روايات

رواية خطايا بريئة الفصل العشرون 20 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الفصل العشرون 20 بقلم ميرا كرم

رواية خطايا بريئة الجزء العشرون

رواية خطايا بريئة البارت العشرون

رواية خطايا بريئة
رواية خطايا بريئة

رواية خطايا بريئة الحلقة العشرون

لا بأس بقليل من الحزن في مقابل أن تتخذ قراراً صحيحاً تبني عليه حياتك، أحياناً تكون القرارات القاسية هي السبيل الوحيد لواقع أفضل و حقيقي، الوقت يعالج كل شيء و يهدم كل شيء، حتى الذكريات الجميلة و أنبل العواطف تموت و يحل محلها نوع من الحكمة الباردة التي تجعل كل شيء يهدأ”

– أحمد خالد توفيق
—————-
كانت متحمسة للغاية لرؤيته حتى أنها لم تعطي أهتمام لتناول الفطور مع أبيها وزوجته رغم إلحاحه عليها بل كانت كل ما توده هو أن تراه وتنعم بصُحبته، تجهمت معالم وجهها عندما لم تجده بداخل السيارة ينتظرها فأخذت تبحث عنه بمحيط حديقة القصر لعله هنا أو هناك ولكن بلا جدوى لتقرر أن تسأل الحارس عنه قائلة:

-هو “محمد” مجاش النهاردة؟

هب الحارس من موضعه أمام البوابة وأجابها:

-لا ياهانم “محمد” أمبارح شد مع ست “دعاء”و مشى

تقلصت معالم وجهها وقبل أن يكمل حديثه كانت تهرول للداخل من جديد هادرة بنبرة هجومية لزوجة ابيها:

-انتِ اللي طردتيه مش كده ازاي تاخدي قرار زي ده من غير ما ترجعيلي

رمقتها”دعاء” ببسمة متشفية وكادت ترد لولآ تدخل “فاضل” بمحاولة بائسة منه أن يهدأ روعها:

-اهدي يا بنتي متعصبة ليه كده؟

كادت “ميرال” تجيبه لولآ أن “دعاء”

سبقتها قائلة بنبرة تحمل خبث مقيت بين جنباتها وهي تدعي عليه كي تجعل عودته مستحيلة للعمل مرة آخرى:

-السواق ده أنا اللي مشغلاه وأظن إني أنا برضو اللي مشيته مش فاهمة فين المشكلة وبعدين الولد ده وقح وقل أدبه عليا وكان لازم اطرده

دافعت “ميرال” باستماتة عنه:

-“محمد” مش قليل الأدب واكيد أنتِ اللي استفزتيه وبعدين هو من يوم ما جه هنا وهو شغال معايا وانا مرتاحة معاه ليه تمشيه

تكاثرت الشكوك برأسها من دفاعها عنه وحمئتها الغير مبررة بالمرة بالنسبة لها، لتنظر لها نظرة مطولة كي تسبر أغوارها وتقول وهي تضيق عينيها:

-ومالك متعصبة كده ده حتة جربوع لا راح ولا جه وميستاهلش حمقتك دي كلها يا “ميرال”

استنكرت “ميرال” بإنفعال:

-“محمد” مش جربوع ومش من حقك تقللي منه أو من أي حد كلنا بشر زي بعض

نفخت “دعاء” أوداجها وزجرت زوجها الذي كان يتابع بصمت مقيت حوارهم المحتد وكأنه كان ينتظر أشارتها كي ينوب الرد عنها بما اقنعته مسبقًا:

-مفيهاش حاجة يا “ميرال” وبعدين “دعاء” عندها حق الولد غلط وكان لازم تطرده…

-أنت بتصدقها يا بابي دي كدابة…

-“ميرال” عيب كده واعملي اعتبار ليا وبعدين لو عايزة سواق خلاص عم “مؤنس” خلصت اجازته وهيرجع الشغل يبقى يوصلك ويجيبك

اعترضت هي:

-بس أنا كنت مرتاحة مع “محمد” يا بابي

تنهد “فاضل” وهو يطالع ساعة يده وينهض كي يغادر:

-ياريت متكبريش المواضيع وتديها أكبر من حجمها لو مش عايزة “مؤنس” خلاص اللي يريحك وانا معنديش مشكلة أنك ترجعي تسوقي تاني بنفسك عربيتك في الجراچ من يوم ما بتوع الصيانة رجعوها وهي مركونة ابقي خديها لو حابة…أنا اتأخرت على الشغل وعندي اجتماع مهم لازم امشي

ذلك أخر ما قاله قبل أن يضع قبلة على وجنتها ويغادر بخطوات متعجلة تاركها متسمرة بأرضها تطالع آثاره بنظرات متخاذلة متسائلة إلى متى سيظل يتحيز لزوجته ويتحامل على رغباتها؟

لتختم “دعاء” الموقف بخبث لا مثيل له وهي تقترب تربت على ذراعيها بأهتمام زائف تدعي أنها تريد مصلحتها:

-اوعي تسمعي كلام ابوكِ وترجعي تسوقي بنفسك أنتِ سواقتك متهورة خالص وانا بخاف عليكِ اصبري يومين واجبلك سواق احسن منه

نفت “ميرال” برأسها واخبرتها بنبرة مستنفرة:

-ابعدي عني أنا مش عايزة حاجة منك…

غادرت هي بينما “دعاء” حانت منها بسمة شيطانية وهسهست بوعيد:

-يظهر أن في حاجات فايتاني يا “ميرال” ومعرفهاش عنك بس ملحوقة ومسيري أعرف وساعتها لو اللي في بالي كان صح يبقى يا ويلك مني انتِ والجربوع بتاعك.

——————–

كان يسير برفقة العساكر بمضض شديد يعترض على معاملتهم العنيفة معه ويستغرب لمَ يشعرونه أنه قبض عليه بالجرم المشهود لتوه، فكان يسستشيط غيظًا ولم يكف عن سخطه وعجرفته طوال الطريق عندما يأمره أحد العساكر بالسير دون مماطلة حتى كانوا يجروا به او يدفعوه من ظهره وكأنه كالدابة التي تجر كي تلقى مصيرها المحتوم.

-أمشي من سكات احسنلك قولنالك هتعرف كل حاجة من حضرت الظابط سليم بيه الكومي

قالها أحد العساكر وهو يدفعه داخل مكتب

ذلك الضابط الذي يجلس خلف مكتبه بكل عنجهية ووقار بتلك البِنية الضخمة والملامح القاسية التي تجعل كل من تسقط عينه عليه يرهبه بشدة فأقل ما يقول عنه إن هيئته مرعبة تبث الرعب في النفوس وبالفعل ذلك ما حدث عندما سقطت عين “حسن” عليه حين أدى العسكري التحية وقال برسمية:

-تمام يا فندم تم ضبط و إحضار “حسن طايل” زي ما أمرت ودي بطاقته

قالها وهو يضع أثبات الشخصية الذي أخذه منه مسبقًا على مكتبه

رفع “سليم” نظراته الثاقبة إليه وتناول أثبات الشخصية وأشار للعسكري بالانصراف بينما “حسن “

ابتلع ريقه وهو يرى نظراته المرعبة تكاد تخترقه وقال:

-ممكن افهم انا هنا ليه؟

شبح ابتسامة متغطرسة ظهرت على فم “سليم” وتلاها قوله بحدة أجفلت الأخر:

-مكنتش عايز تشرفنا ولا أيه يا “حسن”!

قال أخر جملة بحاجب مرفوع بترقب جعل “حسن” يبتلع ريقه ويجيبه بشجاعة مصطنعة:

-أنا معترضتش بس أكيد في غلط انا مش مجرم ومعملتش حاجة واللي حصل معايا ده مش قانوني وأنا مش هسكت

قالها بإنفعال استفز “سليم “وجعل الجحيم يستعر في حدقتيه حين قال بنبرة حادة واثقة بثت الرعب بالآخر:

-مش هتسكت! هتعمل إيه مثلًا أحب اعرف؟

زاغت نظرات” حسن” من عنجهيته ونظراته المرعبة التي تحمل تحذير مبطن فما كان منه غير أن يتراجع في الحديث قائلًا:

-أنا من حقي اعرف جبتوني ليه هنا انا معملتش حاجة

حانت من “سليم “بسمة متهكمة وسخر قائلًا بكل عنجهية:

-جبت ورا بس ماشي هعديها بمزاجي وهجاوبك… في محضر تعدي متحرر ضدك من السيدة “رهف حسين ” بتتهمك فيه أنك اتعديت عليها واتسببت في إجهاضها يعني هتشرفنا شوية.

أبتلع رمقه بحلق جاف واتسعت عينه بذهول لم يستوعب كلمة واحدة مما تفوه به ولكن “سليم” أكد حين بدء في نقل بياناته إلى ذلك الورق أمامه ثم تساءل بعدها برسمية شديدة كي يدون أقواله:

-س:ما هو قولك فيما هو منسوب إليك؟

كاد يستأنف لولآ أن الآخر قاطعه وهو

ينفى برأسه ويقول بنبرة غير مستوعبة ويبتسم بسمة مقيتة ليست بمحلها:

-أنا مش مصدق اكيد فيه حاجة غلط انا معملتش حاجة ومجتش جنبها دي هي اللي سرقتني

زفر “سليم” بنفاذ صبر وهدر محذرًا:

-خلي بالك كل كلمة هتقولها هتتحاسب عليها وياريت ترد على أد السؤال وبس

استنكر “حسن” وقال بإندفاع:

-أنا كمان عايز حقي ولازم تسمعني انا وهي كان حسابنا مشترك وسحبت الفلوس و….

كاد أن يسترسل بتفاصيل أكثر لولآ أن “سليم” قاطعه بحده وبرسمية بالغة:

-القانون لا يحمل المغفلين يا بيه وبعدين مدخلنيش في مواضيع فرعية مليش فيها أنا سألتك سؤال محدد وتجاوب عليه

أيه قولك فيما هو منسوب إليك؟

كرر سؤاله مرة أخرى ليصر “حسن” على موقفه كونه لم يفعل شيء وحين انتهوا من أخذ اقواله قال “سليم” وهو يؤشر له:

-تعالا امضي والتحريات هتثبت من فيكم صادق ومن هنا لوقتها هتشرفنا في الحبس لغاية ما تتعرض على النيابة وتحقق معاك

-حبس ايه أنت بتخرف مستحيل يحصل “رهف” مستحيل تسجني وبعدين انا معملتش حاجة…

كان يتحدث بهستيرية وبنبرة منفعلة وهو يشعر أنه على حافة الجنون يحاول تبرئة ذاته ولكن “سليم” لم يتحمل بطبيعته الملولة وضرب على سطح المكتب ضربة قوية أخرست الآخر، وتلاها صراخه به بنفاذ صبر:

-هو مين اللي بيخرف أنت هتتصاحب عليا يا روح أمك… ابقى وفر كلامك ده لما تتعرض على النيابة ومن هنا لوقتها تبلع لسانك ومسمعش صوتك.

انحصر الحديث بحلقه و وقف ينظر له بنظرات زائغة غير مستوعبة

ليصيح “سليم” بعدها بصوت جهوري رج الجدران بإسم أحد أمناء الشرطة:

-يا “مطاوع”

هرول “مطاوع” إلى داخل مكتبه ليأمره “سليم” بنبرة صارمة للغاية:

-غوره من وشي و خدوه على الحبس

حاول “حسن” الاعتراض من جديد بينما كانت قبضة “مطاوع” رادعة له فكان يجره جر.

بينما “سليم “جلس خلف مكتبه وتناول أحد سجائره يشعلها ثم تناول هاتفه ينقر على شاشته برقم أقرب أصدقائه وما إن أتاه الرد قال:

-حصل… و الراجل ده شكله بجح وعينه يدب فيها رصاصة وأنكر بس متقلقش هيتعمل معاه الصح يا دكتور الحريم

اتاه الرد متبوع بصوت قهقهة من الطرف الأخر:

– يا دي النيلة هو أنت بتعايريني يا “سليم “

أجابه “سليم” بخشونة:

-اعملك ايه ما أنت دون عن التخصصات كلها اخترت تخصص مهبب شبهك

-شبهي …بسم الله ما شاء الله عليك ثابت على وضعك مبتعرفش تزوق الكلام ابدًا

-وازوقه ليه انا مبحبش النحنحة زيك

-نحنحة كمان! لا يا عم انا هقفل أحسن بكرامتي

-كرمتك في ذمة الله من زمان اساسًا بلاش تعيش الدور

قهقهوا سويًا وبعدها أتاه سؤال الطرف الآخر عابثًا كعادته:

-ماشي نتكلم جد شوية بقى وقولي أيه أخبار ورق العنب الملفوف؟

نفرت عروق” سليم”وصاح بعدم رضا من سخريته المبطنة التي تمس أموره الشخصية:

-“نضال” اظبط ومتخليهاش تخرب عليك عارف لو كنت قدامي كنت عرفتك تمامك

-متتحمقش يا صاحبي انا كنت بناغشك بس

-طب يلا انا مش فضيلك وعندي شغل سلام

أغلق الخط معه وقبل أن يستأنف “سليم” عمله حانت منه بسمة عابرة محملة بالحنين وهو يتذكر تلك الفاتنة التي أسرت قلبه واستطاعت أن تروضه لها ببرائتها فمهما حاول أن ينكر الأمر إلا أنه حقًا أشتاق لها ولكل شيء بمدينته.

بينما عند الأخر كان يهاتف “سعاد” ويخبرها أن تطمئن ابنة عمها أن ذلك المتبجح سينال جزائه على أتم وجه.

———————

كان يجلس على أحد الارائك المريحة بغرفة مكتبه يسترجع كل ما حدث بينهم وتلك الحالة المزرية التي كانت عليها وهو يلعن ذاته ويلومها كونه هو من أوصلها لذلك، طرق على الباب انتشله من شروده ليعتدل بجلسته ويأذن لوالدته بالدخول

لتتقدم “ثريا” منه وهي تحمل قدح ساخن وتمد يدها به قائلة:

-الشاي يا حبيبي

أبتسم وشكرها وهو يتناوله من يدها ويهم بالأرتشاف منه:

-يسلم ايدك يا امي

ربتت “ثريا” على كتفه وجاورته متسائلة:

-قولي اتكلمتوا في حاجة

عقد حاجبيه وأجابها:

-لأ كانت تعبانة ومتكلمناش ليه بتسألي

هزت “ثريا” رأسها بتفهم وأدركت كونها لم تقص عليه أي شيء بعد لذلك مهدت له قائلة بتريث:

-عايزاك تسمعني وتركز معايا علشان هحكيلك على اللي سمعته منها ويمكن لما تعرف تعذرها و تنسى وتسامح كل اللي حصل وتبدأ صفحة جديدة.

تنهد بعمق ووضع ما بيده على الطاولة الصغيرة أمامه وتأهب قائلًا:

-مش فاهم أيه اللي جد دلوقتي علشان تقوليلي الكلام ده بس هسمعك

ردت “ثريا”:

-هقولك يا حبيبي على كل حاجة بس اوعدني أنك تسمعني للأخر

أومأ لها كموافقة ضمنية لحديثها بينما هي استرسلت وقصت عليه كل ما استمعت له من حديث دار بين”نادين” وصديقتها وما اتهمتها به بعدها.

————–

أخذت سيارتها من الجراچ ثم انطلقت بها بسرعة جنونية إلى منزله بعدما يأست أن تهاتفه ولم يجيبها وما أن وصلت طرقت باب شقته عدة طرقات وإن فتح الباب لها لم تمهله وقت للتفاجئ وهدرت قائلة:

-أنت إزاي تمشي من غير ما تقولي

ابتلع غصة مريرة بحلقه وأجابها بكبرياء شامخ:

-كان مستحيل استنى دقيقة واحدة بعد اللي مرات ابوكِ قالته

أومأت له وأخذت تلملم خصلاتها قائلة بتوتر:

-طيب خلينا ندخل ونتكلم

برر قائلًا دون أن يفسح مجال لها لتفوت للداخل:

-“شهد” و”طمطم” مش هنا ميصحش تدخلي

اومأت له بتفهم وقالت بنبرة آسفة:

-“محمد”انا معرفش هي قالتلك ايه بس أنا بعتذر بالنيابة عنها حقك عليا أنا وارجع الشغل

نفى برأسه واخبرها بعزة نفس أبية:

-مبقاش ينفع يا “ميرال”

عقدت حاجبيها واعترضت:

-ليه …”محمد”علشان خاطري أنا هقنع بابي وارجع الشغل وملكش دعوة بيها أنت عارف أنها بتتعمد تضايقني وبس

أغمض عينيه بقوة يلعن ذلك المرتجف بين اضلعه وأجابها بقرار قاطع صدمها:

-صدقيني مبقاش ينفع كده احسن ليا وليكِ

نفت برأسها واخبرته بعيون غائمة :

-“محمد” متعملش فيا كده أنت وعدتني و قولتلي مش هسيبك مهما حصل

= أنتِ مبقتيش محتجالي وبقيتِ أحسن…ومع ذلك لو احتاجتي أي حاجة هتلاقيني تحت أمرك

تقلصت معالم وجهها وتمتمت بجنون وبأعصاب تالفة:

-أنا لو محتاجة حاجة هيبقى أنت يا “محمد”

اضطربت أنفاسها وهي تقاوم رغبتها في البكاء واستأنفت بتحشرج وعيناها تتوسل عيناه:

-أنا محتجالك جنبي ويمكن يكون اكتر من الأول

رغم أن كل ما يصدر منها أعتصر قلبه ولكنه تحامل على نفسه كي يبدو ثابت أمامها فلابد أن يوقف تلك الفوضى التي يخشى من تبعاتها الأن ويصرح بقناعاته:

-انا حتة سواق كان شغال عندك بلاش تديني أكبر من حجمي وبكرة هتنسي إن كان ليا وجود أصلًا

هزت رأسها وباحت له بكل عفوية وبثقة متناهية وهي تصوب نظراتها الراجية داخل عمق عيناه:

-أنا عندي استعداد انسى كل حاجة إلا أنت… انت الحاجة الوحيدة اللي عايزة افتكرها وعمري ما هسيبها تضيع مني

أنا مش هعرف أعيش من غيرك علشان خاطري أرجع الشغل وخليك جنبي

رقص قلبه بأعترافها وبدلًا أن يسعد هو بذلك تهدلت معالم وجهه واحتل الحزن عينه فياليته يستطيع فكل ما يحدث حوله ينبهه أن لا سبيل لهما، لذلك قال بثبات وبنبرة متلبدة تخالف ضجيج قلبه ودوافعه الأصلية:

-مش هينفع يا “ميرال” اعفيني طلبك ده صعب وعمري ما هقدر أرجع بعد ما اتهنت

تمسكت بذراعه بحركة تلقائية راجية جعلت عينه تتركز على موضعها ثم توسلته من جديد بنبرة مهزوزة ضائعة تنم عن مدى حاجتها له:

-علشان خاطري انا…هو انا مستهلش تتنازل علشاني …ومستهلش تكون جنبي… وجدت الرفض مازال بعينه لتصرخ بجنون وكأن فاض بها الكيل من تبلده:

-أنت أزاي مش حاسس بيا…

وهن صوتها وارتعش وهي تستأنف بصدق نابع من صميم قلبها:

‐أنا ب…

-اسكتي

كادت أن تصرح بمشاعرها لولآ أنه قاطعها بنبرة متماسكة صامدة للغاية كي لا يجعلها تزيد أنين قلبه أكثر فهو يشعر الأن بعجز شديد يقيد كافة حواسه ويمنعه أن يسايرها فذلك الحاجز الطبقي اللعين بينهم يستحيل تخطيه لذلك يجب أن يؤد ذلك العشق الوليد بمهده:

-متكمليش وبلاش تصعبيها عليا…

ولو زي ما بتقولي يبقى دي مشكلتك لوحدك متحملنيش ذنبها

لو كانت الكلمات تقتل لكانت سقطت الآن طريحة بأرضها، فقد شعرت بدوار يلفح رأسها حتى انها تمسكت بإطار الباب بملامح باهتة كساها حزن بَين أعتصر قلبه وجعله يلعن ذاته وقلة حيلته ربما للمرة الألف بعد المائة حين همست بنبرة متخاذلة لا مثيل لها:

-ياااه للدرجة دي؟

لم يمنحها فرصة لتعاتبه بل ود أن يبتر الحديث كي لا تخور ارادته ويضعف أمامها:

-“ميرال” لو سمحتي أنا معنديش كلام أزيد من اللي قولته ياريت تقدري موقفي وتحترمي رغبتي وتتفضلي بقى علشان ميصحش وقفتنا كده

نظرت له نظرة مطولة مؤنبة ثم قالت:

-همشي يا “محمد” ومتقلقش أنا متعودة أنت مش اول حد يخذلني

ركضت من أمامه باكية لاترى شيء أمامها حتى أنها لم تلحظ “شهد” و”طمطم” أمام البناية بل كانت كل همها أن تبتعد عن هنا وتلملم فتات نفسها…

بينما هو كان يسند جبهته على زجاج نافذته ينظر لآثار سيارتها بعيون غائمة وبقلب منفطر يأن من شدة الألم.

-قولتلها ايه يا “محمد”

قالتها “شهد” بعدما دلفت لتوها من باب الشقة، ليغلق عيناه بقوة يعتصرها ثم يمسح على وجهه قائلًا بعقلانية:

-قولتلها اللي مفروض كان يتقال يا “شهد”

عاتبته “شهد” قائلة:

-بس البنت شكلها بتحبك بجد ليه تعمل كده كنت عطيت نفسك فرصة وحاولت علشانها

نفى برأسه وقال ببسمة يائسة منعدمة الأمل تعلو ثغره:

-فرصة ايه اللي بتتكلمي عنها يا “شهد” بصي حواليكِ وانتِ تعرفي أن أي فرصة ليا معاها معدومة أنتِ متعرفيش ابوها مين ولا ساكنة في قصر شكله ايه مهما حاولت وكافحت عمري ما هوصل لربع المستوى اللي معيشها فيه

وبعدين أنتِ عارفاني وعارفة أني عمري ما كنت ندل ولا بلعب ببنات الناس

يبقى على ايه هعلقها واعشمها بكلام مش هيقدم ولا هيأخر… كده أحسن ليا وليها يا “شهد” وبلاش تلومي عليا لومي على الظروف والحظ ولومي على الفقر

وساعتها هتعرفي أن الحب رفاهية متخلقتش للي زي

لم تقتنع” شهد” بحديثه وعارضته قائلة بمنطق يفوق واقعية منطقه:

-الحب ميعرفش فوارق يا “محمد” ولو هي بتحبك هتتمسك بيك و هتقصر عليك الطريق وأنا شايفة أنها بتحبك وده واضح زي الشمس من نظراتها وكلامها عنك وبعدين محدش ليه سُلطة على قلبه أنت كمان بتحبها يا “محمد” متكابرش واعترف…

زادتها عليه وعرت الحقيقة الكامنة بداخله أمام نفسه حتى أنه أجابها بإندفاع دون ذرة تردد واحدة:

-ايوة بحبها بس غصب عني… أفهميني وبلاش تتحاملي عليا

تنهدت “شهد” بضيق وقالت معاتبة:

-أنا مش بتحامل عليك أنا عايزة أفوقك قبل ما تضيعها من ايدك

وتعيش العمر كله بذنبها و هتندم أنك محاولتش علشانها…اللي عملته ده هروب وانا متعودتش عليك جبان اخويا اللي زرع جوايا المبادئ والقيم متعودتش منه أنه يهرب من مشاكله طول عمره بطّل في نظري وعارفة ومتأكدة انه مش هييأس وهيجاهد ويعافر علشان اللي بيحبها تكون ليه.

حاول أن يدافع عن ذاته من جديد قائلًا بواقعية بحته:

-أنا مش جبان يا “شهد” بس الظروف اقوى مني

عارضته “شهد” من جديد:

-متحججش بالظروف …الظروف أحنا اللي بنخلقها علشان نبرر ضعفنا …انا لما اتجوزت “فايق” كان صنايعي ومش متعلم وانا كان معايا شهادة ومع ذلك لما اتقدملي أنت بنفسك قولتلي أن الفلوس مش كل حاجة وإن الأهم منها الأخلاق والأصل الطيب والحب

لتختم حديثها وهي تربت على كتفه:

-هون على نفسك يا خويا ومتكابرش محدش بيهرب من نصيبه وخلي عندك

عشم في ربنا وربك كريم ما بينساش حد وقادر يجبر بخاطرك

-ونعم بالله يا “شهد”

لتتركه وتدلف لأحد الغرف بينما هو كان يزفر أنفاسه دفعة واحدة يحاول أن يستعيد رباط جأشه ويفكر مليًا فقد تمكنت شقيقته من جعله ينظر للأمر من منظور أخر ربما سيغير كافة قناعته فيما بعد.

فهل ياترى سيكون الحب سلاح رادع ليحطم تلك الأسوار العالية أم سيسحق ويصبح ركام تحت انقاضها.

———————-

كانت تفر من كل شيء بالنوم وكأن ليس لديها المقدرة على تخطي الأمر وتبديد كل قناعتها بيوم وليلة.

رائحة عطره المميزة أنتشلتها من سباتها وجعلتها ترفرف بأهدابها لثوان قبل أن تستفيق بالكامل وهي تظن أنه يهيأ لها أنه يجلس على مقعده المعتاد وينظر لها ولكن أتى صوته ذات البحة المميزة ليؤكد لها:

-مش كفاية نوم!

حانت منها بسمة غير مستوعبة وهي تتأمله من رقدتها فكم اشتاقت له و لكل شيء كان يفعله بالسابق وحرمها منه الآونة الأخيرة بفضل أفعالها التي حين تذكرتها الآن اندثرت بسمتها وقررت أن تفر هاربة بادعائها للنعاس:

-لأ مش كفاية وعايزة أنام…

كونه يعلمها عن ظهر قلب تفهم تهربها ولذلك اقترب من فراشها وجاورها قائلًا وهو يزيح بيده خصلاتها القصيرة ويضعها خلف أُذنها:

-متعودتش عليكِ جبانة

همست بعيون مغلقة وبرأس مطرق ينم عن خزيها من نفسها:

-أنا مش جبانة بس حاسة إني ضايعة ومتلغبطة

تنهد تنهيدة مثقلة وأَزرها بنبرة حانية لأبعد حد:

-أنا معاكِ… ومهما كنتِ متلغبطة وضايعة عايزك تعرفي إني هفضل جنبك وإني برة التوهة دي؛ أنا نقطة ثابتة في ارضك

فرت دمعة من عيناها ولم تستطيع أن تجاري ذلك الإهتمام والحنو البالغ الذي رغم أنها بأمَسْ الحاجة له إلا أنها أصبحت تشعر أنها لا تستحقه بسبب أفعالها

شملها هو بدفء عينه الذي عاد من جديد وأخذ يمسح بإبهامه على وجنتها كي يزيح دمعاتها، بينما هي تمسكت بكامل يده ووضعتها على وجنتها وهمست بنبرة واهنة، منكسرة يحفها الندم:

-آسفة…والله آسفة…أنا مستحقش اهتمامكم ولا أي حاجة عملتوها علشاني أنا بعترف إني كنت غبية

زفر هو حانقًا وكم شعر بغصة مؤلمة تحتل حلقه ليباغتها بجذبه لها من ذراعيها ويجعلها تستقر بين أحضانه و يدثرها بين ثناياه وكأنه يريد أن يتقاسم معها ما تشعر قائلًا:

-أنتِ فعلًا غبية بس بطلي عياط أنتِ عارفة أن دموعك بتقتلني

زاد نحيبها من تأكيده للأمر وهي بين احضانه لدرجة أن بدل أن يجعلها تكف عن نحيبها تضامن معها وغامت عينه تأثرًا بها
فقد دام عناقهم لعدة دقائق إلى أن توقف نحيبها واستعادت رباط جأشها، ليهمس بعدها وهو يأخذ نفس عميق من عبق خصلاتها:
-أنا لازم أسافر اسكندرية النهاردة واحتمال أرجع بليل

خرجت من بين يديه واعترضت بهزة من رأسها، ليبتسم هو ويكوب وجنتها مقترحًا:

-أيه رأيك تيجي معايا… يعني بقول آن الآوان أنك تشوفي الشغل ماشي ازاي هناك وفرصة تغيري جو

هزت رأسها دليل على موافقتها، بينما هو قال بإهتمام بالغ قبل أن ينهض:

-طيب تقلي هدومك علشان الجو هناك اسقع من هنا

كانت تتيه بأثره وبذلك الدفء الذي حاوطها به وكم أرادت أن تخبره أنها أدركت أخيرًا أن لا ملجأ لها سواه ولا تريد أن تنتمي لشيء عداه ولكن رغم كل شيء كان مازال هاجس يأن برأسها ويحثها أن لا تبوح الآن

فمازالت بقايا تلك القناعات تؤثر بها غافلة أن بعد سفرتها معه سوف تقتلع بيدها كافة هواجسها وقناعاتها البالية من جذورها.
——————
وقف بملامح مشمئزة نافرة في زاوية ذلك المكان الموحش ذات الرائحة العطنة التي امتزجت بأنفاس المساجين المجبولة برائحة العرق الكريه الذي يثير الغثيان وخاصًة أن المكان لا يتمتع بتهوية جيدة سوى تلك الفتحة الصغيرة المغطاة بأسلاك حديدية تسمح بدخول القليل من الهواء، فحقًا كان الجو خانق لدرجة أنه كان يصعب عليه التنفس ورفض الصمود أكثر فقد طرق على ذلك الباب الحديدي الذي زج منه وصرخ مستنجدًا:

-خرجوني من هنا أنا معملتش حاجة…بتخنق ومش عارف اتنفس…حد يفتحلي الباب ده ه ه ه ه ه الريحة مقرفة خرجوني من هنا …
(ميراكريم)
نهره أحد الأمناء من خلف الباب:

-اهدى يا مستجد وشوية وهتاخد على المكان كلها كام ساعة والنهار يطلع

نفى برأسه وهو يشعر انه قاب قوسين أو أدنى أن يفقد صوابه،
ليقترب أحد السجناء منه ويقول بنظرات إجرامية متفحصة:
-جرى ايه يا زُمل ماتنشف كده ما كلنا في الهوا سوا… دي شكلها أول سابقة ليك وعلشان كده مستغرب المكان

زاغت نظرات “حسن” وأجابه بنبرة متقززة مستنفرة وهو يشعر أن الدوار لعين سيطر عليه و شعور الغثيان يكاد يفوق قوة احتماله:
-بقولك ايه يا بتاع أنت ابعد عن وشي انا قرفان و متنيل مش طايق نفسي ومش فايق اتكلم مع امثالك

نمت بسمة شيطانية على فم الآخر وهدر مستهزئًا وهو يوجه حديثه لأتباعه:

-يظهر أن المستجد ملوش فيها يا رجالة ولازم نعمله تشريفة تليق بيه وتعرفه مين أمثالي

جعد “حسن” معالم وجهه وقال بإنفعال:
-تشريفة أيه؟ اللي هيفكر بس يلمسني هوديه في داهية

قهقهوا الرجال من حوله وأخبره أحدهم:

-هو في داهية اكتر من اللي احنا فيها…

ليقول شخص أخر متوعدًا:

-كل المستجدين لازم يتعلم عليهم علشان ميعرفوش يرفعوا عينهم في كُبارتنا وبصراحة أنت اللي لعبت في عداد عمرك وتستاهلها

تراجع “حسن” عدة خطوات للوراء وهو يشعر بتعنية شديدة ولكن رغم ذلك كانت يحاول أن يتماسك ويتوجس خِيفة من ردود أفعالهم وعندما ضاق الحصار وكادوا يتكالبون عليه تقلصت معدته وطردت كل ما بجوفه على الأرض مما جعلهم يسخرون منه وتتعالى اصوات ضحكاتهم، أما هو فكان يشعر انه يحتضر فكان ينحني يتمسك بمعدته وكأنها حتى هي كانت تتآمر عليه وتدفعه أن يتقيأ روحه مع عصارتها.

فبأشارة من أحدهم كان يستغلون ما أصابه بدفعه بقوة جعلته يسقط طريح وسط ما نتج عنه فكان عاجز عن مواجهتهم حتى أو التصدي لهم نظرًا لكثرة عددهم وكونه يشعر أنه ليس على ما يرام ابدًا فكانت حالته مذرية للغاية أثارت غثيان كل من كانوا يشمئز هو منهم، حتى أنهم ابتعدوا عنه وعن ما خلفه باصقين عليه وتاركينه يشعر بمهانة لا مثيل لها.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى