روايات

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الجزء الثامن والعشرون

رواية بنت المعلم الجزء الثاني البارت الثامن والعشرون

رواية بنت المعلم
رواية بنت المعلم

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الحلقة الثامنة والعشرون

لا يمر على المرء شعور أسوأ من إحساس العجز وهو حُر، مقيد بلا قيود … لوهلة تشعر بالموت وأنت على قيد الحياة، كمن أصابه الخرس والغوغاء تضج بداخله.
استقام في وقفته بتعابير شاحبة، ودقات قلبه المتسارعة تزداد كطبول تدق لافتتاح حرب دموية … تصبب عرقًا، وأنفاسه بدى صوتها مسموع، لا يعلم ما أصابه خوفًا ؟ أم حزن لاكتشاف ما أصبح به !! كأنه استيقظ للتو من سهوه متفاجئ بوجوده في منزل فتاة لا يربط بينهما سوى مصطلح الصداقة ……
أحنى رأسه يحاول الهروب من نظرات اللوم المصوبة عليه … ولكن أين سيهرب من عتاب ضميره ؟! أخطأ مرارًا في الخفاء، لكن الحظ أبى أن يحالفه تلك المرة …
: شوفتي مكنتش في الحُسبان صح
حاول التفوه بما يدفعه حسه لقوله، لكن شعر أنه فقد النطق… صوت خفيض يصدر من داخل عقله يخبره أن يستجمع قواه، ولا داعي للتوتر المبالغ في شتى الأحوال لم يعد ذلك المراهق الطائش ويدرك الخطأ من الصواب … زفر بهدوء وهو يقول بتلجلج بعض الشيء :
أنا كنت محتاج مكان أبات فيه و..
أكمل بدلاً منه وهو يشير على رنا التي شعرت بالضيق من إفساد فرحتها القصيرة:
ورنا طبعاً مهنش عليها تبات في مكان تاني
حاول محمود اختلاق حديث ينطلي عليه، لكنه شعر بالفراغ يدور في رأسه لمشقة إيجاد كلمات منمقة تنتشله من مأزقه … تحدثت رنا وهي ترسم بسمة صغيرة على شفتيها رغمً عنها :
بصراحة يا عمو لما عرفت أن محمود جه القاهرة صممت يجي يقعد هنا لحد ما يخلص شغله
لم يهتم إلى حديثها السخيف وظل يرمق محمود بجمود، ثم قال بصرامة:
أنت مش عيل صغير عشان اسمعك كلمتين يعرفوك مقامك، وعيب لما اتكلم مع واحد ميعرفش معنى العيب
استطرد بنبرة حادة:
كنت جاي على أمل أن يكون واحد شبهك … نظر إلى رنا وهتف بسخرية :
أصل عيالنا المفروض يعرفوا الحرام والعيب والأصول
تعجب محمود عندما رآه دار يغادر بسهولة، فذلك يخالف إحدى القانونين الصارمة … لكن ذلك التعجب تحول إلى صدمة عندما غمغم المعلم سالم وهو يسديه ظهره قبل أن يخرج من باب الشقة :
متنزلش البلد يا محمود وكمل براحتك أشغالك
خطى محمود بعجلة يقترب منه وهو يردف بفزع :
منزلش البلد !! احلف على المصحف إن محصلش حاجه
أبعده من طريقه بعصاه وعينيه القاتمة تحدجه شزرًا … لحقه محمود إلى المصعد الكهربائي ولكن كان حديثه لا يجدي نفعًا، حتى اعتذاره تأخر وأصبح بلا قيمة، عاد إلى الشقة يأخذ محفظته ومفاتيح السيارة بسرعة متجاهل رنا تمامًا… هبط الدرج بعجلة ليلحق به قبل أن يرحل فإن استطاع توضيح سوء الفهم الناشئ الآن قبل أن يتضخم سيكون ما بعد ذلك هينٍ، بينما وقفت الأخرى في الشرفة عاقدة ذراعيها بوجه مقتضب …
في الأسفل أمر المعلم سالم ابن أخيه بالتحرك على الفور .. ما أن أشعل سالم المقود رأى في المرآه محمود يركض باتجاههم ..
: محمود !!!
نطق اسمه بدهشة لم تدوم عندما صاح المعلم سالم بحده :
قولتلك اتحرك
دارت هند برأسها تنظر إلى محمود بتوجس وهي تتساءل بعدم فهم :
في ايه يا بابا ؟! محمود كان بيعمل ايه هنا ؟؟
لم يرد عليها واكتفى بنظرة صارمة جعلتها تعود تتطلع أمامها في سكون، ومن حين لآخر ترمق ابن عمها بقلق … استغل سالم انشغال عمه في هاتفه وكتب رسالة نصية قصيرة تقتصر ما حدث وإرسالها خلسة ….
؛*******
: يا بني أنت كدا بتضيع نفسك
حرك رأسه للجهة الأخرى وهو يتنهد بصعوبة، كما يعصب عليه كل شيء في الحياة … رد منير على نصائحهم ببرود وجفاء تمكن من مشاعره :
أنا أدرى بنفسي
تطلع مرتضى إلى يعقوب بقلة حيلة، ما يقارب نصف ساعة والجدال مازال لإقناعه بالتراجع عن أقواله…. لم يستاء يعقوب وهدر بضيق طفيف :
لو فاكر إن الفلوس هتعوضك تبقا غلطان
: هو مش المهم أنك تخرج من القضية دي ؟!!
حرك يعقوب رأسه نافياً مدرك ما سيقوله بعد سؤاله هذا :
مش هخرج على حساب حد يا منير، اللي أرضاه على نفسي أرضاه على غيري
أضاف مرتضى باستهجان :
معقول الفلوس هتعوضك عن دراستك وشغلك وأحلامك
تغاضى منير عن الخناجر التي اجتازت قلبه بتلك الكلمات التي ضغطت على جُرحه العميق … ووجه حديثه الحريص إلى يعقوب قبل أن يشير للعسكري :
عايز البيت دورين، ومتنسوش أمي في الشهريه لحد ما أطلع
تحرك مع العسكري دون أن يلتفت إليهما، اتبعوه للخارج ويعقوب يهتف بحنق:
لو أعرف مين اللي عمل كل ده مش هيترحم مني إلا على قبره
رد عليه مرتضى بسخرية:
على كدا يارب ما تعرفه
واسترسل متسائلاً باستنكار:
هو أنت بجد زعلان على منير ؟!! مع أنه شال مكانك !!
توقف يعقوب عن السير ونظر إليه باستغراب ثم سأله متعجباً :
وأنت تعرف عني ايه ؟؟
لم يتمهل لاستماع الإجابة ورحل في الطريق المعاكس لمرتضى، الذي صاح يناديه عدت مرات .. لم يتوقع غضبه من سؤاله، لكن ربما أصبحت المسألة حساسة أكثر مما توقع، تحرك باتجاه المصنع قبل أن يمر على مها، للذهاب لتناول وجبة الغذاء مع والديه .. .
؛*********
وضعت ريهام الضيافة على الطاولة، وعادت إلى غرفتها باستحياء من نظرات هانم المعلقة عليها…. لاحظت دولت تعلق أعين هانم بابنتها، انشقت بسمه صغيره على شفتيها، وتهللت أسرارها من سر تلك الزيارة المفاجأة، وأخيراً سيحل الفرح عليهم وترى ابنتها عروس،
: مقولتيش ولادك متجوزين ؟!!
امسكت هانم كوب العصير :
دا أنا نازله مصر خصوصًا عشان أجوزهم
توسعت بسمة دولت وقالت بحفاوة :
ياختي بركه ربنا يفرحك بيهم
ارتشفت من كوب العصير ووضعته بجانبها وهي تهتف بزهو :
عشان كدا جيت أقولك إن بكره هنقرأ فاتحة ابني علاء على رحمه بنت أخوكي أحسن تزعلي مني
تعسر انتاب دولت للاستمرار دون أن تُظهر صدمتها مقابل هانم، بلعت غيظها كي لا تهتز صورتها المتغطرسة، فما فعله سالم إهانة لا تغتفر في حقها لإخفاء مناسبة تخص إحدى فتيات العائلة دون أن يخبرها ….
: آه ما أنا عارفه، سالم أخويا لازم يعرفنا كل اللي بيحصل أول بأول دي عادتنا من صغرنا
ضحكت بسماجة مستكملة بتفاخر :
حتى بعد العمر دا لازم ياخد رأينا
أومأت هانم بهدوء ورددت متسائلة باستغراب:
ازاي لحد دلوقتي ريهام متجوزتش ؟؟ معقول الشباب مش وخدين بالهم من القمر ده ؟!!
ضحكت دولت تجاملها وهي تهتف بدهاء :
مستنيه خالتها هانم عشان تنور بيتهم بقا
لا يصعب عليها فهم مغذى الحديث المبهم، لكنها صمتت تبحث عن رد تتفنن في إلقائه كي لا تخسر دولت … بينما تفكر خطر على بالها أمر غفلة عنه تمامًا، لِما تأخذ بنات عبدالخالق الاثنين، فهو لا يستحق ذلك ولا يملك ثروة طائلة لتكون كنز بعد موته … يكفي ما فعله ضياء بخروجه عن الطريق التي رسمته بحنكة متقنة… لكن الأهم الوصول إلى ما تريده دولت بطريقتها المخادعة، ابتسمت وهي تردف ببلاهة :
تنور في أي وقت، ريهام بنت جميلة ودخلت قلبي
ردت عليها دولت باقتصار:
لكن أنا مش عايزها تنور قلبك أنتِ
عند إذًا شعرت هانم أنها وصلت إلى مبتغاها بطلب دولت الصريح، فقالت بتلقائية :
وعشان كدا أنا بطلب أيد ريهام لي محمد ابني
جلست خلف باب الغرفة وهي تكتم شهقاتها الحارقة، انهمرت دموعها بغزارة عندما استمعت إلى والدتها ترحب بحفاوة لطلب يدها وكأنها لا تملك قيمة الاختيار… ولكن كيف تملك تلك الأهمية وقد عُرضة للتو كسلعة ؟!
هُدرت كرامتها كالماء المسكوب على أرض جافة، أرادوا أن تصبح عروس، وها هي ستصبح عروس بلا قيمة…..
؛***********
وضعت سحر الأطباق على المائدة بمساعدة سمر وسميه .. ترأس عبده جمعتهم وبجانبه رحاب التي نظرت إلى الطعام بقرف، واختارت ندى المعقد المجاور لزوجها الغارق في همومه بسكون، منذ عودته وهو شارد الذهن، تعابيره جامده ….
: هو الأكل مالح شويه
اضافة رحاب بسخرية على رأي سعد :
لا يا ضنايا مش شويه، الأكل دا عايز يترمي في الزبالة من كتر الملح اللي فيه
أخذ عبده الملعقة يتذوق الطعام ليتأكد من حديثهم … بينما تقدمت سحر وهي تهتف باضطراب :
أنا مش عارفه هو ازاي طلع مالح كدا
قاطعتها رحاب بتهكم :
يا حبيبتي لو مش بتعرفي تطبخي عرفينا وبلاش تسممينا
ألقى عبده الملعقة من يده بعنف وهو يرمق رحاب بحده، ومن ثمّ صاح بنفاذ صبر :
مش كل يوم والتاني تعملوا حوار
رفعت رحاب حاجبيها باستنكار وسألته باستهجان :
يا خويا وأنا مالي ؟! ولا أنت مش قادر على الحمار وهتقدر على البردعه ؟!!
قطع حوارهم الهادئ طرقات خافتة على الباب الداخلي للمنزل، نهض سالم متعجبًا من ذلك الطارق الذي دلف من البهو دون استئذان … وجد ابن عمه يقف بوجه محتقن فسأله باستغراب :
انتو رجعتوا أمته ؟!!
أفسح إليه الطريق مسترسل بأهمية :
ادخل شكلك مش على بعضك
حرك الآخر رأسه بتأكيد ولكنه سرعان ما تنحى جانبً أثر عصا المعلم سالم، الذي ظهر من خلفه بعد أن اطمأن من ولوج هند للمنزل…. دفع الباب وهو يهدر بحده جعلت عبده ينتفض من معقده :
أبوك لسا نايم ولا اصحيه بمعرفتي
خطى عبده بعجلة يفتح الباب على مصراعيه، وهو يقول بترحاب :
منور يا ابو هند، اتفضل هو أنت محتاج تستأذن لبيتك
كان على يقين أن تلك الزيارة لا تنذر بالخير قطعًا، وتأكد من ذلك عندما رأى نظراته القاتمة … دلف المعلم سالم دون أن يلتفت إلى المائدة الملتفين حولها النساء:
عايزك لوحدنا
أشار عبده إلى النساء بالولوج للداخل، وجر سالم مقعد سعد المتحرك للبهو بصحبة ابن عمهم …
: فين محمود ؟!
ذلك المعتوه لا يأتي من سيرته إلا المشاكل، ابتسم عبده وهو يغمغم بلا اكتراث :
تلاقيه مسافر يومين تبع واحد صاحبه
حرك رأسه بهدوء مردفاً بوجوم :
ابنك فين يا عبده
أشار إلى الإرجاء حوله مستكملًا بضيق :
ابنك المحترم المتجوز وفي رقابته اتنين وواحده رميها
: ايه لازمته الكلام دا دلوقتي ؟؟!
ضحك بسخرية ورد عليه بانفعال :
ابنك بقاله يومين واكل شارب نايم في بيت بنت من سن أخته ولا ايه أهلها مسافرين
من شدة الصدمة لم يستوعب ما وقع على سمعه فتهتف بعدم فهم :
أهلها مسافرين ازاي هو أصلاً يعرفها منين
بهتت قسمات وجهه واستطرد متسائلاً بخشيه :
محمود ابني ولا حد شبه ؟! مش يمكن بيت واحد صاحبه ودي أخته ؟!
نظر إليه بحده وسأله بجمود :
لو دخلت على سمر ولقيتها في بيت واحد غريب لوحدهم هتعمل ايه ؟؟!
شعر عبده بتدفق الدماء في رأسه لمجرد تخيل سوأة سؤاله … نفض تلك الخيالات الجريرة بسرعة، ثوان لا يتحمل تقبلها … تربيتهم والأصول المتعارف عليها لا يوجد بها حديث بين رجل وامرأة إلا للضرورة، أما ما يدعى بالصداقة وإقامة علاقة سطحية لتضيع الوقت لا يسمع عنها … لكن ها هو محمود يكسر تلك القواعد، ونسى ما ينص عليه دينه قبل التربية والأصول …
: لما تلاقي رد على سؤالي تدخل ابنك البيت تاني
لم يستطيع عبده التفوه وجلس على الأريكة بإهمال عندما خرج سالم … في طريقه للرحيل وجد سعد فزجره بحده :
مش أبوك قال تقدر تقف لوحدك وبتمشي على قدك
انتفض سعد من مقعده بآليه متأهب للركض في البهو، ويفر قبل أن يقع تحت بطشه … بمشقة اعتدل بهدوء وهو يستمع إلى تحذيره :
مشفش وشك وأنت قاعد على الكرسي دا تاني
: لو عايز اتنطط على الحيط هتلاقيني سحلية حالا
كتم سالم ضحكته الخافتة ولحق عمه للخارج، بينما نظر سعد إلى أخيه ليدفعه للداخل فقال الآخر بحنق :
ما كنت هتتحول لي سحلية من شويه
لوى سعد جانب شفتيه مغمغمًا بكدر :
اقطع ايدي لو ما كان محمود سبب قلبان عمك علينا
دفعه للداخل دون أن يُعقب على حديثه، فلا داعي للثرثرة بخصوص محمود الذي يقترف من آن لآخر أمور طائشة لا يفعلها من يمتلك عقل ….
؛*********
رَوَى سالم ما حدث إلى والده الذي شرد يفكر في سبب غضب المعلم سالم من محمود .. وعندما طال الأسئلة المتبادلة بينهما في تحديد ما اقترفه محمود، اقترح جابر أن يذهبوا بعد صلاة المغرب لمنزل عبده، والاستفسار منه لِما وقع بينهم،
؛*********
عودة إلى الإسكندرية
ولج عامر من باب شقتهم، خلع حذائه في المكان المخصص، ووضع بعض الملفات على الطاولة وهو يصيح على والدته، التي خرجت من المطبخ مردده بحنو :
حمدلله على سلامتك، كويس متأخرتش انهارده زي امبارح
خلع معطفه الجلدي ووضعه على حافة الأريكة:
امبارح كنت بدفع فلوس وانهادره شحنت العربية وبعتها على البلد
ابتسمت والدته وهي تدعي إليه بالتوفيق دائمًا، ثم سألته باستفسار :
هتسافر البلد تاني ؟! مبقتش تقعد معانا وأختك زهقانه
فرك عامر جبهته متمتم بقلة حيلة:
ما أنتِ شايفه يا أمي الحال وكفايا إن الراجل شال عني لما سافرت السعودية
رمقته والدته بتفحص وهي تسأله باقتصار:
الراجل ولا بنته ؟!!!
عم السكون لدقيقة فقالت والدته بهدوء :
كنت هتفضل مخبي عني لو هاجر موقعتش بالكلام
ابتعد بأعينه التي فاضت بوميض الغرام… وقع في شباك الحب دون أن يراها، فكانت نبرتها المميزة كفيلة بوضعه على أول طريق البحث لمن استحوذت تفكيره … ورغم العائقة التي أوصدت جميع الأبواب في وجهه للوصول إليها، إلا أن القدر يجمع بينهما دون عناء منه … عاد يحدج والدته وهو يردف بثبات :
مفيش حاجه عشان أخبيها
لم تكترث لإكمال الحوار وأردفت بلامبالاة وهي تنهض :
أحسن برده، أنت رايح البلد عشان شغل والافضل تركز فيه
تعجب عامر من نبرتها الجافة، ما يقارب عامين وهي تُرشح ابنة جارتهم، فمن وجهة نظرها فتاة مثالية لتكون زوجة ابنها، وعندما طلب منها فترة للتفكير ظن أنها فقدت الأمل في الموضوع، ولكن ما حدث الآن يؤكد أنها لازالت مستمرة في الإصرار على البارعة في الطهى…. زفر بضيق وأخرج هاتفه يتصل بذلك المختفي هو الآخر.
؛***********
: ملوش لازمة كل شويه تبعتي كدا الراجل ممكن يحس
لوت جانب شفتيها وأردفت بسخرية :
خايف يكشفك واسيبك ليه
استرسلت حديثها اللاذع وهي تشير على نفسها :
ساعات مش بصدق إن عيل زيك ابني
ضحك الجالس بالقرب منهما فنظر إليه بضيق وسأله بحده :
بتضحك على ايه ؟؟ ما أنت شغال عندها ولا كلت عقلك بأنك قريبها ؟!
أخذ نفس من الارجيله مردد بحنق :
ايه يا بن هاديه هتتحمق عليا عشان أمك أكدت على الجرح
صاحت هاديه بنفاذ صبر:
مش عايزه أسمع صوت
وتابعت سخطها بغيظ :
زي قلتك، بقالك اكتر من شهر ونص مفيش أي جديد غير البنت الهايفة اللي متشعلقة بيك
: وعيال بنتك دول شفافين بالنسبالك
رسمة شبه بسمة على شفتيها متمتمه بتهكم :
عمر هو أنت لحد دلوقتي مصدق إني مأمنه ليك
رفع عمر كتفيه بلامبالاة وقال ببرود :
مكنتش جيت هنا وعرفت مكانك لو مش مأمنه ليا
ضحكت هاديه وأردفت بدهاء :
تبقا غبي
أشارت على ذلك الرجل مستكملة بخبث :
عوف يقدر يحرق البيت باللي فيه من إشارة مني
تطلع عمر إلى عوف وسألها باستنكار :
مش دا اللي باع منصور أول ما المعلم سالم عرض عليه فلوس ؟!!
أومأ عوف إليه بتأكد:
شاطر ونبيه ما شاء الله، أنا برده ابن عم أمك
عاد عمر يرمق والدته بجمود ثم غمغم باقتصار:
مش مجبر اثبتلك غير لأنك أمي
: بكرا في مناسبة تخص سالم ؟؟
حرك عمر رأسه فأكملت بمكر :
اسمع اي خبر عنده، اختار أي مصيبة تِسمع بإسمه
أشارت بيدها مبتسمة بسلاسة :
وقتها أعرف أن ابني لسا في ضهري
صمت لبرهة يفكر فصاح عوف متبرمً:
دا لسا بيفكر، شكله كان بيرسم عليكي كل المدة دي
لم يهتم عمر إليه وردد بشرود :
سبيني أفكر ايه اللي أقدر أعمله من غير ما حد يحس
حقد دفين قادها إلى جنون الانتقام … لم يترك وفاة أخيها بتلك الطريقة الشنيعة أثر للاستيقاظ قبل فوات الأوان، محى الكره آخر ذرة إنسانية موجودة بداخلها… ضغطت على فكها بعنف وهي تردف بغل :
تولع في البيت باللي فيه
فتح عينيه من بين نعاسه، وآخر لقطة من رؤياه احتراق المنزل بأكمله وأسرته تصرخ بهلع من داخل جدرانه … انتصف في الفراش وهو يجول بنظره في الارجاء الساكنة، هدوء تام لا يفسده سوى دقات عقرب الساعة التي أعلنت عن الثانية صباحًا … أستغفر بصوت منخفض ونهض برفق كي لا يوقظ نجاة الغارقة في سُبات عميق، وقف في الشرفة يتطلع إلى الساحة الفارغة أمام بهو منزله … لا يدري لِما شعر بالقلق من ذلك الكابوس، شعر بالاختناق يضغط على صدره أثناء نومه، فكان استيقاظه وسيلة لعودته للحياة بعد صراع أنفاسه ….
ولج للمطبخ يصنع فنجان قهوة، لحين اقتراب آذان الفجر ويذهب للمسجد … لفت انتباهه إضاءة خافتة من غرفة حسناء، طرق الباب بخفة وفتح الباب يبحث عنها باستغراب… اعتدلت الأخرى في فراشها بفزع، فلوح لها بهدوء يطمئنها ثم سألها بقلق :
ليه صاحيه لحد دلوقتى ؟! أنتِ كويسه ؟؟
ابتسمت بخفة وهي ترفع يدها من تحت الغطاء ليظهر هاتفها :
مش عارفه أنام فقولت أتفرج على مسلسل
انكمش بين حاجبيه وأردف بحنق :
قومي اعملي فنجان قهوه على ما أصلى ركعتين
: طيب ما تصحي ماما دا أنا فضلي حلقتين
لم يرد عليها وأغلق الباب بعنف … أغلقت الهاتف ونهضت بتبرم، أوشك أن يعترف البطل بحبه للبطلة في حفل زفافهما بعد معاناة مئة وخمسون حلقة من مسلسلها المفضل… تنهدت هائمة وهي تتذكر تلك الكلمات الشغوفة الذي ألقاها البطل المتيم بحبيبيته، استقامة تنظر أمامها وهي تسأل نفسها متي ستحظى بذلك الحب ؟!
؛***********
الثامنة صباحًا لليوم المعهود…
أمسك الورق وتحرك بين شكائر الأعلاف لعدهم للمرة الثانية، ومن ثمّ تجهيز الفواتير لأن مرتضى حصل المبالغ المذكورة أمس… قاطعته خديجة بصوتها الناعم وهي تقول بخجل :
عمر عامل ايه ؟!
دار بوجه وهتف بعفوية :
جوجو عاش من شافك
: موجوده بس أنت عارف الريس مرتضى بيدقق في شغله وأنا يدوب بلحق أخلص معاه وارجع البيت
أومأ عمر دون أن ينظر إليها وبدأ يكتب آخر عد وصل إليه.. فسألته باستفسار :
هو أنت كنت فين من يومين ؟! قلقت لما عرفت أنك استأذنت ومشيت بدري !!
قدم الورق إليها :
دي نسخة الريس مرتضى.. استرسل بسعادة :
كنت برجع زياد ويزيد
رفعت حاجبيها بدهشة وأردفت بفرحة عارمة:
بجد !! هما فين عايزه اسلم عليهم
ابتسم عمر وهو يسير بين صفوف الشكائر :
هما في القاهرة وأول ما أقدر اجيبهم هبتعهم يسلموا عليكي
: بيعملوا ايه في القاهرة ؟؟ أنت وصلت للست هاديه !!
تعلم أن صلة القرابة بينه وبين أفراد عائلته شبه منقطعة منذ وفاة والده، وبموت أماني واختفاء والدته أصبح وحيد ، إذًا أين ترك أولاد أخته ؟! … في جميع الأحوال سواء الآن أو بعد فترة كانت ستدري بتلك العلاقة، تهجم وجه خديجة بعدما قال عمر بسلاسة:
مع عليا ووالدتها كتر خيرهم، صمموا اسيبهم لحد ما أخد سلفه وأقدر اظبط البيت
سألته باستهجان وكأنها تملك حق مكتسب في تصرفاته:
وأنت بتسيب عيال أختك عند اي حد كدا ؟!!
دار يقف أمامها وهو يهتف بتلقائية:
هو أنا ليا مين أصلاً
في نفس الوقت صاح إحدى الصبية وهو يأمره بالتحرك على مكتب المعلم سالم لأنه طلب رؤيته …. لم تنتظر خديجة وخرجت قبله وهي تضرب الأرض بغيظ، بينما لم يبالي عمر أو بالأصح لا يدرك قراءة المشاعر فقد وصل إلى مرحلة اللامبالاة …
: حضرتك طلبتني ؟!
حدجه بجمود ثم سأله بدون مقدمات :
عوف اللي كان شغال مع خالك منصور في بينه وبين عيلة عزب صلة قرابه
رمش عمر بدهشة وأجاب بتعجب :
مش عارف أنا رجعت البلد وهو كان موجود
واستطرد متسائلاً بذهول :
هو مش عوف باع خالي برده !!
تجاهله وأشار بيده مردفاً باقتصار :
متروحش انهارده غير لما تراجع المخزن كله
تدلى فم عمر مدهوشًا بذلك الأمر المريب، كيف سيراجع للمخزن بأكمله في يوم !! .. وما سبب ذكر عوف الآن بعد تلك المدة؟ شعر عمر بالاستياء من تلك العائلة، فلن يذكر فرد منهم إلا بصحبته مصائب جمه …
؛*********
أخذت قطعة الشكولاته المغلفة وهي تردد بضيق:
فيها ايه لو كنا قعدنا يومين كمان
رد عليها ربيع وهو مغمض العينين :
والعيال اللي مرمين وفي البيت دول مجوش في بالك
زفرت مي بضيق وهي تجول بنظرها بين ركاب السيارة، ثم مالت عليه تهمس بصوت منخفض :
أعمل حسابك أنا مش هسافر تاني مواصلات
تمتم بصوت ناعس :
اديكي قولتي لو سافرتي تاني
وكزته بعنف مغمغمه من بين أسنانها :
أنت هتنام وتسنبي لوحدي
: هو أنا مقعدك في شقة مفروشه
شعرت مي بالحرج من نظرات من في السيارة أثر صوته المرتفع، صمت بملل وتطلعت إلى الطريق من النافذة الزجاجية، ومن حين لآخر تدفع رأسه من فوق كتفها لعله يستيقظ وينتهي عزف الشخير المتواصل بطبقات مختلفة،
؛***********
في منزل المعلم سالم
وقفت رحمه أمام المرآة تتأمل انعكاس صورتها بالفستان الأزرق اللامع، التفت حول نفسها تتأكد من مناسبة تصميمه عليها… اتجهت إلى الصندوق الخاص بالمجوهرات تختار عقد وإسواره، انضمت أمل إليها وهي تقول بانبهار :
الفستان تحفه عليكي
: مش عارفه البس طرحه لونها ايه
انكمش بين حاجبيي أمل وسألتها باستغراب :
طرحه ليه ؟؟ هو مش الرجالة هتكون في المجلس بره
رمقتها رحمه بسخرية :
وهقعد مع العريس يوم الفرح على كدا
تفاجأ الاثنين بصوت والدهن وهو يردف بصرامة :
تحبي أكلمه يجي يعقد من دلوقتي
أخفضت رحمه رأسها بخجل، بينما تقدمت أمل وهي تهتف بتوترو كي تغير مجرى الحديث :
بابا ماما نجاة كانت عايزك ضروري
رمق رحمه بحده وغادر متجه لطابق نجاة، ما إن فتح الباب استمع إلى صوتها الغاضب وهي توبخ حسناء، وكالعادة مشاجرات على أمور تافهة … ركضت حسناء خلفه وهي تتمتم برجاء :
خلصني من مراتك قبل ما أتهزأ اكتر من كدا
: أساساً محدش مدلعك غيره
نظر إليها وقال بنفاذ صبر :
مع ضرايرك بتتفاهمي ومع بنتك مش عارفه
خرجت حسناء من الغرفة وهي ترقص بسعادة، فصاحت نجاة بوعيد :
هيروح الشغل ومش هيكون قدامك غيري
ضحك سالم وهو يضع عصاه ومسبحته، اقتربت نجاة تساعده في خلع العباءة الرجالية :
نزلت من غير ما تفطر
استكملت وهي تضع العباءة في الخزانة :
ولا حتى لحقت اتكلم معاك شويه
: سمعك
ضيقت عينيها باستغراب من نبرته الفاترة ثم سألته بقلق :
مالك ؟؟ صوتك وشكلك متغير
تنهد وهو يردد بثقل :
تعبت
ظهر الارتباك على ملامحها، خطت باتجاه وركعت بجانب مقعده وهي تسأله بتوجس :
ايه تعبك ؟؟ نروح للدكتور ؟!
تعمق في نظراته وغمغم بوهن :
تعبت من المشاكل اللي مش بتخلص، أول مره أحس بالهم من بناتي والمصنع والعيشة
رتبت على كفه برفق وهو تهمس بحنو :
متقولش كدا، إحنا بنتسند عليك
لم تكمل جملتها عندما سألها بضيق طفيف :
مش من حقي أتعب ؟ ولا مش بحس زي زيكم وطاقتي بتتجدد من الهوا !!
: هعملك كوباية نعناع
لم ينتظر ونهض للفراش حتى دون أن يبدل جلبابه، سحب الغطاء فوق رأسه واغمض عينيه، تنظمت أنفاسه بسرعة دليلاً على خلوده في نوم عميق…. ربما لأنه لم يعرف طريق النوم بعد ذلك الكابوس، أم أن النوم أصبح الوقت الوحيد الذي ينقضي بهدوء …
؛*****
أسدل الليل ستاره وغيم الظلام على القرية، بدأوا الضيوف بالحضور وقبل صلاة العشاء كان الجميع داخل مجلس المعلم سالم، اقتصرت قرأت الفاتحة على أفراد العائلتين فقط، وبعد أسبوع سيتم تنظيم حفلة خطبة بسيطة مع اختيار الذهب للعرائس…. أصرت هانم على إتمام خطبة أولادها الأربع في نفس اليوم، لكن أولهم علاء ورحمه ثم يذهبوا لمنزل صبري الذي رفض المجيء للمجلس، وبعدها لتلك الفتاة السوقية التي تدعى ساره، وفي النهاية ابنة عبدالخالق الصغرى الذي صمم عليها حسام، عكس محمد الذي رحب بالابتعاد عن ابنة خاله ووافق على ريهام دون رؤيتها …
حول المنزل اجتمع عدد كبير من الرجال يلتفوا في المنطقة بناءً على أمر المعلم سالم، الذي لا يستطيع التهاون مع ذلك الحلم، وأخذه على محمل الجد لحين التأكد من مكان تلك الأفعى….
؛******
في منزل عزيز
صعد يعقوب إلى سطح منزلهم متطلع إلى شوارع القرية من الأعلى، صفعته النسمات الباردة وهو يضع يديه في جيب سرواله الرياضي… بعد ربع ساعة اتبعه عبدالله الذي تسأل بسخرية وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة :
يا عم ما كنت قولت اللي أنت عايزه تحت ولا لازم تطلع آخر الدنيا ؟!!
ظل يعطيه ظهره وهو يقول بحده :
مش يمكن الكلام ميجيش على هواك
: هو في ايه ؟! مش طايقني من امبارح ونظراتك غريبة ؟!!
التفت إليه متسائلاً بصرامة :
الحاجه اللي اتمسكت في اوضتي تخصك ؟؟
ارتبك عبدالله وهو يهدر باضطراب :
حاجة ايه !! معرفش أنت تقصد ايه
بحركة سريعة قبض يعقوب على تلابيب ثيابه، وقربه منه مردفاً بوجوم :
أقصد المزاج اللي أنت بتدور عليه
حرك عبدالله رأسه نافياً وهتف بتعلثم :
شكلك فاهم غلط
صاح يعقوب بغضب جلي وضغطه على قبضته تزداد شراسة :
يارتني فهمت غلط ولا أعرف أن أخويا بقا صاحب مزاج
حاول فك قبضته وهو يهتف بتلجلج :
دي سيجارة ومش مستاهله كل اللي أنت بتعمله
دفعه بعنف وهو يهدر باقتضاب:
والسيجارة بتجر وراها ايه
اعتدل عبدالله في وقفته ثم قال ببسالة :
ما تفوق يا يعقوب هو أنا لسا العيل الصغير، على فكره أنا فاهم الصح من الغلط وأقدر أقرر أوقف أمته
رفع يعقوب حاجبيه باستنكار مزمجرًا بضيق:
غلطان وليك عين كمان
: الغلط دا لما أنت تكون عارف أن خطيبتك مدوراها وأنت مكمل ومبسوط يا خويا
صدمه ألجمت لسانه وهو يرمقه بعدم استيعاب، كمن أصابه صاعق ضرب أوصاله … كانت درجة الحرارة الطقس منخفضة، لكن ذلك اللهيب الذي نشأ في جسده كأن الشمس تسطع فوق رأسه مباشرة، ضغطت بعنف على قبضته حتى برزت عروقه وهو يسأله من بين أسنانه:
وأنت بتجيب سيرتها على لسانك ليه ؟؟
أمسك جردل قديم ودفعه بقوة وهو يسترسل بتهجم :
كدا أنت مفيش منك يعني، ولا بتصغرني عشان مفتحش بوقي
كاد عبدالله أن يفتح فمه فأشار إليه بالصمت وعينيه القاتمة تحدجه شزرًا :
مسمعش صوتك نهائي ولو فكرت أنك تعيد الكلام دا تاني أنا هقطع لسانك واحتفظ بيه
هرول عبدالله من أمامه وهبط للأسفل تارك الآخر يلتوي غضبًا من حديثه الوقح … ثمن باهظ يدفعه لذلة لسان سهوٍ، لكن إلى متى سيتحمل خطأ غير مقصود!!!
؛******
لم تبقى المجلس سوى عائلة سويلم، التي دار بين رجالها حوار عن منصب العمودية الجديد… على حين غرة ولج شاب وسيم للمجلس وهو يلقي التحية باحترام، عقد المعلم سالم جبينه باستفهام وسأله بتعجب:
مين ؟!!
ابتسم بخفة وهو يعرف نفسه باشتياق :
يونس الخولي يا خالي
؛********

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بنت المعلم الجزء الثاني)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى