة وقال وقد نسي غضبه بأكمله من ميمو :
” هيحصل يا قلب سعيد، بس الاول لازم انهي آخر نقطة سودة في سجلي ”
__________________
ونظرات عمته لميمو أخبرته جيدًا أنه أصاب هدفًا لصالحه، اتسعت بسمة صالح بقوة وهو يراقب صنيع يديه، يرى اتساع عين عمته، وشهقتها التي أيقظت الاموات من قبورهم، وملامحها الشاحبة حينما سمعت جملة ميمو التي احسنت انتقائها.
قلبه يخبره أن ” أم سعيد القادرة ” ستكون له حليفًا قويًا في حربه ضد تلك العقربة التي تصنف في عائلته عمة ..
نظرت العمة صوب مرتضى باستنكار شديد وكأنها تسأله إن كان ما وصل لمسامعها صحيحًا، ولم تكتفي بسؤالها الصامت بل ترجمه لسانها وهي تقول مستنكرة :
” أنتِ قولتي ايه من شوية؟؟؟ قولتي ايه كده عيدي تاني ؟!”
مالت ميمو قليلًا تتساءل ببراءة شديدة :
” خير يا لذوذ هي عمتك عندها مشاكل في السمع ولا ايه ؟؟ ”
ارتفعت شهقات العمة مرة أخرى تصرخ بجنون :
” ايه قلة الأدب اللي بتتكلمي بيها دي ؟؟ مين دي وبنت مين ؟! مش كفاية لبسها وشعرها اللي ماشية تعرضه لخلق الله، لا وكمان لسانها طويل، هو ده النسب يا استاذ يا محترم يا متعلم ؟!”
نظرت ميمو لصلاح وهي تضم ذراعيها أمام صدرها مبتسمة تحرك رموشها بحركة سريعة قصدت منها أن تعطي مظهرًا بريئًا، لكن صلاح كاد ينفجر ضحكًا عليها وهي تقول :
” صحيح، هو ده النسب يا استاذ يا محترم يا متعلم ؟؟”
وضع صلاح يده أمام فمه وهو يُذّكر نفسه ألا ينقاض خلف شياطين ميمو التي كانت على وشك أن تتحرر ويفكر أنه الآن يقف أمام سيدة كبيرة وتلك السيدة هي عمته، حتى وإن كان يمقت تلك العلاقة، فهي واقع وعليه أن يحترمها .
نظر صلاح صوب عمته يقول بهدوء وتعقل :
” خلينا ندخل جوا الاول يا عمتي و…”
” لا، مش هتدخل جوا، أنا قولت لو دخلت بيتنا مش هدخله ”
وكانت تلك الجملة صادرة من صالح الذي هب يوضح ما يريد، تلك الرغبة التي انبأ بها والده منذ وفاة والدته وفعلة عمته، ووالده احترم الأمر وتحدث مع شقيقته وحاول أن يظهر الأمر بشكل أفضل، لكن صالح الآن بتسرعه وعناده انشأ عداوة جديدة مع عمته التي نظرت له بشر، تهمس بحقد وغل مكبوت:
” طول عمري اقول أنك زي امك في كل حاجة، لسانك اللي عايز قطعه ودلعك الفارغ وتصرفاتك اللي زي العيال الصغيرة، اكبر شوية عيب على طولك ”
ارتجف جسد صالح بغضب وهو يردد ببرود :
” والله اول جملة تفرحني منك، أنا فعلا شبه امي، وشرف ليا اكون شبهها، وهعيش عمري كله زي ما أنا حابب، اللي مش عاجبه ميتعاملش معايا ”
نظرت العمة صوب مرتضى الذي كان يشعر نفسه بين المطرقة والسندان، لا يدري أيرمم جروح ابنه الغائرة والتي تتفتح كلما واجه عمته، أم يقف في صف أخته الكبرى احترامًا لها فقط ؟!
وكالعادة أنقذه صلاح من ذلك الموقف وهو يتدخل متحدثًا :
” خلاص يا جماعة استهدوا بالله، مينفعش اللي بيحصل ده، نقعد حتى في الجنينة قدام البيت ونتكلم ”
ضربت العمة بالعكاز ارضًا غاضبة :
” ولا نقعد ولا نيلة، بقى أنا اللي اول ما عرفت أنكم راجعين جيت عشان ازوركم وأنتم واحد قليل ادب والتاني جايبلي واحدة ناقصها صاجات وتبقى رقاصة ويقولي هتجوزها ”
خرجت كلمة صلاح غاضبة لكن بصوت هادئ :
” عمتي لو سمحتِ، دي هتكون مراتي ”
” ومالك فخور اوي كده ”
أجابها صلاح بثقة كبيرة :
” عشان هي فخر لأي حد، ولو حضرتك مش هتقدري البنت اللي اخترتها فاسف دي مش مشكلتي، أنا اتجوز اللي تعجبني ومحدش له الحق يتدخل في اختياري، ارجو تحترمي رغبتي ”
ضم صالح يديه لصدره يقول بتحفز وبرود شديد :
” سمعتي يا صفاء ؟! يا ريت تحترمي رغبته، وبالمرة وأنتِ بتحترمي رغبته، تحترمي حرمة الميت ولسانك مينطقش كلمة في حق امي تاني ”
وتلك الكلمات التي كانت أشبه بتهديد أثار زوابع غضب داخل العمة والتي نظرت لمرتضى الذي تنهد بصوت مرتفع وهو يقول منهيًا ذلك الحوار :
” تعالي يا صفاء اوصلك البيت و…”
قاطعته صفاء وهي تفرد كف يدها في الهواء مانعة إياه من الاقتراب :
” ملوش لزوم يا خويا، كفاية اوي اللي حصلي في بيتك، يحرم عليا دخول بيتك لغاية ما اموت ”
وبتلك الكلمات أنهت صفاء الحديث وهي تتحرك بعيدًا عن المنزل وصوت ميمو يتبعها بحنق شديد :
” اخص عليكم زعلتوا البركة، تعالي يا عمتو أنا معايا عربية اوصلك ”
توقفت صفاء ونظرت لها باشمئزاز واضح وكره، جعل ميمو تبتسم بسمة جانبية وهي تضيف :
” مكيفة على فكرة ”
رفعت صفاء رأسها تتحرك بعيدًا عنهم وصالح يصيح في أثرها:
” طب اجبلك أنا توكتوك يا عمتو ؟؟”
لكن صفاء كانت قد ابتعدت عن المكان بأكمله تاركة الجميع ينظر لاثرها، وميمو قالت بحنق :
” عمتكم دي قموصة اوي على فكرة ”
هز صالح رأسه موافقًا إياها :
” دي حقيقة فعلا”
نظر لهما صلاح وهو يعض شفتيه بغيظ شديد، ليقول صالح وميمو بعدم فهم لتلك النظرات التي وجهها لهما :
” ايه؟؟ ”
ضرب مرتضى كف بكف وهو ينظر للجميع :
” لله الامر من قبل ومن بعد”
تحرك لداخل المنزل يشعر براحة أن حالة صالح لم تسوء، وفي نفس الوقت يشعر بالحزن بإصرار أخته على ما تفعل له، وعلى كرهها لزوجته حتى بعد وفاتها .
قالت ميمو لصلاح بعيون بريئة :
” اتمنى ميكونش الحاج أخد فكرة سيئة عني ”
___________________
في تلك اللحظة وأثناء ذلك الشجار الذي نشب بين ميمو وعمة صلاح، كان هو قد سُحب قسرًا لأجل التقاط بعض الصور لها، ونيرمينا لم ترحم مختار لثواني حتى وهي تجبره على التقاط العديد من الصور لها جوار البحيرة الاصطناعية وتلك المروج الخضراء الجميلة .
زفر مختار بحنق شديد يكاد يلقي الهاتف على وجهها مسقطًا إياها في البحيرة خلفها، لكن رؤيته السعادة تشع من عيونها تجبره على الاستكمال..
رفعت نيرمينا يديها في الهواء تقول ببسمة واسعة :
” ارجع ورا شوية عشان تجيب دراعي في الصور معاك ”
أشار لها مختار في حركات عصبية وملل :
” أنا اللي هاجي اقطع دراعك واريحك منه ”
لكن نيرمينا ولأنها بالطبع لم تفهم فقررت أن تجيبه حسب رغبتها، فهي أضحت تفهم الجمل على حسب مزاجها؛ لذلك ابتسمت ترفع ذراعيها أكثر وهي تقول :
” لا خليها بالطول احسن ”
عض مختار شفتيه، يميل قليلًا حتى يلتقط لها الصورة واخيرًا استطاع أن يعدل من زاوية التصوير وقبل أن يلتقط الصورة وجد من يقف أمامه ويسد في وجهه الرؤية بأكملها .
رفع عيونه بتعجب ليرى مراهق قد توقف بدراجته أمام الكاميرا يحدق بفم مفتوح في نيرمينا التي تنظر له بعدم فهم، ومختار ينظر له بتشنج، لكن ذلك الفتى لم يكن يستوعب شيء عدا تلك الفتاة الجميلة التي تقف على حافة البحيرة ..
” أنتم بتصوروا فيلم هنا ؟؟”
كان الصبي يتحدث وهو ينظر حوله بفضول شديد، لكن نيرمينا أبعدت خصلات شعرها عن وجهها، ثم أشارت له ليبتعد عن الكاميرا :
” اوعى معلش شوية عشان بتصور ”
استدار الصبي وهو يبحث عن الكاميرا التي تتصور بها، ليجد شاب طويل القامة بجسد متناسق يحدق فيه ببرود جعله يقول بعدم فهم :
” فيه حاجة يا سطا ؟؟ بتبصلي كده ليه ؟؟”
أشار له مختار بكفه أن يتحرك جانبًا، لكن الصبي ادعى عدم الفهم وهو يتجاهله، ثم نظر صوب نيرمينا وقال ببسمة :
” هو أنتِ ممثلة ؟؟ بتطلعي في التلفزيون ؟؟ على فكرة أنا بعرف أمثل حلو اوي، ممكن اعملك مشهد دلوقتي ”
نظرت له نيرمينا بجهل ولم تكد تجيبه حتى وجدت مختار يسحب الدراجة بالصبي جانبًا، وأشار له على رقبته بتحذير ومن ثم عاد صوب نيرمينا بملامح قاتمة تظهر نفاذ صبره الواضح ..
أشار لها أن تقف مجددًا حتى ينتهي من هذا وما كاد يلتقط الصورة حتى وجد الصبي يقف أمامه مرة أخرى يردد بضيق :
” أنت بتمسك العجلة كده ليه يا عم أنت ؟! ”
اعتدل مختار في وقفته، دس الهاتف في جيب بنطاله، ثم اقترب من الصبي الذي بدأ يدرك خطورة ما القى نفسه فيه، وقبل أن يصل له مختار تراجع الصبي للخلف بسرعة كبيرة مستخدمًا دراجته، مما جعل نيرمنا تعود تلقائيًا للخلف بقوة ولم تعي شيء سوى أن قدمها لم تخطو على أرضية، بل أصبحت معلقة في الهواء وفجأة أطلقت صرخة عالية خطفت دقات مختار الذي استدار لها كالرصاصة .
ولم يسمع مختار بعد صرخة نيرمنيا سوى صوت اصطدام جسدها بالمياه، لتتسع عيناه ويدفع الصبي جانبًا بقوة مسقطًا إياه هو والدارجة وركض يخلع سترته ملقيًا إياها ارضًا، ثم ألقى نفسه في المياه خلفه ..
في الوقت الذي ظهرت نيرمينا على سطح المياه تتنفس بصوت مرتفع، وقد أنقذها أنها تستطيع السباحة من الأساس، نظرت نحو الصبي الذي نهض وغادر سريعًا لتصرخ به :
” والله لاجيبك يا زبالة، عيل حيوان ”
فجأة أبصرت جسد مختار يسبح جوارها وهو ينظر لها بشر لتبتسم له بغباء :
” ايه بتبص كده ليه ؟؟”
أشار لها مختار بغيظ شديد :
” لما أنتِ بتعرفي تعومي بتصرخي ليه ؟؟”
مسحت نيرمينا وجهها تبعد قطرات المياه عنه تقول وهي تتحرك صوب حافة البحيرة لتخرج :
” مش فاهمة قصدك ايه، بس لو بتسأل عليا فأنا زي الفل، المايه حلوة الصراحة ”
تحرك مختار بحركات سريعة صوب الحافة ليجدها تحاول الصعود بكل برود وهو الذي كاد يموت رعبًا حينما رأى مظهرها تسقط أمامه، لذلك جذب مختار قدمها مسقطًا إياها مرة أخرى دون اهتمام، ثم صعد وأمسك السترة الخاصة بها ومن ثم حمل الهاتف يلتقط لها صورًا عديدة وهي تنظر له بشر وجسدها يطوف أعلى البحيرة ..
ابتسم مختار يرفع إبهامه في الهواء دلالة أن الصور رائعة .
_____________________
كانت ما تزال مستكينة بين أحضانه وقد فقدت شعورها بأي شيء سوى ذلك الدفء النابع منه، دفء افتقدت الشعور به منذ رحل المصدر الوحيد الذي كانت تستمده منه ..
ابتسمت تسبيح والراحة تتسرب لها بخبث شديد، بينما رائد ابتسمت بسمة واسعة، يجاهد لكتم ضحكاته على ملامحها المسترخية وكأنها على وشك السقوط في غفوة، وتسبيح كانت كالطفلة التي لم تصدق وجود دفء احضان في وسط برد الشتاء وسقطت بالفعل في نومة سريعة جعلت أعين رائد تتسع بصدمة وهو يبعد رأسها عن صدره حينما سمع صوت انتظام تنفسها…
” دي …دي نامت بجد ؟؟”
ضحك بعدم تصديق ينظر حوله كأنه يبحث عمن يؤكد له ظنه، ابتلع ريقه يربت على وجنتها بلطف شديد :
” تسبيح، أنتِ يا ماما اصحي أنا لسه متكلمتش كلمة حتى، يابنتي لسه مقولتش الكام جملة اللي حضرتهم ”
لكن تسبيح لم تسمع منه شيء ولم تسمع سوى سمفونية هادئة تدعوها للنوم أكثر وأكثر، مال رائد على رأسها المستند أعلى صدره يشتم أنفاسها :
” هو حد شربك حاجة ولا ايه ؟! اصل مش طبيعي تنامي براحة في موقف زي ده وأنتِ واقفة كمان ”
اعتدل لا يدري ما يفعل، فجأة سمع تمتات تسبيح التي كانت تطلقها خلال نومها، لتتعالى ضحكات رائد بصخب كبير، ثم انحنى بسرعة يلتقط جسدها كله بين أحضانه وهي استكانت براحة شديدة هناك ..
قبّل رائد جبهتها بحب، ثم تحرك صوب باب الغرفة ينادي والدته بصوت هادئ خشية أن يوقظها :
” امي …يا امي ”
ركضت له نعمة والتي كانت تنظف المنزل مع بعض فتيات القرية اللواتي جئن للمساعدة :
” نعم يا حبيبي ….ايه ده ؟؟ هي نامت ؟؟ ”
نظر لها رائد بحنان شديد، ثم قال بحب ولطف :
” تقريبًا كانت الايام اللي فاتت سهرانة بسبب التوتر وتعبت فنامت من غير ما تحس، معلش بس شوفي لو فيه راجل في الطريق عشان مش عايز انزل نقابها وهي نايمة لاحسن تتخنق ”
هزت والدته رأسه وهي ما تزال تنظر صوب تسبيح بدهشة كبيرة، لكنها تحركت بسرعة تستكشف الطريق له، ومن ثم عادت تقول :
” تعالى يابني مفيش رجالة في الصالة ”
عدّل رائد من وضعية حمله لتسبيح، يتحرك صوب الدرج صاعدًا إياه بخطوات واسعة وهو يحرص على ألا تتعرض تسبيح لأي ازعاج، وبمجرد أن وصل لذلك الطابق تحرك صوب الغرفة التي تقطنها تسبيح وحاول فتح الباب بصعوبة شديد وهو يلقي بجسدها على كتفه يرفع يده بسرعة يفتح الباب ثم دخل مغلقًا إياه خلفه ..
وضعها على الفراش بحنان شديد يساعدها لتخلع ذلك الحذاء النسائي الابيض ومن ثم النقاب الخاص بها، واخيرًا خلع الحجاب، واطال النظر فيها لثواني قبل أن يتحرك مقتربًا منها ينحني بنصفه العلوي هامسًا :
” اعتقد مفيش طريقة اغرب من دي لقضاء يوم كتب كتابنا يا توتا ”
صمت يراها تنام بشكل هادئ، وملامح غاضبة بعض الشيء ليبتسم متحسسًا خصلاتها المتموجة بعض الشيء، ومن ثم قال بتفكير :
” بس مفيش مانع لو ختمناها بشكل الطف”
وفورًا تمدد جوارها ببطء شديد وحرص ألا تستيقظ، وبعدها مد يديه يجذب جسدها له لتنام بين مسكنها الذي سقطت به في النوم .
تنهد تنهيدة عالية مرتاحة وهو يقول :
” وبكده نختم ليلتنا الاولى سوا بشكل احسن، تصبحي على خير يا توتا ”
______________________
دخل غرفته كي يبدل ثيابه ويرتاح قليلًا من ذلك اليوم المرهق، ابتسم يتحرك صوب المرحاض الصغير الذي أصر على والده لبنائه داخل غرفته حينما بلغ الثامنة عشر، مدلل كان وصعب المراس تمامًا كوالدته، فإن صدقت تلك الحرباء في شيء فهو أنه يشبه طباع والدته بالضبط .
ابتسم بسمة شجن وهو يتحرك صوب فراشه يمسك الصورة التي تتوسط الطاولة جواره يتحسسها بحب :
” شوفتي رانيا يا ميرو ؟؟ عجبتك ؟؟ ”
صمت ثم رفعها يقبلها بعشق كبير :
” متاكد انك هتحبيها اوي، لأني أنا كمان بحبها وأنتِ قولتي أنك بتحبي أي حد أنا بحبه صح ؟؟”
صمت ثم قال ببسمة وضحكة خافتة :
” وانا برضو بحب اي حد بتحبيه ومش بحب اللي مش بتحبيه، عشان كده عمتي متغاظة مني ”
سقطت دمعة على الصورة بين يديه وقد سافرت به ذكراه لذلك اليوم الذي شيدت فيه صفاء قلاع كرهٍ داخل عقل صالح ..
بعد وفاة والدته بيوم، وبعد دفنها قرر أن يدفن نفسه معها ويعيش بلا روح، سجن نفسه في غرفته ورفض مقابلة أحد أو أخذ العزاء أو مجاورة شقيقه ووالده، فقط يبكي بلا توقف ويدفن نفسه بين طيات فراشه ..
حتى فُتح باب غرفته بعنف شديد يسمع صوت صيحات عمته وصوت والده الذي يحاول أبعادها عنه .
” يا صفاء مش كده، بقولك الولد مش قادر دلوقتي سيبيه في حاله ”
صرخت به صفاء وقد ساءها أن يبكي بهذا الشكل دون أن يتمالك نفسه، غير مدركة لما اضطر أن يراه ويتعايشه ..
” ويفضل كده لغاية امتى يعني ؟؟ هيفضل يبكي عليها لغاية امتى ؟؟ مش يبقى راجل كده ويقوم ياخد عزاها؟؟ أمه خلاص ماتت بلاش يوقف حياته بالشكل ده ”
كان صالح يهتز بجسده وهو يدفن رأسه بين ساقية المضمومتان إلى صدره يتحرك للإمام والخلف وهو يزيد من هدير بكائه، لا يود سماع صوت أحد ..
ثواني ووصل له صوت صلاح الذي حاول تدارك الأمر بين عمته ووالدته :
” يا عمتي مينفعش كده، الدكتور قال منضغطش عليه، لو سمحتي اتفضلي برة وسيبيه لوحده ”
صرخت صفاء في وجهه بعنف شديد :
” أنت كمان هتقولي اسيبه لوحده ؟؟ الناس برة يقولوا ايه؟ مش عايز يطلع ياخد عزا امه ؟؟ نقولهم معلش اصل الاستاذ مش قادر يمسك نفسه لما العزا يتفض عشان يقعد يعيط عليها ؟!”
ارتفع صوت بكاء صالح أكثر وبدأ جسده يرتعش لتزيد من حدة صراخ صفاء وصوت مرتضى يعلو أكثر وأكثر يحاول إخراج أخته من المكان، أخته التي رضعت القسوة مع حليب والدتها وورثت الشدة مع منصبها ككبيرة للعائلة بأكملها ..
” يا صفاء مينفعش اللي بتعمليه ده، سيبي ابني في حاله، يا ستي أنا مش عايزه ياخد العزا معانا، سيبيه في حاله الله يكرمك ”
” افضل أنت كده دلعه واعمله اللي عايزه، لما هيطلع طري وملوش شخصية، من صغره وانا اقولك أنك مدلعه وغلط اللي بتعمله بس انت مسمعتش واهو شوف اللي ….”
الاصوات تتزايد حول صالح والصراخات تتقاذف بين الاثنين وصوت بكاء صالح يزداد بقوة، حتى انتفض الجميع على صرخة صلاح الذي خرج واخيرًا عن هدوءه وطارت آخر ذرات تعقله يدفع بعمته للخارج دون وضع أي اعتبار لسنها، انهيار صالح جعله يفقد أعصابه وهو يصرخ بها في جنون :
” اطلعي برة، اطلعي برة الاوضة والبيت كله، ملكيش دعوة بيه، برة، اخرجي من هنا ملكيش دعوة بينا”
كان يتحدث وهو يدفعها بشكل هيستري جعل مرتضى يسحب شقيقته بخوف من تصرفات صلاح والذي كانت عروقه بارزة بشكل مرعب وعيونه حمراء وصوته جلب انتباه الجميع في المنزل :
” ملكيش دعوة باخويا، عايزة روحي خدي أنتِ العزا لاحسن الناس ياكلوا وشك، لكن اخويا متقربيش منه، محدش ليه دعوة بيه، كلكم ملكوش دعوة بيه ”
أنهى حديثه، ثم نظر لوالده وهو يتنفس بعنف شديد ليجذب والده صفاء المصدومة للخارج مقدرًا حالة ابنه، وصلاح اغلق الباب بقوة، ثم تحرك صوب الفراش سريعًا يجذب جسد صالح له وهو يهمس له أن كل شيء سيكون بخير، يهمس له أنه جواره للابد، ويقبل رأسه بحب :
” عيط يا حبيبي، عيط واوعى تكتم حزنك، عيط يا صالح، عيط وانا جنبك على طول ياقلبي ”
وفجأة ضمه صالح بقوة وهو يشهق ويبكي ويردد كلمات حول والدته، كلمات لا علاقة لها بأي شيء وهو يصرخ وجعًا :
” قتلها ….هي ملهاش ذنب …قتلها يا صلاح ”
سقطت دموع صلاح وهو يتسطح جاذبًا رأس أخيه له يقرأ عليه كل ما يتذكر من آيات القرآن ويردد له أن يهدأ، وصالح يحاول أن يخفي جسده في أخيه مرتعشًا، وصلاح يغمض عيونه وهو يتحدث معه في أمور لا علاقة لها ببعضها فقط ليشغل باله عن أي وجع قد يناله .
” صالح بقولك …”
انتفض صالح عن فراشه فجأة حين سمع صوت صلاح، ليمسح دموعه بسرعة ملقيًا صورة والدته على الفراش وهو ينظر له ببسمة صغيرة :
” نعم يا صلاح ؟؟”
نظر له صلاح بشك :
” أنت كنت بتعيط ؟!”
هز صالح رأسه بلا، ليقترب منه صلاح يتحدث بجدية كبيرة :
” اوعى يكون كلام عمتك زعلك ؟!”
نفى صالح برأسه يقول بمشاكسة :
” لا، أنت عارف أن كلامها مبقاش يفرق معايا، بعدين أنا مش بسكت ليها ”
ربت صلاح على كتفه بحب قبل أن يضمه له، ثم قال بجدية :
” اوعدني في أي لحظة تزعل تيجي تقولي، الحمل بيخف لو شاله اتنين يا صالح ”
بادله صالح العناق وهو يقول بغموض شديد وصوت هامس :
” والكلام نفسه ليك يا صلاح، اوعى في يوم تشيل همومك لوحدك، مش معنى أنك اكبر بدقيقتين يبقى تعيش دور الكبير عليا وترفض تشاركني في أحزانك ”
نظر له صلاح بأعين غائمة بالعديد من المشاعر لكنه رغم ذلك ابتسم بسمة صغيرة هامسًا :
” صدقني لو الاحزان دي كانت أحزاني أنا مكنتش هلاقي غيرك اشاركه فيها، لكن مقدرش اقول حاجة”
ابتسم له صالح يمازحه بحب :
” خلاص مش لازم تقول، عيط من غير ما تتكلم ”
أطلق صلاح قهقهات عالية عليه وهو يربت عليه بحب شديد :
” اوعدك وقت ما احتاج اعيط، هاجي اقولك عايز اعيط يا صالح، اصلا مش هتلاقي غير حضنك تعيط فيه ”
ضمه صالح بحب كبير، فصلاح ليس شقيقه وتوأمه فقط، بل هو انعاكس لنفسه، النص الآخر لروحه:
” إن شاء الله متجيش اللحظة دي يا صلاح ”
_________________
ها هو اليوم قد انتهى واخيرًا وحانت لحظته مع نفسه ليحتفل كما يجب أن يكون، نظر حوله في المنزل يبحث عن شيء ما وهو يفكر ما الذي ينقصه لمثل هذا الاحتفال ؟!
نعم، شريك .
لذلك تحرك سريعًا صوب الطابق الذي يوجد أسفل المنزل وهو ينادي بصوت مرتفع وسعادة طاغية :
” ماجد …ماجد أنت فين ؟؟”
وصل له صوت والده وهو يجيبه بلا تركيز تقريبا :
” مكاني يا محمود، هكون فين يعني ؟؟”
وصل محمود حيث والده ليجده كالعادة مندمجًا فيما يفعل يقطع اجزاء من بعض النباتات يغمسها في سائلٍ ذي لونٍ غريب، ثم يضعه أسفل المجهر وهو يتساءل :
” خير جيت بدري يعني ؟!”
استند محمود على طاولة الادوات الخاصة بوالده ينظر حوله لكل تلك النباتات المتناثرة بشكل عشوائي :
” بدري ايه بس يا ماجد، أنا مطبق من امبارح في شيفت”
” أيوة وايه الجديد أنت بتطبق باسبوع ومش بشوف وشك في البيت غير لما تحتاج تغير هدومك اللي عفنت عليك ”
التوى ثغر محمود بحنق من حديث والده :
” ده عشان بكون عند صالح اساسا، واه على فكرة أنا بغير هدومي وبلبس من عنده مش بعفن، المهم كنت عايز اقولك حاجة مهمة كده ”
ابتعد ماجد عن المجهر وهو يولي كامل انتباهه لولده، بينما محمود ابتسم بسمة واسعة :
” حبيت اشاركك فرحتي و…”
لكن قاطع حديثه صوت ماجد الذي قال كما لو أنه تذكر فجأة :
” اه صح قبل ما انسى عمك رأفت كلمني عشان حوار يخصك كده وقالي اقولك عليه ”
اتسعت عين محمود بدهشة كبيرة :
” ايه ده هو عرف منين اني فرحان ؟! ”
نظر له ماجد بعدم فهم ليوضح له محمود بغيظ شديد :
” اصل عمي مش بيلاقي وقت يقوي أواصر العيلة العزيزة غير لما اكون فرحان ومزقطط كده ”
امسك ماجد محرمة يمسك بها كفيه جيدًا وهو يقول بصوت منخفض خائفًا من هياج ابنه حين يسمع ذلك الخبر الذي سيلقيه على مسامعه، لكنه قاله على أية حال :
” لا ما هو اللي انا هقوله ده فرح برضو ”
نظر له محمود بشك جعل ابتسامة ماجد تتسع أكثر وأكثر، ليدرك محمود في تلك اللحظة أن القادم لن يعجبه بأي شكل من الأشكال، لكنه رغم ذلك استمع باهتمام لوالده ..
وماجد قال بهدوء مُقلق :
” اصل عمك شافك مش نافع في حياتك العملية فقال يساعدك في حياتك العاطفية ”
اتسعت أعين محمود بقوة وهو يلتقط بعض النباتات المتناثرة على الطاولة يحركها بين أصابعه :
” هو بيراقبني ولا ايه ؟؟ متقولش هيجي يتقدم معايا لهاجر ”
انكمشت ملامح ماجد بعدم فهم :
” هاجر مين؟! هي اسمها سحر ”
رفع محمود عيونه عن تلك النباتات الغريبة :
” سحر مين ؟؟ أنا هتجوز هاجر ”
صمت ثم أضاف بتشنج :
” بعدين أنا معرفش حد اسمه سحر ”
وضح له ماجد يستند بيده على الطاولة وهو يشمر أكمام قميصه مرتديًا نظارته التي يخفي خلفها أعين تشبه عين ولده :
” ولا هتعرفها، بس هي عارفاك كويس اوي وشكلها لمحت لابوها اللي هو اخو مرات عمك، وهو راح كلم أخته اللي هي مرات عمك ”
تناول محمود تلك النباتات التي استفزته بملمسها الجميل يمضغها دون أن يعلم هويتها :
” أيوة طب وانا مالي بمشاكل عمي ومراته وأخوها ؟!”
انتفض جسد ماجد عن الطاولة صارخًا يمسك فك ابنه ليمنعه ابتلاع تلك الأوراق :
” أنت يا مصيبة بتعمل ايه ؟! تف يازفت تف اللي طفحته يا متخلف دي مرخية للأعصاب وممكن تعملك شلل ”
بصق محمود النبتة بسرعة كبيرة وسارع ماجد يفحص فمه قبل أن يضربه على رأسه بقوة يصيح في وجهه :
” أنت ياض رمرام ؟؟ أي حاجة على بؤقك على طول كده، جاتك القرف في خلفتك ”
أنهى حديثه يمد يده له بسائل ارتشفه محمود بسرعة يقول بحنق شديد وتذمر من معاملة ماجد له :
” ما هي اللي ريحتها زي المانجة”
” تقوم راميها في بلاعتك من غير تفكير ؟؟ أنت فاكر نفسك فين؟! سوق الخضار ؟؟ هنا اي حاجة بتكون مضرة اكتر من انها نافعة ”
نفخ بضيق شديد ثم قال :
” استغفر الله يارب على البلوة اللي جاية تعكر عليا آخر أيام حياتي دي ”
التوى فم محمود بتذمر شديد وهو يسمع حديث والده الذي أخذ يلملم النباتات من أمام أعين ذلك الكارثة المسماة ابنه :
” قصره، اقول لعمك ايه ؟؟”
ابتسم محمود يرد بدون تفكير :
” قوله مكانش بطيتعز يا غالي، بس انا اساسا مش طايق العلاقة من طرف واحد، عايز تربطني بيك من طرف تاني ؟؟”
رفع ماجد حاجبه يقول بسخرية :
” أقوله كل ده ؟!”
” لا قوله الجزء الاول بس، التاني ده فضفضة مني ليك ”
ضحك ماجد وهو ينفض يديه حين انتهى ثم قال :
” طب قولي بقى ايه اللي كان مفرحك اول ما دخلت ؟!”
اقترب منه محمود فجأة وكأن الحماس دبّ في الصاله مرة أخرى :
” أيوة صح فكرتني، أنا كلمت اخو هاجر وهروح أقابله بكرة، ادعيلي اتوفق ويوافق عشان نتقدم رسمي ”
شقت بسمة حنونة فم ماجد وهو يتحسس وجه ابنه بحب شديد وعيونه بدأت تترقرق بدموع السعادة :
” يا حبيبي ألف مليون مبارك يا حودة، ربنا يتمم ليك على خير يا بني ”
حدق به محمود ثواني قبل أن يلقي بنفسه بين احضان ماجد، يضمه له بقوة وهو يردد :
” ربنا يديمك ليا يا بابا، أنا لولاك مش هكون موجود، أنا كملت حياتي عشانك وعشان أنت معايا بس ”
ابتسم ماجد باتساع يزيد من ضمه لمحمود :
” وانا لو عايش في الدنيا دي عشان حاجة، فأكيد عشان شغلي يابني ”
ضحك محمود بصوت مرتفع يبتعد عن ماجد وهو يمسح دمعة وهمية :
” كده يا ماجد وانا اللي لسه كنت هدمع؟! طب انسى اني أديك من الاكل اللي جبته ”
اعتدل والده في وقفته بملامح جادة :
” ايه ده بجد جبت اكل !! أنا هموت من الجوع من بدري”
ابتسم له محمود يتحرك خارج المعمل :
” لا خلاص مفيش اكل ”
ركض ماجد يتجاوز محمود بسرعة كبيرة صوب المطبخ :
” عندك حق، مفيش اكل ليك ”
اتسعت أعين محمود بصدمة ليسرع بالهرولة خلف والده يعلم القادم، فماجد حينما يقضي ساعات طويلة داخل المعمل يتحول لوحش على استعداد تام لاكله هو شخصيًا ..
” لا بابا متهزرش أنا جايب اكل لينا احنا الاتنين، طب …طب استنى طيب اصبر أنا جعان أنا كمان …”
_____________________
نجح الجزء الاول من خطته، حيث وضع ميمو بالتحديد داخل غرفته هو، ليستغل وجود نافذة على الحديقة الخلفية وتتيح له تنفيذ ما خطط له ..
وقف يعدل من وضعية ثيابه، ولاول مرة يرتدي رابطة عنق بلا سترة، فقط قميص ابيض وبنطال اسود ورابطة عنق سوداء زادته وسامة .
ابتسم يشير بإصبعه صوب رائد وصالح اللذين يحملان العديد من البالونات، وهو أيضًا يحمل بين أصابعه بالونات، لكن خاصته كانت مميزة، إذ وضع في آخر خيط البالونات خاتم الخطبة الذي انتقاه بكل حب .
تنفس صلاح بصوت مرتفع قبل أن يخرج هاتفه يتصل بها، ثواني ووصل له صوتها، ابتسم بسمة واسعة فقط لسماع نبرته الناعسة بعض الشيء، ولم يطل الحديث إذ قال :
” اطلعي للشباك اللي جنب دولابي .”
تعجبت ميمو مما يقول، تفرك عيونها بقوة محاولة استيعاب ما يحدث، لكن صوت صلاح جعلها تنتفض بسرعة متحركة صوب النافذة وضربات قلبها تزداد دون معرفة شيء، لكن نبرته وحدها كانت كافية لتشعرها أن هناك ما يخفيه ..
وقفت ميمو بالنافذة وهو ما يزال يقف في الاسفل يمسك خيط به العديد من البالونات الملونة وفي نهاية الخيط وضع خاتمها.
اول خطوة لتحقيق حلمها الذي أخبرته عنه قبلًا .
اتسعت عيون ميمو بقوة وقد بدأ قلبها ينتفض وهي تشعر بالكون حولها بدأ يحتفل ويتراقص لأجلها، احضر لها بالونات ووقف أسفل نافذتها كما تخيلت يومًا ؟!
ضحكت بعدم تصديق وهي تضع كفها أعلى فمها :
” أنت…أنت بتعمل ايه ؟؟”
ابتسم صلاح بسمة واسعة وهو يقول بحب :
” بحقق أول احلامك ”
شعرت ميمو بتجمع دموع في عينها، ولأول مرة تكون دموعها فرحة وليس حزنًا أو وجعًا أو حتى قهرًا .
ابتلعت ريقها تقول :
” أنا …أنا مش ..صلاح بجد أنا حاسة قلبي هيقف من الفرحة ”
وكانت هذه الكلمات البسيطة اكثر من كافية لذلك الرجل ليخر ارضًا يطالبها بالرحمة، ارتجف جسد صلاح شوقًا لها وهو يقول في الهاتف وعيونه مثبته على وجهها :
” خليني المرة دي اعرضها بشكل مختلف يا ميمو …”
صمت قبل أن يقول بصوت أجش محمل بكل مشاعره :
” تقبلي تكوني زوجتي العزيزة وبطلتي الوحيدة اللي هذكرها في كل فصول حياتي يا مقدس ”
سقطت دموع ميمو بقوة وهي تشهق بصوت مرتفع جعل صلاح ينظر لها بخوف، لكن قاطعت هي نظرات خوفه تهز رأسها بسرعة كبيرة :
” أيوة …موافقة يا صلاح، موافقة ”
ابتسم صلاح وهو يقول بحب كبير :
” طب أنا هسيب البلالين تطلع شوية لغاية عندك امسكيها، ماشي ؟!”
ورغم أنها لم تفهم ما يريد إلا أنها قالت بسعادة :
” ماشي، سيبها ”
ابتسم صلاح وهو يحرر الخيط شيئًا فشيء من بين أصابعه، مع احتفاظه بنهايته حتى يتأكد أنها أمسكت بهم ويتركه، وحينما تأكد انها فعلت ابتسم وقال :
” تمام سيبيهم براحة وامسكي نهاية الخيط ”
وبتلك الكلمات حرر صلاح الخيط ببطء شديد يراقبه يعلو في الهواء بسبب امتلاء البالونات بغاز الهيليوم الذي يتسبب في طوفانها .
نظرت له ميمو بتعجب وهي تمسك بالبالونات، لكن فجأة انزلقت من بين أصابعها لتطير في الهواء وتبتعد عنها وهي حاول القفز وامساكهم، لكن فشلت مساعيها، ولم تكد تعتذر لصلاح عن الأمر حتى سمعت صرخة صلاح المقهورة :
” البالونات …يا مصيبتي البالونات ”
نظرت له بتعجب واعتذرت :
” معلش غصب عني، اعتبرني اخدتهم ”
أعاد صلاح خصلات شعره للخلف بصدمة وهو يحدق بالبالونات تبتعد عنهم بحسرة يكاد يبكي :
” اخدتي ايه يا مصيبة البالونات فيها الخاتم ”
” خاتم ؟!”
” أيوة الخاتم، مش دي أمنيتك اعلق الخاتم في البالونات”
شهقت ميمو بصوت مرتفع في الوقت الذي خرج صالح من خلف المنزل وهو يقول بتشفي واضح ومازال يحمل باقي البالونات بين أصابعه والتي كان من المفترض أن يتركها تطير في الهواء من حولهم حينما تردي الخاتم :
” عشان قولتلك بطل الفزلكة بتاعتك دي وارميلها علبة الخاتم في وشها هي تتصرف فيها براحته، تطيرها بقى تعلمها سباحة هي حرة، لكن ازاي أي تقاليع فارغة وخلاص”
استدار صلاح لصالح يصرخ غاضبًا في وجهه وهو يجذب ثيابه له :
” أنت هتقف تشمت فيا يا خويا، اجري اتنيل شوف البالونات راحت فين ”
” هو ايه اللي اشوف البالونات راحت فين دي ؟؟ ايه بتكلم دكر وز هطير وراهم ؟؟ انت عبيط يا حبيبي ؟!”
زفر صلاح بقوة وهو يشير لرائد :
” مستخبي ليه ما تتنيل تطلع أنت التاني، اجري شوف أي عيل يضربهم بنبلة أو ينشن عليهم وهاتوا الخاتم منك ليه ”
في تلك اللحظة كانت ميمو قد هبطت لهم وهي ترتدي أحد السترات الصوفية الخاصة بهم، وبمجرد أن وصلت لهم وضعت يدها على فمها بقوة تكتم ضحكة صاخبة كادت تفلت من فمها، لكن نظرات صلاح للسماء وهو يبحث عن البالونات بعيون متحسرة جعلتها تنطلق في الضحك بقوة …
” أنا آسفة والله بس …بس مش قادرة بجد، يارب هموت، نظراتك هتموتني ”
نظر لها صلاح بغيظ شديد وهي تزيد من ضحكاتها في الوقت الذي تحرك صالح بعيدًا عنهم بتفاخر :
” عشان بس تسمع كلامي، أما اروح اتصل برانيا اقولها تقف فوق السطح يمكن البالونات توصل ليها ويبقى من نصيبها الخاتم ”
رمقه صلاح بشر ليقترب منه رائد يقول بصعوبة كبيرة بسبب كتم ضحكاته :
” معلش يا صلاح …تعيش وتطيّر يا حبيبي ”
وبمجرد انتهاء كلماته انفجر في ضحك صاخب وهو يحمل باقي البالونات يقول بصوت ضاحك :
” وبما إن مصائب قومٍ عند قومٍ فوائد، فأنا هاخد باقي البالونات دي لزوجتي العزيزة طالما كده كده الليلة خربت على دماغك ”
راقبهم صلاح يرحلون وهو فقط مقتضب الملامح جامد الوجه، لكن صوت ضحكات ميمو جعله ينظر لها وهي لم تتمكن من كتم ضحكتها لتسقط ارضًا جالسة :
” والله حقك عليا، بس …بس مش قادرة، مكانش قصدي غضب عني ”
نفخ صلاح يجلس ارضًا جوارها يرفع أكمام قميصه وهو يقول بنزق :
” اهي الليلة باظت والدنيا باظت، قعدت اظبط فيها ساعات ”
نظرت له ميمو من بين ضحكاتها بأعين تلتمع بمشاعر عديدة، ومن ثم ابتسمت له بحب كبير :
” أنا فرحت اوي، ولاول مرة احس بالفرحة والضحكة خارجة من قلبي، شكرا ليك، واسفة اني بوظت اللي كنت بتخطط ليه”
اطال صلاح النظر لها ثم هز رأسه بهدوء وقال مبتسمًا بحنان :
” مش اتبسطتي ؟؟”
هزت رأسها بنعم ليحرك كتفيه :
” يبقى فداكِ يا مقدس ”
شعرت ميمو بقلبها يعلن احتفالًا بمناسبة عيد مولده الاول بعد ركود طويل، حدقت فيه وقالت :
” أنا سعيدة اوي ”
” عشان البلالين ؟؟ لو تحبي ممكن أخد باقيتهم من رائد ونطيرهم و…”
قاطعته ميمو وهي تقول بتأثر شديد :
” لا مش قصدي كده، مع أن البلالين فرحتني، وأنك فاكر كلام في لحظة انهيار ليا، بس …بس انا سعيدة أنك بتناديني باسمي، اسمي اللي دفنته وانا خايفة شخص يلوثه بعد ما كان انقى شيء في حياتي ”
عيونها وهي تتحدث له، حركات يديها وهي تتحدث له، حركات رأسها وبسماتها التي تتخلل حديثها، كل تلك الإماءات جعلته يتلذذ بالحوار، ويستشعر بقيمة الثانية التي تمر عليه وهو جالس أمامها ..
كانت العلاقة بينهما في تلك اللحظة طردية، هي تتحدث وهو يحسن الاستماع، تشير وهو يستجيب لها، تبتسم وهو يهيم.
” اسمك جميل اوي ومميز وكأنه بيوصفك بالضبط”
رمقته بفضول ليتساءل هو :
” مين اختارلك اسمك ؟!”
وسريعًا ارتسمت بسمة حنونة على طرف شفتيها تنطق اسمها بتلذذ شديد وكأنها تفتقد أن يخرج منها ذلك اللفظ التحببي الذي لم تجد ما ينافسه جمالًا:
” ماما، هي اللي اختارت ليا الاسم ده، وعلى عكس تفكير ناس كتير، فالاسم الحقيقة مش وراه قصص حماسية وهكذا هو كان في الحقيقة الاسم اللي ماما كان ليها حق اختياره، وهي من صغرها كانت شغوفة بالقضية الفلسطينية وأخبارها وكان نفسها تكون مذيعة وتسافر غزة وهكذا”
ابتسمت بحزن وهي تكمل :
” لكن خاب أملها لما جدي جوزها وهي صغيرة، فقررت تخليني احقق أحلامها، وحاربت عشان تسميني اسم لشيء هي بتحبه، فقررت تديني اسم مَقدس ”
مال صلاح قليلًا وهو يردد ببسمة :
” وكان عندها وجهة نظرة لأن الاسم بيوصفك تمامًا ”
نظرت له بفضول، لكنه تجاوز ذلك الجزء لجزء اهم، أن يعرض عليها عقد قرانهما فقد تاق لضمها له، ومل من ذلك البعاد :
” ميمو…هو ممكن ا…”
وقبل أن يكمل كلمته وجد جسد يقاطع جلستهما بقوة وهو يركض صوب ميمو يجذبها من اكتافها وجسده ينتفض بقوة ..
ولشدة توترها من ملامح مختار المرتعبة والشاحبة قالت وهي تضم وجنتيه بحب وحنان :
” مالك حصل ايه ؟؟”
تحفز جسد صلاح بقوة وقبل أن يتدخل بكلمة أشار مختار باصابعه لها بكلمات لم تكن مفهومة لصلاح لكنها جعلت أعين ميمو تتسع بقوة وهي تردد برعب :
” نيرمينا ؟؟ راحت فين ؟؟ مش لاقيها ازاي ؟؟”
______________________
” لا يا رانيا أنا قولت مش هتكلم معاه تاني، هو مين عشان يدي لنفسه الحق أنه يزعقلي بالشكل ده ؟؟”
كانت تلك الكلمات تتردد في غرفة رانيا بقوة تكاد تحطم الجدران أعلى رؤوس قاطني المنزل، وكل ذلك لأنها تحدثت معها حول غضبها من عبدالجواد .
ابتلعت ريقها تحاول أن تجد ثغرة للدخول منها، لكن مروة قطعت عليها أي طريق وهي تردف بجدية :
” رانيا متتكلميش معايا في الموضوع ده لو سمحتي، اخوكِ اساسا عايز يتربى ”
تمتمت رانيا بصوت منخفض وهي تعبث في هاتفها بلا اهتمام :
” والله الأربعة عايزين يتربوا، اكسبي فيهم ثواب وشوفي حد يربيهم معاكِ وأنتِ بتربي عبدالجواد، عشان يعرفوا أن الله حق ”
” بتقولي ايه !!”
ابتسمت رانيا وهي ترفع رأسها لمروة مرددة بجدية كبيرة :
” لا يا حبيبتي بقولك أنتِ صح ”
فجأة انتفضت رانيا من جلستها بسبب اهتزاز هاتفها والذي أصبحت تضعه على وضعية الصامت اغلب الوقت تحسبًا لوجود أحد اخوتها جوارها، والذين إن علموا أمر حديثها مع صالح في الهاتف لحطموا الهاتف فوق رأسه واطعموه إياه..
نظرت لها مروة بشك لتبتسم رانيا بسمة صغيرة وهي ترى اسم صالح ينير هاتفها، تراقص القلب طربًا لرؤية احرف اسمه أمامها.
ابتسمت لها مروة وهي تنتزع حقيبتها عن المقعد وتسير خارج الغرفة بأكملها :
” طب همشي أنا بقى عشان تتكلمي براحتك ”
ابتسمت لها رانيا وهزت رأسها تودع مروة، خرجت من الغرفة وتحركت للاسفل، ومنه لباب المنزل لكن وقبل أن تصل له توقفت أمامه على صوت عبدالجواد الذي ناداها :
” مروة لحظة ”
توقفت مروة واستدارت له ببطء وقالت بهدوء :
” نعم يا باشمهندس ؟؟ فيه حاجة ؟؟”
نظر لها عبدالجواد بحنق شديد لا يعجبه تلك المعاملة التي أضحت تتبعها معه وكأنها تنتقم منه عن طريق تجاهلها ومعاملتها الرسمية معه .
” مروة ما كفاية المعاملة دي، أنا مكانش قصدي احرجك قدام حد، أنتِ اللي عصبتيني اساسا وأنتِ بتطلبي مني اصورك معاه، بالله عليكِ مين يتسحمل كده، اصلا مينفعش”
” هو ايه اللي مينفعش يا باشمهندس ؟! أنا بس معجبة بكتاباته مش اكتر، اكيد يعني مش هبصله بالشكل اللي في دماغك ”
زفر بصوت مرتفع وهو يحاول توضيح وجهة نظره لها، وهي التي لا ترى ابعد من أحلامها الزاهية:
” مروة الموضوع مش بيتقاس كده، ده في الاول والاخر راجل وغريب عنك، وانا مقدرش اسمح أن شيء زي دي تحصل، فقدري موقفي ”
نظرت له مروة بملامح حزينة وقالت وهي تستشعر خطأها:
” أنا بس كان نفسي اتكلم معاه في الروايات بتاعه واخليه يوقع ليا على باقي الكتب والروايات والله ما كان قصدي حاجة وحشة ”
وتلك النظرات أثارت في نفسه حزنًا وضيقًا، فزفر وهو يقول بتفكير :
” يعني لو خليته يوقعلك على الكتب بتاعك هتسامحيني وتكلميني عادي ؟!”
نظرت له مروة بصدمة وعدم فهم لتلك الكلمات :
” ايه ؟؟”
_______________
في الاعلى حيث رانيا …
كانت تتحرك في الغرفة ذهابًا وايابًا وهي تسمع صوت صالح يصدح في هاتفه، تحاول أن تكتم بسمتها وكأنه يراها .
” بتحبي البلالين يا رانيا ؟!”
تعجبت رانيا السؤال، لكن خيالها الخصب أقنعها أن تسير مع في تلك المحادثة وتجاريها، لربما قرر صلاح أن يفعلها ويفاجئها بشكل رومانسي :
” اممم بحب البلالين الحمرا اوي ”
نظر صالح للبالونات امامه وهو يفكر :
” للاسف اللي معايا ابيض و اسود، بس تقريبا رائد خد الحمرا، هروح اجيبهم منه ”
ضيقت رانيا ما بين حاجبيها بعدم فهم :
” رائد ايه وملونة ايه ؟؟ أنت بتقول ايه ؟!”
ربط صالح البالونات في الفراش الذي نقله لشقته في منزل والده وترك غرفته لمختار ..
” اصل انا معايا شوية بلالين كده خرجت بيهم من خيبة صلاح، وكنت الصراحة مستخسرهم، المهم سيبك أنتِ وركزي معايا ”
صمتت رانيا وكأنها كانت تتحدث من الأساس وهو قال ببسمة واسعة وسعادة طغت على صوته :
” اكيد فاكرة أنك اخر الاسبوع ده هتكوني خطيبتي صح ؟؟”
وكعادتها شعرت رانيا برغبة عارمة في إغلاق الهاتف والقاءه من النافذة والاختفاء أسفل مفرش السرير لتخفي خجلها عنه وكأنه يراقبها، وصالح الذي كان بالفعل يشعر بكل ما تفعله قال :
” عشان كده قررت اني حابب اشوفك لابسة فستان جميل في الخطوبة ”
قالت رانيا بصعوبة بسبب خجلها :
” طيب …طيب انا هشتري فستان و…”
قاطعها صالح وهو يفرك خصلات شعره بقوة كي يتمالك نبرة صوته التي خرجت ممتلئة بالمشاعر التي أجمعت كلها على إدمانه للحديث مع تلك الفتاة :
” امممم لا ماهو حسب عادات البلد عندي فالفستان بتاع الخطوبة والجذمة وكل ده على العريس ”
رمشت رانيا بقوة وهي تقول متفاجئة :
” ده بجد ”
” أيوة والله بجد، وحتى لو مش بجد بس انا حابب اديكِ الفستان ده”
” الفستان ده ؟؟؟”
تحرك صالح صوب الهاتف الخاص بصلاح والذي صادره منه لتتبع الطلب الخاص به وقال وهو ينظر له بأعين متفحصة :
” كمان دقيقة هتسمعي الجرس بيرن، تنزلي بسرعة تستلمي الاوردر اللي بعته ليكِ ووقتها قوليلي رأيك ”
شعرت رانيا بالصدمة وهي تقول :
” اوردر ؟؟ أنت طلبت عشاني حاجة!!”
” أيوة ”
ركضت رانيا بسرعة خارج غرفتها والحماس يكاد يجمد أطرافها، ابتسمت تركض صوب باب المنزل، تتجاهل أم اخوتها اجمعين يجلسون رفقة والدها في بهو المنزل ..
فتحت الباب تخطو خارجة لولا صوت جبريل الذي تساءل بعدم فهم :
” رايحة فين كده يارانيا ؟؟”
” فيه اوردر هستلمه يا جبريل و…”
وقبل أن تكمل جملتها جذبها جبريل للداخل ببسمة هادئة :
” طب في اوضتك وانا هجيبه ليكِ، اكيد مش هتستلميه بشعرك يا رانيا ”
صُدمت رانيا تتحسس خصلاتها، في الوقت الذي علىٰ رنين المنزل ليتحرك جبريل ويذهب لاستلام الطلب الذي ظن أن شقيقته هي من طلبته…
أخرج الأموال ليدفع ثمنه لكن العامل قاطعه :
” لا يا فندم ده اوردر مدفوع ”
أخذ منه جبريل الحقيبة بعدم فهم :
” مدفوع ؟؟”
هز العامل رأسه يتحرك من أمام المنزل بينما هو دخل المنزل ليجد رانيا تنتظر بشوق :
” هو مين دفع الاوردر ده يا رانيا ؟!”
نظرت له رانيا بصدمة ولم تحسب حسابًا لذلك، وشعرت بقلبها يطرق برهبة وقد انتبه لها الباقيين، لولا صوت رؤوف الذي خرج بنبرة عادية وهو يتناول بعض التسالي :
” أنا اللي دفعته يا جبريل يا حبيبي”
نظر جبريل لوالده وهو يعطي لرانيا التي اخذتها منه وقبلت وجنته بحب رغم كرهها للكذب عليهم، لكنها قررت أن تخبرهم بالأمر لاحقًا، نظرت لوالدها الذي غمز لها مشيرًا لمعرفته بالأمر …
تحركت صوب غرفتها وعاد رؤوف لمشاهدة التلفاز يتذكر مكالمة صالح له يستأذنه أن يهادي ابنته بفستان وحذاء وكل ما يخص طلتها في حفل خطوبتهما اتباعًا لعادات بلدته …
وصلت رانيا الغرفة وهي تلقي الحقيبة على الفراش تستمع لصوت صالح الذي التزم الصمت طوال رحلتها للغرفة :
” افتحي الشنطة ”
وبالفعل نفذت حديثه لتبصر أمامها ثوب طويل مظهره خاطف الأنفاس باللون السماوي وحجاب ابيض جميل، وحذاء ابيض، كان كما لو أنه أختار طلة لملاك ..
” عجبك ؟!”
” صالح ده …ده …أنا ..ده حلو اوي اوي، أنا مش مصدقة عيوني بجد، صالح أنا ”
صمتت تستشعر دموعها التي سقطت سعادة، صالح ذلك الخبيث يصمت ويهدأ و فجأة يلقي بنقبلته على حين غرة ودون أن يستوعب أحد شيء .
” سعيد أنها عجبتك اوي يا رانيا، لانك تستحقي كل جميل”
حسنًا هذا كثيرٌ عليها، وقد فاض كيلها ولم تستطع أن تحتمل، ودون أن تعطيه اي مقدمات أغلقت الهاتف بسرعة وهي تقول كلمات سريعة :
” شكرا ..شكرا، جميلة اوي ”
أغلقت الهاتف تلقيه على الفراش برعب وكأن صالح سيخرج ليلتهمها، ابتلعت ريقها وهي تقترب منه تراقبه بريبة وخوف شديد، ثم ابتسمت بقوة ترفع الثوب أمام عينيها وبعدها ضمته لصدرها بقوة وحب شديد تقول هامسة :
” شكرا اوي …”
وعلى الطرف الآخر كان صالح هائمًا في الهاتف ومن ثم نظر للسماء يتنفس بصوت مرتفع :
” العفو…..”
______________________
دخل بسيارته البلدة ينظر حوله، يتابع هاتف شقيقته الذي قاده لمنزل تلك العقربة السامة التي هددته بحياته، تهدده بزهرة وبخسارتها، لكن لن يسمح لها ..
توقف بالسيارة في منتصف القرية وهبط منه يوقف أي شخص يتحرك أمامه لسؤاله عن منزل صلاح السقاري والذي يشكر حظه أن تذكر اسمه .
وبعد أن علم مكان المنزل قاد سيارته صوب المنزل حسب وصف إحدى السيدات التي كانت تغازله وهي تتحدث عن عيونه ومظهره .
زفر يخلع سترة ثيابه يلقي بها داخل السيارة ثم هبط يغلق بابها بقوة شديدة، تحرك يتخطى باب الحديقة الصغير، متوجهًا صوب الباب الداخلي ليطرقه ..
وفي الداخل كانت ميمو على وشك الانهيار وهي تصرخ باسم نيرمينا وصلاح يعرض كاميرات أمام منزله لتتسع أعين الجميع من مشهد نيرمينا التي كانت تقف أمام المنزل تلتقط لها بعض الصور، لكن فجأة توقفت سيارة بجوارها تستغل أن الشارع يكون فارغًا في ذلك الوقت المتأخر وسحبتها لها بقوة ..
ارتج قلب مختار بقوة وهو يشعر بالنيران تشتعل داخله وجنون ميمو قد زاد للضعف وهي تتحرك بسرعة كبيرة صوب الباب صارخة :
” مختار تعالى معايا بسرعة، عرفت مين الكلاب اللي اخدوها ”
ركض خلفها مختار وصلاح نظر لهما قبل أن يلحق بهما ووالده عاجز عن المساعدة ..
أمسكت ميمو مقبض الباب في اللحظة التي على الطرق عليه وبمجرد أن فتحته صُدمت لرؤية سعيد يقف أمامه وهو يرمقها بشر كبير :
” تصدقي بالله يا حرباية انتِ أنا هـ …”
وتوقف عن الحديث فجأة حينما أبصر ملامح الجزع والغضب على وجوه الجميع، ليشعر بوجود خطبٍ ما في المكان .
تساءل بريبة وشك وقد قفز قلق مجهول لصدره :
” هو فيه ايه ؟؟؟؟؟؟؟”
__________________
هي خطوة تفصلك عن الغفران، فأما أن تخطوها بكامل قناعتك وتتقبلها، أو تعزف عنها وتنفرها…..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ما بين الألف وكوز الذرة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى