روايات

رواية أنا لها شمس الفصل الخامس 5 بقلم روز أمين

رواية أنا لها شمس الفصل الخامس 5 بقلم روز أمين

رواية أنا لها شمس الجزء الخامس

رواية أنا لها شمس البارت الخامس

أنا لها شمس
أنا لها شمس

رواية أنا لها شمس الحلقة الخامسة

«ليت زماني يعود بي حين التقيتك صدفتًا
لأتروى النظر داخل عينيكَ واستشف مكرهما
ونأيت بحالي من الجحيم وكفيتها شر البلية، يا ليت.»
خاطرة إيثار الجوهري
بقلمي «روز أمين»
عودة لما قبل ثمانية أعوامًا.
ترجلت من إحدى وسائل المواصلات الجماعية(الميكروباص) حيث استقلته من القاهرة وهي عائدة من جامعتها بالقاهرة ليوصلها إلى إحدى مُدن محافظة كفر الشيخ،فهي طالبة بالفرقة الرابعة حيث انها أختارت دراسة إدارة الأعمال بكلية التجارة،تسكن بالمدينة الجامعية وتعود لمنزلها بنهاية كل أسبوع لتقضي إجازتها في منزل أبيها،وقفت تتطلع حولها لانتظار إحدى السيارات لتقلها لقريتها،كان يقود سيارته ليتوقف في الموقف الخاص بالسيارات ينتظر إبن عم له قادم بإحدى الحافلات من القاهرة ليقله بصحبته للبِلدة،خرج من السيارة وتوقف ينتظر وصول قريبه وأثناء تفقدهُ للمكان وقعت عينيه عليها لتلتمع عينيه بوميض مما يدل على إعجابه الشديد،اتسع بؤبؤ عينيه وهو يرى ملامح وجهها الجميلة والتي جذبته منذ النظرة الاولى، ناهيك عن تقاسيم جسدها الانثوي الذي جعل من لعابه يسيل وهو ينظر لها باشتهاء،برغم ارتدائها لكنزة واسعة وتنورة طويلة تغطي جميع ساقيها وحجابًا إلا أن أنوثتها الجذابة كانت طاغية،كانت كلوحة حب تنبض بالحرية والحياة،وقفت تتطلع حولها تترقب ظهور إحدى السيارات وهي تنظر بساعة يدها بتأفف ظهر على وجهها،واثناء مراقبته لتلك الفاتنة التي ظهرت من العدم وكأنها حورية هبطت من السماء إستمع لرنين هاتفه الجوال ليجيب سريعًا بانفاسٍ متقطعة جراء دقات قلبه العالية كطبول الحرب:
-أيوا يا أحمد إنتَ فين؟
أجابه الأخر بهدوء:
-إنتَ اللي فين،أنا خلاص داخل على الموقف
واستطرد باعلام:
-شفتك خلاص يا ريس
في تلك اللحظة رأها تقترب من إحدى السيارات التي توقفت لتستقل مقعدًا بجانب النافذة ليُشير سريعًا لإبن عمه يستعجله على التحرك وبعد لحظات انطلق متتبعًا السيارة ليسأله الأخر:
-فيه إيه يا عمرو، مالك يا ابني مسروع كده ليه؟
-الميكروباص اللي قدامنا ده فيه حتة بنت، تقول للقمر قوم وأنا أقعد مكانك… نطقها وهو يحاول الوصول للسيارة ومجاورتها ليقول الاخر بضحكة:
-بنت!، قولت لي، بقى هي الحكاية طلع فيها بنت
نطق سريعًا بصوتٍ مسحور:
-ومش أي بنت يا أحمد،دي طلقة،عليها جوز عيون،يجننوا
ظل يقود حتى أصبحتا السيارتين متجاورتين لينظر على تلك المتكئة برأسها على زجاج النافذة شاردة بنظرها للسماء لتنعكس أشعة الشمس على أشعة عينيها لتضيف بريقًا جعل من عينيها مبهرة لمن ينظر بها برغم الحزن الساكن بداخلهما،مال ابن عمه برأسه للأمام ليقول بانبهار ظهر بصوته:
-طلع معاك حق يا عمرو،البنت جامدة بجد
ابتسم وهو يرفع قامته للأعلى ليقول بتفاخر:
-كان عندك شك في ذوقي ولا إيه
-الشهادة لله طول عمر ذوقك لا يُعلى عليه يا ابن عمي،بالذات في صنف الحريم …قالها مفخمًا به ليفرد الأخر جسده أكثر بعدما أشعره حديث ذاك المنافق بتفرده،حول بصره مرةً آخرى لينظر على تلك الشاردة التي لا تبالي بمن حولها سوى ملكوتها الخاص وشعورها الدائم بالوحدة الذي يلازمها اينما ذهبت حتى بحضرة عائلتها،مر أكثر من خمسة عشر دقيقة وهو يراقب تلك الجميلة حتى زفر أحمد وتحدث متسائلاً:
-هنوصل لحد فين باللي بتعمله ده يا باشا، إوعى تقولي إنك هتفضل ماشي وراها لحد بلدها؟
اجابه وعينه على من خطفت لُبه:
-ياريت كان عندي وقت كنت مشيت وراها،أدينا ماشيين لحد ما نوصل لكُبري بلدنا،بعد كدة مش هقدر أكمل علشان حِنة أمل بنت عمك جمال،أبويا كلمني وانا مستنيك في الموقف،كان متضايق وبيستعجلني علشان أقف مع شباب العيلة في توضيب كوشة العروسة
تأفف أحمد ليقول متهكمًا:
-يادي كوشة العروسة اللي صدعونا بيها، أبويا كمان وجع دماغي من الصبح،مكانش عاوزني أروح الشغل أصلاً،بالعافية أقنعته إني هاجي قبل التجهيزات ما تبدأ لولا كدة مكنتش هعرف أفلت منه
واستطرد بجبينٍ مقطب:
-بيقولوا عاملين الكوشة فوق سطح بيت عمك جمال عشان البنات والستات ياخدوا راحتهم بعيد عن قعدة الرجالة.
أجابهُ بلامبالاة وهو يتابع تلك الجميلة:
-يعملوها مكان ما يريحهم، مش فارقة كتير.
بعد قليل تملل أحمد بجلسته وشعر بالضجر من تصرفات ذاك المعتوه المسحور بالجميلات وزفر ليتحدث مستفسرًا بعدما وجده يقف عند كل محطة تقف بها السيارة وينتظر حتى يتأكد من شخصية المترجل:
-وبعدين يا ريس،هنفضل كدة لحد امتى،الميكروباص بيقف تقريباً دقيقتين عند كل محطة.
-بطل رغي يا أحمد ولو مش عاجبك إنزل وشاور لأي ميكروباص يوصلك…قالها بعدما سَأم من تملله ليجلس الاخر صامتًا حتى إقتربا من محطة قريتهم حينها استمع لرنين هاتفه وكان المتصل والده،نصر البنهاوي،زفر بضجر بعدما استمع لتوبيخ الاخر له وهو يستعجله،فقاد بسرعة فائقة ليتخطى السيارة ليميل تارة القيادة لليسار متجهًا لداخل قريته،وما ان اختفت سيارته للداخل حتى توقفت تلك السيارة لتترجل هي منها،توجهت لمنزل والدها وما أن ولجت للداخل حتى تهللت أسارير والدها حين رأها ليتحدث بترحاب:
-حمدالله على السلامة يا”إيثار”
نظرت بابتسامة واسعة لذاك الذي يتوسط الأريكة الخشبية بوسط منزله المتواضع لتقترب من جلوسه وهي تُمسك كف يده وتميل بطولها لتضع قُبلة احترام فوق كفه ليمرر والدها كفه الحنون فوق حجاب رأسها،رفعت عينيها لتتحدث بابتسامتها البشوشة:
-الله يسلمك يا بابا،إزي صحتك
ابتسم والدها ليجيبها:
-أنا بخير يا بنتي والحمدلله، إنتِ اللي عاملة ايه، طمنيني عليكِ
خرجت منيرة من غرفة الفُرن البلدي وهي تحمل بين يديها إناءًا من الفخار الساخن بواسطة قطعتين من القماش القطني المستهلك ليحمي كفيها من سخونة الإناء،تحدثت سريعًا وهي تقترب من تلك المائدة الخشبية المنخفضة(الطبلية):
-وسعي مكان على الطبلية لطاجن الرز يا إيثار
أسرعت لتفسح المكان،وهتفت وهي تنظر للطعام الموجود داخل الإناء بلونه الذهبي المُشهي:
-يا سلام يا ماما على الريحة
واسترسلت بملاطفة وهي ترفع قامتها بمزاح:
-الست منيرة بعون الله أحسن واحدة بتعمل طاجن رز معمر بالحمام في كفر الشيخ كلها
ابتسمت بوهنٍ لتشير لها بكفها إلى حُجرتها الخاصة بها:
-طب روحي غيري هدومك بسرعة عشان تيجي تغرفي باقي الأكل وتطلعيه مع مرات أخوكِ
قطبت جبينها لتتحدث باستياء مصطنع تداري به ألم قلبها المنشطر:
-هو أنتِ على طول كدة معايا يا ماما،طب خديني في حضنك ولا حتى قولي لي حمدالله على السلامة
زفرت لتهتف بضجر:
-يا بنتي سيبك من المياعة اللي إنتِ فيها دي وخلصي
واستطردت بملامح وجه مكفهرة:
-إخواتك لسة راجعين من الأرض كانوا شغالين فيها من صباحية ربنا وواقعين من الجوع
تنفست بيأسٍ ومالت برأسها للأسفل لتتحدث بصوتٍ خفيض مليئًا بخيبة الأمل:
-حاضر يا ماما
انصرفت منيرة لغرفة الخبيز لتباشر ما تبقى داخل الفرن ووقفت هي تنظر لأثرها،تنهد والدها بأسى لأجلها،يشعر بتمزق روحها الدائم من معاملة تلك القاسية لها،لذا يحاول جاهدًا أن يعاملها بلُطفٍ وحنان ليقوم بتعويضها ولو قليلاً، تحدث في محاولة منه للتخفيف من وطأة حزنها:
-متزعليش من أمك يا “إيثار”،دي غلبانة،أمها ماتت وهي صغيرة واتربت على إيد مرات أبوها وشافت معاها اللي متستحملوش عيلة عندها تمن سنين
واسترسل مبررًا:
-غصب عنها يا بنتي،هي بتحبك،بس مبتعرفش تعبر
رسمت على ثغرها إبتسامة مُرة لتومي برأسها وانسحبت سريعًا للداخل لتبديل ثيابها،ولجت إلى المطبخ لتجد زوجة شقيقها الكبير”نسرين”تسكب الطعام فاقتربت منها قائلة بصوتٍ خالي من المشاعر:
-إزيك يا نسرين
إلتفت برأسها لتتطلع إليها بابتسامة صفراء لتقول بترحيبٍ مفتعل يرجع لحقدها الشديد لها:
-حمدالله على السلامة يا إيثار،جيتي إمتى محسيتش بيكِ؟
بصوتٍ هاديء أجابتها وهي تتناول أحد الصحون استعدادًا لنقله للخارج:
-لسة واصلة من حوالي ربع ساعة
-ده عزيز هيفرح قوي لما يشوفك،إنتِ متعرفيش هو بيحبك قد إيه…قالتها برياء قابلته الأخرى بتنهيدة هادئة لتيقنها أن شقيقها لا يحمل بقلبه الحب لأحداً سوى حاله وولدهُ وتلك العقربة وفقط
خرجت وجدت أشقاءها الثلاثة قد ولجوا لبهو المنزل واصطفوا حول المائدة الأرضية بجوار والدهم، ما أن رأها” أيهم” شقيقها الذي يصغرها بثلاثة أعوام حتى انتفض وهب واقفاً ليحمل عنها الصَحن ليضعه سريعًا ثم يعود محتضنًا إياها قائلاً بحفاوة وترحاب:
-وحشتيني،جيتي إمتى؟
إبتسامة واسعة بينت صفي أسنانها ظهرت على محياها لتجيبه بسرورٍ:
-لسة جاية من شوية،إنتَ عامل إيه في مذاكرتك، طمني عليك
-محدش راحمني ولا مقدر إني في ثانوية عامة، وعلى إيدك لسة راجع من الشغل في الارض بعد عزيز ما صمم ياخدني معاه…نطق كلماته المتذمرة وهو يرمق عزيز بنظراتٍ ساخطة ليقول الاخر بحدة:
-إنتَ مقضيها نوم طول اليوم ومبتفتحش كتاب ولما عزيز ياخدك تساعد وتعمل حاجة مفيدة يبقى كفر
مدت له يدها قائلة بعينين متطلعة:
-أزيك يا عزيز
أجابها دون أن يلتفت إليها قائلا بجمود بعدما مد يده وسحبها سريعًا:
-الله يسلمك يا إيثار
تألمت على معاملة شقيقها الجافة التي لا تجد لها سببًا، حولت بصرها إلى وجدي الذي قابلها بابتسامة صافية مما جعل قلبها يهدأ قليلًا وما زاد من سعادتها هو حديثه المريح:
-حمدالله على سلامتك يا إيثار، حطي اللي في إيدك وتعالي إقعدي جنبي علشان تتغدي
ابتسمت بسعادة لاهتمامه ليكمل والده على حديثه قائلاً بلُطف وهو يشير بجواره:
-تعالي يا بنتي تلاقيكي ميتة من الجوع
كادت أن تتحرك باغتتها تلك التي احتضنتها من الخلف وهي تقول بحفاوة:
-حمدالله على سلامتك يا قمر، وأنا أقول البيت منور كدة ليه
ابتسمت لترحاب “نوارة” زوجة “وجدي” شقيقها الاوسط والتفت لها تبادلها الاحضان لتهتف بسعادة لتلك البشوش تحت غضب نسرين التي رمقتها بحقدٍ ظهر بعينيها ولم تستطع تخبأته:
-ازيك يا نوارة
واسترسلت وهي تنظر لبطنها المنتفخ جراء وصولها لشهرها التاسع بالحمل:
-عاملة ايه وأخبار غانم الصغير إيه؟
-محدش هيسمى غانم تاني،هو غانم الصغير واحد بس…جملة جافة نطقت بها “نسرين”تنم عن غيرتها الواضحة بعدما علمت نوع المولود،بينما نطق عزيز بتفاخر:
-اللي سبق كل النبق يا نسرين
قالها ومد يده ليجذب صغيره ذو الثلاثة أعوام والذي أطلق عليه إسم غانم تيمنًا باسم والده للتباهي ليجلسهُ بأحضانه، ثم حول بصره ليتطلع لشقيقه مسترسلاً بمشاكسة حادة:
-قول لعمك يختار له إسم تاني يا غانم باشا
ابتسامة خافتة ارتسمت على ثغر”وجدي”ليداري بها حرجه من حديث عزيز الذي اتخذ من اسم والدهُ حكرًا،ليتحدث والدهما بتعقل:
-وفيها إيه لما اخوك يسمي إبنه على اسم جده يا عزيز، ولا تكونش خدت الإسم على حسابك إنتَ ومراتك
احتدم صدره غيظًا من دفاع والده ليتحدث بصفاقة وحقد:
-طب ولازمته إيه التقليد يا ابا،ما الأسامي كتير يختار منها براحته هو ومراته،ولا هو الكل لازم يبص لعزيز ويقلده في أي حاجة يعملها
قطبت جبينها بتعجب وهي ترى هجوم شقيقها الحاد وطباعة التي تزداد سوءًا يومًا تلو الأخر وبالاخص بعد زواجه من تلك الحقودة نسرين،احتدت ملامح غانم وهم بالحديث لولا صوت وجدي الذي قاطعه قائلاً كي ينهي ذاك الجدال الدائر:
-لا تقليد ولا غيره يا عزيز، إبني هسميه خالد إن شاءالله
هز الأب رأسه بيأسٍ ثم تنفس ونظر لصغيرته قائلاً:
-أقعدي يا بنتي كلي
واسترسل وهو ينظر لزوجتي نجلاه برحمة:
-أقعدوا يا بنات واندهوا لحماتكم
هتفت منيرة التي ولجت للتو ممسكة بصينية كبيرة:
-أنا جيت أهو
هتف أيهم بعينين تلتمعان وهو يتطلع لصينية اللحوم قائلاً بحفاوة:
-دكرين بط وحمام مع بعض،أم عزيز مطرياها علينا على الأخر النهاردة
ابتسمت لتقول بعدما افترشت الأرض لتجاور زوجها:
-مش شقيانين من صباحية ربنا في شغل الأرض
قالتها لتحول بصرها إلى إيثار وهي تقوم بتقطيع اللحوم بكفي يديها:
-وكمان علشان أختك تتقوت بلقمة حلوة، تلاقيها يا حبة عيني مبتدوقش الزفر (اللحوم بأنواعها) إلا كل فين وفين
اشتدت سعادتها عندما رأت إهتمام والدتها بها ولو بكلمة، لطالما تمنت أن تأخذها تلك القاسية بداخل أحضانها كما تفعل الأمهات سواءًا من تشاهدهم في الأفلام والمسلسلات عبر جهاز التلفاز أو صديقاتها اللواتي دائمًا ما كُن يبلغاها عن مدى حنان أمهاتهِن
أمسكت منيرة بقطع اللحم وبدأت بتوزيعها بالأول زوجها ويليه عزيز أول من رأت عينيها وصاحب النصيب الأكبر من إمتلاك قلبها، يليه وجدي ثم أيهم وأتى ترتيبها بعدهم وتلتها زوجتي نجليها،بدأ الجميع بالتهام الطعام بنهمٍ يرجع لشدة مذاقة الطيب،بسطت منيرة يدها بقطعة اخرى من اللحم وهي تناولها إلى نوارة لتتحدث بارتياح:
-كلي دي يا نوارة علشان اللي في بطنك يتغذى
ابتسمت لها وتناولتها قائلة بحفاوة ترجع لاهتمام والدة زوجها:
-تسلم إيدك يا ماما
لوت نسرين فاهها مغمغمة بضيق:
-كلي يا حبيبتي كُلي
سأل وجدي شقيقته باهتمام وهو يلوك الطعام بفمه:
-عاملة إيه في المذاكرة يا إيثار
هتفت بحماسٍ أضفى زهوًا فوق ملامحها ليزيدها جمالاً:
– الحمدلله،بذاكر وبجتهد علشان أجيب تقدير زي كل سنة،دكتورة هالة رئيسة القسم أكدت لي إني لو جبت تقدير السنة دي كمان والسنة الجاية هتعين معيدة وبعدها هكمل دراسات عُليا
قالتها بانتشاء اختفى حال سماعها لصوت عزيز الحاد حيث هتف بفمٍ مليء بالطعام وهو يرمقها بازدراء:
-كلام إيه الفارغ اللي بتقوليه ده،إحمدي ربنا إننا خلناكي كملتي تعليم أصلاً
واستطرد موضحًا:
-بعد إمتحاناتك بأسبوع هبعت لـ سليم إبن خالك علشان ييجي يتمم خطوبته عليكِ، الراجل كتر خيره صبر على دلعك كتير، والسنة اللي باقية لك إبقي كمليها في بيته لو وافق
أثنت على حديثه منيرة لتقول بتصديق:
-عين العقل يا عزيز، البنت في الأخر ملهاش إلا الجواز والسُترة
لتهتف نسرين وهي ترمق إيثار بتشفي ظهر جليًا بصوتها ووجها الضاحك:
-يسلم فُمك يا حماتي
لم تكترث لتلك الثرثارة وكأنها والعدم سواء وأيضًا جنبت حديث والدتها لتيقنها أنها تابع لنجلها البكري ليس إلا، لتنظر إليه بفزعٍ هاتفة بصوتٍ مضطرب حاولت أن تتحكم فيه قدر الإمكان إحترامًا لوالدها ولعدم إثارت غضب ذاك الجاحد:
-بغض النظر عن موضوع تكملة تعليمي اللي لسة هنتكلم فيه
قالتها بحدة تنم عن صدمتها لتسترسل متسائلة باستنكار:
-لكن أنا أمتى قولت إني موافقة على جوازي من سليم؟!
لتستطرد معترضة:
-وبعدين سليم مكملش تعليمه،ده معاه دبلوم يا عزيز!
رمقها مستنكرًا ليقول بغلاظة:
-ومن أمتى البنت كان ليها رأي في جوازها يا ست إيثار،وماله الدبلوم ما أنا كمان معايا دبلوم،ولا إكمنك كملتي تعليمك هتتكبري على أهلك وتكسري كلمة أبوكِ؟
وإلى هنا لم يستطع غانم الصمت أكثر بعدما أثار حفيظته حديث نجله البكري ليقول بنبرة صارمة:
-وأبوها لسة عايش وحِسه في الدنيا ومداش كلمة لخالك علشان أختك تكسرها يا سي عزيز، ولا أنتَ خلاص إعتبرتني ميت وبتتحكم في أختك قدامي
حزنت نوارة لأجل تلك المشتتة بين الجميع أما عزيز فابتلع الطعام بصعوبة لتقول منيرة في مساندة منها ودفاعًا عن نجلها:
-بعد الشر عنك يا أخويا، عزيز عاوز المصلحة لأخته،البت مهما اتعلمت وراحت وجت أخرتها الجواز
-حرام عليكِ يا ماما، بطلي تيجي عليا علشان خاطر ترضي عزيز…نطقتها بعينين لائمتين لامعتين تأثرًا بملئهما بالدموع التي أبت النزول إمتثالاً لكرامتها لتهتف الأخرى باقتناع:
-أخوكِ أكتر واحد عارف مصلحتك
بدا الامتعاضُ على وجهها ليقول وجدي بهدوء:
-إهدي يا إيثار وفكري بعقلك شوية،وبصراحة بقى عزيز معاه حق في اللي قاله
اتسعت عينيها بذهول لتهمس بصدمة:
-حتى أنتَ كمان يا وجدي!
أجابها بالمنطق محاولاً إقناعها:
-يا حبيبتي إفهمي،إنتِ خلاص داخلة على واحد وعشرين سنة،وده سن حلو قوي للجواز، بعد كدة فرصك كل يوم هتقل،ويا ستي لو على السنة الباقية أنا هبقى اشرط على سليم يخليكي تكملي
قطبت جبينها متعجبه منطقه الغريب المنافي مع تفكيرها العصري لتنظر لوالدها مستنجدة ليهدأها بحديثه قليلاً:
-كملي أكلك يا بنتي وبعدين نبقى نتكلم.
ابتسمت بخفوت ليباغتها صوت والدتها الحاد:
-والله ماحد مقوي قلبها على أخوها الكبير ومخليها تكسر كلمته غيرك يا غانم،أخوها بيختار لها الصالح،ده غير إني اديت كلمة لـ عزت أخويا إن أول ما إيثار تخلص السنة دي هنقرا الفاتحة ونجيب الشبكة والفرح في شهر تسعة
-والله عال يا ست منيرة،قاعدة تتكلمي وتتفقي مع أخوكِ ولا عملالي حساب… استمعت لمناوشات والديها وأصوات أشقائها الثلاث ونسرين التي استغلت الوضع وبدأت الأصوات تتعالى وتتداخل لتهب واقفة وما أن تحركت بقدميها للخارج حتى أوقفها صوت والدها الحزين قائلاً:
-رايحة فين يا بنتي،تعالي كُلي نايبك.
شبعت يا بابا…بالكاد خرجت كلماتها بصوتٍ مختنق وبتخاذل واضح وانكسار ظهر بوضوح فوق ملامحها فرقت نظراتها على الجميع قبل أن تهرول لغرفتها ليهتف والدها معنفًا الجميع:
-حرام عليكم يا ناس،محلالكمش الكلام غير والمسكينة قاعدة على الطبلية، زي ما تكونوا مستخسرين اللقمة فيها ومش عاوزينها تاكلها بنفس
استند بكفيه المشققتين من أفعال الزمن على طرفي المنضدة ليقوم بظهرٍ محني لتسأله منيرة باستغراب:
-رايح فين يا غانم، إقعد يا راجل كمل أكلتك
-سديتوا نفسي إنتِ وعيالك…قالها لينسحب للخارج ليقول عزيز بنبرة حاقدة:
-رايح يراضي السنيورة حبيبة أبوها، طب والله لو أنا اللي سيبت الاكل وقومت ولا كان اتهزت له شعرة
-ماخلاص بقى يا عزيز، كمل أكلك وإنتَ ساكت…قالها وجدي ليرمقه الاخر بنظرة حاقدة أما أيهم فنهض بحدة لتسأله والدته متعجبة:
-رايح فين إنتَ كمان؟
-طالع أشم شوية هوا قدام الباب،قاعدتكم تخنق…قال جملته الاخيرة وهو يرمقهم باشمئزاز وانطلق للخارج خزنًا على شقيقته،زفرت منيرة لتهتف بسخطٍ وهي تنظر للطعام:
-يا ستار يارب،اللقمة اتسممت علينا زي ما تكون مبصوص لها
اكفهرت ملامح عزيز ليهتف بحقدٍ:
-البركة في بنتك،كل ما تيجي تولع البيت حريقة
قطب وجدي جبينه ليتساءل مستفسرًا بتعجب:
-وإيثار ذنبها إيه في اللي حصل؟!
اتسعت عيني نسرين لتقول بوقاحة:
-وده سؤال بردو يا وجدي،ما كل اللي حصل ده بسبب كلامها ورفضها لجوازها من سليم إبن خالك
وبفمٍ ملتوي استرسلت باستنكار وحقدٍ ظهر بعينيها:
– قال وإيه عايزة تكمل علام تاني بعد الكلية،ده بدل ما تحمد ربنا إن عزيز رضي يخليها تكمل بعد الثانوية ومقعدهاش
هزت نوارة رأسها بيأسٍ لبجاحة تلك التي تتدخل في شؤون الجميع دون حياء وتألم داخلها لما تحمله في قلبها من مَعَزَّة لتلك الهادئة “إيثار” لتتحول عيني وجدي لمشتعلة وهو يقول معترضًا:
-اللي يسمع كلامك يفتكر إن عزيز هو اللي بيصرف عليها يا ست”نسرين”،ربنا يخلي أبوها ويديه طولت العمر.
-وانتَ إيه اللي مزعلك يا عم وجدي،وبعدين مراتي مغلطتش في حاجة، أنا أخوها الكبير وكلمتي تمشي سيف على رقبتها،والله لو أبوك يحوش إيده عنها لكنت مشيتها لكم زي السيف وعلمتها الأدب…قالها بنظرة صارمة وتوعد، هم الأخر ليتحدث اوقفه صياح منيرة التي هتفت بعدما فاض الكيل بها:
-كفياكم مناقرة،هي اللقمة دي مش مكتوب لها تتبلع من سكات النهاردة ولا إيه
نظرا كلٍ منهما للاخر بحدة بالغة وكأنهما ثوران يتصارعان داخل حلبة ليسحب كل منهما بصره عن الاخر ويستكملا تناول طعامهما بغضبٍ شديد
******
عودة لحُجرة إيثار،ارتمت فوق فراشها وبدأت ببكاءٍ مرير لتتوقف في الحال حينما استمعت لصوت طرقات فوق بابها وبدأت بتجفيف دموعها لتتفاجأ بولوج والدها،جلس بجوارها وبدون مقدمات سحبها لداخل أحضانها ليقول وهو يربت فوق ظهرها بحنان:
-زعلانة وبتعيطي وابوكِ عايش على وش الدنيا،أُمال أما أموت هتعملي إيه
خرجت سريعًا من بين احضانه لتهتف بذعرٍ:
-بعد الشر عنك يا بابا،متقولش كدة
-الموت مش شر يا بنتي،الموت علينا حق…نطقها بيقين ليسترسل بعد أن أخذ نفسًا عميقًا:
-المهم،أنا مش عايزك تزعلي ولا تشيلي هم لأي حاجة طول ما أنا عايش
-يعني هترفض سليم إبن خالي يا بابا؟…سألته بترقب ليجيبها بتأكيد قوي:
-من ساعة ما اتولدتي وأنا عمري ما غصبتك على حاجة،هاجي على جوازك وأغصبك؟!
تنفست براحة وابتسم وجهها لتقول بانتشاء:
-ربنا يخليك ليا يا بابا وتفضل طول عمرك سندي
ابتسم لها ليتحدث وهو يربت على كفها بلين:
-يلا علشان تكملي غداكي
-مليش نفس…نطقتها بعينين منكسرتين ليقول بتعطُف كي يحثها على النهوض معه:
-من صباحية ربنا وانا مدقتش الأكل وجعان، ولو مقومتيش كلتي معايا مش هدوقه وذنبي هيبقى في رقبتك
ابتسامة حنون ارتسمت فوق ثغرها لتميل سريعًا على كف يده لتضع قُبلة احترام وتبجيل لشخص والدها الحنون، وقف وتحرك بجوارها حتى وصلا للبهو ثم تحدث بصوتٍ حاد وهو يرمق الجميع:
-مش كلتوا، يلا قوموا
زفر عزيز وهب واقفاً ليقترب من شقيقته ويرمقها بحدة قبل ان ينسحب للخارج كالإعصار
،جاورت والدها الجلوس لتكمل طعامها دون تذوق بعدما فقدت شهيتها،وبعد قليل كانت تقف أمام حوض المطبخ تُجلي الصحون وبجوارها نوارة تتبادلتان الحديث فيما بينهما لتسألها نوارة بفضول:
-إلا قولي لي يا إيثار،هو عمي غانم جاب الإسم اللي سماكي بيه ده منين؟
ابتسمت إيثار بشدة لتسترسل الاخرى موضحة:
-أصل إسمك غريب قوي على بلدنا،ومتزعليش مني،عمي غانم راجل بسيط زي أبويا،منين عرف الإسم ده؟!
-لو تعرفي كام حد سألني السؤال ده هتستغربي…قالتها بهدوء لتسترسل بانتشاء:
-بصي يا ستي،لما ماما كانت حامل فيا حصل لها نزيف وبابا اضطر يوديها المستشفى اللي في المركز علشان يكشف عليها، الدكتورة اللي كشفت على ماما كانت من اليمن ومتجوزة دكتور مصري، بابا وقتها عجبه إسمها قوي،ولما عملت لماما سونار وقالت له إني بنت بابا قرر يسميني على إسمها، وكان نفسه قوي أطلع دكتورة زيها
لتسترسل بملامح متأثرة:
-بس أنا خزلته ومجبتش مجموع في الثانوية، علشان كدة أنا بجتهد ومصممة أجيب تقدير عالي كل سنة علشان أتعين معيدة في الجامعة، وكدة ابقى حققت لأبويا حلمه وفي نفس الوقت عملت كرير محترم لنفسي
-دي حكاية ولا الحواديت…قالتها بانبهار لتسترسل بانتشاء:
-تعرفي يا إيثار،أنا بحبك قوي وببقى مبسوطة وأنا شيفاكي بتنجحي وراسمة لنفسك مستقبل حلو
واستطردت بحسرة ظهرت فوق ملامحها:
-انا كان نفسي أكمل تعليمي قوي زي باقي أصحابي،بس الله يسامحه أبويا طلعني من تالتة ثانوي أول ما وجدي اتقدم لي،اترجيته يسيبني اكمل،ساعتها قال لي نفس كلمة أمك اللي قالتها لك،البت مهما اتعلمت وراحت وجت اخرتها الجواز
ابتسمت إيثار وقالت لتخفف عنها وطأة حزنها:
-بس وجدي طيب وبيحبك يا نوارة،وممكن لما ظروفكم تتعدل تستأذنيه في إنك تكملي تعليمك
ضحكت نوارة لتقول برضا:
-والنبي إنتِ رايقة يا إيثار، هو بعد العيد يتفتل الكحك.
ضحكتا من قلبيهما ليقطع اندماجهما دخول تلك الـ “نسرين” حيث قالت بنبرة ساخرة وهي تتطلع إلى ضحكة إيثار الواسعة:
-ده أنتِ غريبة قوي يا إيثار،ولعتي الدنيا في بعضيها ونكدتي على أبوكِ وأخواتك وقاعدة هنا تضحكي ولا على بالك
-أنا اللي ولعت الدنيا في بعضها ولا جوزك… قالتها بملامح وجه مكفهرة لترد الأخرى بخُبث:
-جوزي ده يبقى أخوكِ اللي خايف على مصلحتك،يعني الحق عليه اللي عاوز يسترك قبل ما تعنسي
أعنس!…نطقتها بازدراء لتقول نوارة بعد أن قررت التدخُل لفض تلك المناوشة قبل أن تتطور:
-عيب الكلام ده يا نسرين
رفعت شفتها العلوى بتهكم لتقول متعجبة:
-وإيه العيب في اللي أنا قولته يا نوارة، بقيت غلطانة علشان خايفة على أخت جوزي!
لتحول بصرها للأخرى وهي تقول بلؤمٍ:
-إنتِ داخلة على اتنين وعشرين سنة يا حبيبتي،وده سن محدش وصل له قبل كدة من غير جواز في بلدنا، حتى بنات العائلات الكبيرة بيتجوزوا ويكملوا تعليمهم في بيوت إجوازهم
-دي حاجة تخصني لوحدي ومسمحلكيش تتكلمي فيها…قالت جملتها بصرامة لتستطرد ساخرة وهي تشملها بتهكم كي ترد لها الصاع صاعين:
-وبعدين هما اللي اتجوزوا كانوا خدوا إيه،واديكي اكبر مثال قدامي أهو
اشتعل قلبها وبلحظة احتدت عينيها لتهتف وهي ترمقها ببغضٍ شديد:
-خدت كتير يا حبيبتي، لقيت راجل يحبني ويتمنى لي الرضا،وستتني في بيته وجبت له ولد زي القمر وحامل في شهرين وكلها سبع شهور واجيب الولد الثاني
-هي دي إنجازاتك!.. نطقتها ساخرة لتقطع تلك المناوشة الكلامية الحادة ولوج منيرة لتقول بملامح وجه صارمة:
-إعملي شاي للرجالة وطلعيه يا نسرين
استدارت إيثار لتولي ظهرها لوالدتها دون عناء النظر لوجهها متعللة باستكمال جلي الاواني،زفرت منيرة لتيقنها غضب صغيرتها منها لكنها لم تهتم وخرجت من المطبخ،انتهت إيثار من الجلي واتجهت إلى غرفتها لتأخذ ملابس لها وتتجه نحو الحمام لتغتسل كي تريح جسدها وبعدها اتجهت لغرفتها من جديد لتؤدي صلاة العصر،انتهت وجلست على فراشها تسترجع دروسها ليقطع تركيزها دخول والدتها المفاجئ، نظرت لها باستغراب لتقول بضيق:
-ياريت ياماما تبطلي تدخلي عليا من غير ما تخبطي
قطبت جبينها لتجيبها بحدة:
-مبقاش ناقص إلا إني اخد الإذن منك يا ست إيثار
زفرت لتجيبها بإبانة:
-مش قصة إستئذان، بس افرضي إني بغير هدومي
-أنا عارفة إنك بتغيري في الحمام، وبعدين سيبك من الرغي الكتير وخلينا في المهم…قالتها باهتمام لتنتبه الأخرى لها، اتجهت وجاورتها الجلوس لتسترسل:
-جهزي نفسك وإلبسي فستان حلو عشان تروحي معايا حِنة أمل بنت حليمة بنت عمي حسين
لم تتمالك حالها لتهتف متذمرة:
-وأنا مالي بحنة أمل دي كمان، أنا عندي مذاكرة ومش فاضية للكلام ده
واسترسلت متعجبة:
-وبعدين أمل دي أنا مشفتهاش مرتين تلاتة على بعض والكلام ده كان من سنين عند جدي الكبير الله يرحمه
اجابت لاقناعها:
-يا بنتي عيب اللي بتقوليه ده،حليمة تبقى بنت عمي وطول عمرها صاحبة واجب معايا، دي منقطاني في فرح إخواتك الإتنين
ردت مفسرة:
-أنا مطلبتش منك متروحيش،بس كمان متجبرنيش أسيب مذاكرتي وأروح اضيع وقتي في مجاملات شكلية
وصلت منيرة لذروة غضبها من تلك المتمردة صعبة المراس والتي ستهدم لها مخطتها،فبرغم ان نجل شقيقها قد طلب إيثار للزواج بها إلا أنها تطمع دائمًا للأعلى حيث فكرت بأن تصطحب إبنتها الجميلة لحفل إبنة عائلة عريقة كعائلة البنهاوي وهي أكبر عائلة بالبلدة بل بالمركز بأكمله،لذا خططت بأن تجعلها ترتدي أفضل ما عندها من ثياب لربما تُعجب بها إحدى سيدات العائلة وتختارها زوجة لنجلٍ لها،حاولت تهدأة حالها لتقول بنبرة مصطنعة علها تستطيع تليين عقل تلك العنيدة بتلك الكلمات المفخمة للذات:
-طب وإن قولت لك إني عايزة اخدك معايا اتباهى بيكِ قدام حريم البنهاوية وحريم البلد كلهم بردوا هتكسفيني؟
ضيقت بين حاجبيها تتعمق بالنظر لمقلتي والدتها في تعجب لتفكيرها لتباغتها الأخرى كي لا تدع لها الفرصة بالرفض:
-خليني أتباهي وسط الناس ببنتي المتعلمة ومتكسريش خاطري
لاَنَ قلبها بعد حديث والدتها ونظراتها المتوسلة التي تراها للمرة الأولى لتقول بابتسامة هادئة:
-حاضر يا ماما، هروح علشان خاطرك
انتفضت الاخرى من جلوسها لتتحدث بانتشاء وفرحة لم ترهما عيني إيثار من ذي قبل:
-طب قومي جهزي نفسك وابقي البسي الفستان اللي كنتي جيباه لخطوبة صاحبتك بتاعت مصر
تنفست باستسلام لتجيبها بكثيرًا من العقل التي تتسم به شخصيتها الصلبة:
-لسة بدري يا ماما،خيني أذاكر شوية وبعد ما اصلي المغرب هلبس
-لا ما أنا هبعت أجيب لك البت كريمة الكوافيرة عشان تنضف لك وشك وحواجبك…قالتها بانتشاء تعجبت منه الإبنة لتقول باستغراب ظهر بَين فوق ملامحها:
-ليه ده كله، دي حنة أمل مش حنتي أنا يا ماما؟!
زفرت بقوة لتهتف بحدة وسخطٍ بعدما فقدت صبرها:
-هو أنا مش مكتوب لي اسمع كلمة حاضر منك خالص،هتفضلي واجعالي قلبي لحد امتى؟
هبت واقفة لتقول سريعًا في محاولة منها لمراضاتها:
-خلاص حقك عليا، هعمل لك كل اللي إنتِ عوزاه
وقفت تتطلع عليها بملامح حادة غاضبة لتقول الأخرى بابتسامة هادئة عليها تستطيع إضحاك صاحبة الوجه القاسي ولو لمرة:
-خلاص بقى متزعليش.
تنفست بهدوء ولانت ملامحها لتقول:
-هروح أبعت للبت كريمة على ما تجهزي نفسك
قالتها وتحركت سريعًا للخارج دون انتظار الرد، تنفست الصعداء لتلقي حالها فوق الفراش وهي تزفر بضيق
*****”*****
أتى الليل ليخيم الظلام على الكون،خرجت من حُجرتها وهي ترتدي ذاك الثوب الرقيق والذي بدا وكأنه صنع خصيصًا ليجعل منها أيقونة جمال وانوثة تتحركان فوق الارض،كان مصنوعًا من قماش الستان باللون الأزرق ليظهر بياض بشرتها الحليبية،ضيقًا من عند الصَدر والخصر لينزل باتساع كبير اظهر تقاسيم جسدها مما جعل كل من يراها ينبهر، اشتعل قلب نسرين حين رأتها تتحرك صوبها هي ونوارة واللواتي كانتا ترتديتان ثوبان متواضعان مما جعل نسرين تهتف بحدة:
-مش يلا بينا يا حماتي، إتأخرنا وإحنا مستنيين، الحنة زمانها بدأت من ياما
كانت أعين منيرة منبهرة بجمال ابنتها فأجابت وهي مسلطة عينيها فوق إيثار:
-اسبقيني انتِ ونوارة وانا وإيثار هنحصلكم
بالفعل تحركتا وبعد قليل ذهبت بصحبة ابنتها،وصلا إلى الشارع المؤدي لمنزل والد العروس،نظرت منيرة لتلك الفراشة المنصوبة للرجال (الصوان) وما تحتويه من طاولات مرصوص عليها جُل ما لذ وطاب من حلوى وفاكهة ومسليات، كان يقف بالمقدمة ليستقبل المهنئين بجانب أبناء عمومته من الشباب،خرج ليتناول سيجارة ينفث بها عن حاله بعيدا عن أعين والده ليتسع بؤبؤ عينيه ذهولاً بعدما رأها وهو يتفقد المكان، نعم هي تلك التي سلبته لُبه منذ أن رأها ظهر اليوم ومن حينها وللأن لم تغب عن تفكيرة ولو لحظة،وقف لحظات حتى استوعب رؤيته لتلك الفاتنة،ترك تفكيره وتلك الأسئلة التي اقتحمت مخيلته ليهرول إليها بعدما رأى من تجاورها وتأكد من شخصها،اقبل عليهما ليهتف بترجابٍ عال وهو يقول:
-يا أهلاً وسهلاً يا خالتي منيرة، نورتي الحنة
قطبت جبينها لتدقق النظر بملامح ذاك المهلل والتي صعب على ذاكرتها تحديد شخصه ليسترسل بلهفة:
-إنتِ مش فكراني يا خالتي، أنا عمرو إبن الحاج نصر البنهاوي،كنت زميل وجدي في الثانوية العامة وياما جيت عندكم علشان أذاكر معاه وهو كان بييجي عندي ناخد الدروس ونذاكر
تهلل وجهها لتجيبه بتذكُر:
-إفتكرتك، ماشاء الله يا عمرو،شكلك اتغير خالص عن زمان،كبرت وبقيت راجل تختشي العين تبص له
حول بصره لإيثار التي تستمع بلامبالاة وكأن الأمر لا يعنيها ليتحدث وهو يرمقها منبهرًا بجمالها الذي تضاعف عما رأها ظهر اليوم بفضل زينتها وثوبها المنمق:
-تشكري يا خالتي
زاغت عينيها لتلتمع ببريق الأمل وهي ترى تحملقهُ بابنتها لتقول بدلال عاتبة عليه:
-بس أنا زعلانة منك يا عمرو،من ساعة ماخلصتوا الثانوية لا عُدت بتسأل ولا كأنك كنت زملا أنتَ و وجدي، طب حتى كنت إسأل على خالتك منيرة
واستطردت بفكاهة:
-يخونك محشي الكرنب اللي كنت بتاكله عندي لما تتأخر في المذاكرة مع وجدي؟
ضحك ومازالت عيناه معلقة بتلك الجميلة ليقول بملاطفة:
-حقك عليا يا خالتي،بس إنتِ عارفة الدنيا تلاهي
أجابته بلمعة بعينيها:
-الله يكون في عونك يا ابني،أرض الحاج نصر وأملاكه ياما ومحتاجة اللي يحميها ويراعيها
تبسم ثغرها وهي تراه مازال معلقًا مقلتيه بإيثار ليتحدث مستفسرًا بعدما فقد سيطرته جراء شغفه لمعرفة شخصها:
-أنا شفتك النهاردة في الموقف، هو أنتِ تقربي لخالتي منيرة؟
قطبت جبينها متعجبة جرأته لتهتف منيرة بإيجاب لتُشبع رغبته الملحة في المعرفة والتي ظهرت بينة بمقلتاه:
-هو انتَ مش عارفها يا عمرو، دي إيثار بنتي
التمعت عينيه ذهولاً ليقول:
-معقولة، إنتِ إيثار؟!
ليسترسل منبهرًا:
-شكلك إتغير قوي عن زمان
كِبرت وادورت وخرطها خراط البنات… كلمات نطقتها منيرة وهي تلوي رأسها بتفاخر لترمقها إيثار بحدة بعدما شعرت بالخجل الشديد لتقول بصوتٍ مرتبك:
-ماما، إيه اللي بتقوليه ده!
ابتسم عمرو على خجلها الذي زاد من توهج وجنتيها ليزيد من اشتعال قلبه وحرارته لتهتف الأخرى بلامبالاة غير عابئة بمشاعر صغيرتها البريئة:
-مكسوفة من إيه ده عمرو زي أخوكِ وجدي بالظبط
اغتاظت من والدتها وتحدثت بحدة أظهرت كم حنقها:
-ممكن ندخل الفرح بدل وقفتنا في الشارع اللي ملهاش لازمة دي
برغم سعادتها باعجاب عمرو الظاهر عليه إلا أنها كانت تشتعل داخليًا لتخشب تلك الحمقاء ونظراتها الحادة،تغاضت عن غضبها لتتحدث وهي تُشير بيدها نحو منزل العروس:
-يلا يا حبيبتي
أوقفها متلهفًا ليقول باهتمام:
-الفرح معمول على السطوح فوق يا خالتي
واسترسل وهو يتقدمهم:
-اتفضلوا أوصلكم
تحركتا خلفه وصعد ثلاثتهم الدرج إلى أن وصلوا لمكان إقامة الحفل،انسحب عمرو بهدوء ليترك منيرة تتلفت حولها بانبهار لتلك الطاولات المرصوصة والمزينة بمفارش بيضاء حملقت عينيها على الفاكهة والحلوى وزجاجات المياه الغازية الموضوعة فوقها بانتظام،لقد تحول السطوح وكأنه قاعة أفراح بفضل تلك الزينة المعلقة والمحاوطة للمساحة بأكملها، أما المكان المخصص لجلوس العروس فكان مبهرجًا وجاذبًا للعين، تحركت خلف والدتها لتقابلهما والدة العروس بترحاب شديد يرجع لقرابتها لمنيرة:
-يا أهلا وسهلا يا ام عزيز،نورتي الحنة يا بنت عمي هتفت بامتنان:
-تعيشي يا ام كريم،مبروك وربنا يتمم لكم بخير وتفرحي بعوضها إن شاءالله
التفتت المرأة إلى تلك الجميلة لتقول بانبهار ظهر بعينيها:
-صلاة النبي أحسن،كبرتي واحلويتي يا إيثار
تبسمت براحة لتتحدث بلطف سببه تقبلها لتلك السيدة اللطيفة والتي طالما عاملتها بتودُد:
-متشكرة يا خالتي،عيونك الحلوين
اشارت بكف يدها للداخل:
-تعالوا ادخلوا
تحركوا وهما في طريقهما للطاولة أخذت تلقي التحية والسلام على كل من تقابلها بطريقها إلى أن جلست بجوار زوجتي نجلاها اللتان سبقتاها إلى هنا،بعدما استقرت بجلوسها باتت تتفحص نساء العائلة لتتسع حدقة عينيها وهي تتحسر على حالها كلما نظرت ليديهن وصدورهُن وما يرتديهُن فيهم من حُلىٍ وأقراط مصنوعة من الذهب الخالص، بعد قليل نهضن الفتيات والتففن حول العروس وبدأن يتمايلن بخصورهن يمينًا ويسارًا ويتراقصن بانسجام مع إحدى الأغاني الشعبية، كانت تتابع ما يحدث بتملُل لشعورها أنها مختلفة عن تلك الطبقة،فجميعهُن خُلقن مدللات وطلباتهن مجابة لثراء عوائلهُن الفاحش لذا فهي مختلفة عنهن كليًا لكونها وُلدت لعائلة فقيرة بالكاد كانت تؤمن لها ولأشقائها المتاح من المأكل والملبس واحتياجات التعلُم من أدوات وثياب بسيطة وبرغم هذا أصرت على إكمال دراستها لتصنع لحالها مستقبل تستطيع من خلاله تغيير مسارها ،اندمجت بالحديث بصحبة نوارة إلى أن وجدت من تحتويها بذراعيها من الخلف قائلة بمداعبة:
-أنا مين؟
تعرفت على صوتها من الوهلة الأولى،إنها سُمية صديقتها المقربة بالثانوية العامة،تفرقا بالجامعة حيث إلتحقت إيثار بكلية التجارة بجامعة القاهرة بينما سمية فالتحقت بكلية الأداب جامعة المنصورة ولكن ظلت علاقتيهما قوية كالسابق حيث تتبادلتان الزيارات بمنزليهما كلما سنحت لهما الفرصة وتتحدثتان عبر الهاتف بشكل شبه يومي لذا اسرار كلتاهما لدى الأخرى،أُنير وجهها بابتسامة سعيدة لتقول بحبورٍ تجلى بصوتها الناعم:
-سُمية
اعتدلت لتهب واقفة لتلتف لتلك المبتسمة وتبادلتا عناقًا حميميًا لفت أنظار الجميع،تجاورتا الجلوس بعد أن صافحت منيرة وزوجتي نجلاها،وبدأتا الفتاتان بالهمس لتقول سمية مستفسرة:
-جيتي إمتى؟
لسة واصلة العصر…نطقتها ببشاشة وجه لتنهرها الاخرى بلومٍ مصطنع:
-ومتكلمنيش يا ندلة عشان أجي أشوفك؟
أطرقت برأسها قائلة بحزن:
-اسكتي يا سمية، أنا من ساعة ما وصلت البيت وأنا في حوارات
-ليه،إيه اللي حصل، إحكي لي…نطقتها بعينين يملؤهما الفضول لتجيبها الاخرى بإيجاز:
-هحكي لك بعدين
ثم ضيقت عينيها لتسألها باستغراب:
-بس أنا متوقعتش ألاقيكي هنا في الحنة
ليه يعني…قالتها باقتطاب لترد الاخرى:
-يعني،أصل لا العريس ولا العروسة قرايبك،فاستغربت بصراحة
غمزت لها بعينيها لتقول بانتشاء وهي تهمس بالقرب منها دون حياء:
-أقولك الصراحة،أنا جاية أشقط عريس
فغر فاهها لشهق بعينين متسعتين ذهولاً لشدة وقاحتها لتهتف الأخرى بتعجُل:
-إقفلي بقك هتفضحينا
لتسترسل بانتشاء:
-بصي يا إيثار، مش هكذب عليكِ،أنا طول عمري بحلم إني ادخل عيلة البنهاوي واتنغنغ في عزهم،وابقى غبية لو أضيع من إيدي فرصة زي فرح بنت جمال البنهاوي،علشان كدة أول ما عرفت إن الحنة النهاردة
لتقول وهي تحرك كفيها فوق خصرها المنحوت بتفاخر:
-إتشيكت ولبست أضيق حاجة عندي زي ما أنتِ شايفة وسحبت نفسي وجيت
كانت تستمع إليها بعقلٍ غير مستوعب حديثها لتسترسل الاخرى وهي تتناقل النظرات بين سيدات الحفل:
-معظم الستات اللي قاعدين دول عندهم شباب في سِن الجواز، مش يمكن حظي يضرب وأعجب واحدة منهم وتخطبني لابنها
هزت رأسها بتعجب لتجيبها باستنكار:
-وستات عيلة البنهاوي هيختاروكي على أساس إيه يا سُمية
تنهدت حين رأت استنكار صديقتها لتسترسل بإبانة:
-متزعليش مني،أنا مش قصدي اجرحك، بس إحنا غلابة قوي جنب الناس دي، ونهار ما واحدة منهم تفكر تخطب لابنها أكيد هتختار له عروسة من البنهاوية أو حتى بنت عيلة كبيرة زيهم
-خليكي إنتِ في تفكيرك الفقري ده لحد ما هتلاقي نفسك لابسة في سليم إبن خالك أبو دبلوم…نطقتها بازدراء ولوم لتغرق الاخرى بدوامة أحزانها فقد اصبح هاجسها الأكبر مؤخرًا هو أن يجبرها شقيقها على زواجها من ذاك السليم الذي لا يختلف كثيرًا بطباعه عن عزيز
لتسترسل الاخرى بتطلع وعينين حالمتين:
-أما أنا بقى هحقق حلمي وبكره أفكرك لما اتجوز واحد من شباب البنهاوية وأعيش معاه في العز، تعرفي، وأنا جاية وقفت عند الصوان بتاع فرح الرجالة وعملت نفسي بربط في الكوتشي بتاعي
لوت فاهها باحباط لتسترسل:
-كنت متأملة حد من شباب البنهاوية يطلع ويشوفني وأعجبه، بس حظي طلع فقري، وقفت أكتر من نص ساعة إن حد يطلع، وأخر ما زهقت طلعت على هنا
أطلقت ضحكة بريئة على تلك الحالمة وتابعتا حديثيهما المسمر إلى أن قطع انخراطهما صوت تلك البشوشة التي اقبلت باتجاه الطاولة لتقول وهي تجذب إيثار من كف يدها لتحثها على النهوض:
-تعالي إرقصي مع البنات يا إيثار
تفاجأت بفعلها لتقول بكثيرًا من الإرتباك المصحوب بالخجل:
-مش هينفع يا خالتي أنا مبعرفش أرقص
هتفت “نوارة” زوجة”وجدي”التي كانت تقابلها الجلوس بالطاولة،لتقول بحماس وتفخيم:
-لما أنتِ مبتعرفيش ترقصي أنا اللي بعرف؟
والتفت للسيدة لتسترسل بمشاكسة:
-متصديقهاش يا خالتي حليمة، دي بترقص ولا فيفي عبده في فيلم الراقصة والسياسي
-إنتِ هتقولي لي،ما أنا شفتها في حنة عزيز ووجدي،قومي يلا علشان تفرفشي أمل…قالتها المرأة وهي تجذبها لتحثها منيرة على النهوض حيث قالت لابنتها وهي تلكزها برسغها:
-قومي ارقصي مع العروسة يا إيثار، عيب تكسفي خالتك
أما نسرين فكانت تتابع الحوار بقلبٍ يغلي من شدة حقده على تلك التي استحوذت على كل ما حُرمت هي منه وهو إتمام دراستها الجامعية والذي جعلها تشعُر بالدُونية بجانبها،وكذلك “سمية” التي شعرت بالغيرة من عدم تقدير والدة العروس لها وكأنها غير موجودة بالأساس،كم تمنت بأن تسنح لها الفرصة لتتراقص وتميلُ بخصرها المنحوت أمام هؤلاء النسوة لتستعرض جسدها وما لديها من مهارات ،بعد إلحاح الجميع استسلمت بالأخير وتحركت إلى وسط السطوح حيث تجمع فتيات العائلة فأمسكت حليمة يداها لتشبكهما بيدان ابنتها العروس واشتغلت الموسيقى وكانت غنوة خاصة بالمطربة شادية اُعيد تلحينها ليواكب العصر وتغنى بها المطرب محمد منير«شيء من بعيد نداني»
اندمجت برقصتها لابعد حد وكأن جسدها تحرر ليلين ويتحرك بليونة عجيبة مع كلمات الغنوة التي تماشت مع رقصها الراقي،كانت ترقص بقامةٍ مرتفعة وشموخٍ كي تُشعر جميع الموجودات أنها لا تقل عنهُن بشيءٍ حتى لا تتطلع إحداهُن عليها بتغطرس،بينما نظرت الفتيات لبعضهن باستحياء وبلحظة ابتعدن ليتركا لها المجال خشيةً من أن تقارنَ برقصها ويخسرن أمام تلك التي تتراقص بمهارة وكأنها خُلقت لهذا
كانت هناك عينين مختبئتين في الظلام لتراقب تمايلها بقلبٍ يدق كطبول الحرب وجسدٍ متصلب ينتفض مع كل حركة تقوم بها برقصتها الرائعة التي جعلت من الجميع مشدوهًا بازبهلال ويتمعن النسوة بالنظر لحركاتها المتقنة بالرقص الشرقي،تنفس عاليًا ذاك المختبيء يتلصص عليها بعدما صعد على سطوح منزله المُظلم المقابل لمنزل العروس ليراقب تلك التي استطاعت خطف لُبه من الوهلة الأولى،سال لعابهُ وشعر بانجراف مشاعره خلف تلك الساحرة، بات يتلصص عليها حتى انتهت من رقصتها ليتوقف قلبه مع توقف الموسيقى،حُبست انفاسهُ ليستعيدها من جديد وهو يرى والدة العروس وبعض الفتيات يتوسلن لتلك الإيثار بأن تمتعهُن برقصة أخرى، بالفعل بدأت برقصتها تحت سعادة منيرة التي تخطت عنان السماء واحتراق روح ذاك اللص المختبيء واشتعال روحه بنار اللهفة والإعجاب،قطبت “إجلال”جبينها لتتمعن بالنظر لتلك الفتاة المختلفة حتى برقصها،فهي مختلفة كليًا تشعر لوهلة أنها أميرة برغم ثوبها الهاديء والذي يفتقد الثراء كفتيات عائلة البنهاوي إلا أنه جعل منها مثيرة ولافتة للأنظار،شغفها الفضول لمعرفة من تكون تلك المختلفة،أشارت لـ حليمة بكف يدها بمنتهى الغرور لتأتيها الاخرى مهرولة خشيةً بطشها لتسألها بهدوء:
-بنت مين البت اللي بترقص دي يا حليمة؟
هتفت مسرعة بنبرة حماسية:
-دي بنت منيرة بنت عمي يا” ستهم”
أومأت بملامح مُبهمة لتستفسر مجددًا:
-بنت غانم إبن محمد الجوهري؟!
أومأت المرأة بتأكيد لتسترسل الأخرى متهكمة بكبرياء:
-اللي يشوف رقصها وتناكتها ميقولش عليها بنت غانم اللي محلتوش غير الجلابية اللي عليه
ابتلعت المرأة لُعابها بإحراج لتهكمها الصريح على إبنة قريبتها لتحول إجلال بصرها على منيرة التي تنظر متلهفة بسعادة وقلبٍ يدق بقوة لشدة حماسته بعدما رأت نظرات تلك المرأة الثرية إلى ابنتها واستدعائها لحليمة لتستفسر منها عنها وهذا ما استشفته بفطانتها، رمقتها إجلال بنظرات إزدرائية لتُشير باطراف أصابعها لـ حليمة بالإنصراف بطريقة مهينة تقبلتها المرأة وابتلعت غصتها بمرارة تجنبًا لجبروت تلك المتسلطة، لتتحدث بازدراء لشقيقتها التي تجاورها الجلوس:
-قال وأنا فكرتها بنت ناس وقولت تنفع عروسة لـ عمرو، طلعت بنت غانم
ضحكت الأخرى لتقول متهكمة بتعجرف:
-المظاهر خداعة يا إجلال، البت من دول على ما يخرطها خراط البنات وتشد حيلها تفتكر نفسها بني أدمة…انتهت ليطلقا الضحكات الساخرة سويًا لتعودا لمتابعة ترقبهما للحضور وهما تنظرتان بقامتان مرتفعتان بتعاظم
لم تستطع سمية الجلوس فقد فقدت صبرها على كبح شعورها بالظهور أمام هؤلاء النسوة، هبت واقفة لتتحرك صوب إيثار وشاركتها الرقصة تحت سعادة إيثار وغضب عمرو الذي شعر بالسخط على تلك الدخيلة التي حجبت عنه رؤية تلك المُثيرة انتهت إيثار وتحركت إلى والدتها لتجاورها الجلوس بأنفاسٍ لاهثة وتركت سمية التي انتهزت الفرصة وتقربت من العروس وقريباتها لتندمج معهن بالرقص في محاولة منها للظهور أمام السيدات،بعد مرور بعضًا من الوقت تمللت إيثار بجلستها لتهمس لوالدتها باستياء ظهر بملامحها:
-ماما أنا زهقت،يلا علشان نروح
-لسة بدري، أدينا قاعدين شوية كمان…نطقتها بعينين تتطلعتين بانبهار لكل ما حولها لترد الاخرى بملل بعدما عقدت النية على الرحيل:
-خلاص خليكي إنتِ ونسرين وأنا همشي مع نوارة
نهرتها قائلة بحدة:
-مستعجلة على المرواح ليه؟
زفرت بضيق لتجيبها:
-عندي مذاكرة كتير ،وبعدين ما احنا قاعدين من بدري،أنا بجد زهقت
اخرجت زفرة حارة من شفتيها لتستسلم بالأخير تحت إصرار تلك الغبية، التفت وهي تدير برأسها لتهتف بجفاء:
-وحشتك قوي السرايا بتاعة أبوكِ
ثم رمقت ثلاثتهم لتهتف بملامح وجه مكفهرة:
-قومي يا غندورة منك ليها
قدمن التهنئة مرةً أخرى للعروس ووالدتها وسألت إيثار سمية إن كانت سترافقها بالإنصراف فأخبرتها الأخرى بأنها ستمكث لنهاية الحفل فتركتها لتتحرك بجانب والدتها وزوجتي شقيقاها،وأثناء مغادرتهم قاطعهم ذاك المتطفل الذي كان ينتظرها بعدما رأها من الاعلى وهي تهم بالمغادرة ليقول موجهًا حديثه لـ منيرة بينما عينيه مثبتتين على جسد إيثار بكل وقاحة:
-بقولك يا خالتي، هو رقم تليفونكم الأرضي لسة زي ما هو ولا اتغير
ليستطرد بإبانة سريعًا بعدما رمقته نسرين بنظرة متعجبة:
-اصل عاوز أكلم وجدي وأطمن عليه
لسة زي ما هو يا عمرو…نطقتها بابتسامة خبيثة وهي تراه معلقًا بصرهُ فوق ابنتها لتسترسل بمداعبة:
-بس هو انت لسة فاكر الرقم؟
ابتسم لمداعبتها ليجيبها بنفي:
-بصراحة لا يا خالتي
-مليه الرقم يا إيثار…نطقتها لابنتها التي كانت واقفة تتملل وتنظر للبعيد بانتظار انتهاء ثرثرة والدتها مع ذاك المتطفل والتي لم تلاحظ نظراتها له لانشغالها بالنظر على الطريق،لتنتبه على صوت والدتها وتقول بعدما تنفست باستسلام:
-حاضر يا ماما
طرحت نسرين سؤالها بصوتٍ متعجب إلى عمرو:
-طب ما تاخد رقم الموبايل بتاع وجدي أحسن؟
ارتبك من سؤال تلك المتطفلة لكنه استعاد توازنه ليجيبها بثقة زائفة:
-ما أنتِ عارفة إن شبكة الاتصالات هنا في البلد ضعيفة
انتفض قلبها رُعبًا بعدما رمقتها منيرة بتوعد لتهز رأسها سريعًا وهي تبتلع لُعابها،أملته إيثار الرقم بينما خرجت ابتسامة بلهاء تحت استغرابها لتنتهي ويقول هو بعينين تلتمعتين بوميض التلهف:
-متشكر يا إيثار
أومأت برأسها سريعًا بعدم اكتراث لتنسحب للأمام بصحبة نوارة بعدما فاض بها الكيل غير عابئة بوقوف والدتها التي استأذنت وانسحبت خلفهما هي ونسرين المتعجبة من اهتمام ذاك العمرو بأمر شقيق زوجها
******
وصلن للمنزل لتدلف كلاً من منيرة وإيثار إلى غرفتيهما بالطابق الارضي بينما نسرين ونوارة صعدتا الدرج وصولاً لمساكنهما لتهتف نسرين وهي تبتسم ساخرة:
-أقطع ذراعي من هنا…وأشارت على أعلى كتفها لتسترسل بتأكيد:
-إن حماتك واخدة البومة بنتها علشان توقع لها عريس،والست إيثار اللي عملالنا فيها الابلة نظيرة متشيكة ورقصت علشان كدة
-حرام عليكِ يا نسرين، متظلميش ماما وإيثار، إيثار أصلاً مكنتش عاوزة تروح وماما اللي أصرت عليها علشان خالتك حليمة متزعلش
-طب إيه رأيك إن حماتك متفقة مع اللي اسمها حليمة على النمرة اللي عملتها دي علشان تخلي المحروسة تهز وسطها قدام الحريم
-وهي هتعمل كدة ليه؟… سؤال بريء طرحته نوارة لتجيبها الاخرى بخبثٍ:
-شوفي إنتِ بقى
توقفت نوارة عن التحرك وشردت بالتفكير لتلكزها الاخرى بكتفها قائلة بتنبية:
-وقفتي ليه،يلا علشان نغير هدومنا وننزل نغسل مواعين العشا المكومة في المطبخ قبل ما حماتك تفتح حسها علينا
زفرت نوارة لتهتف متذمرة:
-أنا نعسانة،ماتخليهم لبكرة،هيحمضوا يعني لو فضلوا للصبح
بدلت إيثار ثوبها بمنامة فضفاضة مريحة وخرجت لبهو المنزل لتحمل الهاتف المنزلي وتعود به من جديد إلى غرفتها لتهاتف صديقتها بالجامعة للاستفسار عن أمر خاص بدراستها الجامعية
******
مع حلول الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، كان الهدوء يعم القرية،لا يُسمع سوى أصوات طائر الكروان ورائحة شجرة الياسمين الزكية المزروعة أمام المنزل تعبق بالمكان،فطالما يأتي الليل محملاً بهدوء يسر القلوب ويُدخل عليها السكينة،تتلألأ النجوم في السماء لتنيرها وتعطي مظهرًا خلابًا،بينما تجلس هي فوق فراشها ممسكة بكتابها تستذكر دروسها بذهنٍ مستيقظ وحماس يرجع لعشقها للدراسة،استمعت لقرع جرس الهاتف المنزلي حيث كان موضوعًا فوق المنضدة الصغيرة المجاورة لفراشها المتواضع ككل أساس منزلهم المتهالك،تعجبت من رنينه بتلك الساعة المتأخرة، تنهدت لتميل بجذعها ملتقطة سماعة الهاتف وهي تقول مستفسرة:
-ألو
إزيك يا إيثار…وصل صوت المتصل لمسامعها لتضيق عينيها باستغراب وهي تقول:
-مين معايا؟
بصوتٍ ناعم أجابها:
-أنا معجب ولهان،قلبه اتخطف لما شافك النهاردة
لوت فاهها لتشعر بالإشمئزاز من كلمات ذاك المتحرش العَفن لتهتف بنبرة حادة:
-بطلوا قلة أدب بقي وأحترموا نفسكم
بالكاد أنهت كلماتها لتزفر وهي تغلق السماعة بوجه ذاك المتكيء فوق وسادة فراشه الوثير بغرفته الفخمة والذي صُدم من ردة فعلها الغريبة، فقد توقع إذابة قلبها وثوران لمشاعرها عندما يتبع معها طريقته المعتادة لإيقاع الفتيات اللواتي يُعجب بهن،ابتسم بتسلي بعدما تأكد من اختلافها فقد زاد الحماس بداخله لأن الصيد تلك المرة سيكون لفتاة صعبة المنال وهذا ما سيزيد من متعته عند الوصول إليها وضمها لقائمة فتيات عمرو البنهاوي
أعاد الضغط على أرقام هاتف منزلها مرةً أخرى وأنتظر الرد فانتهى الإتصال مرةً أخرى وقام بتكرار المحاولة عدة مرات دون أن يسأم حتى أتاه الرد من صوتٍ لم يتوقعهُ لـتجحظ عينيه وبسرعة البرق أعاد سماعة الهاتف لمكانها ليُنهى الإتصال ثم نظر أمامه ليعقد حاجبيه بضيق وهو يحك ذقنه بأصابع يده قائلاً:
-يا بنت الـ….

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أنا لها شمس)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى