رواية وما ادراك بالعشق الفصل الخامس 5 بقلم مريم محمد غريب
رواية وما ادراك بالعشق الجزء الخامس
رواية وما ادراك بالعشق البارت الخامس
رواية وما ادراك بالعشق الحلقة الخامسة
الفصل الخامس _ إنها دمي _ :
قبل ثماني و عشرون عامًا …
بالأمس القريب، كانت مجرد فتاة يتيمة فقيرة قد ابتليت بأب قاسٍ يحصي عليها أنفاسها، بل و حرمها من حقها باستكمال مسيرتها التعليمية معتقدًا بأنه هكذا يقيها الفتنة و صحبة السوء.. أما اليوم !
اليوم هي حقًا لا تصدق ما آلت إليه حياتها في طرفة عينٍ، و دون أن تحسب حسابًا لأيّ مِما حدث، خلال أسبوع واحد، إلتقت بفارس أحلامها، عقد قرانها عليه، انتقلت للعيش بمكانٍ لم تجرؤ حتى على تمنّي مثله، ثم صارت زوجةً حقيقية لـ”يحيى البحيري” غير قادرة على الإنتظار أكثر لتكون جزءًا منه، لتشعر بسيادته عليها و لتنعم بالواقع الذي حظيت به
لم تكن تتخيّل على الإطلاق بأن كل هذا ينتظرها، لقد سلّمته أوراقها الشخصية كما طلب منها، ليستخرج لها جواز سفر فوري في نفس اليوم، و في فجر اليوم التالي كانا على متن طائرة متجهة لأكثر المدن روّاجًا للعشاق، مدينة الفن و الجمال و العطور.. “باريس”… “رحمة” ستقضي هنا شهر عسل كامل و غير منقوص كما وعدها “يحيى”.. لا تستطيع أن تصدق !!!
حطّت معه بقدميها بأفخم فنادق المدينة “سان ريجيس”.. و المطلّ مباشرةً على برج “إيفيل” الشهير، تمعنّت “رحمة” بأعينٍ مذهولة الترف المحيط بها من كل حدبٍ و صوب، بينما تمشي متأبطة ذراع “يحيى” الذي تركها قليلًا ليؤكد تسجيل دخولهما بمكتب الإستقبال المفتوح
بقيت بجواره تمامًا، تجوب عيناها أرجاء المكان المتّسع برحابةٍ، الأرض نظيفة و برّاقة البرسلين يلمع كالمرايا تحت قدميها، الثريات الضخمة تدلّى من السقف الشاهق بمنتصف البهو الأمامي عاكسة أنوار مشعشعة خاصةً على مِسقاة انتصبت أسفلها مباشرةً يسح منها خرير المياه من كل جانبٍ، و التماثيل الفنيّة موّزعة بإتقانٍ في الزوايا المرئية، بالإضافة إلى الروائح المنعشة التي تستنشقها بانتظامٍ و تلك الموسيقى الهادئة التي تدوي عبر مكبرات الصوت الخفية، كانت تحس بشعورٍ جيد، و كأنها خفيفة مثل الريشة، كانت في حلمٍ جميل تتمنّى ألا تفيق منه …
-يلا يا حلوة !
صحت “رحمة” من تأملاتها على صوته، و أجفلت عندما أمسك بيدها و قادها معه تجاه المصعد، كان العامل المكلّف بنقل حقائبهم قد سبقهم، بينما تقف ملاصقة له أثناء صعود الطوابق، لم تكن تشعر بالراحة، و لا زالت كلمته تتردد أصدائها بأذنيها “يا حلوة” !!
هو لم يقل شيء معيب، لكن تلك الكلمة بدت غريبة، لو أنه ناداها بأسمها لكان أفضل، تعرف بأن باكرًا جدًا لتوصيف علاقتهما بعلاقة حب، فلا هي و لا هو يعرفان بعضهما جيدًا لينشب الغرام بينهما، الوصف الصحيح لعلاقتها به هو الإنجذاب، هي تنجذب له بكل جوارحها و لديها قابلية كبيرة حتى لتغرم به و تعشقه، و في نفس الوقت تشعر بأنه منجذب إليها جسديًا فقط، ذلك لا يعني أن مشاعرها مهمّشة بالنسبة إليه، مطلقًا، فهو يعتني بها جيدًا و يصغي إلى متطلباتها الصامتة، يترجم حاجتها و يفهم ما تريده دون أن تطلب
و لكن هذا حقًا لا يكفيها، فهي تريده أن يقع بحبّها، و في أسرع وقتٍ ممكن …
-أخيرًا استقرّينا ! .. قالها “يحيى” و هو يقفل باب الجناح من بعدها
تلج “رحمة” متطلّعة بانبهارٍ إلى ما حولها، الغرفة الكبيرة رائعة بكل ما للكلمة من معنى، و قد جهزها الفندق لتناسب زوجين في شهر العسل، حيث وريقات الزهور تفترش الأرض الخشبية اللامعة، و البالونات المثبّتة بالسقف من اللونين أحمر و أبيض
كانت الغرفة مكيّفة أيضًا، و تحتوي على صالون للجلوس، و تلفاز بشاشة مسطّحة، و آلة لصنع القهوة و ثلّاجة صغيرة، بالإضافة إلى حمام مزوّد بلوازم الإستحمام و مجفف للشعر، لم تستطع “رحمة” منع قدماها من التجوال للتعرّف على الجناح الذي ستسكنه مدة ثلاثين يومًا
حتى عادت من جديد لتقف أمام زوجها الذي ابتسم لها بوداعته المعهودة، مد يده ممسكًا بيدها مرةً أخرى و سحبها ورائه نحو الشرفة المغلقة، تركها ليزيح الستائر عن النافذة العريضة، و فجأة برز أجمل منظر رأته في حياتها
البرج التراثي ينهض بالقرب منها شامخًا في سماء الظهيرة الربيعية، و المباني التاريخية مترامية على مد البصر.. متعة ملموسة بإمكانها تذوّقها …
-إيه رأيك في المكان ؟
إلتفتت إلى سؤاله، حدقت فيه الآن، و مثل العادة تؤخذ بجمال عينيه و تكاد تنسى كيف تنطق الكلمات، لكنها تمكنت من الرد أخيرًا :
-المكان حلو أوي.. أنا عمري ما حلمت أزور بلد زي دي أصلًا !
رمقها بنظرةٍ حنونة و هو يقول بهدوء :
-أنا مش هاخليكي تحلمي بعد كده. عشان كل أحلامك هاتتحقق معايا.. و مش باريس بس إللي هانزورها. إحنا هاناخد القطر بعد أسبوع و نروح لندن. و بعدها لو حبيتي ألففك أوروبا كلها. اؤمريني بس.. قوليلي نفسك في إيه ؟
هزت كتفيها قائلة :
-و لا حاجة !
تقوّس فمه بأقرب ما يكون للإبتسامة و هو يرفع يديه ليزيح سترته عن كتفيه، ثم يلقيها جانبًا و يمضي نحو زوجته الصغيرة، ارتجفت ما إن لمستها يده و أحاطت ذراعه بخصرها، بينما يردد بخفوتٍ و هو يلامس ببطء و استمتاعٍ نعومة بشرتها على وجهها و عنقها النابض :
-إزاي.. أكيد في حاجة عايزاها. كلنا بنعوز حاجات طول ما احنا عايشين …
ابتعلت ريقها بصعوبة مع تزايد الحرارة التي ولّدها تلاصقهما ببعض، فقالت بلهجةٍ مهزوزة و هي بالكاد تتمسّك برباطة جأشها :
-و انت.. انت كمان. في حاجة.. عايزها !؟
ابتسم لها متمتمًا و شفتيه تتحرّكان أمام فمها مباشرةً :
-إللي أنا عايزه بين إيديا دلوقتي.. مافيش حاجة تانية عايزها. قوليلي انتي بقى… عايزة إيه ؟
جاوبته غريزيًا و من أعماقها و هي تنظر إليه بتوقٍ سافر :
-أنا عايزاك انت !!
-و أنا هنا. قدامك. و ليكي لوحدك !
انتشرت قشعريرة أسفل معدتها، بينما يمنحها تلك القبلة المرتقبة، لتذوب شفاههما معًا …
شعرت بأصابعه تنقّب في ظهرها و فخذها، أنفاسه تهدر و هو يقبّلها مرارًا و تكرارًا على فمها و عنقها، نبتت دموع النشوة في عينيها و هي تطلق تنهيدات عالية، و بالكاد لاحظت قبل أن يسحبها تجاه الفراش المزدوج أن حزام ثوبها الثمين الذي ابتاعه لها قبيل السفر قد تفكك بفعل أصابعه، لينزلق الثوب على ذراعيها متجمعًا حول خصرها، تأوّهت عندما دفعها لتسقط على ظهرها أمامه و بيديه يجرّدها تمامًا من الثوب ساحبًا إيّاه من حول ساقيها
خفض نفسه نحوها و تفاجأت بنفسها و هي تتشبث بكتفيه و تمسك بمؤخرة رقبته، لا تطيق صبرًا ليتوّحدا مجددًا، يمسك “يحيى” بها في مكانها و هو يلوي رأسه إلى عنقها يستنشقها و يقبّلها و هو يهمس بغلظةٍ :
-مش ممكن.. كنت هانسى !!
لم تستطع فهم جملته، و ما هو الذي كاد ينساه !؟
لكنها تذمرت عندما ابتعد عنها، لتفتح عيناها بصعوبةٍ محدقةً به، إنه يبتعد أكثر معرّضًا جسمها نصف المكشوف للهواء البارد بعد أن عمل على تدفئتها لألف سنة قادمة.. ما هذا الغش ؟ ما هذا العذاب !؟؟
تراه يفتح حقيبته الخاصة ليسحب شيئًا يعرف مكانه بالتحديد، ثم يعود إليها حاملًا زجاجة مياه صغيرة من الثلّاجة، يثني ركبته متكئًا على طرف الفراش، يلف ذراعه حول خصرها و يشدها لتجلس، ثم يدفع نحو فمها بذات الحبّة التي أعطاها لها في ليلتهما الأولى …
-اشربي دي يلا ! .. حثّها “يحيى” بلطفٍ
و لكنها رفعت يدها لتدفع يده قبل أن تصل لفمها و قالت عابسة :
-أنا شربت الحبّاية دي أول مرة لما طلبت مني. و قبلها وعدتني هاتقولي دي إيه.. ممكن أعرف دي إيه !؟
تنهد قائلًا بحِلمٍ :
-أيوة صح. وعدتك.. بس أشربيها دلوقتي و بعدين هقولك.
أبت بشدة الآن و هي تقول بتصميمٍ :
-لأ.. ققولّي الأول !!
لم يحرّك “يحيى” ساكنًا للحظاتٍ مطوّلة، ثم فتح فاهه أخيرًا و جاوبها بجمودٍ :
-دي حبوب منع الحمل.
لم تكن الصدمة ما شعرت به أول مرة، إنما الدهشة، لترد عليه ببلاهةٍ :
-حبوب منع الحمل ؟ و انت ليه بتديني حبوب منع الحمل !؟؟
أسبل “يحيى” عينيه و هو يطرد نفسًا حارًا من صدره، و قال بفتورٍ :
-أنا قلت لك إني متجوز و مخلّف يا رحمة. عندي الولد و البنت.. خلاص مش عايز حاجة تاني.
-بس أنا عايزة ! .. هتفت “رحمة” فجأة و قد صفعتها كلماته بفعالية أكبر من الصدمة
رفع رأسه محدقًا بها و هو يقول بجديةٍ تامّة :
-رحمة. أنا مش بناقشك. ده موضوع مافيهوش نقاش بالنسبة لي.. أنا مش هاخلف تاني لا منك و لا حتى من أم ولادي.
نظرت له غير مصدقة، يملؤها الاستنكار من موقفه هذا لتقول و هي تدفع كتفيه مقابلها تبعده و تقوم ملتقطة ثوبها الذي نزعه عنها منذ دقائق :
-أنا ماكنتش أعرف الكلام ده. لو كنت أعرفه قبل ما أتجوزك ماكنتش وافقت عليك مهما حصل.
تبعها “يحيى” واقفًا على قدميه، راقبها و هي ترتدي الثوب بأيدي مرتعشة، بينما ترمقه بنظراتٍ تنم عن خذلان و خيبة أملٍ …
-مش فاهم قصدك ! .. قالها “يحيى” بصوتٍ أجش متظاهرًا حقًا بالغباء
هزت “رحمة” رأسها مرددة بدموعٍ :
-أنا عشت يتيمة من و أنا عندي خمس سنين. عشت مع بابا لوحدي. لا كان عندي اخوات و لا أعمام و لا خيلان و لا عيلة. طول عمري كنت بحلم إني أكبر و اتجوز عشان أخلّف ولاد كتير. يكونوا هما اخواتي و ولادي و عيلتي كلها.. انت بقى جاي دلوقتي بتقولّي ببساطة مش عايز تخلّف ؟ ليه ماقولتش الكلام ده قبل ما تتجوزني ؟ ده اسمه غش !!
قطب “يحيى” بشدة، تفاجأ من طريقة تفكيرها و استخدامها لدفاعاتها مِمّا عطل ردّه لثوانٍ، لكنه قال في الأخير بحدةٍ :
-الغش ده لو كان صفة فيا فعلًا كنت اشترط على عم جابر مايجبلكيش سيرة عن جوازي أصلًا. كنت خبيت عنك تفاصيل حياتي.. أنا مش غشاش يا رحمة !!!
-و أنا عايزة أخلّف ! .. قالتها بعنادٍ حازم
طالعها بنظراتٍ قوية متقدة، ثم قال بخشونةٍ لا تُناسب ملامحه الملائكية البتّة :
-قلت لك مش هايحصل. لا منك و لا منغيرك.. مش هايحصل.
أومأت له قائلة بهدوء :
-ماشي. انت حر ماتخلّفش.. بس طلّقني !
صدمته هي الآن بنطقها بالكلمة الأخيرة، ليقول باستنكارٍ جلي :
-أطلقك ؟
ردت بفمٍ مشدود مضطرب بينما دموعها تسح فوق خديها :
-أيوة طلّقني.. أنا عمري ما هارضى بالوضع ده. أنا عايزة أخلّف. منك أو منغيرك !!
احتقن وجهه بالدماء عندما استعملت نفس كلماته، كان يشعر بغضبٍ شديد لم يتملّكه أبدًا من قبل، و أحس بأن عليه أن يختفي من أمامها الآن، و إلا فسيحدث ما لا يُحمد عقباه.. تلك الفكرة صدمته أكثر !
متى كان هكذا ؟ .. كيف جعلته تلك الفتاة هكذا !؟؟؟
يستدير “يحيى” الآن ملتقطًا سترته، يرتديها أثناء سيره للأمام، بينما تراقبه “رحمة” و هو يغادر الجناح بأكمله دون أن يفه بكلمةٍ
انتفضت حين صفق الباب ورائه، و فجأة اجتاحها إنهيارًا كامل، لتسقط متكوّمة فوق الأرض مجهشة ببكاءٍ حار و قد شعرت الآن فقط بوحدتها …
~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~
لم تتوقف عيناها أبدًا عن ذرف الدموع، طوال مدة رحيله المفاجئ، تركها بمفردها دون أيّ كلمة، لم تكن بيدها حيلة غير المكوث هنا، ترقد فوق الفراش الوثير، تحدق باستمرارٍ إلى قنينة حبوب منع الحمل التي جلبها زوجها من أجلها
غريبٌ إنها تشعر بالخواء الآن !
و حقيقة أنها تفتقده، مجرد تخيّل الآتي من عمرها بدونه يرعبها، ليس بعد أن وجدته، لا يمكن ان تُحرم منه بهذه البساطة، و لأجل سببٍ لا يستحق، إنه أبسط حقوقها ان تصير أمًا، فلماذا يصرّ على منعها من حقّها الفطري !؟
لماذا يظلمها ؟
مع إنتصاف الليل الباريسي، أحسّت “رحمة” بعودته، و لم تكن قد نامت أو حتى تراودها الرغبة في النوم، إنما تظاهرت مغمضة عينيها بأنها في سباتٍ، و هي تسمع قرع حذائه يقترب منها شيئًا فشيء، ثم أحسّت بالمرتبة تنخفض بجوارها، ثم بيده الدافئة تلامس جانب رأسها
في هذه اللحظة لم تستطع الصمود أكثر و أُفلتت الشهقات من بين شفاهها، لكنها لم تفتح عيناها رغم ذلك، بقيت تبكي محاولة كتم صوتها ما أدى إلى اهتزاز جسمها بقوةٍ، فدفنت وجهها في الوسادة، أرادت فقط أن تشد الغطاء إلى وجهها حتى لا يراها، لكنه لم يسمح لها بالتهرّب منه
شعرت بذراعيه تحيطان بها و تضمانها إليه، إلى حضنه الواسع المريح، جعلها ذلك تبكي أكثر، تبكي بشدة الآن، بينما يضم وجهها إلى صدره، تتشبث أكثر بقميصه و نحيبها يزداد حرارةٍ، ليتمكن أخيرًا الكلام
فتسمع همسه من فوق رأسها :
-رحمة.. أرجوكي ماتصعبيش الأمور عليا أكتر من كده. من فضلك إهدي. أنا مابتحملش الدموع أبدًا و خصوصًا منك انتي.. إهدي عشان خاطري !
نطق بكلماته مرارًا و تكرارًا، لكنها لم تستطع التوقف، بقيت تبكي بشدة، و هو فقط يضمها و يقبّل شعرها و جبينها بالتناوب علّها تهدأ، كانت عاجزة الآن عن قمع مشاعرها التي طفت كلها على السطح تمزّقها، لا يتعلّق الأمر الآن بقضية منعه إيّاها من الإنجاب، بل بكل شيء، تشعر بالوجع من كل شيء، من فقدان والديها، وحدتها، ضعفها العام تجاه الحياة و تجاهه هو خاصةً، الألم الذي لا ينتهي بداخلها منذ نعومة أظافرها، دائمًا ما تنقص سعادتها لتصبح مجرد مشاعر جوفاء.. كل تلك المشاعر تفوق قدرتها على التحمل… لا تستطيع تحمل كل هذا أكثر.. و قطعًا لا تريد الظهور أمامه بهذا الضعف
أحسّ بيديها تدفعانه، فمنحها فسحة ليرى ما الذي تحتاجه، بينما تقلّبت على الجانب الآخر من الفراش بعيدًا عنه، إنتابتها رغبةً مجنونة في الرحيل، راقبها و هي تنهض واقفة و تهمّ بالتوجه صوب الحقائب التي لم تفرغ بعد …
-أنا عايزة أرجع مصر دلوقتي ! .. هتفت بنزقٍ لا يخلو من البكاء
و قبل ان تضع يدها على الحقيبة كان قد وصل إليها، اعتقل معصمها في قبضته و هو يشدّها نحوه قائلًا بحدة :
-رحمة. بطلي جنان.. مافيش رجوع دلوقتي. و أكيد مافيش طلاق. شيلي الموضوع ده من راسك. انتي خلاص بقيتي مراتي حتى مش مجرد قسيمة بتثبت ده. انتي بقيتي ملكي فاهمة ؟
قاومت قبضته دون جدوى و تهّس من بين أنفاسها :
-و أنا مش عايزة أكمل معاك. انت اتجوزتني ليه أصلًا ؟ أنا ماعرفش لحد دلوقتي انت ليه طلبت تتجوزني !!؟
و سادت ملامحها فجأة تعبيراتٍ مصدومة وتّرته، ثم سمعها تقول مفغرة فاها و كأنها عثرت على الإجابة للتو :
-بابا هو إللي طلب منك صح ؟ هو إللي جبرك تتجوزني عشان كان عارف إنه هايموت !!!
هز “يحيى” رأسه نافيًا في الحال بقوة :
-لأ طبعًا. أبوكي مافتحش بؤه معايا في موضوع جوازي منك. و انتي أصلًا تفتكري إن في مخلوق في الدنيا دي كلها ممكن يجبرني على حاجة ؟ و بالأخص لو كان السوّاق بتاعي !!
كلمته الأخيرة كانت بمثابة الضربة القاضية، نظرت إليه كما لو أنه لكمها في أحشائها …
ندم “يحيى” على الفور على زلة لسانه، بينما يتلوّى وجهها و هي تقول محاولة استيعاب الأمر برمته :
-أيوة صح.. أيوة. أنا كده بدأت أفهم… انت مش عايز تخلّف من بنت السواق !
اللعنة.. إنه يناقشها ليخفف عنها ما جرى بينهما خلال النهار لكن يبدو بأنه يزيده سوءًا …
يهز رأسه ثانيةً و هو يقول بغلظةٍ مطوّقًا معصما أشد لمنعها من التحرّك :
-لأ. رحمة. أنا مقصدش إللي بتقوليه ده.. أبوكي كان شخص مهم بالنسبة لي. صدقيني مقصدش أي إهانة له أو ليكي.
كانت دموعها تنهمر بالفعل أثناء حديثه، لترد من بعده بلهجةٍ منكسرة دون تحفظٍ :
-و لو قصدت. انت مابتقولش غير الحقيقة.. بس لو كنت صريح اكتر معايا كنت وفرت علينا كل ده. انت اتجوزتني عشان تعيش لك يومين و في نفس الوقت ترضي أبويا و تطمنه عليا قبل ما يموت. أكيد ماخدش منك مقابل عشان كتبت مؤخر كبير في عقد الجواز. عشان لما تطلقني بعد فترة تكون وفّيت بوعدك و قال يعني سترتني.. مش كده ؟
وجهه يزداد عبوسًا مع تعاقب كلماتها، ليقول بخشونةٍ ردًا عليها :
-إيه إللي بتقوليه ده. لأ طبعًا مش كده. أنا اتجوزتك و أنا عارف و واثق إن عمري ما هاطلقك. مهما حصل.
رفعت حاجبها و هي تقول متحديّة :
-حتى لو جوازنا اتعرف ؟ حتى لو مراتك و ولادك عرفوا ؟
جمدت نظراته و كذا ملامحه و هو يقول بجفاء :
-و إيه إللي هايعرفهم يا رحمة ؟ مش ممكن يعرفوا طالما محدش فينا احنا الإتنين قال !
خيّم الصمت بينهما للحظاتٍ بعد ذلك.. لتقطعه “رحمة” مكررة طلبها :
-أنا عايزة أخلّف.. يا تطلّقني.
يفقد “يحيى” آخر شعرة إتزان لديه و هو يصيح بها مبتعدًا كل البُعد عن الوداعة و الملائكية اللتان أسرتاها :
-مافيش خلفة. افهمي بقى. مـافـيــــش خــلفة. و مافيش طلاق كمان. إللي حصل بينا ده مش لعبة.
يتملّكها غضب يوازي غضبه الآن و هي تثور بوجهه محاولة من جديد إنتزاع يدها من قبضته باهتياجٍ أكبر :
-صح مش لعبة. لو لعبة مش هقدر أخلّف. لكن أنا مش بلعب يا يحيى بيه. و قلتها لك. أنا هاخلّف.. منك أو منغيرك !!!
تبًا لها.. تبًا لها إذ تصر على تكرار تلك الكلمات التي تستفز رجولته و هي توحي له بصورة تفقده صوابه… صورتها بين أحضان آخر يستطيع منحها الأطفال التي يعجز عن منحها إيّاهم
كيف لها أن تفعل به كل ذلك ؟ كيف لها أن تخرج أسوأ ما فيه ؟ و هل كان في عمره كله بهذا السوء حتى و لو داخليًا !؟؟؟؟
أسوّد وجهه الوسيم من شدة الغضب، و تدفق الغيظ بشرايينه و هو يغمغم من بين أسنانه بطريقةٍ أخافتها :
-انتي صحيح لسا مجرد طفلة ساذجة و عنيدة. و أنا شايف إن جابر مابذلش أي مجهود في تربيتك. بس إحنا فيها. إللي هو ماعرفش يعمله أنا هاعمله. أنا هاربيكي يا رحمة !!
و انطلقت صرخة الرعب منها حين اجتذبها بالقوة و حملها إلى الفراش، رفعت يديها لتصارعه، لكنه أحبط إرادتها و هو يخفض جسده مكبلًا جسدها، على الرغم من جهودها المصممة لم تستطع الهرب من يديه، و أمسك بمعصميها ليصلبهما فوق رأسه بيدٍ واحدة، بينما يأسر وجهها في قبضته الأخرى
يحدق بتفرسٍ حاد إلى ملامحها الناطقة بالنقمة و الغضب، إلا أن فمه يرتجف فجأة و هو يدقق أكثر بتوّردها المتزايد و سِعة عينيها المتلألئة تحت ضوء الغرفة الخافت، انحسر غضبه بلحظةٍ و هو يشعر بالحاجة إليها بداخله تتعاظم، ليتأوّه و هو يدفن وجهه في عنقها مغمغمًا :
-رحمة.. ماتقاومنيش.. أرجوكي.. أنا مش هاجبرك على أي حاجة.. بس أرجوكي فكري كويس… ريّحيني.. أنا عمري ما حسيت بالراحة إلا و انا معاكي.. مستعد أحقق كل أحلامك.. أي حاجة تطلبيها.. إلا الشيء ده… من فضلك.. افهميني …
رجع إلى الوراء قليلًا و قبّلها بلطفٍ على حافة فكّها، ثم نظر إليها بعينين متوّسلتين، و فجأة.. لم تعد “رحمة” تشعر بالرغبة المُلحة في الرحيل !!!
أخضعها بكلماته، هدأت فورة الغضب عنها و صارت مرتاحة أسفله، مُثارة، رغم إنه لم ينزع عنها قطعةً واحدة.. تنهدت حين قرّب فمه من خدّها، ثم مرر شفاهه ببطءٍ لأعلى وصولًا لأذنها حيث همس بعاطفةٍ ملتهبة :
-أوعدك إن عمرك ما هاتندمي على جوازك مني.. أنا مش هاخلّيكي تحسّي بأي نقص !
كيف لها أن ترفضه و هو يناشدها هكذا بحق الله !؟؟
إدراكها بأنه يُفضلها، بأنه يضعها في مكانة أعلى من زوجته باعترافًا منه إنه لم يجد الراحة إلا معها.. جعل كل مخاوفها تطير بهبّة ريحٍ
تأوّهت هي الآن حين صار بين ساقيها، و جذبته نحوها أكثر غريزيًا، نسيت كل شيء، كل ما فكرت فيه هو اللحظة الراهنة، يداه و هي تخلع عنها منامتها من رأسها، سخونة فمه حين لامس صدرها، خلعه لملابسه بسلاسةٍ شديدة خلال لحظات، قوة و حدة نظراته و هو يقيم الوصال بينهما
تفجّرت بداخله مشاعر لطالما تاق لها، عندما أطلقت “رحمة” لنفسها العنان بين ذراعيه، تعاطت معه كأنثى طبيعية، و هو ما تفتقر إليه “فريال” و ستظل، فـ”رحمة” لم تكتسب هذا، بل هو في جذورها، في فطرتها، كانت مثل أمنية تحقّقت
أخيرًا وجد نفسه.. وجدها.. و لا ينوي التخلّي عنها مطلقًا …
_________________________
تهللت أسارير الرجل الطاعن في السن، و الوقور في آنٍ، و هو يجلس وراء مكتبه الضخم متطلعًا إلى شريكه الأصغر سنًا و هو يلج إليه أخيرًا، يراه بعد غياب بضعة أيامٍ في عطلةٍ إستجمامية
رحّب به على الفور مبديًا سروره بعودته :
-حمدلله على السلامة يا نبيل.. جيت في وقتك. زي العادة محتاس منغيرك !
يبتسم “نيبل الألفي” بموّدة صادقة لصديقه العجوز، يمضي مقبلًا عليه أقرب، فينهض الأخير ليصافحه بقوةٍ رابتًا على كتفه بينما يقول “نبيل” بتلك النبرة الرفيقة التي يخصّ بها شريكه و صديقه المقرّب :
-لو كنت كلّمتني عمري ما كنت هتأخر عنك.. انت الوحيد إللي معاك رقمي الخاص. و عشان ماكونش بكدب يعني هالة بنت أختي معاها بردو.
قهقه الرجل باشراقٍ و دعاه للجلوس قائلًا :
-أنا صحيح مابستغناش عنك. لكن ده مش معناه إني مابقاش مهتم براحتك أديلك مساحتك الشخصية. أهم حاجة تكون راجع مبسوط و عندك طاقة.
تنهد “نبيل” و هو يجلس قبالته و يرد :
-و الله راجع مبسوط فعلًا. بلد أول مرة أزورها و الطبيعية هناك تنعش الروح. لازم أخدك هناك مرة على الأقل هاتفيدك.
وافقه في الحال :
-و ماله طبعًا. نبقى نروح.
ران الصمت لثوانٍ.. ثم قال “نبيل” ساحبًا الوشاح الخفيف من حول رقبته و الذي تماشى مع لون عينيه الفيروزي :
-خير يا حسين.. قولّي بقى كنت سايب لي خبر أول ما أوصل أجي لك. في حاجة حصلت في غيابي ؟
نفى المدعو “حسين” افتراضه قائلًا بأريحية :
-لا أبدًا ماحصلش حاجة. كله ماشي تمام ماتقلقش.
عبس “نبيل” و هو يقول بحيرة :
-أومال في إيه ؟ أنا المفروض كنت أريح في البيت إنهاردةو أنزل الشغل من بكرة !
ابتسم “حسين” و هو يفصح له بعشمٍ :
-ما انا قلت لك انا مابعرفش أتصرف كويس منغيرك يا نبيل. انت مش مجرد شريك في الشغل. انا بعتبرك إبني. كنت أتمنى تكون إبني فعلًا يا نبيل.
امتلأت عينا “نبيل” بنظرات التقدير و الإمتنان للرجل الذي لا يتوقف أبدًا عن دعمه بكل الطرق الممكنة، لا يمكنه أن ينسى أحلك أيام حياته، حين خسر أعماله بالكامل منذ سنوات على يد “عثمان البحيري” الإنتقامية، ظهر “حسين عزام” فجأة، كان طوق النجاة، و عرض عليه الشراكة دون أن يطلب منه أيّ مقابل مادي، من وقتها و هما لا يفترقا أبدًا، و استحالت علاقة العمل إلى علاقة صداقة قوية، إلى أن كللها “حسين” بهذا الإعتراف الآن
أن يقولها علنًا بأنه تمنّى لو حظى به كابن حقيقي له.. هو شيء لا يُقدر بثمن بالنسبة له …
-أؤمرني يا حسين ! .. قالها “نبيل” بصوته القوي :
-قول إللي انت عايزه و أنا أنفذه فورًا.
حسين بلطفٍ : أنا مش طالب منك حاجة كبيرة. و مالهاش علاقة بالشغل. زي ما قلت لك أنا بعتمد عليك أكتر في حياتي الشخصية.
شعر “نبيل” بالفضول فحثّه مضيقًا عينيه :
-خير يا حسين. أتكلم !
علا صدر العجوز و هو يعبئ نفسًا عميقًا إلى رئتيه المنهكتين، ثم قال بصوتٍ خفيض :
-مالك ابني هايخرج من السجن كمان يومين. المحامي لسا مكلّمني إمبارح بدأ في إجراءات خروجه فعلًا.
-صحيح أنا فاكر إن السنة دي كانت أخر مدته.. يااه. عشر سنين عدوا بالسرعة دي !
-يعدوا علينا احنا بسرعة. إنما على المسجون يعدوا ألف سنة …
استشف “نبيل” الحزن في لهجة صديقه، فقال مرفرفًا بأهدابه الكثيفة :
-طيب انت عاوزني أعمل إيه ؟ أروح أجيبه من السجن و لا هو هايترحل على مصر ؟
-لأ مش هايترحل. أنا عملت اتصالاتي هنا و اتصالحنا مع السلطات. وضعي هنا يسمح لي اتوسط له و أضمنه. هو هايخرج من السجن علطول و أنا بنفسي إللي هاروح أجيبه.. ماكنتش عايزك في حاجة تخص مالك يا نبيل.
-أومال عايزني في إيه حيّرتني يا حسين !؟
حسين مبتسمًا بخفةٍ :
-أخيرًا مايا بنتي قررت تيجي تعيش معانا هنا. لما عرفت إن أخوها خارج قالت لي إنها جاية. ماكنتش مصدق نفسي يا نبيل. انت عارف مايا طول عمرها عاملالي هاجس. و خصوصًا بعد موت أمها.. ياما إتحايلت عليها تيجي !
أبدى “نبيل” سرورًا لبهجة صديقه و قال :
-حلوة أوي الأخبار دي. شفت مش كنت بقولك إن ولادك هايرجعوا لحضنك تاني.. ماكنتش بتصدقني.
أومأ “حسين” مرارًا و قد كست عيناه طبقة من دموع الفرح، ثم قال متململًا بشيء من الحرج :
-أنا عارف إنك مرهق من السفر. و مش من الذوق إني أطلب منك طلب زي ده.. بس لولا إن في اجتماع مهم بعد نص ساعة لازم أكون حاضر فيه ماكنتش طلبت منك أبدًا.
-بلاش كلام مالوش لازمة ! .. قالها “نبيل” متبرمًا، و استطرد بخشونةٍ :
-قول علطول إللي انت عايزه !!
إنصاع له مجيبًا بهدوء :
-مايا هاتركب الطيارة بعد ساعتين. و كنت عايزك تروح تستقبلها في المطار و توصلّها بيتي. بما إني مش هاعرف أروح لها مش عايز ابعت لها السواق و أخلّيها تحس إن وجودها هنا عادي. عشان كده بطلب منك انت إللي تروح. انت شخص مميز و مهم عندي و مايا هاتفهم ده أول ما تشوفك.
تلقّى “نبيل” كلماته بتفهمٍ و قال :
-بس كده ؟ غالي و الطلب رخيص يا حسين.. هكون في المطار قبل وصولها كمان. هاستقبلها بنفسي و أوصلها لك لحد البيت. ماتقلقش خالص !
و اعتذر منه فجأة إذ شعر باهتزاز هاتفه بجيب سترته، قام “نبيل” بعد أن رآى شاشة الهاتف تضيء باسم إبنة أخته الوحيدة، بدت الابتسامة في صوته و هو يرد عليها ما إن أغلق باب مكتب “حسين عزام” من خلفه :
-هالة ! حبيبتي عاملة إيه وحشتيني.
أتى صوتها خافتًا بشكلٍ ملحوظ :
-خالو. انت وحشتني أكتر. بس اسمعني عشان مش هقدر أطوّل معاك !
عبس “نبيل” و هو يسألها مرتابًا :
-انتي موطية كده ليه يا هالة ؟ في حاجة و لا إيه !؟؟
-لأ. لأ مافيش حاجة.. بس فادي قريب مني. انت عارف لو شم بس إني بكلمك هايبهدلني.
تنهد “نبيل” بسأمٍ، ليس من العدل ما تفعله معه الحياة.. سلبت منه أحبائه فيما مضى، والديه و شقيقته التوأم العزيزة على قلبه، و ها هي تحرمه من قطعة منها.. غاليته “هالة”.. الذكرى الوحيدة لوالدتها التي تبقّت له… باعتبار إن علاقته بأخيها “صالح” ليست وثيقة جدًا.. كانت “هالة” مفضلته حقًا.. و لكن بعد الذي اقترفه بشقيقة زوجها لم يكن له الحق في لومه عندما قضى منذ سنوات ألا يقترب من عائلته بمن فيهم زوجته.. “هالة”… لكنها مثله تعتبره من أقرب الأقربين.. لم تستطع تنفيذ أمر زوجها و خرقت كلمته و بقيت على تواصل مع خالها في الخفاء
ارتفع كف “نبيل” ماسحًا على وجهه و هو يغمم عبر الهاتف :
-طيب مش هاعملك مشاكل معاه. قوليلي يا حبيبتي اتصلتي عايزة حاجة ؟
-لأ كنت بتصل أطمن عليك. أنا عارفة إنك راجع إنهاردة.. رجعت ؟
-أيوة. بقالي ساعة واصل.
-إحنا نازلين مصر دلوقتي.
تفاجأ بالخبر و علّق :
-إيه ده معقول.. مش قولتيلي إن فادي مش بيفكر يرجع دلوقتي خالص. و حتى كان عايز يبعت لأخته الصغيرة عشان تعيش معاكوا هنا !؟
-آها قلت كده فعلًا. بس في حاجة حصلت و لازم نرجع فورًا.
-إيه إللي حصل ؟
-سمر عملت حادثة و بيقولوا فقدت الذاكرة. مش فاكرة أي حد لا عثمان و لا ولادها و لا حتى ملك أختها. مش فاكرة غير فادي !
-إيـه !!؟ .. هتف “نبيل” معقّبًا بذهولٍ
كان الخبر صادمٌ حقًا.. لا يُصدق …
_________________________
-وحشتني أوي !
تنهدت “ملك” براحةٍ و هي تتعلّق بأحضان زوج شقيقتها مثل قطيطة تلوذ بركنٍ آمن، كانت بالفعل تنتظره حتى عاد إلى البيت بعد غياب ليلة و نهارًا كاملين، كان تعاني من تعلّق مرضي به حقًا، و أضيف إليه هلع فقدانه عندما علمت بقدوم شقيقها الوشيك
خشت كثيرًا لو أصر على كلمته و أخذها من هنا.. بعيدًا عن عائلتها الحقيقية بالنسبة لها …
-انتي أكتر يا حبيبتي ! .. قالها “عثمان” و هو لا يزال يضمها بحنان عند مدخل المنزل
أخذ يمسح على رأسها ممتنًا لأنها تمنحه هذا السلام الذي كان بحاجة إليه بعد كا ما خاضه خلال الساعات الماضية، كان يستمد منها قوة دون أن تدرك، تلك الفتاة الصغيرة هي رمز الحظ بحياته، منذ تكفّل بها و إتخذها ابنة ً له و هو يشعر بلطائف الله تحيط به حتى في أصعب المواقف و الأزمات
إنها ملاكه …
-انتي كنتي قاعدة مستنياني ؟
مشيت “ملك” للداخل مع “عثمان” متشبثة بجزعه، بينما يحيط كتفها بذراعه و هو يلقي عليها ذلك السؤال ناظرًا إلى عينيها، نفس عينيّ أختها، زوجته.. “سمر” …
ابتسمت “ملك” و جاوبته :
-إمم. يحيى و فريدة ناموا من بدري. و أنا ماعرفتش أنام خالص غير لما تيجي و اشوفك.
مد يده الأخرى مداعبًا خدّها بلطفٍ، و قال متلفتًا حوله :
-فريال هانم في أوضتها ؟
أومأت له قائلة :
-أنا سيبتها مش شوية في السرير بتقرا. طلبت شاي البابونج. لو عايز تشوفها لازم تلحقها قبل ما تنام !
حنى رأسه ليقبّلها على جبهتها، ثم تركها تمنّى لها ليلة سعيدة و مضى صاعدًا لرؤية أمه، فقد عزم نهائيًا على إتمام الأمر الليلة، إذا أخره أكثر سيزداد صعوبة، و الصدمة ستقوى عليها، لم يكن أمامه خيارٌ آخر، لن يخفي “شمس”.. لن يفعل مثل والده.. فهي دمه و هو لا يتخلّى عن دمه …
-تسمحي لي أدخل ؟
ترفع “فريال” عينيها عن الكتاب الذي أمسكت بدفتيه بيديها الرقيقتين، إنفرجت أساريرها ما إن رأت ابنها الحبيب، دعته للدخول على الفور و هي تنتزع نظّارتها الأنيقة و تضعها جانبًا فوق الكتاب :
-عثمان.. حمدلله على السلامة. أدخل يا حبيبي !
يلج “عثمان” بعد سماع إذنها، يغلق الباب من خلفه و يمشي تجاه سريرها العريض مبتسمًا، و لوهلةٍ استوقفته صورة والده المعلّقة على الجدار بالزاوية، لأول مرة يشعره النظر إليه بالحنق، و حقيقة إنه لا يطيق سيرته من بعد الآن.. تضايق كثيرًا و أشاح بنظره نحو والدته …
-مساء الورد على الورد. فريال هانم. ست الهوانم !
ابتهجت “فريال” من غزله المعتاد، كالعادة لا غيره من بعد أبيه يُدخل السرور و السعادة على قلبها، تناوله يدها عندما مد يده إليها، فينحني ليطبع على ظاهر يدها ذات القبلة الرقيقة و الراقية كدأبه كل ليلة، ثم يجلس قبالتها على طرف السرير قائلًا بنعومةٍ :
-لو ماكنتش لحقتك قبل ما تنامي عيني أنا مكانتش هاتشوف النوم طول الليل.
كركرت “فريال” ضاحكة بمرحٍ كبير، أطربت ضكتها أذنيّ “عثمان” و أخذ يتأملها بقوةٍ دون أن يفوّت لحظة ردة فعلها كاملة، بينما تعاود النظر إليه و هي ترد بصوتها الحلو :
-يا عثمان أنا بجد مش ممكن أتصوّر حياتي منغير بكشك ده. زي ما تكون عارف الطريق لقلبي. و انت أصلًا قلبي كله.
عثمان مبتسمًا ببساطةٍ :
-ده مش بكش يا فريال هانم.. انتي حقيقي أهم حاجة في حياتي. و مش بس أنا.. لو عيلة البحيري لسا محتفظة باسمها و عالية في عيوم=ن الناس ف ده بفضلك انتي. انتي فريال هانم. يعني الجمال و الجاه و الأصالة.. أنا ماشي طول حياتي من يوم ما وعيت على الدنيا فخور إنك أمي.
ترقرقت الدموع بعينيها تأثرًا بكلماته، فقالت و هي تغطي يده الممسكة بيدها الأخرى :
-حبيبي.. و انت أجمل هدية ربنا بعتها لي. انت الوحيد إللي مصبرني على فراق باباك.. انت و ولادك. ربنا ما يحرمني منكوا أبدًا !
رباه.. لماذا تصّعب الأمر عليه بهذا الشكل !؟
لا تكفّ عن ذكر أبيه، تعبّر عن شوقها إليه و تفانيها لذكراه، فليرى ماذا سيكون رأيها بعد أن يطلعها على سرّه المخزي …
-ماما ! .. نطق “عثمان” كازًا على أسنانه
كان ينظر إلى يديهما الآن، بينما يستطرد بصوتٍ أجش :
-في موضوع ضروري اكلمك فيه.. صدقيني لو بإيدي ماعرضكيش للموقف ده.. لكن انا مجبور. ده واجبي !!
إنتابها القلق على الفور و هي تقول محاولة اجتذاب عينيه :
-في إيه عثمان ؟ قلقتني. سمر فيها حاجة !؟
هز رأسه نافيًا :
-لأ.. سمر بخير.. الموضوع مايخصش حد فينا. مايخصش حد عايش !
قطبت بعدم فهمٍ :
-مش فاهمة.. وضّح يا عثمان عايز تقول إيه ؟؟
رفع رأسه ببطءٍ لينظر إليها بتضرعٍ يناقض لهجته الخشنة و هو يقول الآن :
-الأول أوعديني.. قبل ما أقولك أي حاجة. إنك هاتستوعبي كلامي. هاتفهميني. هاتتمالكي أعصابك و دي أهم حاجة عندي !!
ثارت أعصابها بفعل حديثه الغريب و هتفت به :
-أتكلم يا عثمان.. انت قلقتني بجد قول إيه إللي حصل !؟؟؟
-أوعديني الأول ! .. صاح بصرامةٍ
جمد تعبيرها لثوانٍ، و قد أدركت بأنه على وشك إطلاعها على كارثة، لذا تجلّدت بالشجاعة، و اتسمت ملامحها بالقوة و هي تحثه بجمودٍ :
-أوعدك يا عثمان.
يسحب “عثمان” نفسًا عميقًا عبر أنفه، ليطرد على مهلٍ من فمه، ثم ينظر في عينيها مباشرةً و هو يقول بهدوء و لا زال يمسك بيديها :
-أنا عرفت إمبارح بس.. و إتأكدت إنهاردة.. إن أنا ليا أخت… شمس يحيى البحيري.. أختي من أبويا ! …………………………………………………………………
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية وما ادراك بالعشق)