رواية الحب أولا الفصل السادس 6 بقلم دهب عطية
رواية الحب أولا الجزء السادس
رواية الحب أولا البارت السادس
رواية الحب أولا الحلقة السادسة
مرت الأيام بسرعة وبدأت تجهز لأفتتاح المطعم بشكلاً رسمي….. قد مر حوالي عشرة أيام على تواجدها في شارع الصاوي وفي مطعم(الشهد)
حانت من شهد نظرة على ساعة يدها فوجدتها
تشير للعاشرة إلا خمس دقائق…..
عضت على باطن شفتيها وهي تقلب في الإناء المرفوع على الموقد…..قلبها يدق بقوة…لا بل بشدة
كلما اقتربت الساعة من العاشرة صباحاً يحدث خلل
في كامل جسدها….واحمرار شديد في وجنتيها….
عدم التنفس بشكلاً منتظم…… التعرق المبالغ فيه…..وكانها تحتضر !!…….ومن شدة توترها وهذا الاضطراب المستجد عليها تخفق احيانا في الطهي
وهذه ليست عادتها أبداً بذات في العمل…
لدرجة ان (خلود) بدأت تلاحظ الأمر وتشكك في ان
حالتها تلك مرتبطه بزيارة( عاصم) اليومية والتي يواظب عليها في العاشرة صباحاً كما اتفق معهم….
صراحةٍ وجوده يربكها يخلق داخلها أشياء عديدة لا تفهمها بعد…… ورغم حنقها من تلك المشاعر التي
تجعلها كالبلهاء…… إلا انها تحبذها بشكلاً
او بأخر !!…….
ما بداخلها يصعب ان تفسره لنفسها حتى…. لكنها رغم كرهها لهذه المشاعر المستجدة إلا انها تحب ان
تستشعرها….. أمامه !!….
كيف ولماذا؟!…. لا تعرف… فقط هي ضائعة… ورؤية
هذا المؤجر الغليظ المتطفل عليها بشدة تريح ضياعها المؤقت……
مدت يدها لتجلب الملح وفي اللحظة التالية سمعت صوت الباب الزجاجي من الخارج يفتح وصوت نحنحات خشنة صادرة…فجن قلبها بجنون داخل صدرها ومعه شعرت بانتفاضة قوية تسير في
جسدها مما جعلها تخفق كالعادة وتقع علبة الملح
من على الرخامة قبل حتى ان تصل لها يدها…..
اتسعت عينا خلود التي كانت منشغله في التقطيع جوارها……. استدارت خلود تنظر للعلبة الواقعة
أرضاً ونظرة لشهد التي مطت شفتيها بحنق والهدوء
البادي على ملامحها كان كالستار الساتر بما تشعر
به الآن……….
“جرالك اي ياشهد مالك بقالك كام يوم عالصبح في نفس المعاد يتوقعي حاجة يتبوظي حاجة…انتي
اتحسدتي ولا إيه……”
“شكلي كده……..مش عارفه مالي……”اتجهت شهد لأحد الارفاف وهي تأخذ علبة ملح أخرى وتعود للموقد…….
سمعت خلود تنحنحات خشنة من الخارج..فعلمت
هي ايضاً صاحبها فقالت بملل وهي تعود لم
كانت تفعله….
“شكل اللي إسمه عاصم برا…….اطلعي زحلقيه زي
كل يوم عايزين نشوف مصالحنا…….”
ابتلعت شهد ريقها وهي تضع القليل من الملح
في الاناء قائلة…… “اطلعيلو انتي ياخلود……”
استدارت لها خلود متعجبة….. “انا……”
اومات شهد براسها ببساطه…..
فاردفت خلود بحيرة….
“ازاي بس مانتي كل مرة انتي اللي بتطلعي ليه…..”
مسكت شهد المعلقة وبدات في تقليب مدعية اللامبالاة…….
“اطلعي انتي المرادي انا زهقت….. وبعدين الاوردر
لازم يوصل في معاده……”
اقتربت منها خلود سائلة…
“طب ياشهد اقوله إيه……”
قالت شهد دون النظر إليها….
“ردي على قد السؤال ياخلود…. مش شغلانه….”
زمت خلود شفتيها للحظة ثم هتفت سريعاً…..
“طب قوليلي هو كان بيسألك في إيه كل يوم عشان أرد علطول ومتفجأش وقعد اتاهته قدامه….”
شردت شهد للحظات….عن ماذا كان يسألها كل يوم عن أشياء عديدة يختلق الاحاديث حتى تطول الجلسة….يتعمد اغاظتها بحديث سلبي عن المطعم
والعمل به…..ثم ترد عليه هي بمنتهى العنفوان الجميل…..وتشتعل عينيها بالعزم امام عيناه
القوية الشبيهة بسهام تود اخترقها……من شدة
صلابتها أمامه…..
أحياناً يمزح….وأحياناً يصمت….احيانا يتسمر امام
عينيها متاملاً بصمت…..وأحياناً ينهض فجأه مغادراً
دون مقدمات مسبقة…….وكانه يخشاها….او يخشى
شيءٍ لا تعرفه بعد ؟!……….
بللت شهد شفتيها ثم اجابت بمنتهى الهدوء
والثبات…….
“عن الشغل….يعني زي ماقولتلك قبل كده حاطتنا في دماغه مستنيه غلطه واحده…….فأكيد جاي عشان يشوف عملنا نصيبة زي ما متوقع ولا الأمور تمام زي كل يوم كده يعني….يلا اطلعي بقا خلينا نخلص ونرجع نكمل شغلنا….. بدل العطله دي…….”
هزت خلود راسها عدت مرات وهي تتجه
للحوض لتغسل يداها…..
“خلاص خلاص طلعه…. كملي تقوير البتنجان والكوسة……. على ما رجع…….”
قالت شهد بفتور…… “ماشي…….”
جففت خلود يدها بالمناديل وهي تهتف بتذكر..
“شهد صحيح….. لو سال عليكي أقوله إيه……”
هزت شهد كتفيها وهي تغطي الإناء وتتجه الى
عمل خلود حتى تنهي المتبقي منه…….
“زي مانتي شايفه…… بطبخ…… مش فاضية….”
بالخارج وقف في صالة المطعم الكبيرة عيناه تكتسح المكان كالعادة باحثاً عنها….. لم يكن يوما شخصٍ مقدس للمواعيد الهامة…….. لكن العاشرة صباحاً
أصبحت تشكل له بداية أليوم اشراقٍ….. رؤيتها
النظر لعينيها سماع صوتها الموسيقي….تأمل
صمتها الجلي….وعنفوان ملامحها الإبية…..كل
ما بها إبيٍ جميل…….
اغمض عيناه وهو يشتم روائح الاطعمة الشهية صباحاً والمُعدة من تحت يداها هي……سمفونية البهارات المختلطة المنبعثة من مطبخها الصغير….تجعل ممتلئ البطن جائع يشتهي
ما يشم !!…….
“أهلاً يامعلم عاصم …….”
فتح عيناه وهو يعود على أرض الواقع على صوت
غير متوقع الآن…..اين هي ؟!……
سحب نفساً عميقاً وهو ينظر الى المساعدة التي تعمل معها (خلود….)
توترت خلود من نظراته الثاقبة في اشارت على
أحد الطاولات قائلة بتردد…..
“اتفضل قعد……نورتنا……”
سألها عاصم بخشونة….. “فين شهد ياخلود……..”
اهتزت حدقتي خلود وهي تتلعثم
قائلة……
“شهد……..بتطبخ جوا……ايدها مش فاضية……
حضرتك عايزها في حاجة……قولي وانا
اوصلهالها…. ”
كان سيتحدث عاصم لكن اوقفته خلود بحرج
وهي تبتعد…… “ثانية واحدة……ثانية… ”
اتجهت خلود الى الباب الزجاجي حيثُ دخل من خلاله شابان…..رافقتهم خلود لأحد الطاولات واعطاتهم المنيو الخاص بوجبات الإفطار في
هذا الوقت……
فطلب الشابان بعد لحظات قصيرة ما يريدون…….فاستئذنت خلود عاصم بعينيها وهي تدلف للداخل حتى تقوم باعداد الطلبات……..
لأول مرة يشعر بالحرج والغضب بسبب امرأة….هل
تخبره بصراحة انها ملت من هذه الزيارات المتكررة
والتي ليست لها اية داعي…..لم تكن هكذا أمس ولا
حتى قبل أمس…لم تعطي اي إشارات حتى يفهم
هذا…..لماذا اليوم بتحديد تتعامل معه بقلة
ذوق……
حانت منه نظرة على الحائط الزجاجي جانبه
فوجد نفسه عابس الملامح مكشر الانياب……صدره يعلو ويهبط من شدة الغضب…….والحنق منها……..
جز على اسنانه واستدار مغادراً المكان لكنه توقف وهو يفتح الباب الزجاجي عندما سمع حديث
الشابان الجالسين خلف ظهره على أحد
الطاولات…….
“دلوقتي هتشوفها صاروخ…..صاروخ ياض يابوحة…
عسل…ولا عنيها…ولا شفايفها…….يسطا دا كفاية جسمها عمله شبه البنات اللي بنشوفهم على النت
الحلوين دول بالفلاتر…..هي بقا حلوة اوي بس
من غير فلتر…..اصلي….. ”
اوما الشاب الاخر منسجم مع رفيقه في
الحديث……قائلاً بابتسامة لعوبة غامزاً…..
“انت هتقولي على الفلاتر دا انا اتهريت…شوقتني أشوف الطبيعي…….لو طلعت حلوة زي ما بتقول
كده هاجي كل يوم افطر هنا…وياصباح الطبيعة…”
قال الاول هامساً باعجاب…..
“الصراحة الاكل واللي بتعمله حاجة فاخر
من الآخر…..”
غمز له الاخر بخبث….
“اتاريك بتيجي هنا كل يوم…..”
ضحك الاول معترفاً باستياء……
“وحياتك لو عليا عايز اجي كل ثانية بس الفلوس مانت عارف…..”ثم أشار سريعاً حين لمحها تخرج
من المطبخ حاملة طلباتهما……..
“اهيه جت اهيه هي دي…..الشهد……”
تأملها الاخر بقوة وجرت عيناه على كل تفصيله بجسدها وهو يصرح باعجاب…….
“ايوووه…..دي عدت وصفك بمراحل…..انا مشفتش
حلاوة كده قبل كده…..دا شارع الصاوي طلع بيحدف
علينا موزز تحل من على حبل المشنقة….”
ابتسام الاول بزهوٍ….. “مش قولتلك…..”
قال الاخر بعبث وهو يرقص حاجباه…..
“انا شابط في الشغله دي…انا هفطر هنا كل يوم
دا الفطار هنا طلع طِعم بشكل…..”
اسكته الأول حينما اقتربت شهد
منه….
“اسكت يابوحة هتفضحنا…..”
عندما خرجت تحمل صنية الافطار على يداها انتبهت
لوجود عاصم عند الباب الزجاجي المغلق يوليها ظهره…..لكنه استدار في لحظة خاطفة والقى
عليها نظرة قاتل يريد تمزيقها إرباً……. وقد
تحولت ملامحه على غير العادة لملامح
شيطانية مرعبة……
وقتها علمت ان خروجها الآن كان أكبر خطأ….فقد
ظنت انه رحل بعد ان اطمئن ان الأمور بخير
معهن……
لماذا كل هذا الغضب الذي يبعث الذعر لقلبها
الضعيف…….كان في تلك اللحظة كالبركان الهادئ يهدد باندلاع النيران من فوهة في اي وقت….
طاقة عنيفة سوداوية مرتسمه على محياه بوضوح وهو يراقبها عن بعد خطوات بعيون كالصقر الهائج وهي تقترب بمنتهى الرشاقة من الطاولة التي كانت تتغزل في جسدها لفظياً بطريقة بذيئة.. بشكلاً اشعل النيران في صدره شاعراً برغبة قوية في تمزيقهما وتلذذ في تعذيبهما فقط لانهم تحدثا عن شيءٍ يخصه !!
متى كانت تخصه ؟!…مُستأجرة كغيرها….هل تعني له اكثر من مُستأجره يخشى ان توقعه في مشاكل
هو بغنى عنها…….
وهجت النيران في حدقتيه…وازداد سعير غضبها
وهو يراها تنحني قليلاً كي ترص الاطباق على الطاولة المستديرة…….وعيون الاوغاد تتربص لها…..تنهش بها دون رحمة او حياء……
فانتفخت أوداجه بعروق حمراء….بينما جسده بدأ ينتفض من هول الغضب…….وهو يقترب من
الطاولة لا ينوي خيراً بعد ما رأى….
قال الشاب الذي يدُعى( بوحة)
“بجد تسلم إيدك الأكل شكله وريحته يفتحوا النفس…….”
إبتسمت شهد بعملية وهي تستدير
مبتعدة… “بالف هنا….”
“استني…….”مسكها الشاب من يدها فجأه….فاتسعت
عينا شهد بقوة ممتزجة بالغضب….فحاولت سحب يدها من بين يده القابضة عليها……صائحة…..
“إيدي……. انت اتجننت……”
وقبل ان يتفوه الشاب بكلمة كان قد تركها بعد ان
اصابته لكمة اسفل عيناه صادرة من قبضة يد
كبيرة قوية كالفولاذ الصلب…….
اتسعت عينا شهد بزعر وهي تنظر الى عاصم الذي سحبها بقوة خلف ظهره وكانه الدرع الحامي
لها !….
“قوم ياحيلتها منك ليه مفيش طفح هنا….”
هدر صوته بشكلاً جهوري مخيف وهو يسحب
الإثنين من ملابسهما بيداه الأثنين….ناظراً
لكلاً منهم نظرات تدفنهم إحياء من شدة
ظلامها المخيف……
هتف الشاب الأول بارتعاد…..
“احنا منقصدش يامعلم عاصم….اقسم بالله بوحة ما يقصد…….”
احتدت نظرات عاصم وهو يهدر بازدراء….
“متملاش بوقك بالله يالا….انتوا ناوينها من ساعة ما دخلتم……ولا فكرني اطرش ومسمعتش كلامكم…”
حاول الشاب الاخر تقبيل يده وهو يرتجف بخوف
قائلا برجاء….
“حقك علينا يامعلم عاصم غلطه ومش هتتكرر..”
أومأ عاصم براسه وبعينين غير متهاونتين
قال بشرٍ……
“ماهي مش هتكرر…عارفين ليه عشان انا مش بس
لو لمحتكم قدام المطعم ده تاني …دا انا لو لمحتكم
بصدفة بس معاديين الشارع ده هقطع رجليكم واكسر ايديكم……..أيدك الحلوة اللي بتمدها على حاجات غيرك…….”لوى ذراع المدعو بوحة…
والذي صرخ متألماً راجياً اياه…….
“آآااه….سامحني يامعلم عاصم…مكناش نعرف انها تبعك……..”
اتسعت عينا شهد وشعرت بالغضب اكثر وهي ترى
عاصم يتركه مؤكداً المعلومة بصوتٍ قوي……
“الحمدلله ان المعلومة وصلت…..سكتك خضرة
منك ليه……..”
خرج الاثنين سريعاً من المكان ناكسين الرأس
بذل…..
استدر عاصم اليها يرمقها بغضب ويبدو ان هناك وصلة من التوبيخ بانتظارها…..لكنه بدلاً من ان
يجدها ناكسة الرأس مثلهم تنتظر التقريع منه
وجدها تواجهة بغضب أكبر ولم تلبث الا
وصاحت بعنفوان…….
“اي اللي انت عملته ده….بتدخل ليه انت شايفني ناقصة ايد ولا رجل عشان تدافع عني…وثواني
ثواني….هو إيه اللي تخصك….انا مخصش حد
تمام….ومستحيل ابقى تحت رحمة راجل
ساامع…..”
بمنتهى الهدوء رغم الغضب الذي مزال جلي
على وجهه……
“أهدي…….انا عملت اللي المفروض اي واحد في
مكاني هيعملوا……”
صاحت بحنق شديد…..
“بس انا متطلبتش مساعدتك……”
التوى ثغره وهو يقول بسخرية سوداء….
“وانا مش هستنا لما تطلبي……اللي بيجري في عروقي ده دم مش ماية بسكر……”
تناثر الغضب على ملامحها أكثر مع هذا الرد
المستفز…….
“ميخصنيش اي اللي بيجري في عروقك…انا اللي يخصني اني مخصكش….سامع انا مخصش حد…”
مط شفتيه وهو يومأ براسه بمنتهى
الثبات……
“عرفنا……انك حرة نفسك….عايزة تقولي
إيه كمان……”
هاجت اكثر وازداد بريق الغضب في
عسليتاها…..
“اي الأسلوب ده انت عايز تعصبني…..”
ارتفع حاجبه وهو ينظر لها بتعجب من أول رأسها
حتى أخمص قدميها……..
“انتي كل ده ومش متعصبة !!…….دا انتي صوتك اعلى من صوتي……”
جنت كلما تذكرت انها صرح بانها
ملكاً له…..
“اعلي صوتي زي مانا عايزة…..انت مالك….انا…
اخصك باي حق تقول كده……انت عايز الناس
تقول عليا إيه……..”
نظر عاصم لساعة معصمه بملل متمتماً دون
النظر إليها….
“الموضوع خد اكبر من حجمه….وانا عندي شغل ومش فاضي….وانتي كمان مش فاضية زي ما خلود قالت……”
نظر عاصم لخلود الواقفة متسعة الأعين عند اطار باب المطبخ تتابع ما يحدث منذ بداية لكمة عاصم للشاب….
تركها عاصم واقفه مكانها واتجه للباب لكن قبل ان
تصل يده لمقبض الباب الزجاجي وقفت شهد امامه
تصيح بجنون وقد تقابلت اعينهما لأول مرة
بشكلاً عاصفٍ….وقد زالت قشرة الهدوء أخيراً
من عليها ورأى الجانب المخفي من شخصيتها…..الاشد حرارة وحيوية…..من الهدوء
الذي رغم اعجابة به الا انه كان يزعجه أحياناً
ويشعر انه حاجز تتعمد وضعه بين الجميع……ولا يعلم حتى الآن لِمَ تتعمد التعايش بهذا القناع البارد…….
“لا فاضية…….ولازم تسمع الكلام ده كويس أوي…..”
ادعى الملل وهو يأسر عينيها عمداً……
“اتفضلي بس وطي صوتك……لاني مبحبش الصوت العالي……”
تمردت عليه قائلة…. “دا صوتي اذا كان عجبك…..”
هز راسه غاضباً وهو يحرك راسه كي
تبتعد…..
“يبقا مش هسمع لانه مش عجبني..ابعدي ياشهد… ”
هتفت من بين انفاسها الغاضبة….
“لا هتسمع…..انا مش محتاجة مساعدتك…لأ تدافع عني ولا حتى تحميني لاني أقدر أعمل ده لوحدي…
اخر حاجة انا مخصكش…..ومستحيل اخصك
سامع……”
نظر لها عاصم طويلاً الى ان سألها بهدوء…..
“خلصتي كلامك……”
اومات برأسها بوجهٍ احمر من شدة الانفعال…..
فقال عاصم دون ان تحيد عيناه عن وجهها….
“ابعدي…….”
ابتعدت بالفعل عن الباب فخرج امام عيناها الغاضبة……..
بعدها اقتربت منها خلود تلامس كتفها وهي
تقول بعتاب…..
“ليه عملتي كده ياشهد….انا شايفه ان الراجل مغلطش…..دا رباهم وجبلك حقك منهم…..”
لم ترد عليها شهد بل ظلت عيناها معلقة على الباب
الذي خرج منه عاصم…..فأمتقع وجه خلود قائلة
بضيق……
“الواد ده من الأول نظراته ليكي مكنتش مريحاني… لا وجايب صاحبه كمان الحمدلله ان المعلم عاصم علمهم الأدب……بس انتي غلطي جامد معاه…. دا بدل ماتشكريه….. ”
انزعجت شهد من الحديث فنظرة لخلود
لتقول بتهكم…..
“اشكره على ايه……عمايله دي هتخلق ليا مشاكل
مع حمزة وابويا….دا غير شارع الصاوي والناس
اللي فيه…”
قالت خلود بتفكير….
“مشاكل اي بس….المعلم عاصم دغري وملوش في الاوع….وبصراحة بقا انا حسى…انه معجب بيكي
مشفتيش ضرب الواد إزاي لما مسك إيدك….”
صاحت شهد بوجهٍ مكفهر……
“اتكتمي ياخلود….انا لا عايزة احب ولا اتحب….
انا عايزة أشتغل……واقف على رجلي…..ومحتجش
لمخلوق……”
لكزتها خلود وهي تتشدق بصدمة…..
“ياهبلة حد يرفس النعمة….دا عاصم الصاوي….دا الشارع مكتوب على اسم اجداده….دا غير املاكه
و…. ”
“خلود خلصنا يلا عشان نكمل شغلنا……”تركتها شهد واتجهت الى المطبخ للتتابع عملها محاولة السيطرة
على اعصابها ونسيان الأمر برُمته…..واخمد ضميرها
عن ردة فعلها المبالغ فيها معه……
………………………………………………………………
في المساء…….
اخرجت تنهيدة بطيئة وهي تعود من شرودها على صوت حمزة اخيها الذي سحب كرسياً وجلس بجوارها سائلا اياها بشك…….
“مالك ياشهد سرحانه وساكته كدا ليه…. وكله سد
الحنق !!….. من ساعة مادخلت وانتي على وضع ده….هو في حاجة حصلت… في حد ضايقك؟…. ”
رفعت شهد عينيها على عينا اخيها الذي ضاقت في خطٍ خطر منتظر ردها…..هزت رأسها سريعاً
بنفي..
“هيكون مالي بس ياحمزة….مفيش حاجة……”
اعاد السؤال مجدداً بالحاح…..
“إزاي مفيش حاجة………هو انا هتهوه عنك….”
زفرة بجزع وهي تشيح بوجهها للناحية الأخرى…فتمتم حمزة بيقين……
“لا في حاجة…. وكبيرة كمان في إيه؟……”
مسك ذقنها وادارها اليه….
فنظرة شهد اليه قليلاً تفكر ماذا تقول….
هي عابسة غاضبة منذ الصباح بسبب شخصٍ واحد تكن له ثلاثة مشاعر متضاربة مخنقة الأول شعور بالذنب من صراخها في وجهه بعد دفاعه عنها….
والثاني الغضب من هذا الدين الذي لفه حول عنقها……فهي بغنى عن ديون من اغراب مستجدين وعابرين في حياتها …….
والثالث حنق شديد يقف كالغصة في حلقها عندما أوضح امام الشابان بانها تخصه ؟!….
الأمر يزعجها بشكلاً يفوق الوصف…وكان بعد تلك الجملة أصبحت عارية دون شيءٍ يسترها…تخشى ان تخرج من باب المطعم فيشير الناس عليها بانها المرأة
الخاصة بـ عاصم الصاوي !…….
اغمضت عينيها لثوانٍ بغضب ثم فتحت اياهما واختلقت حديثاً من الهواء قائلة……
“مفيش حاجة تقلق ياحمزة….انا بس حسى ان
الشغل في المطعم مش جايب همه…….”
انعقد حاجبي حمزة عابساً…..واردف…
“مش جايب همه؟!…. متأكده؟….. يعني انا شايف
ان البداية حلوة مش وحشة…. وشوية شوية هتعملي زبون… انتي يعني لسه مكملتيش
أسبوعين في المكان…….”
سألته بفتور…… “انت شايف كده…..”
أومأ حمزة وهو يطمئنها برفق…..
“الصبر ياشهد…كل حاجة بتيجي بصبر….وبعدين
متخفيش من فلوس الإيجار انا هسددهالك اخر
الشهر من معايا……”
هزت شهد راسها مسرعة بالحديث…..
“مين جاب بس سيرة الإيجار…انا معايا فلوس الحمدلله وهقدر ادفع في المعاد…..الحمدلله الاوردرات اللي بتطلع بتغطي مصاريفي واجرت
بشير وخلود….وبشيل منها كمان جزء للإيجار…..”
قطب حمزة جبينه قائلاً….
“طب مالدنيا تمام اهيه لي التشأم بقا….”
استلمت دفة الحوار فقالت بصدق….
“مش تشأم ياحمزة….مانت شايف أهوه….مفيش زبون
بيدخل المطعم إلا بطلوع الروح………لو سالتني النهاردة دخلك كام زبون هقولك أربعة بالعدد والمطعم مفتوح من الساعة تمانية الصبح
ودلوقتي الساعة بقت حداشر بليل…..”
ابتسم حمزة وهو يبث بها الأمل…..
“كلوا بالصبر ياشوشو….مش هتطلعي السلم مرة واحده معروفة واحدة…. واحدة……..عشان نحس بطعم النجاح ولا إيه…….”
تبسمت شهد وهي تنظر اليه بحنان….
“عندك حق….قولي بقا انت اي اخبارك……عامل
ايه في شغلك……”
سحب سلسلة المفاتيح من أعلى الطاولة وعبث
بها وهو يجيب……
“اديني شغال هروح فين….من موقف لموقف ومن نقلة للنقلة…….”
اقترحت شهد بعيون لامعة…..
“ماتفكك من شغلانة السواقة دي وتعالى اشتغل معايا….”
عقب وهو يمط شفتيه هازئاً……
“اجي اشتغل معاكي…..انتي لسه قايله انك قاعده
طول النهار بتهشي دبان……”
ضحكت شهد ساخرة كذلك….
“واي فيها نهش دبان سوا…..”
رد حمزة بملل …… “مبعرفش اهش دبان……”
ضربت كفه الممسك بسلسلة المفاتيح وقالت
بجدية……
“بكلم بجد….تعالى نبدأ سوا وان شاء الله ننجح سوا….”
هز حمزة راسه وهو يجيب بحيادية…..
“مانا لو غاوي هقولك آمين…لكن انا مليش في الطبخ
والجو ده….انا احب السواقة الشوارع الجري على
الرصيف جمب البحر……..”
نظروا لبعضهما بصمت وكان الحديث انتهى هنا….
اقتربت خلود منهما قائلة…..
“يلا بينا ياشهد مش هتمشي معانا…..”
اومات شهد وهي تنهض وكذلك حمزة…..
“آه يلا…..روحي انتي مع بشير….وانا وحمزة هنروح سوا بعربيته…….”
عبس وجه حمزة قائلاً بمزاح…..
“حاسس انك بتستغليني وبتجبيني بليل مخصوص عشان اوصلك……”
ضحكت شهد وهو تعانق ذراعه متدلله
عليه…….
“لازم تكون متأكد اني بستغلك….انا أطول اركب عربية جمب القمر ده كله…… “قرصت وجنته فابعد يدها بحنق فهو يكره تلك الحركة منها وبذات امام
أحد..
تمتما حمزة بزهوٍ دون النظر إليها……
“عندك حق احتمال كمان يحسدوكي اول ما يشوفوكي قاعده جمبي….”
فغرت شهد شفتيها وهي تلكزه بضيق….
محدثة خلود بسخرية…….
“بذمتك ياخلود شوفتي تواضع كده قبل كده…..”
ضحكت خلود معها قائلة….. “بصراحة مشفتش…..”
…………………………………………………………….
بعد دقائق وصلت سيارة حمزة أسفل البنية التي يقطنا بها……انتبهت شهد وهي تخرج من السيارة
الى سيارة أبيها الفارهة والتي تصف جانباً………
“واضح ان ابوك فوق……”
خرج حمزة كذلك من السيارة مرحب بسخرية….
“ياهلا وسهلاً بالمشاكل والنكد اللي انا بغنى عنهم……”
اتجهت شهد للسيارة الفارهة ووقفت امامها
بعيون شاردة وهي تخبر اخيها بحزن…..
“فاكر يوم ما اشترى العربية دي….”
أومأ حمزة متذكراً وهو يسحب انفاسة بعصبية
مكتومة…..
“كانت مجزره بيني وبينه…….راح يشتري عربية واحنا التلاته متمرمطين من موصلة للتانية……دا غير ان البيت وقتها مكنش فيه غير عشرين جني ولما طلبنا منه فلوس قالنا اكله نفسكم وتكفله بنفسكم
انا معدش معايا فلوس لحد تاني……”
تابعت شهد بسخرية مريرة…..
“على اساس انه كان بيدينا اولاني…..ما طول عمرنا بناكل الفتافيت من بعده……ربنا يسامحه…….”
لم يرد حمزة بل ظل ينظر للسيارة بصمت مبهم….
فادارة شهد وجهها اليه قائلة برجاء…….
“يلا بينا نطلع….وعشان خاطري ياحمزة بلاش تشد معاه زي كل مره هي لقمة هناكلها وكل واحد فينا هيدخل اوضته ويدار ما دخلك الشر……..”
التوى فك حمزة بتشنج…..
“الشر قاعد فوق…..ومستنينا ياشهد……”
اتسعت عينيها بحنق…… “حمزة…..”
نظر حمزة لما خلفها وقد اتسعت عيناه وشلت حواسه ووهجت حدقتيه فجأه…..فبلعت شهد
ريقها وهي تنظر خلفها لترى نجلاء ووالدتها
يخرجا من العمارة متجهين الى سيارة الرجل
الذي اشتبك معه حمزة منذ أيام….
قد سلمت عليه نجلاء بخجل وهو اتكأ على يدها
بوقاحة وهو ينظر باتجاه حمزة…..مبتسماً نحوه
بشكلاً دنيء أشعل صدر حمزة الذي خطى خطوة للأمام ولحسن الحظ انها لاحظت هذا التهور
فمنعت إياه هاتفه بهمساً….
“حمزة احنا قولنا إيه…..سيبها لحال سبيلها راحت للي شبها……اعقل مضحكهاش عليك….بلاش تضحكهم عليك اعقل…….”
نظر لاخته بعينين قويتين….. شاخصتين بريق إجرامهم يتزايد مع مرور الوقت……
“يلا بينا…..يلا…….”
قالتها شهد وهي تسحبه من ذراعه الى مدخل
العمارة تارك خلفه جزءاً من قلبة يحترق بعد رؤيتها مع غيرة سعيدة راضية….. وقد اختارت بإرداتها كما اخبرته سابقاً بمنتهى النذالة بانها باعت لمن دفع أكثر !….
……………………………………………………………..
عندما صعد للشقة دلف لغرفته وأغلق بابه عليه
منفرد بنفسه قليلاً بعد رؤيتها برفقة غيره والبسمة تعلو ملامحها الجميلة جمال مخادع كالصنارة التي تلتقط الصيدة الرابحة بعد طول إنتظار…….
جلس على حافة الفراش بتثاقل وهو ويشعر بتضخم حاد في صدره من شدة الانفعال والغضب…..
ولسعة حارقة اصابة حدقتاه مسح عيناه سريعاً
وهو يفتح الدرج المجاور للسرير باحثاً عن
منديلاً ورقياً…… لكن وقعت عيناه الحمراء
على البوم صور صغير خاص به……
التقط الالبوم وفتحه وبدأ يشاهد العديد من الصور التي جمعت بينهما في خلال عامين مضوا….كانت
بهم الوعود راسخه في قلوبهما قبل أعينهما…توعدا
بالكثير ولم يحققا إلا القليل وأكبر الوعود بينهما
انتهت قبل ان تبدأ……..
قام سريعاً باخراج كل الصور الخاصة بها والصور التي تجمعهم معاً على مدار عامين…..كانوا عامين زائفين بعد مرورهم اكتشف الحقيقية الموجعة…..
كان مجرد اسطبل لعامين مجرد اسطبل والفارس الحقيقي اتى واخذها منه ببساطه……
سحب سلة القمامة الموضوعة جواره واخرج الولاعة
واتكأ عليها وقرب صورة نجلاء من شعلة النار الصغيرة فأكلتها بقوة وتغذت على بقاياها…..
القاها حمزة في سلة القمامة واخذ الصور التي تجمعهم وبدأ في احراقها ورؤيتها واحده تلو
الأخرى وهم ينتهون متحولون الى رماد الباقي
منه في سلة المهملات…….
لم يشعر براحة أبداً وهو يحرق صورها كم ظن…. بالعكس شعر ان قلبه هو من يحترق وليست
الصور…… وكانه أحرق قلبه بدلاً من إحراق
ما تبقى منها…..
طرق رقيق على الباب يليه صوت كيان
وهي تناديه قائلة…..
“حمزة العشا…… العشا اتحط……”
رد حمزة سريعاً بامتناع….. “مش عايز اكل…….”
فتحت كيان الباب ووقفت عند عتبت الباب
ناظرة اليه وهي تقول…….
“بس أبوك مستنيك على السفرة… وهو اللي قالي اناديك……..هتيجي صح…. ”
بعد لحظات أومأ لها برأسه بملامح حجرية…
“جاي وراكي…..”
انعقد حاجباها وهو تحرك انفها يميناً ويساراً تتأكد
مما تشمه……ثم عقبت…..
“حمزة هي اي الريحة دي…… هو انت بتولع في إيه……..”
اجابها وعيناه على سلة المهملات….
“شوية أوراق مش مهمين…….”
نظرة كيان الى ما ينظر ثم اومات براسها
دون اهتمام……
“آآه طيب بسرعه بقا متتأخرش أبوك مستنيك…”
خرجت كيان واغلقت الباب خلفها…..
………………………………………………………….
تجمع الجميع على سفرة الطعام الأب على رأس الطاولة والاخوة الثلاثة يجلسوا على الصف اليمين
بجوار بعضهم…….
مضغ عثمان الطعام وهو ينظر اليهم بعيون كالذئب
الماكر المنتظر الانقضاض على فريسته في أضعف
حالتها……..
تنحنح عثمان ملفت الانتباه من حوله…وبالفعل نظرة
أجْوَاز العيون الثلاثة إليه وكلاً منهم يحمل شعوراً
مختلف عن الآخر…وكانت أعينهم كالستار المكشوف يكشف الكثير دون البوح…..
دخل عثمان في صلب الحديث بنبرة خشنة صارمة…….
“اللي حصل في العمارة من كام يوم ده حقيقي…
ولا افترى عليكم…. ”
بلعت شهد ريقها واطرقت براسها بتردد محاولة استجماع شتاتها سريعاً…..
لم يرد حمزة بل اكتفى بالصمت….وكذلك فعلت كيان وهي تدعي سراً ان يمر اليوم دون كوارث وعدم اختلاق مشاكل كما يفعل معهم دوماً……..
“اتكتمتوا ليه ردوا عليا…….اي اللي هببتوا ده..”
ضرب عثمان على الطاولة بقوة صائحاً بهذة
الكلمات بغضب أسود…مما جعل شهد وكيان
ينتفضا معاً بخوف رافعين رؤوسهم إليه اما حمزة فجز على اسنانه يمنع نفسه بالقوة من التهور فمهما كان هذا الرجل والده !!….
وزع نظراته عليهما بجمود حتى استقرت على
حمزة فازداد غضبة سائلاً……
“إيه هتفضلوا تبصه لبعض كتير….انت اتعركت مع
زفتت الطين حماتك…..شتمتها وجرست بنتها في العمارة……”
هتفت شهد بدفاع عنه…
“محصلش يابابا حمزة أ……”
اخرسها بنظرة واحده تعرفها جيداً ثم هدر
بقوة اخافتها…….
“اتكتمي…..انتي كمان قليتي ادبك عليها وبدل
ما تحلي وقفتي مع اخوكي….ولا عال مخلف
بلطجيه صيع واقفين يتعاركوا….ناقص تطلعوا
المواص من بوقكم…… ”
تدخلت كيان متحدثه بحمائية…..
“بس شهد مقلتش ادابها عليها…..دا هي اللي شتمت شهد وقعدت تعايرها بمرضها وبسنها والجواز….”
أومأ عثمان بمنتهى القسوة وهو يرمق ابنته
بقرف………
“عندها حق….. ماهو اللي بيته من قزاز…ميحدفش الناس بطوب…….”
نظرة له كيان بغضب ممزوج بالكرة….واكتفت شهد بصمت دون تعبير موحد في عينيها المنكسرة…..
صاح حمزة بانفعال عليه……
“انت بتكلم على أساس ان انت وهما زي السمنه على العسل….ايش حال مكنتش راضي زمان تيجي معايا عشان اخطبها وسبتني أروح لوحدي….”
هز عثمان راسه وهو يؤكد على الحديث مضيف
بزهوٍ……
“عشان النسب ده ميشرفش… مش هيليق بأسمي… انا يوم ما أجوزكم لازم اكون راضي عن الجوازة…. ومش بعيد اختارها بنفسي…..ومش هختار أقل
مننا لا دا انا هختار الأعلى مننا اللي يشدكم
لفوق مش يسحبكم لتحت…….”
تدخلت كيان بوجهٍ ممتقع……
“هو مينفعش نعترض على كلامك زي ما علمتنا… بس الزمن اللي بتكلم عنه ده انتهى خلاص….دلوقتي احنا
كبرنا واللي زينا بيختار بنفسه……… ”
رفع عثمان حاجبه بمكر واشار بعيناه على
حمزة هازئاً…..
“مش في قانون عثمان الدسوقي….والجدع يتحداني…..بصوا لاخوكم كويس…..هتعرفوا ان
اللي بيقف قصادي مش بيوصل لاي حاجة…..”
التوى فك حمزة بسخرية مريرة…..
“مش مصدق انك شمتان فيا……..مش مصدق…انت
بجد ابونا ولا كدا وكده……”
احتدت نظرات عثمان بشدة واحمر وجهه وفارت الدماء بعروقة فرفع كفه كي يصفعه…….
صاحت الفتاتان معاً بزعر وهما ينهضان عن مقاعدهن بهلع…
“بااااااابااااااا……”
في لحظة خاطفة التقط حمزة يد والده قبل الوصول لصدغة وقد واجهه بعيون أشد قسوة وغضب…..
“قولتلك مية مرة اني كبرت على الضرب…وبقيت اعرف اقف قصادك…..ورد القلم اتنين…….”
اتسعت عينا عثمان بدهشة ناظراً اليه بعدم تصديق…..فاضاف حمزة ببرود وهو يترك يده…
“بس انا مش هعمل كده عشان صلة الدم….اللي
انت متعرفهاش…….”
“حمزة……..”نادته شهد وهي تمسك ذراعه كي
يبتعد عن هنا….
بينما صاح عثمان بكراهية……
“اخرج برا بيتي مش هتقعد فيه…….برااا……اخرج
برا… ”
نزع حمزة ذراعه من بين يدي أخته….ثم اتجه الى غرفته سريعاً قائلاً بكرهٍ شديد…..
“عارف عشان كده حضرت شنطتي…..هدخل اخدها واغور…..اشبع بالبيت وبالعمارتين اشبع بالفلوس وبالعربية……أشبع بكل حاجة وسيبنا احنا نسف
في التراب ويطلع ميتنا عشان نكسب القرش…
عيش انت وسيبنا احنا نموت بالبطيء…..”
خرج من الغرفة وتابع بحرقة……
” زي امي ما ماتت من كتر المرض وقلة العلاج…..
اللي بفلوسة كنت مقضيها مع كل واحده شوية وسيبتنا معاها ننحط في الصخر عشان نلحقها…….وبرضو ملحقنهاش……”
اتجه الى باب الشقة فركضت شهد وكيان
خلفه قائلين معاً برجاء…..وهما يتعلقوا في
ذراعيه من الناحيتين……
“حمزة……..خليك بالله عليك..بلاش تمشي…….”
سحب حمزة نفساً غاضباً بصعوبة وهو يهمس
لهن قبل ان يفتح الباب……
“ادخلوا اوضتكم وقفلوا عليكوا…..أول ما يمشي هاجي………..سلام…….”
خرج واغلق الباب خلفه بقوة….فنظر الفتيات الى بعضهن ثم لابيهم الذي مزال يجلس مكانه على
رأس الطاولة بسطوةٍ قاسية ونظرات
كفيلة ببث الرعب في اجسادهن…..كان ينظر
للباب المغلق بقوة وبملامح حادة مكفهرة….
…………………………………………………………..
على البحر ليلاً وبين الامواج الثائرة والهواء الطلق
البارد القى الصنارة وظل ينتظر بعينين شاردتين
معلقتين على سطح البحر الحالك……سابح بذكراه إليها….كيف كسرة قشرة الهدوء التي تتحل بها أمامه….لمجرد انهُ نسبها إليه !!…
لا تخص أحد ؟!….
تسللت ابتسامة خائنة من بين شفتيه المتصلبة
وقد لانت قليلاً…..
كيف لها ان تتمرد على هذا المسمى الخاص…. كثيرات يتمنون ان ترتبط اسمائهن بعائلة الصاوي بشكلاً او بأخر…..
إلا هي رأى في عينيها رفضٍ أزعجه…. لم يحبذه
بل غضب من هذا الرفض…..فقد خدش كبرياء لم يمسسه احد سواها !!…..
كيف للطباخة ذات عيون عسلية الجميلة بان ترفضة وكيف ينزعج من ردها وكأنه قصد التدخل حتى يعلن ملكيته الحصرية نحوها !!…..
هل بهذه السرعة تسللت إليه ونالت من قلبه…. كيف فعلت وهو الذي ظن انه بنى حِصناً منيعاً من الحب ، وقد اتخذ هدنة سلام أبدي عن حروب الحب ومآسيها…..
اشتدت عصا الصنارة في يداه ، ففاق من شروده وهو يحاول سحبها عليه لكنها كانت ثقيلة و السمكة كانت عنيدة تأبى الخروج من البحر تحاول الفكاك بعد ان أكلة الطُعم ؟!….
لكنه كان أشد عناداً منها وسحب الصنارة لعنده وبعد نزاع دام لدقائق رفع الصنارة فوجدها فارغة !…..
قد هربت بعد ان أكلت الطُعم ؟!…
……………………………………………………………..
صباحاً في المطعم كانت تقوم بتنظيف صالة المطعم تحاول اشغال نفسها بشيءٍ وهمي….. متجاهلة بأنها تقوم بهذا مع اقتراب الساعة للعاشرة صباحاً…….
هل تنتظرة ؟!….
هي بأنتظاره فقط كي تعتذر له عن ما بدر منها أمس…فهي اندفعت بشدة أمس وصرخت في وجهه بدون وجهة حق…..وظهرت امامه كفتاة سوقية تختلق المشاكل……
وهي عكس ذلك…….فقط في غضبها تكسر كل الحواجز داخلها وتندفع فجأه بشكلاً يزعجها من نفسها…
خرجت خلود من المطبخ وهي تمسك ورقة
بين يداها قائلة وهي تنظر الى شهد…..
“شهد انا كتبت الطلبات اللي احنا محتجانها النهاردة….”
اقتربت خلود من شهد واعطاتها الورقة والقلم
قائلة….
“رجعي انتي برضو عليهم وشوفي لو ناقصين
حاجة……”
اخذت شهد منها الورقة وهي تستريح على المقعد ناظرة الى الورقة بتركيز شديد بينما يفتح الباب الزجاجي ويدلف رجل تفوح منه رائحة سجائر غريبة….ومنظره يبعث عدم الراحة في النفس…..
خصوصاً بهذه الندبات العميقة والكثيرة في وجهه وعنقه وذراعيه المكشوفة……وحتى الوشوم به
تشعرها بالتقيؤ……..
رفعت شهد عيناها عليه وظلت تراقب نظراته على المطعم ثم عليهن لتسمعه يقول بابتهاج غريب……
“صلاة النبي أحسن….دا المكان نور من تاني لا
وشكل القشيه بقت معدن……..”
غمغمت خلود بقرف وهي تراقب نظراته على
المكان ثم عليهن……
“اصطبحنا وصبح الملك لله….كانت نقصاك بقا….”
سمعتها شهد فهمست لها متسائلة…
“مين دا ياخلود…..”
امتقع وجه خلود وهي تقول بشفاه مقلوبة
بازدراء…..
“دا مرعي الجن…….تقدري تقولي كده دا واحد من ضمن ولاد الحرام اللي كانت امك بتدعيلك ان يكفيكي شرهم…….. ”
هزت شهد راسها وهي تعود بنظر إليه…. “فهمت…….وعايز إيه……”
“اللي زي دول بيعوزا إيه……غير ياخدوا…. ياخدوا وبس…… “امتعضت خلود اكثر وهي تراه يقترب منهم…..وعلى شفاه إبتسامة مبتذلة…..
قال مرعي مبتسماً بلؤم وهو ينظر الى
شهد ومد يده لها…….
“اهلاً…. اهلاً….بالست شهد….مش شهد برضو……”
نظرت شهد لكفه المفرود امامها ثم الى عيناه
الماكرة وقالت بحدة……
“نعم………… عايز إيه……”
نظر مرعي لكفه المعلق في الهواء ثم إليها….وعندما لم يجد منها أية استجابة سحب كفه بحرج وحك
في شعره قائلاً……..
“اي معاملت مرات الاب ديه….ماشي مقبولة
منك……. لمؤخذه انا جاي اكل… واخد القبيض…….”
هتفت شهد بتعجب…
“نعم ؟!…. يعني اي القبيض ده……”
حك مرعي ابهام اصبعه بالسبابة امام عينيها
الحانقة واردف …….
“المعلوم الفلوس اللي باخدها عرقي انا ورجالتي…..”
أشار على ثلاثة رجال ينتظروه بالخارج…ليسوا
أقل منه بالوصف……بل من نفس العينة…..
“عرقك في اي بظبط انا مش فاهمه حاجة….”
احتدت نظرات شهد عليه….فقال مرعي
بتبجح…….
“افهمك انا بحميكي وبحمي مكانك……”
لوت شفتيها هازئة… “بتحميني من اي بظبط……”
رد مرعي سريعاً…. “من ولاد الحرام……”
امتعضت شفتيها وهي تقول
ببرود….
“شكراً انا مستغنيه عن الحماية دي…..”
رفع مرعي كفيه معاً وقد ظهرت بوادر الإزعاج
على وجهه……..
“لا لا كده هزعل متقوللها حاجة ياخلود مانتي
قديمه هنا….”
لكزتها خلود باضطراب بعد
نظراته…..
“ادفعي ياشهد وتقي شره…….”
هز مرعي راسه وهو يبتسم بشر…
“جدعه ياخوخا…. اسمعي كلامها وادفعي بسوكات……عشان مزعلش…..”
تخصرت شهد بتحدي….. “ولو مدفعتش……”
رفع مرعي حاجبه واخبرها بملامح تنذر
بالشر والتوعد…..
“يبقا انتي عايزه تخسريني….ولو خسرتيني
هتخسري نفسك والمكان اللي وقفه فيه…….”
بلعت شهد ريقها وهي تقول بصوتٍ
اجوف…
“المكان ده بتاع عاصم الصاوي ولو عرف انك……”
قاطعها مرعي بعينين تقدحان شراراً…..
“الله انتي هتهدديني بيه ولا إيه…..انا مبتهددش ولو وقفتي قصادي هتزعلي…..كل اللي على صفك بيدفع تمن حمايتي ليه انا ورجلتي ومفيش حد قدر يعترض……”
تدخلت خلود ومسكت ذراعها قائلة…
“تعالي ياشهد معايا…..”
عاندت شهد وهي تنظر اليه بغضب هائل…..
“سبيني ياخلود دا مفكر البلد مفهاش قانون جاي يبلطج عليا وعلى خلق الله….لو محدش وقفلك انا هقفلك…..”
احتدت نظرات مرعي….
“الله دا انتي مصممه بقا…..”
ترجته خلود وهي تربت على صدرها…..
“لا يامرعي هي لا مصممه ولا حاجة….دقيقتين بس
ياخويا وهنرجعولك…….”
سحبت خلود جانباً فصاحت شهد بتشنج…..
“انتي بتبعديني لي ياخلود انتي موفقة على الكلام ده…دا عايز ياكل شقانا…….بلبطجة وفردت الصدر….
هو وشوية الصيع اللي وقفين برا…..”
قالت خلود بوعي وجد ……
“متقفيش قدام القطر ياشهد وفي الآخر تقولي هو اللي داسني…..مرعي مش سهل وبتاع مشاكل وبيدور عليها بملقاط….دا غير انه رد سجون وواخد على كده…انتي مش شايفه وشه ودراعه مفيش حته
فيها سليمه من كتر المصايب اللي بيعملها ….
فبلاش تجيبي لنفسك مشاكل انتي بغنى عنها……اديلوا الملمين وريحينا….. ”
هاجت شهد من بين اسنانها بعدم
رضا……
“دي فلوسي تعبي وتعبك….ادهاله إزاي بس…..”
قالت خلود بهمساً……
“زي الناس ربنا هيفرجها ادهاله وريحينا من شره…..”
هتفت شهد من بين انفاسها العالية….
“ياخلود…..”
قاطعتها خلود متابعة بتحذير…..
“اسمعي كلامي ياشهد انا قلبي عليكي….انا
اشتغلت في شارع الصاوي قبل كده وعارفة نظامه إيه……وفي شارع الصاوي الكل بيمشي جمب
الحيط وبيتجنب المشاكل……ولازم تعملي كده……”
ضربت شهد كفٍ بأخر وهي تهتف متعجبة….
“انا عايزه افهم بس…..عايزة أفهم… عاصم الصاوي وكبار الشارع هنا عارفين ان اللي اسمه مرعي ده بيمص في دم الغلابه هنا عشان ياكل ويشرب هو ورجلته……”
قالت خلود بتذكر……
“محدش يعرف…..بس عاصم متعارك معاه قبل كده وقامت بينهم مجزرة كبيرة في الشارع لو هتلاحظي ان مرعي وشه متخيط من ناحية اليمين البشله دي بقا…..عاصم الصاوي اللي عملهاله……ولولا مسعد الصاوي عمه اللي وقف الحرب دي كان في واحد فيهم هيموت……”
انعقد حاجبي شهد وتساءلت…
“لدرجادي…….واي السبب……”
لوت خلود شفتيها وقالت….
“السبب ان مرعي قل ادبة و ضرب ست كبيرة فرشة بخضار في الشارع……وعاصم كان معدي بعربيته وشاف اللي حصل فمسكوا في بعض……..قمت المجزرة بعدها…..ومهدتيش غير لما أدخل الكبار وحلوها……..لكن أكيد النفوس لسه شايلة فبلاش تكوني انتي السبب وتقومي الحرب تاني
بينهم……..اديلوا اللي هو عوزه خلينا نتقي شر……”
اكتفت شهد بصمت وهي تنظر إليها…..فتابعت
خلود وهي تربت على كتفها بخوف……
“اسمعي الكلام ياشهد بعد كل اللي حكيتوا ولسه معنده…….خافي حتى على حمزة……”
انتفض قلب شهد وهي تنظر الى خلود التي هزت راسها وهي تنظر ناحية مرعي الذي يراقبهن بعينين شيطانيتين تشتعل كلما زاد عنادها….فجزت شهد على اسنانها وهي تشعر بانها مجبرة على ذلك…حتى
تبعد المشاكل عنها والاذى عن اخيها……فإن علم حتماً
سيكسر رأس هذا الضبع الجائع………
سحبت نفساً مضطرب ثم ابتعدت عن خلود ذاهبة إليه سائلة إياه بتهكم…..
“عايز كام……”
ابتسم مرعي ببشاعة وهو يحك كفيه
ببعضهم قائلاً بطمع……
“حلو…… شكلك اقتنعتي…….انا عايز يعني
حوالي…..”
زمت شفتيها وهي تنظر الى خلود التي هزت
راسها تترجاها ان تدفع كي تنتهي تلك القصة
على خير ……
اتكأت شهد على اسنانها وهي تضع يدها في جيب المريول…….وتخرج المبلغ المطلوب اعطته له
قائلة بحنق شديد……
“ممكن بقا توريني عرض كتافك……عشان ورانا
شغل ومش فاضيين……”
مال برأسه قليلاً سائلا بصدمة….
“طب والغدا………”
زفرة شهد وهي تعقد ساعديها امام صدرها لتقول
ممتعضة….
“معندناش….لسه مطبخناش…..معاك الفلوس روح
كُل بيها في حته تانيه……”
تحسس مرعي صدره بخبثٍ قائلاً بتبجح وهو ينهال عليها بنظرات دنيئة……
“عداكي العيب….يبقا لينا غدوة عندك….قريب سلام
ياست…..شهد……”
خرج من المكان امام ابصارها المشدوهة من هذا الانسان الزج الحقير…..تمتمت خلود داعية بقهر
وهي تقترب لتقف جوارها…….
“حسبي الله ونعم الوكيل….. تصرفهم على مرضك يابعيد……”
اغمضت شهد عينيها وهي تأخذ انفاسها بتعب…
العمل في شارع الصاوي أصعب مما توقعت يوماً
ويبدو ان الاستقلال والاكتفاء بذات أصعب من
قسوة ابيها عليها……
…………………………………………………………….
تسير العجلات على الرصيف بسرعة وتنعكس الشمس على وجهها الأبيض وعينيها الفيروزية
وبفعل النسيم تطير خصلات شعرها البنية
للخلف بموجاتٍ هائجة……..كملامحها العابسة
وعينيها الغاضبة……
نظرة للافتة الشارع الانيق الذي يقطن به استاذها
المبجل….. فقد طلب منها ان تحضر له ملف قضية
مهمة قد نساه في مكتبة أمس…..ولان اليوم أجازة
رسمية طلب ان تحضره هي له !!…….
لا بأس ان تخرج هي من البيت في يوم اجازتها ثم
الى المكتب ثم إليه الجحة المقنعة الذي قالها
انها الأقرب إلى المكتب….. ولم يضع في الحسبان
انها فتاة….. لكن لا يجوز الاعتراض فهذا أستاذها المبجل…..عديم الإحساس والدم !!……
اوقفت الدراجة الهوائية الخاصة بها أمام البنية الماكث بها…….ثم ترجلت منها…..
واتجهت الى بواب العمارة سائلة بهدوء…..
“ممكن اعرف شقة المستشار مصطفى الجندي
الدور الكام……”
نهض البواب مجيباً وهو ينظر
اليها بتراقب….
“الرابع مين حضرتك……”
ردت كيان وهي تعدل حقيبتها فوق
كتفها….
“سكرتيرة مكتب المحامي سليم الجندي……”
أومأ البواب بتفهم مشيراً على مدخل
العمارة….
“اه هي الشقة اللي في الدور الرابع على إيدك اليمين
هتلاقي يافته مكتوب عليها اسم المستشار…..”
لوحت كيان بكفها شاكرة… “تمام….شكراً ياذوق…..”
استقلّت المصعد صاعدة للطابق الرابع…..
بعد لحظات وصلت الطابق الرابع فخرجت من المصعد واتجهت الى الجهة اليمنى……. وسريعاً
رأت الافته المشيرة للمستشار مصطفى الجندي
والد المبجل……
سحبت نفساً عميقاً ونظفت حلقها بنحنحات خشنة ثم عدلت الحقيبة و اتكأت على جرس الباب….
وانتظرت….
فُتح الباب بعد ثواني وظهر من خلفه رجلاً وسيم
في عمر والدها تقريباً لكن هيهات بينه وبين والدها
الرجل كان وسيم ، وقور الشكل يشع وجهه بشاشة وطيبة من زمن ولى….. كان يشبه سليم الى حد
ما فخمنت سريعاً ان هذا هو المستشار… لم تراه
من قبل تعرفه بالاسم فقط لكن تصادف هكذآ
لم يحدث….
ابتسمت كيان بتلقائية وحركت رأسها وهي
تقول برقة….
“اهلاً ياعمو……”
انعقد حاجبي مصطفى ولانت ملامحه بعد رؤية هذه الجميلة الصغيرة…….. صاحبة العيون الفيروزية المتلألئة…..
“اهلاً وسهلاً…….”
عندما صمت منتظر ان تتابع اضافت كيان بوجها متخضباً بالحمرة……
“انا كيان…….. اللي شغاله في مكتب المحامي سليم ابن حضرتك……”
ابتسم مصطفى وانشد باعجاب…….
“كيان….. اسمك جميل……غريب اوي الواد سليم ده إزاي مقليش انه بيدرب محاميه زي القمر كده
عنده……”
ازداد احمرار وجهها واطرقت برأسها قائلة
“شكراً ياعمو……” ثم رفعت رأسها وهي تخرج
الملف من حقيبتها……
“استاذ سليم كان طالب مني ملف قضية نساها
على مكتبه امبارح…… تقدر حضرتك تدهوله…..”
رد مصطفى بفتور…..
“سليم مش موجود خرج….بس هو شوية وهيجي… ادخلي استنيه جوا…. اهو حتى تريحي رجلك شوية وتشربي حاجة معايا……”
رفضت كيان….. “لا.. لا ياعمو…..شكراً……”
عبس وجه مصطفى قائلاً…..
“خايفه من إيه دا انا زي باباكي….عمتاً هسيب
الباب مفتوح عشان تطمني……”
بررت كيان قائلة….. “مش قصدي ياعمو بس……”
قاطعها وهو يبتعد عن الباب……
“بطلي رغي بقا… وادخلي مش هنفضل نتكلم
على الباب…..”
وفي اثناء طريقة للمطبخ سألها…..
“ها ياكيان قوليلي تشربي شاي ولا نسكافية…
ولا أقولك عندي هوت شوكلت يجنن أعملك……..”
سألت بأستغراب……
“هوت شوكلت ؟! لا ياعمو شكراً……”
ابتسم مصطفى وتوقف وهو يلتفت ناظراً
إليها…….
“مستغربة ليه هالة مكنتش بتشرب غيره…..”
تسمرت كيان مكانها تنظر اليه بصمت فاضاف
بإبتسامة فاترة……
“آآه هالة دي تبقي مراتي…….. الله يرحمها…..”
“الله يرحمها…….” تمتمت بها كيان وهي تراه
يبتعد في أحد الأركان…..
خطت خطواتها بحرص إتجاه الصالون المفتوح امامها وقد تركت الباب مفتوح كما اقترح…..
سارت بحذاءها الرياضي الأبيض على الأرض المصقولة الامعة…….وبدت عينيها تتمعن من المكان
حولها…….شقة أنيقة فارهة والفرش منمق مختار بعناية….وكل قطعة تدل على ذوق أنثوي رائع فني
لأبعد حد……
سارت بحذاءها الرياضي الأبيض على الأرض المصقولة الامعة…….وبدت عينيها تتمعن من المكان
حولها…….شقة أنيقة فارهة والفرش منمق مختار بعناية….وكل قطعة تدل على ذوق أنثوي رائع فني
لأبعد حد……
إبتسمت كيان وحانت منها نظرة على طاولة خشبية
يوضع عليها عدت براويز لصور قديمة…….واخرى حديثة…….
بعض الصور خاصة بسليم وهو طفل في أحضان
والدته (هالة) تناولت كيان الصورة بيدها وظلت
تتأملها بإعجاب….أمرأه جميلة تشع حبٍ وحنان
أنيقة ذكية نظرة عينيها دافئة حانية……..لهم حق
ان يحزنوا لفراقها…..فمن يراها للمرة الاولى يقع
في حبها ماذا عنهما عاشوا معها تحت سقف واحد كأسرة واحدة مترابطه لسنوات طويلة وفجأه
اخذها الموت منهم……..
وضعت الصورة جانباً ونظرة لصورة اخرى كانت لسليم بسترة التخرج…. كان أصغر أجمل أكثر
برائة من الآن….. وبدون لحية……..
ضحكت كيان وهي وتضع يدها على فمها ثم وضعت
البرواز مكانه ونظرت للصورة الأخرى كانت تجمعه
مع والديه وهو في عمر المراهقة…..كان شكله مختلف هنا ويبدو انه كأن شقي ومشاغب.. لكنها لم تغفل
عن ابتسامته المتسعة ولمعة عيناه البراقة بالفرح
لمجرد انه بين ذراعي والديه……..
كما هو جميل عندما يبتسم…….
اتى صوت مصطفى من خلفها وهو يضع صنية
المشروبات الدافئة……
“في ألبوم صور في درج اليمين خديه وتفرجي
على الصور براحتك…….”
وضعت كيان البرواز في مكانه بحرصٍ شديد
ثم استدارت اليه بحرج…
“انا اسفة ياعمو…. بس الصور شدتني……”
جلس مصطفى على الاريكة قائلاً بود…
“وفيها إيه…. انا بتكلم بجد في ألبوم صور عندك خديه واتفرجي عليه…. في صور اكتر من دي….”
هزت كيان راسها وهي تتقدم وتجلس جواره
تاركه مسافة بسيطه بينهما ثم قالت باعجاب
وهي تنظر نحو الصور……..
“لا ملوش لزوم….. بس طنط هالة جميلة اوي..
وواضح كمان ان سليم كان متعلق بيها أوي….”
لانت عينا مصطفى بالحنين…وهو يخبرها
بحزن…….
“فوق ما تتصوري……..هالة كانت عند سليم
الدنيا ومافيها…..وهي كمان كانت بتحبه أوي…
لدرجة اني كنت بغير منه ساعات……أصلي
مكنتش أحب حد يشاركني فيها….. وكنت رافض الخلفة عشان متتشغلش عني بالولد اللي هتجيبه…. ”
اتسعت عينا كيان بدهشة وهي
تضحك باستمتاع….
“لدرجادي كنت بتحبها……”
اخرج مصطفى تنهيدة حارة مليئة بالحب
والعواطف الخاصة بحبيبته هالة… وحكى اليها
بمنتهى الاريحية المطلقة…….
“كانت حب عمري هالة كانت أول ست أحبها….حبتها
من وهي في المدرسة…كانت في ثانوية اخوها كان صاحبي…….كنت خايف أقولها بحبك كنت أكبر منها
بخمس سنين……ويوم ماتخرجت اتشجعت وروحت قولتلها اني بحبك…..راحت ضربتني بالقلم وجريت
على بيتها وهي بتعيط….واخوها في نفس اليوم جه
كسر عضمي……”
ارتفع حاجب كيان بصدمة….. “إيه ده… لدرجادي…..”
قال مصطفى بمزاح……
“واضح ان كلمة بحبك عندهم شتيمة…..”
ضحكت كيان بقوة ومن شدة الخجل وضعت
يدها على فمها فشاركها مصطفى الضحك……
ثم أضاف بعد برهة من الصمت…..
“بس بعد كده فهمته اني عايز اخطبها وأول
ماشتغل وجيب الشقة هتجوزها…وفعلاً كنت قد الوعد وبعد الخطوبة بسنة اتجوزتها……وعشنا
في الشقة دي…..هي مكنتش كده…هي كانت
بسيطه وهي اللي حلتها وادتها قيمتها……وبعد
كام سنة جه سليم……ونور حياتنا…..وقوى علاقتنا
اكتر من الأول…… ”
لانت ملامح كيان بتأثر وتمتمت
بحرج…..
“تعيش وتفتكر ياعمو…..ربنا يرحمها…….”
مسح مصطفى طرف عيناه سريعاً ثم نظر
إليها وارتسمت علامات الجدية على ملامحه
قائلاً……..
“المهم انتي قعدتي تدحلبيني بالكلام…وانا لحد دلوقتي مسألتكيش…..”
عبست كيان بتساؤل…… “على اي ياعمو……..”
رفع حاجب وانزل الآخر قائلاً بجدية مبالغ
بها…
“دي عنيكي ولا عدسات……”
ابتسمت كيان واطرقت برأسها بخجل…..
“لا عنيا والله……”
هو أيضاً أبتسم مشيراً برفق….
“طب يلا اشربي الهوت شوكلت ده
لحسان يبرد…”
مسكت كيان الكوب وارتشفت منه القليل
فسألها مصطفى بهدوء……
“قوليلي ياكيان اي اخبار شغلك مع سليم
مرتاحة معاه…..”
من أعلى حافة الكوب نظرة إليه بتردد…ثم انزلت الكوب وقالت عابسة…..
“بما انك كنت صريح معايا انا كمان مش هكدب عليك…..بصراحة ابنك مطلع عيني في الشغل..
ولكانه مستعبدني…..”
اندهش مصطفى قائلاً….
“ياساتر ؟!!…سليم ابني يعمل كده……”
وضعت الكوب على الطاولة ثم قالت مستهجنة…
“وأكتر…..هنروح بعيد ليه أهوه النهاردة اجازتي وانا أصلاً معروف يوم اجازتي بنام لحد العصر..صحاني الساعة تسعة قال إيه روحي هاتي المكتب وهاتيلي الملف اللي نسيتوا فيه…….طب ياستاذ ما تروح انت
” انتي اقرب ياكيان….هاتي بس وهستناكي تحت العمارة هاخده منك…….واديني انا اللي قعده
في شقته مستنياه……..”
تدخل صوتٍ رجولي في الحديث قائلاً
بجزع……
“ماشاءالله بتشتكي مني للمستشار كمان….”
رفعت كيان عينيها على باب الصالون المفتوح لتجد سليم امامها بكامل اناقته المعتادة يرتدي قميص أسود وبنطال يماثلة كانا في غاية الروعة عليه
برزا جسده الرياضي الصلب….وقامة طول
الجذابة…..مع هذا الشعر الأسود الغزير ولحيته
المنمقة……
تذكرت صورته بسترة التخرج ووجهه بدون لحية…
فكبحت ضحكتها بسعال وهي تنهض عن الاريكة
متهربة من نظراته المتربصة لها عن أقل حركة
تصدر منها لآن !!…
لم يتحرك والده من مكانه بل قال موبخاً وهو
ينظر إليه……
“كويس انك جيت إيه اللي بتعملوا في البنت ده ياولد….مش عيب تخرجها من بيتها بالشكل ده
كنت هتغلب يعني لو كنت روحت جبت ملفك
بالعربية بدل ما تبهدله بالشكل ده……”
رد على والده بصوتٍ بارد يبعث في الاوصال
رجفة مرهقة……
“بابا لو سمحت…….متدخلش في شغلي..وبعدين الانسة كيان بتقوم بشغلها……”
ثم عاد لعينيها عندما نظرة اليه فقال
بتهكم….
“وبعدين مضايقه ليه أوي كده اني صحيتك بدري..
دا انا حتى بساعدك تلحقي معادك مع نائل….”
بملامح مشدوهة تمتمت كيان وهي تنظر اليه
بعدم فهم…… “نائل ؟!…..”
تحدث سليم بتملك واضح والغيرة تشع من عيناه القاتمة……
“مش المفروض انك خارجة مع صحابك النهاردة
وفي الكومنات نائل قال انه هيكون موجود
معاكم….”
نظر له مصطفى بصدمة….وهو لا يفهم شيءٍ..هل
مايراه في عينا ابنه حقيقي !….ام انه يتوهم !…
لم تستوعب بعد ماذا يريد لذا سألت ببلاها..
“إيه…….. مش فاهمه…….”
مد سليم يده بملل وبملامح حجرية قال….
“متغيريش الموضوع هاتي الملف….. خليني
أشتغل عليه وقدم المذكرة…….”
اخرجت كيان الملف واعطاته له…..فوزع مصطفى النظرات عليهما يشك……ثم نهض قائلاً……
“انا هروح احضرلكم الفطار…….”
رفضت كيان سريعاً وهي تحمل حقيبتها على
كتفها…..
“لا لا ياعمو….. انا لازم امشي…… انا اتأخرت….”
اصر مصطفى قائلاً…..
“لا يابنتي…. لازم تفطري معانا…..”
قال سليم بفظاظة….
“سيبها يابابا…….وراها معاد مهم……”
بلعت كيان الغصة المختنقة في حلقها….وهي تؤكد
على حديثه….. “ايوا ياعمو……. انا فعلاً هتأخر……”
هز مصطفى راسه بتفهم ثم أشار لابنه بأمر….
“طب وصلها بعربيتك ياسليم…..”
قالت كيان بعفوية وهي تسير لخارج
غرفة الصالون…….
“لا ياعمو… مفيش داعي….. عزيزة تحت….”
سألها مصطفى بتعجب….
“مين عزيزة…. دي أختك……”
صدر من سليم ضحكة خافته جعلتها تتوقف وهي تنظر اليه بحنق شديد….ثم نظرة الى والده
موضحة….
“لا دي العجلة بتاعتي……”ثم زمت شفتيها
الشهيتين بتزمر نحوه…..
” على فكرة مفهاش حاجة تضحك…..”
ابتسم مصطفى وهو يرمق ابنه بعتاب….
“سيبك منه ياكيان.. هو لما بيحب حد… بيحب
يكون محور اهتمامه مش العكس…….”
نظر سليم لوالده بعدم فهم….ليجد والده يودع
كيان قائلاً برفق…..
“شرفتينا ياكيان ولو اني كان نفسي تفطري معايا
وتقوليلي رايك في اكلي……”
بادلته السلام باليد وهي تتحول الى تويتي
الطيف قائلة برقة……
“تسلم إيدك باين من الهوت شوكلت انك استاذ في الطبخ مش بس في القانون…….سعيدة اني اتعرفت على حضرتك ياعمو……”
ربت مصطفى بكفه الحر على يدها
قائلاً بمحبة…
“وانا اكتر ياحبيبة عموو……”
تجازوت سليم متجاهلة وداعه فقال امراً
وهو يلحق بها…..
“استني هوصلك…..”
وقفت عند باب الشقة
قائلة….
“مش هينفع عزيزة تحت…..”
تافف بملل قائلاً… “هوصلك لحد تحت….. يلا……”
تابع مصطفى خروجهما من باب الشقة امام
عيناه….فتمتم بحيرة بعد اغلاق الباب…..
“اي اللي بتعملوا دا ياسليم…….. الإتنين !!….”
وقفا امام المصعد منتظرين وصوله فحانت من سليم
نظرة شاملة عليها…..بشعرها المموج الطليق والذي تتركه هكذا أحياناً حينما تكون في مزاج سيء
غير قابل لمسك مكوة الشعر…….
ثم انحدرت عيناه على الكنزة الصيفية البيضاء المطبع عليها قلوب حمراء صغيرة…..ثم للبنطال الجينز بساقيه الواسعة……..ثم للحذاء الأبيض الرياضي….
كم هي جميلة دون تكاليف زائدة….رائعة بأقل
شيءٍ……بساطتها تكمن في الانجذاب نحوها
هل ستقابل نائل بكامل اناقتها….حتماً ستبدأ
الاستعداد لهذه المقابلة…..بأفضل شيءٍ لديها..
ان كانت هكذآ وجميلة تسحر العين….كيف ان
تأنقت ماذا سيحدث لقلب نائل…….وقلب كل
من تمر عليه هذه الجنية الصغيرة الشقية….
فيروزية العينين…..جميلة القوام…..
فتح باب المصعد فدلفت كيان للداخل قائلة
بامتناع…..
“ملوش لازمة توصلني لحد تحت…انا عارفة
السكة…..”
تجاهل حديثها واستقل المصعد جوارها ثم اتكأ على
الزر فأغلق المصعد ابوابه…….
فظلت كيان واقفة مكانها بتحفظ تنظر للائحة
الأرقام المضيئة أمامها….وهو فعل المثل جوارها
لكن عيناه كانت تراقبها بين الحين والاخر في الخفاء….
حتى بدأ المصعد يهتز قليلاً والانوار تنطفئ
وتنير…….
فأتسعت عينا كيان بزعر وارتجف جسده بهلع
وهي تمسك ذراعه بتلقائية قائلة بتلعثم
من شدة الخوف…..
“ا…استاذ سليم…..الاسانسير هيقع……الاسانسير…”
مسك سليم يداها الاثنين بين كفيه واتكأ عليهم
قائلاً برفق وهو يطمئنها بثبات يحسد عليه….
“اهدي ياكيان هو ساعات بيعمل كده…وبيرجع يشتغل تاني عادي….أهدي…….”
جف حلقها وهي تقول بقلبٍ مرتجف…..
“انا خايفه…..انا عندي فوبية أصلاً من الاماكن
المغلقة…….هو احنا هنموت….هو النور بيعمل
كدا ليه…..هو…..هو ملبوس…….”نظرت للأعلى
بهلع….
فقال سليم بنفي…ومزال يمسك يداها بقوة…
“لا مش ملبوس…..أهدي….اقولك غمضي عينك….”
اهتزت حدقتيها وتمتمت بخوف….
“أغمض عيني ليه هو بيقع بجد……”
بث سليم الطمأنينة لقلبها الضعيف بصوتٍ
حاني……..
“شوية وهيرجع يشتغل تاني….غمضي عينك لو خايفه……..ومتقلقيش انا جمبك……”
اومات كيان برأسها وهي تغمض عينيها بقوة
شاعرة بالدوار والاختناق في لحظة
واحده…….
“متسبنيش ها………انا خايفه…….”
هي من اتكأت على يداه تلك المرة باجتياح….فهز
رأسه قائلاً برفق…..
“أهدي…….اهدي ياكيان انا جمبك……”
مع لمسة يداها شعر بشيءٍ غريب حلو…. وخَطِر…
شعور لم يختبرهُ مع ايتن……مالى في لحظة خاطفة عليها وفي سهوة اللحظة لامس انفه شعرها البندقي
المموج……. والعبق به كان مميز……مما جعله يغمض عيناه مستشعر بهذه الذة الحلوة… الخطِرة….. الفريدة
من نوعها………
هدئ المصعد وانفتح بعد الوصول للطابق الارضي
فأبتعد سليم عنها…..وترك يداها قائلاً بعينين
ذأبه……”وصلنا ياكيان…..”
فتحت كيان عينيها ونظرت لباب المصعد المفتوح
فخرجت منه بخطوات شبه متعثرة وهي تضع
يدها على رأسها…
فمسك سليم ذراعها قائلاً بقلق…..
“انتي كويسة……”
نزعت كيان ذراعها برفق قائلة بامتنان…..
“الحمدلله…. دوخه بسيطه من هزت الاسانسير…..”
نظرت للمصعد بعد خروجها بزمجرة….
“لازم تعملولوا صيانة…. دا ممكن حد يموت
جواه……”
رافقها سليم للخارج وهو يعقب
باستخفاف…
“انتي اللي قلبك ضعيف…..”
نظرت اليه بذهول…..
“يسلام يعني انت مخفتش……”
أومأ برأسه وهو يسير معها واضع يده بجيب
بنطالة….فقالت مستهجنة……
“ااه واضح انك واخد على كده….الحمدلله اني مش سكنه هنا كان زماني مدفونه من زمان……”
لم يرد بل ابتسم….ثم وصلا معاً للدراجة
الهوائيّة الخاصة بها…
فنظر سليم للدراجة بعدم استحسان…..
“متاكده انك هتعرفي تروحي بالعجلة دي… انتي
بتقولي انك دايخة…..”
استقلت الدراجة ببساطة ووضعت قدميها على الدواسات قائلة…….
“لا الدوخة راحت الحمدلله….. انا بقيت احسن…
شكراً ياستاذ…….”ثم حركت الدواسات بحركة
دائرية وبدأت الدراجة بالتحرك في الاتجاه
المعاكس له……
فظلت عيناه تلاحقها حتى اختفت عن مرمى ابصاره…….
……………………………………………………………..
شعور غريب ملازم لها بعد عودتها….لساعات طويلة
تحاول الهروب من هذا الشعور المتموج بين ثنايا قلبها…..
هل تخضع للمراقبة والتجسس المستمر من قِبل
رجل مرتبط وعلى وشك الزواج بأخرى…وهو في الأساس استاذها…..ولماذا يضعها تحت المراقبة…..ويتابع تحركات حياتها الشخصية…
بكل هذه الدقة…….
لا تفهم شيئاً…..وقد بدأت بعضٍ من المشاعر الخائنة
تستوطن قلبها وتنتهك عذرية مشاعرها
الخاصة……
لمست يداه القوية على يداها…. كيف سمحت له بمسك يداها بهذا الشكل… ليست من النوع المحب للتقارب بالجنس الآخر….لطالما كرهتهم لانهم أشباه عثمان الدسوقي !!…..
يكرهون الحب…..يكرهون النساء……..
المرأة بنسبة للرجال أداة متعة……آلة لأنجاز
المهام المتراكمة عليهم…….وكيس ملاكمة
عند الغضب !!……
لم تشعر بالأمان أبداً نحوهم……باستثناء اخيها
فهو كان يشكل السند والحماية لها منذ الصغر
هو أفضل من رأت من جنس آدم….ربما لانه
اخيها…
لا تعرف لكن تلك المشاعر المذبذبة تُخيفها من
نفسها……تتمنى ان لا يكون صحيح ما تشعر
به وما تراه بعيناه وتكذبة متغاضية عنه
بغباء…..
فإن كان صحيح هنيئاً لها بالعذاب….فهي لن
تأخذ دور امها مكسورة الجناح……ستصل لرتبة
الأعلى…..التي يوماً ما كانت تستحقرها !!….
“انتي هتفضلي سرحانه كده كتير…في اي ياكيان بقلنا ساعة بنكلمك…..”
فاقت من شرودها على صوت صديقتها فنظرة
اليها بانتباه…..”بتقولي حاجة يا يارا……..”
تاففت صديقتها بملل وهي توزع نظراتها عليها
هي ونائل المشارك الجالسة والذي عيناه كانت
معلقة على كيان من بداية دخولها النادي…..
قالت يارا بمزاح ثقيل…..
“بقول صباح الخير بليل…….اي يابنتي روحتي فين
احنا خارجين نفك شويه ونفرفش…ونفصل من مود
الشغل الكئيب……..ولا اي يا روميو…..ماتقول حاجة لچوليت…. “نظرة لنائل بغمزة ماكرة….
فلاحظت كيان سريعاً لذا علقت
منزعجة….
“يارا بلاش الهزار السخيف ده لحسان أقوم امشي…..”
وضعت يارا يدها على فمها وهي تكبح
ضحكات عابثة……
“خلاص خلاص سكت… انتي لسه بتقفشي…..”
أخذ نائل دفة الحديث قائلاً بملاطفة….
“لو ماقفشتش متبقاش كوكي…..”ثم
نظر لكيان قائلاً بالباقة…..
“انا هروح اجبلك آيس كريم…..بالمانجا زي مابتحبيه…….”
“وانا يانائل باللمون….”قالتها يارا وهي تلكز
صديقتها بهمسٍ….
“طب والله بيحبك حني عليه بقا…..”
تاففت كيان بملل وهي تخبرها
بوجوم….
“يارا….خلصنا….انا لا عايزة أحب ولا اتجوز…انا هفضل كده سنجل….”
هتفت يارا بصدمة تليها حسرة……
“سنجل !!…..حد يلاقي واحد دايب فيه دوب كده ويسيبوا….ونبي انتي خايبة……ومعقدة… ”
اومات كيان بوجوم….وهي تمسك هاتفها وتعبث
به……
“عندك حق انا معقدة…وعشان انا معقدة عايزة افضل سنجل كده عشان متعبهوش هو او غيره…..”
ثم قالت وهي ترفع الهاتف أمامها…..
“انا هنزل صورة على الاستوري…….”ثم سألت
صديقتها وهي تحاول ان تتخذ وضعية
جديدة اكثر تلقائية ولطافة…….
“شكلي حلو……”
قالت يارا باستفزاز….. “قمر ياچوليت……”
“رخمة……”قالتها كيان وهي تخرج لسانها بشكلاً
طفولي نال اعجاب يارا فاقترحت ضاحكة…..
“نزلي الاستوري وانتي مطلعه لسانك أحلى….”
اعجبتها الفكرة فنفذت قائلة…
“طب والله لعمل كده……”
بعد ان التقاط الصورة رفعتها على الاستوري الخاص بالفيس…..ولم تمر الثواني إلا ودخلت عليها لتجد
سليم الجندي أول من رأها….وهذا كان أمراً نادراً
بنسبة لها…….فتمتمت ذاهلة…….
“اي ده…..”
سألتها يارا بفضول……. “في إيه…..”
هزت كيان رأسها وهي تبتلع ريقها
بتوتر….. “لا…… ولا حاجة…….”
…………………………………………………………….
لم تصدق ما تراه عينيها…… لم تتوقع أبداً هذا العدد
الهائل الموجود بقلب صالة المطعم… يعج المكان بكثير من الزبائن الذين اتوا لحضور إفتتاح المطعم
ولان الخصم اليوم كان خمسون بالمئة على جميع الوجبات المسجلة في المنيو اتى الجميع للاستفادة من هذا العرض…
وتفاجأ الكثير من مذاق المأكولات الشهية……واتفق الأغلبية على الحضور الى هنا… من لذة الطعام
والطعم المميز…. ونظافة المكان…….والطباخة
الجميلة التي تتجلى منها ابتسامة تشرق
اليوم سرور وهناء……..
كانت تعمل بكل جهد في المطبخ… وقد استعانت ببعض الفتيات للعمل معها….. فهم لا يختلفون
عن خلود في المطبخ…. فكانوا طاهيات
ممتازات…..ومنجزات في العمل…. لذا
ساعدوا كثيراً في تلبيت طلبات الزبائن في
وقتٍ قياسي……….
اتتها طلبات كثيرة في هذا اليوم….فقد أعلنت عبر الإنترنت عن الافتتاح والخصومات الرائعة…وتهاتف
الكثير عليها…. لدرجة ان الهاتف لم يتوقف دقيقة واحده عن الإتصال….. باستثناء الرسائل عبر
الإنترنت…..
ساعدها حمزة كثيراً في توصيل الطلبات بسيارته ومن جانب آخر كان يوصل بشير كذلك… حتى كيان
لم تتركها ساعدت في طهي وسارت حسب تعليمات أختها….. لم تصدق ان تبدأ العمل والتجهيزات فجراً حتى قرب السادسة مساءاً……. واقفة على قدميها
لم تجلس أبداً………
تشعر ان قدماها متورمة من شدة التعب…. والصداع
يتفاقم برأسها من شدة الضجيج ومن كثرة ارتداء السماعة الطبية لساعات طويلة…..
بدأت الأجواء تهدأ قليلاً رغم ان المطعم مزال يعج بالزبائن لكنهم بدأ يسيرون مع الموكب أخيراً…دون
ركضٍ…….
زفرة شهد بتعب وهي تمسح حبات العرق عن جبينها
ناظرة نحو كيان التي تسوي الدجاج في الفرن….
“كيان انا هروح اغسل وشي…. شوية ورجعه….”
القت كيان عليها نظرة مشفقة وهي تقول
بحنان…….
“ارتاحي شوية ياشهد….. انتي منمتيش من إمبارح بليل واقفه على رجلك……ارتاحي وانا مع البنات ولو في اي حاجة هنادي عليكي……”
رفضت شهد بتزمت قائلة…..
“ارتاح اي بس ياكيان مينفعش النهاردة مفيش راحة….لازم اخلص واطلع حاجة كويسة لزبون…دي فرصتي عشان اعمل زبون للمكان……انا بقالي اكتر من اسبوعين بهش دبان……. ”
انهت حديثها واتجهت الى الحمام الخاص بهم
بعيداً ومستقل عن صالة المطعم والضجيج….
مرت خمسة أيام على آخر يوم رأته فيه…. لم يتردد
على المطعم مرة أخرى……. ظلت تنتظرة كل يوم
في العاشرة صباحا لكنه لا يأتي…… تشعر بأنها
تفتقد شيءٍ في هذه الساعة تحديداً… وعندما لا تحصل على غايتها…. تغضب وتنهر نفسها… وتصب
بغضها عليه دون ان يدري ؟!…..
وكل هذا في الخفاء….فخارجياً هي في أوج
هدوءها وثباتها دون رؤياه !……….
ماذا يحدث لها…..لماذا تتولد هذه الرغبة الغريبة في رؤية مؤجرها الغليظ؟….وهي التي كانت من فترة قصيرة تبغض هذه الزيارات المتكررة…والمقيدة
لحريتها في العمل ؟!…..
ربما لأنها تريد الإعتذار منه….اي انها اكتشفت انها
أخطأت في حقه…وقللت من شأنه امام خلود…..
وهو لا يستحق كل هذا….فقد ساعدها من باب
الشهامة ليس إلا……..
تريد الاعتذار بشدة….. ورغبة مجنونة تلاحقها منذ البارحة ليلاً بأن تذهب إليه وتعتذر… وتوضح له
سبب انفعالها المبالغ…..
بلعت ريقها وتخلصت من السماعة ووضعتها جانباً…
ثم فتحت صنبور المياة وبدأت تلطم وجهها بالماء
بقوة كي تفيق للعمل وساعات المتبقية به…وكي تمحى أيضاً قطرات الماء البارد وجع رأسها ولو قليل……..
تعبت…….ومزالت الحياة تستنزف كل طاقة داخلها
في سبيل النجاة بعيداً عن براثن عثمان الدسوقي
جففت وجهها بالمنديل الورقي….ثم وضعت السماعة
مجدداً بحرص……..
خرجت من الحمام متجهة الى صالة المطعم حيثُ الزبائن فاوقفتها خلود وهي تمسك يدها وتتنحى
بها جانباً…..
“شهد………ياشهد…….”
نظرت لها شهد بتعجب… “اي ياخلود في حاجة……”
ابتسمت خلود وهي تشير للمرأة التي وصلوا
إليها……
“ستهم جايه تباركلك……ست أحلام…..صاحبة المكتبة اللي جمبك ……”
تأملت شهد المرأة فكانت أمرأه ترتدي عباءة سوداء وغطاء رأس يماثلها يبدوا انها في الاربعون من عمرها ملامحها عادية لكنها تشع قوة وكبرياء
…وعينيها خبيرتين قويتين…….وكانها تعرف كل شيء دون حديث ؟!….
ابتسمت شهد مرحبة بها وهي تمد لها
يدها….
“آآه خدت بالي منها…فيه كام رواية شدتني…شكلي
هبقا اجي ازورك قريب…..”
بادلتها أحلام سلام يدها وهي تخبرها بابتسامة
رزينة…….
“تنوري ياقلبي…….انا حبيت أتعرف عليكي بعد كلام خلود عنك……اصل انا احب الست الجدعة اللي تفوت
في الحديد وهو سُخن ومتقولش آآي……”
قالت خلود معتذرة…..
“طب هسبكم انا تكملوا كلامكم….واروح اشوف البنات في المطبخ……”
عندما ابتعدت خلود قالت شهد بحيادية…..
“مش لدرجادي…..الشغل مش للرجالة بس…..احنا
كمان يحقلنا نشتغل… ونعتمد على نفسنا….. ”
اكدت احلام بمزاح مُر…….
“عندك حق….. دانا بعتمد على نفسي من وانا قد كده……..”
رحبت بها شهد مجدداً بلباقة……
“ربنا يقويكي….طب اتفضلي اشربي حاجة….او اجبلك حاجة تكليها… دوقي اكلنا ان شآء الله
يعجبك…..”
رفضت أحلام قائلة وهي تعدل غطاء
رأسها…..
“بكرة ناكل ياست شهد هنروح من بعض فين….يلا افوتك بعافية….” ثم مالت قليلاً عليها هامسة
بنبرة مبهمة……..
“بقولك صحيح….. خدي بالك من نفسك……”
قالت شهد سريعاً….. “قصدك مين….. مرعي ……”
هزت أحلام رأسها وقالت بخفوت….
“ياريت هنقول مقدور عليه هيسكت بقرشين….
انا قصدي على اللي هتنفسيهم قريب في اكل عيشهم……… فتك بعافية…. ”
لحقت بها شهد خطوتين ونادتها….
“استني يامدام أحلام…….”
استدارت احلام لها قائلة بجدية وصدق….
“انا معرفش حاجة…. لكن دي نصيحة جدعانه مني
ليكي لاني على قديمو هنا… وعارفة شارع الصاوي على إيه………”
عندما ذهبت أحلام….تاففت شهد بصوتٍ
عالٍ وتمتمت…….
“هو انا لحقت أتنفس……وبعدين الرزق ده بتاع ربنا….. ” اغمضت عينيها بقوة وهي ترفع رأسها
للأعلى وغمغمت……..
“يارب هلاقيها من مرعي…. ولا من عاصم….. ولا من
اللي بتقول عليهم دول……. يارب دانا حتى ملحقتش أفرح…….وبعدين بقا…… ”
“انتي بتكلمي نفسك ياشهد……”
إدارة شهد وجهها لاختها مجيبة ببساطه…
“شكلي كده…..”
اقتربت منها كيان بقلق…..
“ليه…. اي اللي حصل…..”
قالت شهد باستياء…..
“تقريباً مش مكتوبلي أفرح ياكيان….”
عانقتها كيان من خصرها ومالت على كتفها
قائلة بمحبة…….
“ليه ياشوشو… دا انتي المفروض تكوني طايرة
من الفرحة مشروعك بدأ يطرح……وبكرة تلعب
معاكي وتفتحي بدل الفرع اتنين وتلاته…..اتفائلي
انتي بس….. ”
اخرجت شهد نفساً ثقيلاً على قلبها
وقالت….
“مفيش حاجة سهلة ياكيان بذات في المكان
ده…..”
ابتعدت عنها كيان ونظر لعينيها مجدداً بقلق
أكبر….
“اي اللي حصل ياشهد….اتكلمي علطول…. ”
لوت شهد شفتيها واجاباتها بقلة
حيلة……
“لو عارفه هقولك انا ذات نفسي مش فاهمه….”
هزت كيان رأسها بجزع……
“لا دا شكل قلة النوم اثرت على مخك…. ارتاحي شوية لحد ما شوف الطواجن اللي في الفرن…..”
سالتها شهد بتردد…..
“كيان هو حمزة لسه مجاش….
” لسه……”
لحقت بها شهد قائلة…. “طب انا جايه معاكي…….”
عندما دخلت كيان المطبخ وسط الطاهيات الجدد
بدأت بسكب بعض الوصفات في علب
التقديم……فسالتها كيان بحيرة……
“في إيه ياشهد… الأكل ده لمين…….”
ردت شهد بهدوء وهي تغلق العلب
بحرص…
“دا…… دا اوردر…..”
تساءلت كيان مجدداً……
“واخده بالي…. بس لمين بقا…..”
قالت وهي تتحاشى النظر اليها….
“عاصم الصاوي…….”
نظر الجميع لها بتعجب من ضمنهن خلود التي ابتسمت في الخفاء بخبث…
“إااايه…..”
رفعت شهد عينيها الى أختها وقالت بثبات
وهي تضع العلب في الاكياس على مهل……
“عاصم الصاوي اللي ماجرة منه المطعم طالب
اوردر هوصله ليه…..”
قالت خلود بلؤم……
“بنفسك ؟!…..ما حد من البنات يبعته ليه…..او
ينادي حد من صبيانة ياخده منك……”
بلعت شهد ريقها وهي تقول…..
“لا انا هبعته……عشان هتكلم معاه في موضوع مهم…….”
سالتها كيان بفضول…… “موضوع إيه…….”
“بعدين ياكيان…..شوية وجاية……”ثم نظرة
لخلود قبل ان ترحل قائلة…….
“خلود خدي بالك ها……”
ردت خلود مبتسمة برفق….
“متقلقيش….. كانك موجودة………”
وبعد ان خطت خطوتين تذكرت شيءٍ هام…..
لذا وضعت الاكياس على الرخامة وقالت بعجلة
“شكلي نسيت السماعة في الحمام….”
اتجهت الى الحمام سريعاً واغلقت الباب عليها تختبأ
من العيون المتربصة بها……اخذت نفساً عميقاً طويلاً
مرتجفاً خلف الباب المغلق….. ثم اتجهت الى المرآة المعلقة في الحائط………وبدأت تمرر يدها على شعرها…وعلى الخصلات القصيرة التي تغطي
جبهتها البيضاء…..
تتأمل عينيها العسلية… قسمات وجهها….شفتيها الوردية…..تكتشف جانباً من جمالها الآن……جانب
اهملت النظر إليه……منذ ان فقدت اذنها
اليمنى !……
مالذي تغير اليوم ؟! ……
لم تكن تنظر للمرآة هكذا يوماً…..كانت النظرة دوماً
عابرة….وأحياناً مؤلمة….عندما تنفرد بنفسها داخل
الحمام….. وتبكي………
ابتعدت سريعاً عن المرآة وكان افعى سامة لدغتها
ماذا اصابها لماذا تتصرف كالفتيات المدللات…..
فالتذهب إليه وتعتذر….ثم ترحل….وتريح ضميرها
وينتهي التفكير به…..
………………………………………………………….
لأول مرة تخطو بقدميها مكان عمله…..محل المصوغات والمجوهرات الباهظة…….
تحركت حدقتاها العسلية على المكان الفخم الانيق
من حولها…… المرصع بالذهب في كل مكان….باشكال
والوان مختلفة……كان للمكان عطر مختلف…غريب
وكأن للثراء رائحة لا يكتشفها إلا المحروم ؟!….
أسبلت اهدابها بحرج عندما سألها أحد العمال
الواقفين خلف الطاولة الزجاجية الممتدة
الفاصلة بينهم وبين الزبائن…….
“اومرك يانسة…..عايزة حاجة معينة اجبهالك…..”
خانتها الإبتسامة عنوة عنها فابتسمت…..بعد سؤال الصبي….فهي لا تمتلك في جيبها حتى ثمن جرام واحد من الذهب ؟!….
بللت شفتيها وازدردت ريقها قائلة بهدوء….
“انا مش جايه أشتري….انا جاية أشوف صاحب المحل…..عاصم الصاوي…….”
انعقد حاجبي الصبي في تعجب لكن سريعاً
خرج من مكانه…..قائلاً بترحيب….
“المعلم عاصم الصاوي….هو فوق…….إتفضلي…..”
رفعت شهد عينيها على السلم الحديدي الأنيق الموصل للدور الثاني الخاص بمكتب عاصم
وورشة عملة الصغيرة…….
صعدت شهد خلف الصبي تلامس السور الحديدي
الأسود المنقوش بورود باللون الذهبي….المكان
ينطق فخامة وثراء…….وكل شيء مختار
بعناية ومتناسق……حتى المجوهرات فاخرة
لم ترى يوماً في جمالها ولو بالصدفة……..
لهذا دوماً يتردد على هذا المكان أناس من مستويات
تنطق ثراء ورقي…..فمن يقدر على ثمن قطعة من هنا تسواي آلاف الجنيهات وأكثر …….
بلعت ريقها عند الوصول اليه في الدور الثاني
كان يجلس خلف مكتبة الخشبي الامع على
مقعده الوثير…
جالسا بمنتهى الراحة يضع امامه ميزان صغير
يوزن قطع من الذهب عليه….ويسجل في
دفتره……..
عندما أنتبه لهما رفع عيناه عليها…ورغم ذلك لم تتحرك عضلة في ملامحه الحجرية بل عيناه
اندهشتا قليلاً ثم عادتا لطبيعتهما القاسية…
ظلت واقفه مكانها وبين يدها كيس الطعام الذي التقطُ بعيناه الحادة اثناء نظراته القوية المقيمة
لها من أول رأسها حتى اخمص قدميها في بضع
ثواني………
كانت ترتدي تنورة طويلة كحلية اللون ضيقه
قليلاً واعلاها كنزة صيفيه باكمام طويلة من
اللون الهافان……تربط شعرها الاسود الناعم
بربطة أنيقة للخلف…..وتخفي جبهتها كالعادة
بخصلاتها الناعمة القصيرة……….
داهم انفه رائحة عطرها المسكر……فتضخم صدره بمشاعر مبهمة….وذابت عيناه…وخفق قلبه…….
ومجدداً عيناها العسلية سلبتا عقله !….
تسمرا الإثنين معاً وتعانقت العيون بألق
مستجد……
حتى قطع الصمت والنظرات الصبي الذي
وجه الحديث الى عاصم…….
“الانسة طلبت تشوفك يامعلم عاصم…وانا طلعتها……”
“انزل على شغلك……..”قالها عاصم وهي يدير وجهه الى الخزنة ليضع قطع الذهب بها ويغلقها…..ثم
اغلق الدفتر ووضعه جانباً….. والقى الميزان في الدرج…..
مشيراً بعدها إليها بان تقترب وهو ينهض
ويشرف عليها بقامة طولة المربكة…. والهيبة
التي تتجلى منه بالفطرة فتتعب اعصابها
المشدودة الان في حضوره…..
لهُ هيبة تتعب……. ونظرة كصقر تشقي……وصوت
يرتجف معهُ قلبها……….
“نورتي المكان…….”قالها وعيناه القوية تنهال من مرآى عينيها…….وكأنه أشتاق ؟!…….
مجدداً ازدردت ريقها وبدون تراجع تقدمت لعند مكتبه ووقفت…فمد يده لها وعيناه تأسرها بقوة…..بدت أمامه كأرنب مزعور…….يبدو انها
ندمت بعد فوات الأوان……
أنتظر لحظات اكثر من المعتاد حتى شك….انها لن تسلم عليه…..لكنها فعلت بيد ترتجف……
اختفت يدها الصغير في كفه الكبير…..
وعند الملامسة شعر عاصم برجفة جميلة تسري
على بشرة يده……لأول مرة يسلم على أمرأه
فترتجف بين يده بخجل أعجبه….
اتضح خجلها اكثر عندما سارت الحمرة لوجنتيها حتى أصبحت كالطماطم الناضجة..ومن شدة الارتباك قد سحبت يدها سريعاً من بين كفه الكبير ومسحتها في يدها الأخرى !!……..
لم يعقب رغم تعجبه من حركتها بل ايضاً لانت
شفتيه الصلبة قليلاً وهو يشير لها بالجلوس
قائلاً……
“اقعدي ياشهد………وقفه ليه…….”
جلست وهي مطرقة براسها قليلاً….عابسة بشدة…..
رفع حاجباه قليلاً وهو يرمقها باستفهام….وحتى
يقطع الصمت سألها بلؤم……
“في حاجة عجباكي في المحل…تحبي تشتريها…”
هل يسخر منها ؟!……
رفعت راسها وزاد العبوس….فازداد تأمله حتى اربكها
فهربت من عيناه قائلة بفتور……
“صعب…….صعب اشتري من هنا……”
ارتفع حاجباه…… ثم سالها حائراً…….
“ليه…. البضاعة اللي في المحل مش عجباكي……”
عضت على شفتيها لثانيتين فقط مرتبة الحديث
في رأسها ثم تركتها وقالت بصعوبة ………
“بالعكس……كل حاجة جميلة….ربنا يزيدك…..بس
انا مش جايه عشان كده……”
نظرت اليه فوجدته ينظر اليها بصمت
ودون تعبير سألها…….
“امال جاية عشان إيه…..”
رمشت عدت مرات ثم عادت لعيناه المتراقبة
وقالت……
“جاية اعتذر……..يعني انا اسفة على اللي
حصل…..في اخر مرة…..انا كانت اعصابي
تعبانه وللأسف مقدرتش اسيطر على
نفسي وتعصبت عليك…….”
سالها سؤال محدد وعيناه تلاحقها بتوهج
مستجد…. “وليه كانت اعصابك تعبانه……”
رفعت وجهها مشدوهة…….. “نعم……..”
لم تجد منه إلا صمت ونظرات تحاول اختراق خصوصيتها…….فقالت هاربة من عيناه……..
“ضغط في الشغل………”
لم تجد أيضاً رداً فقالت بتلعثم…….
“النهاردة الافتتاح…….و……..”
قاطعها بـ…… “مبروك………”
اومات براسها بحرج…… “الله يبارك فيك…….”
ثم سالته بعسليتاها الصافية……..
“لسه زعلان……..”
أذأبت قلبه بعينيها……فرد بخشونة…..
“حصل خير………اي اللي انت جيباه ده…..”
نظر للاكياس الموضوعه على المكتب والتي
تفوح منها رائحة الطعام الشهي……سمفونية
البهارات الخاصة بها تتلاعب الان بأنفه تغريه
كما تغريه صاحبة العيون العسلية بنقاءها
الفطري……… ورجفتها العذراء……
ردت شهد سريعاً بصوتها الموسيقي…..
“دا…..دا اكل من المطعم عملاه بأيدي…وحبيت ادوقك…….يمكن تغير فكرتك عن المطاعم وتبقى زبونا…….”
عندما ابتسمت اليه بادلها البسمة بمشاكسة
وعلق……… “رشوة يعني……”
اتسعت ابتسامتها الحلوة…… فظهر صفاء اسنانها البيضاء وهي تجيب……”سميها عربون محبة…….”
بمناغشة سألها……
“على ضمنتك……..ولا هبات في المستشفى النهاردة……..”
ارتسمت الصدمة على محياها فضحكة بعدم
تصديق وقالت….
“بعد الشر…….متقلقش….انا براعي ضميري اوي
في شغلي……..وكل حاجة معموله بنضافة وبما
يرضي الله…….”
اوما عاصم وهو ينهال من جمال
عينيها البراقة…..
“تمام……..يبقا تاكلي معايا…….”
ضمت حاجباها معاً بدهشة…… “اكل معاك……”
اكتفى بهز رأسه….فقالت شهد بامتناع……
“يعني……المطعم وكده…..وانا لازم أمشي…….”
قال عاصم بغلاظة……
“مانتي هتاكلي معايا….عشان لو في اي حاجة نبقا في الهوا سوا….ولا إيه…….”
برمت شهد شفتيها بعد جملته وقالت…..
“تعرف اني مش بحب الناس الموسوسه……”
رد عليها بجدية فظة……. “بكرة تحبيهم……..”
فغرت شفتيها بتعجب…… “هااا……”
تافف بانزعاج مهدداً اياها……..
“هتاكلي ولا تاخدي الكياس زي ما جبتيها…..”
لاح الذهول في عينيها فقالت بعدم
تصديق……
“اي ده……….انا حسى انك بتهددني……”
رد عاصم بتبجح…….
“وليه الاحساس…..انا فعلاً بهددك…..عايزني
اكون زبونك بساهل كده…”
نهضت من مكانها بعنفوان والاستياء يطل من عسليتاها الجميلة………
“واضح انك هتكون زبون صعب اوي وهتتعبنا
معاك…….بس ماشي انا هاكل من الأكل عشان
اثبتلك انُ مفهوش اي حاجة……”
“ممكن تفضي المكان ده…….وتساعدني…..”قالتها
وهي تنظر للاشياء الموجوده على سطح المكتب….
فنهض عاصم عن مقعده كذلك….وساعد في إفصاح
مكاناً لطعامها…..فبدات بمنتهى الهمه والنشاط باخراج علب الطعام ورصها امامهما….
ففاحت رائحة الأكل في المكان……وكانت شهية لدرجة سالت لعابة…..وشعر بالجوع بعد رؤية
الطعام………
قالت شهد مبتسمة…..
“يلا….اتفضل دوق…..وبلاش تجملني اتفقنا……”
ثم غمغمت بسخرية…..
( مع اني عارفه ان اللي زيك…صعب يجملوا…..)
سألها عاصم وهو يعود لمقعده جالساً
“بتقولي حاجة……”
هزت راسها بحرج…… “لا بالف هنا…….”
أشار لها بان تجلس قبل ان يمد يده في اي
شيء……
“طب يلا قعدي……..عشان يبقا أول عيش وملح بينا………”
“ان شاءلله ميبقاش الأخير…….”قالتها وهي تقصد
شيءٍ معين…….وهو فهم شيءٍ آخر…..لذا ابتسم
وهو يسمي الله ويبدأ بالاكل……..
وهي معه…تأكل لكن بحرج…فالاول مرة تشارك
الاكل مع اغراب……..
ذأب الطعام في فمه بحلاوة وكانه صنع من الشهد كما سمته…..كان لذيذ شهي…..تتراقص الاطعمة
على لسانه والبهارات تعزف لحناً موحداً….
وبمجرد ان تناول معلقة واحده رغبا في أخذ معلقتين وثلاثة حتى يعرف خباياها…
وكلما اكل يكتشف لحناً اشد جمالاً من سابقة
فيضيع في سمفونية متعددة الاتجاهات….
فلا يعرف خباياها ولا تكتفي معدته بل تطلب
المزيد بنهم……
راقبته شهد من أسفل رموشها……يتناول الطعام بشهية مفتوحة…….ويظهر بوضوح استمتاعه..
وتلذذه من مذاق الأكل……..ويبدو انه نال
اعجابه…..أخيراً……
لم تعقب شهد بل بدأت تاكل بصمت او تتظاهر
بذلك وهي تراقبه بسعادة وقد توغل لجسدها
شعور جميل دافئاً…. لأول مرة يستقر و يستوطن قلبها ؟!…..
…………………………………………………………
يرى في عينيها العسلية البراقة حياةٍ كاملة…لكن للحياة خبايا مظلمة لا تُرى بالعين المجردة…..
جميلة هي في كل حالتها فعندما تصمت…..تصمت بكبرياء مشبع بالرقي…….وعندما تتبسم…..تشرق الحياة فجأة دون مقدمات…..وعندما تنظر اليه يذوب القلب دون همسات…..وعند الحديث تتسابق الكلمات على اللسان……..ويكن للحديث مذاق كالشهد مابين الاندماج والاستمتاع…….
“تسلم إيدك ياشهد…….”
قالها عاصم وهو يرتشف القليل من الماء
بعد ان انهى طعامه واكل اكثر من المعتاد
قالت شهد وهي تغلق العلب الشبه فارغة
وتضعها في الاكياس……ثم سحبت منديلا
معطراً وجففت يدها قائلة…….
“بالف هنا….. الحمدلله انه عجبك….”
رد عاصم مشاكساً…..
“شكلي هكون زبون عندك……”
ادعت السعادة قائلة…. “يامساهل……..أخيراً….. ”
ضحك وهو يراقبها تضع الاكياس في سلة
المهملات جانباً…ثم عادت اليه وقالت
بحرج….
“انا لازم امشي عشان اتأخرت…….”
قال عاصم بلهفة لم يقدر على
اخفاؤها…..
“طب قبل ماتمشي…..سبيلي رقمك……”
سالته مشدوهة النظرات…… “نعم…..”
اخبرها عاصم بخشونة جادة…..
“نعم اي ياشهد افرضي حصلي حاجة بليل….استنجد بمين غيرك….مش انتي اللي عملا الاكل ده…..”
فغرت شفتاها للحظات ثم عقبت بتبرم…..
“على فكرة انا سياحة وفنادق مش طب……وبعدين
الأكل مفهوش حاجه……انت لسه واكل…..”
هز عاصم كتفه ببراءة…..
“اديكي قولتي لسه واكل….يعني الله اعلم كمان ساعة هكون فين………”
ضربت شهد كف باخر متاففة بجزع…..
“لا حول ولا قوة إلا بالله…..حقيقي انا مبحبش اتعامل مع الناس الموسوسه…….”
رد عاصم بصلابة امراً……
“بكرة تتعودي……هاتي الرقم عشان لو حصل حاجة أكلمك……”
قالت بوجوم…..
“مع ان مش هيحصل حاجة باذن الله…بس
ماشي…. ”
اخرجت من جيب سترتها ورقة صغيرة…….
“دا الكارت بتاع المطعم…رقمي اهوه
لو حصلك أي حاجة كلمني…..”
سألها بتعجب……. “كارت…….”
اومات ببساطه…… “ااه كارت……”
سالها بحماقة وهو ياخذه
منها…..
“اي حد بيطلب الرقم بتديلوا الكارت…….”
بنفس السلاسة اجابت….
“آه عادي…… مش شغل……”
اوما بوجوم…… “آآه…… شغل………”
قالت شهد مبتسمة…… “طب عن إذنك…….”
“استني……”تسمرت مكانها منتظرة لتجده يخرج
مبلغ مالي من جيبه ويقدمه لها بصمت……
فسالته بحيرة……
“اي ده…….”
رد عاصم بهدوء….. “تمن الاكل اللي كلته……”
صححت بحنق مكتوم….. “قصدك اللي كلناه……”
بعينين قويتين في النظر وبالهجة جادة
قال…….
“وانتي هتسمي المعلقتين اللي كلتيهم دول أكل…
محدش كل الاكل دا غيري… ”
سالته بانزعج أمتزج بالعتاب….
“عشان كده هتدفع…….”
رد عاصم وعيناه تسير على ملامحها
بنهم…..
“لو كنا اكلنا سوا….برضو كنت هدفع……”
“ليه…..”
رد بجدية…… “عشان دا الصح…..”
تاففت شهد وهي تخبره بحزن…..
“انت كده بتشتمني…..انا مش جايه لحد هنا عشان اخد فلوس….وبعدين مفيش حد بيتعزم على الأكل
بيدفع…….مش قولتلك قبل اي حاجة اعتبره عربون محبة….”
لم تتهاون عيناه وهو يخبرها بأمر….
“خدي الفلوس ياشهد…..”
“لا….عن إذنك……….اتاخرت عليهم…….”اطرقت
براسها ثم ابتعدت بخطوات مستقيمة…..هابطه درجات السلم ثم اختفت عن مرمى عيناه……..
فمسك عاصم البطاقة مجدداً ونظر اليها قليلاً…….ثم
بعد لحظات تناول هاتفه وسجل الرقم بأسم كتبته
أصابعه قبل ان يلفظه لسانه….
“ست الحُسن……….”
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الحب أولا)