رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل الثالث 3 بقلم رضوى جاويش
رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء الثالث
رواية احذر من يطرق باب القلب البارت الثالث
رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة الثالثة
٣- ساجد
دخلت العربة حيز فيلا أيوب النورسي، لتُفتح البوابة الحديدية، ليظهر ذاك الرجل الآسيوي خلفها، ملوحا وابتسامة عريضة مرسومة على شفتيه، هاتفا بلغة عربية مضعضعة: يا هلا، حمدا لله على سلامتكم.
هز أيوب رأسه، يرد التحية في نزق يليق بمحياه، وكذا ردها مرافقهما، الذي ترك له مهمة القيادة، والذي لا تعرف سلمى حتى اللحظة مدى قرابتهما.
مرت السيارة خلال طريق متوسط الاتساع معبد بالأحجار الملونة، حتى وصلت للجراج الخاص بها، والذي استقرت به بعد أن فُتح بابه تلقائيا، هبط أيوب ومن بعده رفيقه المدعو سعدون، فلم يكن منها إلا الترجل من السيارة لتتبعهما في اضطراب، عَلا نباح هزاع في قوة، ما جعل سلمى تقفز من موضعها في فزع، مستترة خلف سعدون، الذي ابتسم في هدوء مطمئنا إياها: متخافيش! ده كلب أيوب بيه.
هتفت سلمى في سخرية: ده كلب! ده أسد حضرتك.
اتسعت ابتسامة سعدون مؤكدا: لا كلب، بس من فصيلة ضخمة شوية، معلش هو عشان أنتِ لسه غريبة عنه، نبح عليكِ، لكن أكيد لما يطمن لوجودك، هتبقوا أصحاب.
هتفت سلمى ساخرة: أصحاب! طب والأخ اسمه إيه بقى! نحب نتعرف.
ابتسم سعدون هاتفا: الأخ اسمه هزاع.
أكدت سلمى ساخرة: هزاع! سبحان الله، لايق عليه فزاع أكتر..
نبح هزاع من جديد، كأنه لم يتقبل عبثها باسمه، ما دفعها لتتقهقر خطوتين للخلف، هاتفة في الكلب: خلاص يا عم متزعلش، هزاع هزاع، بس والنعمة فزاع أحلى، فكر أنت بس فالموضوع، وإن شاء الله خير.
قهقه سعدون لأفعالها مع هزاع، الذي ظل نباحه عاليا حتى بعدما تحركا للداخل، تنبه سعدون لنداء أيوب، فأمر سلمى أن تتبعه، والتي سارت خلفه بقلب وجل، تخطو داخل فيلا أيوب النورسي، لا علم لها، هل كان قدومها إلى هنا هو عين العقل، أم كان عليها رفض عرضه المغري، في ظل ظرفها القاهر!
وهل كانت لها حيلة سوى القبول! على أي حال، المصير واحد، موت بطيء وهي بالمطار لا يعرف أحد عنها شيئا، أو احتمالية حدوث ذلك هنا، ببيت هذا الرجل العجيب، الذي يمكن أن يخالف ظنونها، ويكون طوق النجاة من مصير قاتم، مجهول الملامح.
انتفضت عندما ناداها سعدون، فيبدو أنها كانت غارقة في خواطرها، ولم تنتبه لنداءاته التي تكررت، لتسرع خلفه، وهو يشير لباب جانبي، أفضى بهما لصالة ضخمة، فخمة الأثاث والتنظيم، بنهاية أحد أركانها، يقبع درج حلزوني، يصل للطابق العلوي، كان هذا الفراغ البديع، أشبه بمتحف مصغر، كل قطعة في موضعها بالضبط، لتبدو القاعة أشبه بلوحة زيتية راقية، من عصور النهضة، أخرجها صوت سعدون اللطيف، والذي أشار لباب حجرة من الخشب البني المصقول، هاتفا: من هنا يا آنسة.
توجهت نحوه حاملة حقيبتها، ليأمرها من جديد: سيبي شنطتك مكانها وتعالي.
تركت حقيبتها ممتثلة لأوامره، وتحركت صوب الباب المشار إليه، والذي سبقها لدخوله، لتخطو خلفه، عابرة لداخل حجرة مكتب لم تر أروع منها قط، رفوف من الكتب بطول وعرض الحائط المواجه للباب، الذي أمامه يقبع مكتب ضخم من خشب قيم بندقي اللون، يجلس أيوب خلفه، بينما ظل سعدون واقفا، بالقرب من موضع جلوس أيوب الشامخ، كأنه في انتظار أمر ما.
أشار لها أيوب بالجلوس على أحد المقاعد أمامه فنفذت فالتو، ليعاجلها مستفسرا: قولتي إنك حاصلة على ماجستير في التعامل مع الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة!
هزت رأسها في حماس مؤكدة : ايوه يا فندم، وأهي أوراقي، وشهادات الخبرة، وبعض التوصيات، لو حابب تطلع عليها مرة تانية.
أكد أيوب: أنا مش هطلع عليهم، أنا هحتفظ بهم.
أخرجت ملف أوراقها، ومدت كفها بالملف، هاتفة في تحذير: طب خد بالك منهم، دول مكلفني ثروة، مش هعرف أخرج زيهم تاني إلا بطلوع الروح.
ابتسم سعدون لتلقائيتها، بينما هتف أيوب متوجسا: ليه! هو أنتِ مزوراهم عشان يكلفوكي ثروة!
قهقهت سلمى مؤكدة: لا مش للدرجة دي يا فندم، بس حضرتك عارف بقى الروتين، والإجراءات، والاكراميات، وكل حاجة بحسابها.
هز أيوب رأسه متفهما، وأكد في نزق اعتيادي: تقدري تقولي أيوب بيه، ولو أنتِ جاهزة! يبقى ياللاه عشان تشوفي شغلك، وأعرفك على الولد، اللي هيكون شغلك معاه.
تنحنحت متسائلة في حياء: طب ممكن كباية ماية!
تنحنح أيوب بدوره، معتذرا في لباقة: آه أكيد، معلش أنا مستعجل عشان عندي ميعاد مهم، فمقمتش بواجب الضيافة كما يجب، بس أنتِ خلاص بقيتي من العاملين هنا، هااا.. تشربي إيه!
هتفت مبتسمة في أريحية : طالما بقيت من العاملين وكده، يبقى أطلب فطار بقى وابقوا اخصموه من مرتبي.
امسك سعدون ضحكاته بالكاد، بينما تطلع لها أيوب في تعجب، لتفسر هي في بساطة: أنا واحدة بقالها يومين فالمطار، يعني مكلتش بقالي أكثر من…
وأخذت تحسب على أصابعها كما الأطفال، لتهتف مستطردة: حوالي كده ٥٠ ساعة، ده رقم قياسي يتحط فموسوعة جينيس، ده أنا أطول مدة قطعت فيها الزاد، كان صيام رمضان، غير كده الأكل عندي كل ساعتين، مش كل يومين، معجزة بكل المقاييس.
لم يستطع سعدون إمساك ضحكاته هذه المرة، بينما تطلع أيوب نحوها في صدمة.. استفاق منها سريعا، وسعدون يتطلع نحو ساعة الحائط التي أعلنت لتوها التاسعة صباحاً.
أشار أيوب أمرا سعدون: قول لدادة نفيسة تحضر فطار متأخر للآنسة.
هز سعدون رأسه في طاعة، وغادر غرفة المكتب في خطوات منتظمة، لتتعجب أن علاقة سعدون بأيوب لا تتعد علاقة صاحب عمل بمرؤوسه، رغم أن الأمر فالبداية كان يبدو لها عكس ذلك.
تنبهت عندما هتف أيوب محذرا: الفيلا هنا لها نظام وقواعد صارمة، أرجو إن ميكنش فيه مخالفة لأي قاعدة لأني بكره المبررات، ومش هسمح بها من أساسه، نفيسة مدبرة الأعمال بالمشاركة مع سعدون، ولسه هعرفك ع الوالد ربنا يطول بعمره، وطبعا ساجد، سبب وجودك هنا، واللي هتكوني برفقته معظم الوقت.
هزت رأسها بالإيجاب، فلا حيلة لها إلا الموافقة، فكل ما كان يعنيها اللحظة، هو تأمين سقف يأويها، وهي في ذاك البلد الغريب الذي لا تعرف فيه أحد غير زوجها المزعوم، الذي لا تعرف أين يكون اللحظة، وهذا الرجل العجيب الذي فتح لها أبواب بيته، متأملا منها معالجة طفلا، استنتجت أنه ولده.
نهض من خلف مكتبه، بعد أن أودع أوراقها أحد الأدراج، فانتفضت واقفة بدورها، وما أن خرج من الحجرة، حتى تبعته في صمت، أشار لها لتتجه نحو ردهة ما، قبل أن يستكمل هو سيره نحو الخارج.
توقفت لبرهة، متطلعة حولها، وتحركت إلى حيث أشار، ليتناهى لمسامعها حوار يدور على مقربة، تتبعت الصوت حتى وصلت لأعتاب المطبخ، إن كان هذا الفراغ الراقي، يمكن أن يدعوه أحدهم بالخطأ مطبخ، كان أشبه بتلك المطابخ التي تراها في الأفلام والمسلسلات، التي تدور أحداثها في بيوت الطبقات المخملية من المجتمع، كل ما هو موجود مبهر، الخزائن الخشبية، وألوان الحوائط، الطاولة المستطيلة التي تتوسط الفراغ، حتى أدوات الطبخ الموزعة هنا وهناك، لها رونق خاص.
همت بالتحدث، لكنها سمعت المرأة التي توليها ظهرها اللحظة، والمدعوة نفيسة على ما تتذكر، تسأل سعدون في نبرة قلقة: وهي أي واحدة يلاقيها يجبها كده عشان مشكلة الولد! لمجرد أن المعالجة اللي فاتت، بتعتذر كتير عن جلسات العلاج!
أكد سعدون: أنتِ عارفة أيوب بيه دقيق أد إيه، وبيفضل التعامل مع الشخصيات الملتزمة، وهي كمان بتقول إنها واخدة ماجستير في تخصصها، هو مش باين عليها الصراحة، بس دمها خفيف، وشكلها بنت حلال.
اندفعت سلمى لداخل المطبخ، هاتفة في أريحية، وبنبرة مازحة: أه والله يا عم سعدون، طيبة وبنت حلال، ومليش فالنكد، وبموووت فالأكل، ها فين بقى فطاري اللي وصاك عليه أيوب بيه باشا، ولا عايزني أقول عليكم بُخلة!
تطلع كل من نفيسة وسعدون لبعضهما، وعلى شفتيهما ابتسامة، ولسان حال سعدون يقول، ألم أخبرك!
هتفت نفيسة في نبرة أمومية: من عنايا يا بنتي، حالا يكون أحلى فطار قدامك، بس مقلتليش، اسمك إيه!
تطلعت سلمى نحوهما، بعد أن جلست للطاولة، في انتظار طعامها، هاتفة متنهدة: طيب أنا هحكي الحكاية من تاني، بس يا ريت نمنع الضحك..
ابتسم كلاهما لا إراديا، لتهتف بهما سلمى مازحة: أنا لسه مقلتش حاجة على فكرة.
اتسعت ابتسامتهما، فهتفت باسمة بدورها، وبداخلها كمية كبيرة من التصالح مع الذات: سلامات.
هتفت نفيسة بطيبة : طيبين يا حبيبتي وأنتِ كويسة!
قهقهت سلمى مؤكدة : اسمي سلامات، سلامات سلامة عبدالسلام السلاموني.
تطلع كل من نفيسة وسعدون لبعضهما، وانفجرا ضاحكين، لتشاركهما سلمى الضحك، لتهتف نفيسة وهي تربت على كتفها في تعاطف : عاشت الاسامي يا حبيبتي.
هتفت سلمى بابتسامة رضا : تعيشي يا حجة.
ابتسمت نفيسة : قوليلي يا دادة نفيسة، وده سعدون، اكيد اتعرفتوا.
تطلعت سلمى نحو سعدون البالغ من العمر ما يقارب الستين عاما، وتعجبت كيف لا يحمل لقبا، ولو على سبيل الاحترام حتى، وهو يكاد يكون في سن والدها رحمه الله! فقررت منحه لقبا، ولو لم يكن هذا معتادا.
وضعت نفيسة الأطباق أمام سلمى، لتبدأ في التهام الطعام بنهم شديد، ما جعل نفيسة تهتف في نبرة حانية: يا حبيبتي يا بنتي، ده أنتِ جعانة أوي!
هتفت سلمى والطعام بفمها مؤكدة: كنت هموت من الجوع مش جعانة، أنا عندي استعداد اتبرع لبتوع المجاعات، عشان المجاعة اللي كنت فيها بقالي يومين، ده أنا كنت بنام عشان أحلم إني باكل، أهو تصبيرة.
قهقه سعدون، فتطلعت إليه نفيسة عاتبة، ما دفعه ليبتلع ضحكاته، تاركين إياها تتناول طعامها في هدوء، وأخيرا وضعت نفيسة كوب الشاي أمامها، ما أن توقعت انتهاءها من ملء معدتها، لتهتف بها سلمى مادحة: الله عليك يا دادة نفيسة، كباية الشاي دي جت فوقتها، بس يا سلام بقى لو عليه شوية لبن، ولا هنا اسمه حليب، كده تبقى جبرت.
لم يستطع سعدون أن يكتم ضحكاته هذه المرة، حتى أن نفيسة نفسها ضحكت، وهي تضع لها بعض الحليب على كوب الشاي، لتتناوله في استمتاع وكأنها حازت الدنيا وما فيها.
*************
ضغطت على أسنانها في حنق، وعيونها تفيض بالدموع، هامسة بنبرة حاقدة: أنا قلت إن قدمها نحس، مصدقنيش، وادي أخرتها، ربنا يعديها على خير..
تنهدت في حسرة، وهي تتطلع نحو ذاك الجسد المسجي على فراش طبي، موصول به الكثير من الأنابيب والخراطيم الطبية، من خلف حائط زجاجي ..
اهتزت حقيبتها التي تحملها، ما دفعها لفتحها والتطلع نحو شاشة جوال ذاك الممدد بالداخل بلا حراك، فقد استلمت أغراضه ما أن وطأت قدمها باب المشفى، عند إبلاغها بالخبر المشؤوم، ضغطت زر إغلاق الرنين في حنق، وما أن انتهى، حتى أغلقت الهاتف برمته، وألقته في قاع الحقيبة من جديد، هامسة في غل : ما تغوروا بقى وتريحونا، بترنوا على إيه! أهو ده اللي خدناه منكم، ومن وش النحس اللي بعتوها..
أعادت التطلع نحو الحائط الزجاجي، لعل وعسى يتحرك مريضها معلنا عن استفاقته، بعد ذاك الحادث المروع الذي قضى على السيارة تماما، متضرعة إلى الله، أن يحفظ سائقها الذي تبصره اللحظة على نفس الحالة منذ ما يقارب اليومين، ولا جديد في حالته يلوح بالأفق، كما أخبرها الأطباء.
************
كادت أن تسقط الكوب، أو ما تبقى منه، على ملابسها، عندما تناهى لمسامعها صوته مناديا سعدون، الذي انتفض ملبيا النداء في لمح البصر، عائدا إليها على جناح السرعة، مؤكدا لسلمى: أيوب بيه طالب حضرتك، وأنتِ معاها يا دادة نفيسة.
انتفضت من موضعها، تسير خلفه نحو موضع انتظار أيوب، الذي جمعهم، ووقف يملي عليهم أوامره الجديدة، التي ما كانت بالجديدة على كل من نفيسة وسعدون، لكن للإعادة إفادة في عرفه بالتأكيد.
وقف سعدون وسلمى ونفيسة، في صف واحد متجاورين، وهو يجيء ويروح أمامهم معقود اليدين خلف ظهره، هاتفا في حزم: طبعا الكل عارف إحنا فين! .. فيلا أيوب ناصف شيرين النورسي..
هتفت سلمى متعجبة: شيرين مين! هو اسم الوالدة بيعمل إيه هنا!
انفجرت نفيسة ضاحكة، لكنها أمسكت ضحكاتها على قدر استطاعتها، بينما استطاع سعدون كتمانها في مهارة، رغم احمرار وجهه لكظم قهقهاته، تطلع أيوب في حنق لنفيسة متعجبا: في حاجة يا دادة نفيسة!
هزت رأسها نفيا، محيدا ناظره نحو سلمى، هاتفا في فخر: شيرين ده اسم جدي، شيرين باشا النورسي.
لم تستطع سلمى كتم ضحكاتها، هاتفة مستفسرة: ده بجد! اسم جدك شيرين! وكنت بتتريق على اسمي!
هتف أيوب وهو يجز على أسنانه: آنسة سلامات! أرجو التزام الهدوء.
هزت رأسها موافقة، وبدأ في سرد قواعد العمل داخل الفيلا، لتهمس سلمى في سخرية: قال شيرين قال! اومال أمه اسمها إيه!
همست نفيسة: اسمها برلنتي هانم.
همست سلمى ساخرة: برلنتي هانم وشيرين باشا! إيه جو ليالي الحلمية اللي أنا وقعت فيه ده!
كتمت نفيسة ضحكاتها مجددا، وأيوب مستمر في سرد الممنوعات والتعليمات الخاصة بالعمل، وما أن انتهى، حتى هتف بسلمى في صرامة: مفهوم يا آنسة سلامات!
هتفت سلمى التي كانت شاردة بالفعل، بقوة أشبه بعسكري يؤدي التحية: تمام يا فندم!
كتم الجميع ضحكاتهم، ليصرفهم أيوب، ما عداها، استوقفها مؤكدا: زي ما قلت يا آنسة، اديني بأكد، الفطار الساعة ٨ صباحا، والغدا الساعة ٣، والعشاء الساعة ٨ مساءً، ومفيش خروج من أوضتك بعد الساعة تسعة مساءً لأي سبب، أوضتك فيها كل اللي هتحتاجيه، فأرجو الالتزام.
هزت رأسها في إيجاب، ليستطرد قائلا: أي حاجة خاصة بساجد، اطلبيها، أنا منتظر أشوف تطور فالحالة عن قريب.
همست مؤكدة: إن شاء الله.
همت بالمغادرة للمطبخ من جديد، إلا أنه استوقفها مجددا، أمرا: خدي نمرتي سجليها عندك..
أخرجت هاتفها من جيبها، مشيرة له مؤكدة: للأسف شحنه فاصل من القعدة فالمطار، وأنا ملقتش عند دادة نفيسة شاحن مناسب عشا…
قاطعها ممسكا بهاتفها بأطراف أصابعه في اشمئزاز، ذاك الهاتف ذو الأزرار، والذي عفى عليه الزمان، هاتفا في دهشة: هو ده تليفونك فعلا!
هزت رأسها إيجابا، وهتفت مفسرة: أصل الحكاية إن…
أشار لها لتصمت، هاتفا في نزق: لو حكايته شبه حكاية اسمك، أو بنت خالك ولا خالتك الزيادة ولا الكتير دي…
قاطعته مقهقهة: كفاية! اسمها كفاية.. دي تزعل أوي لو حد غلط فاسمها.
هتف حانقا: ما تزعل، أنا مالي!
مد كفه لها بهاتفها، لتلقي به في جيبها، وما أن همت بالتحرك من جديد، تحاول الهروب من صحبته، التي تورثها الكثير من القلق، إلا إنه هتف باسمها مجددا: آنسة سلمى!
توقفت، فأشار للمكتب: اتفضلي أعرض عليكِ أوراق الولد، عشان تشوفي النتائج اللي وصل لها المعالجين اللي قبل حضرتك.
هتفت سلمى في تسرع: أفضل أشوف الولد الأول، وبعدين أبقى افحص تقارير الزملاء براحتي بعدين.
هز أيوب كتفيه بلا مبالاة، وأشار عليها لتتبعه، توجه نحو الدرج الحلزوني صاعدا في خطوات رتيبة، استشعرت بحدس أنها ثقيلة عليه، يحاول أن يبدو متماسكا ظاهريا، لكنه داخليا يعاني ويتكتم الأمر، حتى عن نفسه، توقف فجأة أمام باب إحدى الغرف، ومد كفه ممسكا مقبض الباب لبرهة، قبل أن يدفعه في هدوء، مشيرا عليها بالدخول.
دخلت وقلبها وجل، متطلعة لذاك الجانب البعيد، لم تكن أبدا الحالة الأولى التي رأتها على هذا الشكل، طفلا يجلس وحيدا بأحد الأركان، يهتز بشكل رتيب متكرر جيئة وذهابا.
تبعها أيوب لداخل الغرفة، هاتفا بلهجة بدت لها ساخرة نوعا ما، أو هكذا حاول أن يظهرها، رغم كم المرارة التي يكتنفها: ساجد، ابني الوحيد، مريض توحد من الدرجة اللي معرفش كام، وفشل فالاندماج بثلاث مدارس، وحتى اللي عرفت ببعض علاقاتي التوسط لقبوله، رفضوه لأنه عنيف وغير قابل للتكيف مع زملاءه، ده اللي قاله تقرير كل مدرسة، حاولت إرساله لكذا مركز تأهيلي، لكن للأسف، مكنش فيه أي تحسن، فقررت إحضار معالجين له فالبيت، لعل وعسى.
لا تعرف لما شعرت بالتعاطف معه لهذه الدرجة! رأت كثير من الآباء والأمهات في حالة أشد حزنا وقهرا، ما أن يشخص طفلهم كطفل توحدي، لكن هذا الرجل الماثل أمامها اللحظة، جعلها تدرك معنى الوجع الحقيقي على فلذة الكبد، رغم كل تلك السخرية التي تبطن كلماته، والتي تبدو هازئة لحد كبير، مستنكرة حالة الطفل، لكنها توحدت مع حسرته، لتدرك معنى أن تتعايش الألم الحي مع أحدهم، بشكل أثار تعجبها شخصيا.
هزت رأسها كأنها تؤكد على تفهمها، ليهتف مقترحا: أنا بقول تشوفي تقارير المعالجين عن الحالة وتقارير المدارس قبل ما…
أشارت مقاطعة بإشارة من كفها في ثقة لا تعلم من أين واتتها، هاتفة بنزق، انتقل كعدوى منه إليها: أنا أحب اتعرف عليه بنفسي.
صمت أيوب ولم يعقب، تاركا إياها تقترب من الطفل في هدوء، وانحنت تجلس جواره، هامسة في نبرة رخيمة: أنت ساجد صح!
لم يعرها الطفل انتباها، وكأنها غير مرئية، أو خارج مجال رؤيته أساسا، ما دفعها لتقترب أكثر محاولة استفزازه، للإتيان بأي ردة فعل، مدت كفها هامسة: أنا سلمى، ممكن نتعرف!
بدون سابق إنذار، كفه كانت سابقة، لتسقط على وجنة سلمى، التي برغم توقعها لردة فعل كهذه، من خبرتها فالتعامل مع مثل هذه الحالات، إلا أنها ولسوء الحظ، فشلت في تفادي صفعته، التي أصدرت صوتا مدويا، قبل أن يسود الصمت، ويعود الولد لهدوئه، ورتابة حركاته من جديد، كأن شىء لم يكن.
نهضت سلمى مبتعدة عن الطفل، تمر بأيوب الذي كان يقف تشمله الصدمة مما حدث، هاتفة في تقرير، وبلهجة حاولت أن تبدو كلهجة العالم ببواطن الأمور: دلوقت أقدر أقول لحضرتك، بكل ثقة، فين تقارير الزملاء!
أمسك أيوب ضحكاته، وهي تندفع تسبقه على غير العادة، تهبط الدرج، وأحد خديها، مطبوع عليه أصابع طفله الخمسة، حتى أن الرائي يستطيع عدهم بسهولة.
**************
كانت تحاول أن تتقلب بالفراش، فلم تستطع، كان المكان ضيقا، على واحدة في مثل جسدها الوافر، واثنتان من بنات أخيها، يشاركنها ذاك الفراش الضيق، ما دفعها لجذب أحد الأغطية، والخروج من الغرفة، للنوم على أحد الأرائك بالردهة الضيقة، لعلها تنل ساعة من نوم هانيء، قبل أن تستيقظ لعملها الذي يستنفذ طاقتها طيلة النهار، تمددت على الأريكة، وتدثرت بالغطاء، وراحت في سبات عميق بالفعل، لم يخرجها منه إلا صوت ارتطام لسقوط مدوي، لم يكن إلا هي، حين حاولت التقلب على الأريكة الضيقة، فوجدت نفسها تفترش الأرض، قررت الاستمرار في التمدد أرضا، والنوم على أي وضع، المهم أن تنام، وما أن همت بالنعاس، إلا وأيقظتها تلك الضحكات الخليعة، القادمة من حجرة أخيها، كان هذا بالضبط، هو ما ينقصها في هذه الليلة المشؤومة!
تلحفت غطائها مجددا، ناهضة في قلة حيلة لتخرج للشرفة، فما عاد هناك من نوم، تتشبث بأذياله، لعلها تنل قسط ولو هزيل منه.
عبت من نسيم الفجر، الذي هلت تباشيره، مع طرقات خفيفة على ميكروفون المسجد القريب، ليصدح المؤذن مكبرا، تنهدت في راحة، رغم التعب الذي كان يعربد بجسدها، وعظامها التي كانت تئن طلبا للراحة والاسترخاء، هامسة في تضرع: علمك بحالي، يغنيك عن سؤالي، يا رب.
كررت دعوة أبيها المفضلة، فدمعت عيناها لذكراه، ولم تفه بكلمة، لكنها تنبهت أن أحدهم يناديها من الداخل مستهجنا وقوفها فالشرفة في مثل هذا الجو البارد.
تنبهت فإذا بها على فراشها الوثير، داخل غرفتها الجديدة، التي اصطحبتها إليها نفيسة، بعد لقائها الدامي مع ساجد، لتنل قسط من الراحة قبل موعد الغذاء، وها هي دادة نفيسة، تطرق الباب عليها في رفق، تدعوها لمائدة الغذاء، الذي حان وقته، وعليها أن تتحضر قبل الثالثة تماما.
نهضت من الفراش، متطلعة حولها في تعجب من تغير حال الإنسان، منذ أيام كانت لا تجد لها موضع قدم ببيت أخيها، تستقطع من ساعات نومها الشحيحة، حتى تدخل الحمام قبل الصراع الصباحي لأولاد أخيها على دخول الحمام، واليوم ها هي تنعم بحجرة خاصة، وحمام خاص، وفراش يكفي لعائلة كاملة، ابتسمت في امتنان، ونهضت لتجهيز نفسها من أجل الانضمام إلى مائدة الطعام، واللحاق به فالموعد المحدد، فلا قبل لها على البقاء دون طعام، إذا ما فاتها موعده الصارم.
***************
كانت تهرول في محاولة للوصول إلى المطبخ في ميعاد تقديم العشاء المنصوص عليه، كانت قد وصلت في موعد الغذاء فالموعد المحدد وقبل أن يجلس هو على المائدة بدقيقة، أما الآن، فقد تأخرت بالفعل، وكادت أن تتعثر على الدرج لشدة هرولتها، لكنها للأسف مرت من أمامه، وقد جلس على المائدة منذ دقائق، وقد شرع بالفعل، في تناول الطبق الأول، رفع عيونه بنظره حانقة، جعلتها تسرع الخطى نحو المطبخ، هاربة من نظرته المطولة تلك، والتي شعرت أنها تحمل حنقا غير مبرر على تأخر ما تعدى السبع دقائق في مؤشر الساعة البندولية القيمة، التي يشير فيها عقرب الدقائق اللحظة على المؤشر الثاني بعد الرقم واحد، وعقرب الساعات على الثامنة.
زفرت في راحة، ما أن وصلت أرض المطبخ بسلام، لتجد نفيسة وسعدون يضعون على المائدة التي تتوسط المطبخ، آخر الأطباق للبدء في عشائهم، انضمت إليهم في هدوء، هامسة وكأنها تخبرهما سرا: هي الخنقة دي انتوا عايشين فيها بقى لكم أد إيه!
ابتسم سعدون مؤكدا: أنا بقالي سنين طويلة، مش فاكرها أصلا، أنا مولود في قصر الباشا الكبير.
قاطعته سلمى ساخرة: أيون، شيرين باشا، طويل العمر يطول عمره، هاي هيييء.
قهقهت نفيسة مؤكدة: يطول عمره إيه! قولي الله يرحمه ويبشبش الطوبة اللي تحت راسه.
لتسأل سلمى: وأنتِ يا دادة نفيسة!
تنهدت نفيسة في حسرة، وقد تبدلت ملامحها الودودة، وتكللت بالهم، وهي تهمس، وقد تركت ملعقتها جانبا، متطلعة للمجهول: بقالي خمس سنين.
شعرت سلمى أن فالأمر سرا ما، لا تدرك عنه شيئا، وخاصة حين مد سعدون كفه، رابتا على ظاهر كف نفيسة، الممدد على المائدة، في حنو بالغ، جعلها تتأكد، بل تتيقن، أن شيء ما غامض هناك.
هتفت سلمى محاولة تغيير الجو الملبد بالحزن، الذي انتشر بالمكان: يعني شكله سجن أبدي، مفيهوش حتى خروج بعد نص المدة، لحسن السير والسلوك!
أكد سعدون مبتسما، متطلعا لنفيسة: أنا شخصيا مش ناوي ع الإفراج.
ابتسمت نفيسة مؤكدة، وهي تتطلع لسعدون: هو في سجن أحسن من كده!
هتفت سلمى مازحة: هو أنا جيت المطبخ فوقت مش مناسب ولا إيه!
قهقه كلاهما، لتستطرد ساخرة: أقولهم سجن، ألاقي المطبخ كله فراشات وقلوب! لا كده خطر على عقلي الباطل.
قهقه سعدون مجاريا إياها: خليتيه باطل امتى، هو جواز عتريس من فؤادة!
أكدت سلمى مازحة، وهي تضع لقمة ضخمة بفمها: عقلي وأنا عرفاه يا سيدي، بس خلي بالك أنت من عقلك!
قهقهت نفيسة على لعبة الأفلام التي ابتدعاها، إلا أن سعدون نهض منتفضا، ما أن جاءه صوت أيوب مناديا، هتفت سلمى ساخرة: قال يا قاعدين مفرفشين، يكفيكوا شر الحمقيين.
انفجرت نفيسة ضاحكة، واندفع سعدون مسرعا للخارج، وعلى وجهه ابتسامة لمزحتها، ليعود مجددا، هاتفا باسمها: يا آنسة، أيوب بيه طالبك.
غصت بلقيمة كانت في سبيلها لبلعها، التقطت كأس الماء وهي تسعل، وعبت منه حتى انتهت، متنهدة في راحة لحظية، قبل أن تهتف في ذعر: أنت قلت إنه عايزني يا عم سعدون!
هز سعدون رأسه مؤكدا، لتهتف سلمى مولولة: يكنش سمعني وأنا بتريق عليه! أكيد سمع، صح!
أكيد هيرحلني على أول طيارة، أنا عرفاهم الناس الحمقيين دول!
ابتسم سعدون هاتفا: لا مسمعش، ده أكيد عايزك فشغل، لأني لقيته بيطلع أوراق، روحي بقى جري، عشان تأخرك عليه ده، هو اللي هيخليه يضايق.
انتفضت سلمى مندفعة نحو الخارج، في اتجاه حجرة المكتب، طرقت بابها مرة واحدة، دافعة إياه ما أن جاءها إذنه بالدخول، امتثلت أمامه هاتفة في نبرة هادئة على غير العادة: خير يا أيوب بيه!
كان جالسا في أريحية على عكس عادته، على ذاك المقعد الجلدي الوثير جوار المدفأة، مشيرا لملف أوراق، قائلا: ده ملف فيه كل ما يخص حالة ساجد.
هزت رأسها متفهمة، متناولة الملف من فوق المكتب، تهم بالهرولة للخارج، بعيدا عن صحبته المؤثرة على هدوء أعصابها، لكنه استوقفها أمرا، وهو يشير من جديد لكيس كرتوني، كان قابعا على طرف الطاولة، أمرا: خدي ده!
مدت كفها نحو الكيس، مخرجة محتواه، لتفاجأ أنه هاتف محمول، تطلعت إليه في تعجب، ليستطرد مؤكدا: ده موبيل عليه خط، أنا سمحت لنفسي بفتحه، وحطيت عليه نمرتي، ونمرة دادة نفيسة، وسعدون، طبعا لك حرية إضافة أي أرقام تاني، بس أي اتصال هيكون خارج ساعات عملك الرسمية، طبعا الكارت مشحون برصيد كافي، لاستخداماتك.
أعادت الهاتف الثمين لموضعه داخل الكيس الكرتوني، ثم تركته على المكتب، هاتفة في نبرة واثقة: مكنش في داعي تكلف نفسك يا أيوب بيه، أنا بإذن الله، من أول راتب، هشتري لنفسي واحد، على أد امكانياتي، ده غالي أوي عليا، عشان اسدد تمنه من مرتبي، وحضرتك مش ملزم، إنك..
قاطعها في حزم: الهاتف من مقتضيات العمل يا آنسة، ده مش هدية، ولا جايبه عشان تسددي تمنه، تقدري تعتبريه حاجة بتستلميها مع استلام شغلك، بتقولوا عليها ايه في مصر! .. آه.. عهدة.. اعتبريه عهدة .. تمام!
هزت رأسها موافقة، ولم تنبس بحرف، وما أن همت بمد كفها لتناول الهاتف لتغادر، إلا واستوقفها مجددا، مشيرا لملابسها أمرا، وهو يحيد بناظريه عنها: رجاء خاص، الخروج من أوضتك، والتواجد طول اليوم هيكون بلبس رسمي، الروب ده للخروج من أوضة النوم للضرورة القصوى، غير كده، يا ريت بلاش.
وهل كان هناك من ضرورة قصوى، أكثر من تعجلها حتى تلحق بموعد العشاء المقدس! تطلعت لمئزرها القيم من وجهة نظرها، والذي ابتاعته في تخفيضات الشتاء، كقطعة ثمينة بجهاز عرسها، متعجبة، ما الغريب في مئزرها الفاخر، حتى يمنعها ارتدائه والتجول به فالفيلا! .. لكنها في الأخير، هزت رأسها في طاعة، رغم عدم اقتناعها، واستأذنته وغادرت أخيرا، لتتسع ابتسامته، وهو يعاود القراءة بكتابه، الذي تركه جانبا عند دخولها، متعجبا من مئزرها الذي كان أشبه بقماش إحدى المظلات الهوائية، التي قفز بها من الطائرة، في إحدى عطلاته بباريس.
***************
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)